لا يفلح المفتري في هدفه
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (18)

شرح الكلمات:

افترى: فرى الشيءَ فَريَاً: قطعه وشقّه. افترى عليه بالكذب: اختلقه (الأقرب).

لا يفلح: أفلح الرجل: فاز وظفر بما طلب. أفلح بالشيء: عاش به. أفلح زيد: نجح في سعيه وأصاب في عمله. (الأقرب)

مجرمون: أجرم: أذنب؛ عَظُمَ جرمه. وأجرم عليهم الجريمة: جنى. (الأقرب)

التفسير:

لقد بيّن الله تعالى هنا حقيقتين هامتين: أولاهما؛ أنه لا يمكن أن ينجو من العذاب بحسب القانون الإلهي اثنان:

الأول: من اختلق الكلام من عند نفسه وعرضه على الناس أنه كلامٌ إلهي.

الثاني: من ناصب العداء لمن يأتي بكلام من الله.

والحقيقة الثانية هي أنَّ المفترين على الله كذباً لا يُفلحون أبداً في مرامهم، بمعنى أنَّ الهدف الذي يذكرونه لبعثتهم لا يتحقّق، وأنَّ التعليم الذي يعرضونه للعالم لا يُكتب له الانتشار.

إنَّ القرآن الكريم في معظم الأحيان قد ذكر الافتراء الذي يعاقَب صاحبُه مقروناً بكلمة الكذب، مع أنَّ الافتراء وحده جريمة نكراء. وأرى أنَّ الحكمة من وراء استخدام هذا الأسلوب القرآني هي أنه لو افترى أحد على الله تعالى بأمرٍ صحيح حق فلربما لا يُعاقَب بالجريمة المذكورة هنا، وإن عُدَّ من المجرمين وعُوقب بعقوبةٍ أُخرى لا محالة. فعلى سبيل المثال قد يدَّعي شخص أنَّ الله تعالى أخبره بالرؤيا أنَّ محمداً رسولٌ صادق. فلو أنه لم يرَ أي رؤيا في الحقيقة فسيُعَدُّ مفترياً، وإن لم يكن افتراؤه كذباً، بل هو حق، ولا ضرر في افترائه على الناس، وإنما كَذَبَ كذبةً تخصُّ ذاته، وجاء بعمل دمّر به تقواه هو، فلذلك لا يعاقَب بالعقوبة المذكورة في الآية، بل يلقى من العقوبة ما يلقاه أي كاذبٍ عادي آخر.

ولنتذكّر أيضاً أنَّ قد قال هنا: إنَّ المفتري لا يفلح في هدفه، ولم يقل: إنَّ المفتري لا يمكن أن يجمع حوله فريقاً من الناس أو أنه لن يزدهر ازدهاراً مادياً. كلا، بل من الممكن تماماً أن يجمع حوله طائفة من الناس أو أن يحقّق ثراءً مادياً. ذلك أن لا أحد من المدَّعين يقوم لمجرّد جمع زمرة من الناس حوله، وإنما يذكر كل واحد منهم هدفاً روحانياً من نشر شرعٍ جديد أو تجديد شرعٍ قديم، فما لم ينجح في نيل هدفه الحقيقي هذا فلن يعدَّ مفلحاً. وهذا مقياسٌ عظيم لمعرفة صدق المدَّعين أو كذبهم، ولا يمكن أن يستغله أي كذّاب، كما أنه يبرّئ الصادقين منهم مما يُثار ضدهم من طعنٍ واعتراض. فمثلاً قُتِل النبي يحيى ، ولكن هذا لم يخلّ بهدفه شيئاً، ولم يقدح في كونه مفلحاً، لأنَّ غاية بعثته كانت تتمثّل في أن يُعرِّف الناس بالمسيح ويمهّد السبيل لتصديقه. وقد نال غايته هذه رغم قتله حيث كان حضرته بمثابة عالمٍ برزخي بالنسبة للأمة اليهودية، وقد بُعث إليهم ليُهيّئ النفوس لقبول المسيح ، وقد حقّق غاية بعثته هذه حيث بدأ اليهود فعلاً بانتظار ظهور المسيح بينهم، وقام كل أتباع يحيى بتصديق المسيح حتى لم تعد له جماعة مستقلة، بل كلهم انضموا إلى جماعة المسيح عليهما السلام.

وكما ذكرت آنفاً فإنَّ هذا المقياس يكشف زيف وكذب المتنبئين الكذَّابين، ومثال ذلك زعيم البهائيين “بهاء الله”. فلنفترض أنه كان في الحقيقة قد ادَّعى النبوّة، وليس الألوهية، وأنَّ عدد أتباعه وصل إلى مئات الآلاف، فإنه مع ذلك لن يُعدَّ صادقاً بهذا الدليل. ذلك أنَّ غاية بعثته كما بيّن هو بنفسه هي أن يبرهن على أنَّ الشريعة الإسلامية ناقصة ومنسوخة، وأنه قد جاء مكانها بشرعٍ جديد؛ الشرع البهائي. ولكن لم تتحقّق له هذه الغاية في أي بيت ولا في أي يوم، بل على العكس من ذلك فقد ازداد إقبال الناس على القرآن الكريم، حتى بدأ الأوربيين يُصدِّقون القرآن الكريم اليوم وقد كانوا بالأمس القريب يُكذِّبونه ويكفرون به. فالشريعة الإسلامية التي جاء البهاء لإلغائها ونسخها على حد زعمهم تنال كل يوم رضىً وقبولاً لدى الناس، ولكن شريعته هو قد طُويت بيد النسيان. ولو أنَّ أمريكا كلها اعتنقت البهائية فلن يُعتبر البهاء أيضاً مفلحاً ما لم تنتشر شريعته وتتوطّد في العالم كلّه.

قد قال هنا: إنَّ المفتري لا يفلح في هدفه، ولم يقل: إنَّ المفتري لا يمكن أن يجمع حوله فريقاً من الناس أو أنه لن يزدهر ازدهاراً مادياً. كلا، بل من الممكن تماماً أن يجمع حوله طائفة من الناس أو أن يحقّق ثراءً مادياً. ذلك أن لا أحد من المدَّعين يقوم لمجرّد جمع زمرة من الناس حوله

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ۚ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (19)

شرح الكلمات:

دون: نقيضُ فوق؛ أسفل؛ أمام؛ وراء؛ فوق؛ غير؛ الشريف؛ الخسيس (الأقرب).

تنبئون: النبأ: الخبر. وفي الكليات: النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له وقعٌ عظيم وشأنٌ عظيم (الأقرب).

سبحانه: سبحان الله: أي أبرئ الله من السوء براءةً (الأقرب).

يُشركون: أشرك بالله: جعل له شريكاً (الأقرب).

التفسير:

الواقع أنَّ الباعث الحقيقي على الإشراك بالله إنما هو الجهل بغاية خلق الإنسان، وأنَّ المشرك يُسيء الظن بالله وبنفسه هو. ذلك أنَّ أساس الشرك إنما هو الزعم الخاطئ أننا لا نستطيع الوصول إلى الله دون وسيط، كما أنه هو سبحانه وتعالى لا يقدر على أن يصل إلينا إلا بوسيط. والإسلام يُعارض هذا الزعم بكل شدة. إنه لا يسمح للإنسان أن يُسيء الظن بخالقه، كما لا يسمح له بالقنوط من القدرات الكامنة في النفس البشرية. لقد خلق الله العباد ليصلوا إليه ولا يرضى أبداً أن يحول دونه ودون العباد أحدٌ كائناً من كان.

وقوله تعالى أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ يحتوي على دحضٍ لطيف لعقيدة الشرك حيث ذكر أنه لو كان هناك في السموات أو الأرض شفيع معيّن مِن قبل الله يتوسط بينه وبين العباد لجاء الإعلان عن تعيينه من قبل الله لا من جانبكم أنتم، كما تنشر الحكومات اليوم أسماء موظفيها الكبار في دورياتها الرسمية. ولكن العجيب أنه بدلاً من أن يخبر الله بتعيين وسيط من عنده تهبّون أنتم لتعلنوا للناس أنَّ فلاناً قد صار شريكاً وسيطاً لله تعالى، في حين أن كافة الأنبياء – ولا يتعدى منصبهم منصب حامل خبر من واحد إلى آخر – يتم تعيينهم دائماً من قبل الله تعالى وبإعلان منه. فما بال هؤلاء الذين ترونهم شركاء لله في ملكوته تنصبونهم بأيديكم، دون أن ينهض على وجودهم أي دليل من الوحي والإلهام؟ وكأنّكم أول من يعرف تعيين هؤلاء الشركاء، فتقومون بدوركم وتخبرون الله بذلك! تأخذون حجراً وتنصبونه في مكان وتسمّونه إلهاً، أو تختارون إنساناً، هذا الكائن الحقير الضعيف، وتعزون إليه قدرات وصفات تخصّ الله وحده في الحقيقة!!

وقد كر هنا كلاً من السماء والأرض لأنهم زعموا أنَّ هناك آلهة في السماء وأخرى في الأرض.

ووضح بقوله تعالى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ أنه لا يليق بالإله الكامل الصفات والمحاسن أن يخلق الإنسان لغاية معينة، ثم يعرقل سبيله إلى تحقيق غايته بشتّى العقبات التي لا يجد لتذليلها هدياً سماوياً، وكأنّه تعالى بنفسه يُبطل عمله ويُفسد خطته. إنَّ الله بريءٌ من مثل هذه العيوب وأسمى من هذه النقائص.

Share via
تابعونا على الفايس بوك