مدار الحياة الروحانية
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (201) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(202)

التفسير:

يقول الله تعالى: إذا أديتم فريضة حج البيت الحرام بحسب ما أمرتكم به، فاذكروني كما تذكرون آباءكم.

كان من عادة العرب بعد فراغهم من فريضة الحج أن يعقدوا المحافل لثلاثة أيام في مِنى.. ينشدون فيها القصائد ويذكرون أمجاد الآباء، ويمدحون قبائلهم، ويشيدون بما عرفت به من شجاعة وسمعة وكرم. يقول الله تعالى: أما هؤلاء فكانوا يمجدون آباءهم في قصائدهم، وننصحكم أن تذكروا الله بعد مناسك الحج كما تذكرون آباءكم. فكما أن الطفل الصغير إذا فُصل عن أمه بكى وصرخ مُلحّا أن يذهب إلى أمه.. كذلك اذكروا الله مرة أخرى حتى تسري محبته في كل ذرة من كيانكم. إن الله تعالى لا تدركه الأبصار، ولا يتجلى حُسنه للإنسان مباشرة، وإنما بكثير من الوسائل. ولو عَبّرنا عن حسنه بالكلمات، وتدبرنا فيه لتجلى لنا شكله المعنوي بالتدريج. لو قلتم: إنه مالك، ثم فكرتم في مالكيته؛ ولو قلتم إنه قدوس، ثم فكرتم في قدوسيته؛ ولو قلتم إنه ستار، ثم فكرتم في ستره؛ ولو قلتم إنه غفور،ثم فكرتم في غفرانه.. لارتسمت في ذهنكم صورة معنوية لله تعالى. بترديد هذه الصفات الإلهية مرة بعد أخرى وترسيخها في أذهاننا تتجلى صورة لله أمام أعيننا، فنـزداد حبّا لله. إذ من الضروري لحب شيء أن يكون ماثلا أمام الإنسان، أو على الأقل تكون صورته موجودة. وعن هذه الحقيقة عبّر سيدنا الإمام المهدي في شِعر له بالأردو:

ديدار گر نہيں هے تو گفتار ہى سہى

حسن وجمالِ يار كے آثار ہى سہى

ومعناه: إذا لم يكن الحبيب أمام الإنسان فعلى الأقل يسمع الإنسان صوته، ويرى بعض آثار جماله وحسنه (البراهين الأحمدية ج5، الخزائن الروحانية، ج21 ص17 ).

لذلك يقول الله تعالى: كما أن الأولاد يشتاقون إلى لقاء آبائهم كذلك يجب أن تنشئوا علاقة حب روحاني مع الله، حتى تكون كل راحتكم وسكينتكم منوطة بالله، لأن هذا هو المدار لحياتكم الروحانية.

لقد أمر بذكر الله بعد أداء الحج ليقول: أما وقد توطدت لكم صلة روحانية بالله، فيجب من الآن أن تصبحوا مرآة لصفات الله تعالى، وأن تعيشوا تحت ظل كنفه.. كالأطفال الذين يعيشون في أحضان آبائهم ويسعون ليتخلقوا بأخلاقهم وعاداتهم.

(أو أشد ذكرا): لقد أمرناكم من قبل أن تذكروا الله كما تذكرون آباءكم، ولكن هذا المستوى هو لمن لم يحققوا بعد درجة عالية في الروحانية. أما الذين يرون يدا خفية لحب الله تعالى في حب الآباء لهم.. فهم لا يقيمون لحب الآباء أي قيمة أمام حب الله. فهؤلاء عليهم أن يذكروا الله ذِكرا لا نظير له في علاقتهم الدنيوية، حتى يتضاءل تماما ذكرهم لآبائهم أمام ذكر الله تعالى.

ثم يقول: (فمن الناس من يقول ربنا آتِنا في الدنيا وما له في الآخرة مِن خَلاق). هناك من الناس من يسألون الله الدنيا.. مثل النصارى الذين يدعون “خبزنا كفافنا. أعطنا اليوم” (متى: 12:6). ولا يهمهم الحلال أو الحرام ، ولا يرون ما إذا كان الشيء نافعا أو ضارا، وإنما غايتهم أن ينالوا الدنيا. ولذلك لم يقل الله إنهم يدعون “ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وإنما يقولون (ربنا آتنا في الدنيا).. وفيه إشارة إلى أن هؤلاء إنما يريدون الدنيا ويموتون من أجلها، مع أن الجاه الدنيوي بدون العزة الأخروية لعنة.. كما حدث بالنسبة إلى اليهود والنصارى، فإنهم قد نالوا اليوم عزة دنيوية فحسب، وما لهم نصيب من عزة الآخرة، ولذلك قال (وما له في الآخرة من خلاق). قد نعطيهم الدنيا، ولكن لا نعطيهم أي نصيب من النعم الأخروية. بيد أن العزة الأخروية وحدها أمر لا دليل عليه، وإنما يتم الدليل عليه إذا نال الإنسان حسنة في الدنيا مع حسنة في الآخرة. ولذلك ذكر أن هناك طائفة تقول (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار).. يا رب حقق لنا عزة دنيوية، وآتنا أيضا مقاما عاليا في الآخرة. إذا أعطيتنا الدنيا فلا تجعلنا نستغلها في منافعنا الشخصية، وإنما نستخدمها لإظهار عظمة دينك، ولكسب رضوانك. فإذا فعل الإنسان ذلك تحقق له العز الدنيوي، كما ينال درجة عند الله.

هذا الدعاء الذي عَلّمنا الإسلام إياه.. يبدو في الظاهر دعاء قصيرا، ولكنه يغطي الحاجات الإنسانية بكل أنواعها. يبدو أن كلمة (حسنة) غير كافية، ويجب أن نقول “حسنات”، ولكن هذه فكرة تدل على جهل باللغة العربية. الحقيقة أنه لو استخدم كلمة “حسنات” لكان المعنى أن نُعطى بعض ما هو خير، ولكن استخدام كلمة (حسنة) يعني أن نُعطيَ الخير كله. فالمعنى: يا رب، أعطنا ما هو حسن. إذا أعطيتنا الخبز فليكن حلالا طيبا وهنيّا مريا؛ وإذا أعطيتنا اللباس فليكن حلالا طيبا ساترا للعورة جميلا؛ وإذا أعطيتنا زوجة فلتكن مواسية متفهمة متدينة متعاونة على البر والتقوى، ودودة ولودة، مربية للأولاد تربية حسنة؛ وإذا أعطيتنا دارا فلتكن طاهرة مباركة خالية من مسببات الأمراض، وليس فيها ما يضر بالصحة، وجيرانها مسالمون لا يؤذون أحدًا، وفي حيٍّ أهلُه غير أشرار، وفي مدينة تراها خيرًا لي؛ وإذا أعطيتنا حكاما فليكونوا رحماء، أهل تقوى وعدل، محبين لرعاياهم؛ وإذا أعطيتنا أساتذة فليكونوا ذوي علم، يُحسِنون تعليمنا بشوق وإخلاص، لا يظلموننا ولا يفسدوننا ولا يضلوننا، وإذا أعطيتنا أصدقاء فليكونوا ناصحين محبين متعاونين عند حلول المحن والمصائب، يشاركوننا في الفرح والترح، وبالجملة فإن قول (آتنا في الدنيا حسنة) يعني آتنا كل ما هو حسن يناسب حاجاتنا، ويكون خيرا.

لقد أمر بذكر الله بعد أداء الحج ليقول: أما وقد توطدت لكم صلة روحانية بالله، فيجب من الآن أن تصبحوا مرآة لصفات الله تعالى، وأن تعيشوا تحت ظل كنفه.. كالأطفال الذين يعيشون في أحضان آبائهم ويسعون ليتخلقوا بأخلاقهم وعاداتهم.

فبترك كلمة “حسنات” واختيار (حسنة) وسَّع الله في هذه المعاني. هناك كلمات أخرى بمعنى خير وأفضل، ولكن الله تعالى لم يستخدمها واختار كلمة حسنة. ذلك لأن هذه الكلمة تدل على ما هو خير وحسن ظاهرا وباطنا، إذ يمكن أن يكون شيء ما خيرا من حيث المنافع والفوائد، ولكنه ليس خيرا في شكله الظاهر. فقد تكون مثلا الزوجة ذات أخلاق طيبة، ولكنها جدعاء أو عمياء أو صماء.. فلا يمكن أن تسمّى هذه حسنة، وإنما الزوجة التي تسمى حسنة هي من تكون ذات أخلاق حسنة وأيضا صورة جميلة، فيكون ظاهرها خيرا وباطنها خيرا. فالمؤمن يدعو الله تعالى ليعطيه ما هو جميل حسن من حيث الظاهر ومن حيث الباطن.

(وفي الآخرة حسنة) أي أعطِني في الآخرة أيضا ما هو حسن، أي يكون خيرا في الظاهر والباطن. يمكن القول بأن كل شيء في الآخرة حسن، فلماذا قال (وفي الآخرة حسنة)؟ الجواب أن بعض الأشياء في الآخرة تكون حسنة في باطنها، ولكن ظاهرها غير ذلك. نعرف من القرآن الكريم أن جهنم وسيلة لإصلاح الإنسان.. لأنها في آخر المطاف بعد التطهير تقربه إلى الله تعالى، ومن هذه الناحية هي خير، ولكن من الناحية الظاهرية ليست حسنة وإنما هي عذاب. فبقوله (وفي الآخرة حسنة) دل على ضرورة الدعاء أن يا ربنا، لا تُصْلِحنا بعذاب جهنم وإنما أصلِحنا بفضلك، ولا تعطنا في الآخرة ما هو خير فقط في الباطن مثل عذاب جهنم. فالحسنة في الآخرة إنما هي الجنة، فظاهرها حسن وباطنها حسن.

(وقِنا عذاب النار).. لا يعني “عذاب النار” هنا فقط العذاب الذي يكون في الآخرة؛ وإنما عذاب النار يكون في الدنيا أيضا. وما دام قد علَّمنا الله هذا الدعاء بعد أدعية تتعلق بالدنيا والآخرة فالمعنى: نجِّنا من عذاب النار في الدنيا، ونجنا من عذاب النار في الآخرة. إن كثيرا من الناس واقعون في عذاب النار في الدنيا بأنواع الآلام والحسرات والمصائب، ولكن الإنسان عندما يدعو ربه: احمِني من عذاب النار، فإن الله تعالى ينجيه من هذا العذاب الدنيوي، وتصبح  الأشياء التي كانت نارا من قبل جنةً.

ويعني (عذاب النار) أيضا العذاب في الآخرة.. فالدعاء يشمل النجاة من العذابين. والمراد من (عذاب النار) أيضا الحروب الدنيوية، لأن الحرب أيضا عذاب من نار. فالذي يدعو بهذا الدعاء كأنه يقول: يا رب لا تُرِني ساعة عُسرٍ وسوءٍ، وجنبني الحروب فلا يقترب مني عذاب النار هذا!

وإذا كان أحد الجنود مشتركا في الحرب.. فإن دعاءه هذا يعني: يا رب احمِني من شرور الحرب وتأثيراتها السيئة، فإذا أُطلقت عليَّ قذيفة فلا تصبني، بل تفوتني في أية حال، فهذا دعاء قصير في الظاهر ولكنه واسع وجامع، علمنا الله إياه، وكان الرسول يردده كثيرا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك