الدجال والنظام العالمي الجديد

الدجال والنظام العالمي الجديد

محمد منير إدلبي

باحث إسلامي

ابتدأ خروج الدجال في العالم منذ مطلع القرن السابع عشر مع ظهور السلطنة البريطانية في الشرق[1] حيث أرستْ أوّلَ قواعدها التجارية في الهند عام 1611م من خلال شركة تجارية بريطانية. ثم شرعت في نشاطها التجاري في خليج البنغال -مارج أُف مين المطبوعة لشركة الموسوعة البريطانية- وهذا التاريخ يقارب الألف سنة بعد بدء النبي بالدعوة إلى الإسلام عام 611 م. ويكمن سرّ قوة بريطانيا التي نشأت في القرون التالية في نجاحها بإنشاء مراكز لها في الشرق. وأمّا الشعوب الأوروبية الأخرى فمن المعلوم أنها قد تبعت بريطانيا في يقظتها ونهضتها.

ويتميَّز الإنكليز والأوروبيون عمومًا ببراعتهم في التظاهر بالتأدّب والتلطُّف في معاملاتهم التجاريـة، وهكذا بدأوا يسـتعمرون البلاد ويستعبدون العباد.

وكان التبشير المسيحي[2] يرافـق دومًا توسـّعهم الاستعماري واستثماراتهم التجارية التي واكبت أيضًا نهضـتهم الصناعية العملاقة.

والواقع المعروف أن شعوب أوروبا وحكّامها يؤيدون المسيحية في كلّ مكان دعمًا لأغراضهم السياسية، ويشيعون أفكارهم واستراتيجياتهم وثقافاتهم ودعاياتهم وإعلامهم، ولا يفسحون المجال لأفكارٍ ومعتقدات أخرى أن تأخذ دورها في دولهم أو دول العالم أو أن تؤثّر عليهم أو على معتنقي الديانة المسيحية. هذا بالرغم من اضطرارهم إلى الاعتراف بحرية الدين والمعتقد وممارستها والتبشير بها في دساتيرهم، الأمر الذي يخدم أهدافهم بإبرازهم كأمم حضارية تحترم حرية المعتقد وتذمّ التعصّب والعنصرية الدينية.

وبالرغم من أنّ هذه الشعوب بقيت منعزلة عن العالم مدة طويلة من الزمان في عصور انحطاطها، إلاّ أنه كان مقدّرًا لها أن تنهض من جديد وتتربع على قمم العلوم وأن تمتلك ناصية القوى كلّها، وأن تسيطر على ثروات وخيرات الأمم والشعوب بشكل أو بآخر حتى لا يستطيع أحد أن يفلت من هيمنتها.

وتُبيّن لفظة يأجوج ومأجوج حقيقة أنّ هذه الأمم الغربية المسيحية تمتلك نواصي التنقّل السريع والعمل والإنجازات السريعة، وتتمكن من اختراع وسائل السيطرة على النار والطّاقة، وتتميّز بإشعال نار الحروب والفتن بكافّة أشكالها وأنواعها بين البلاد والعباد، وتمتلك نواصي الغنى والقدرات والخيرات جميعًا باعتبارها الدجال الذي يغطي الأرض بكثرة أهله ويحمل المتاع للتجارة، وتَصنع زمن أشدّ الفتن، وتصل إلى مرحلة من القوّة بحيث لا يكون لمخالفيها أو ضحاياها يدان بقتالها مصداقًا للحديث الشريف في صحيح مسلم حيث يوحي الله  إلى عبده المسيح الموعود ، الذي يبعثه للقضاء على الدجال وفِتَنه ودجله قائلاً:

“إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ” (صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة)

وقد عايش العالَمُ لزمن طويل حالة الحرب مع هذه القوى سواء فيما بينها أو ضد من يخالفها ويعصي رغباتها وإرادتها.

إنّ هذا البيان لا يعني بأيّ حال الخوف أو الركون إلى هذه القوى الاستعمارية الغاشمة وبأيّ شكل كان، بل لابدّ دائمًا من الوقوف في وجه الظلم بالدفاع والجهاد الحق العادل عملاً بقول الله :

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (هود: 12)

ولكن الحقيقة هي الحقيقة. والفاشلون هم الذين لا يضعون الحقيقة في حسابهم. لقد أمرنا الله تعالى أن نعدّ للعدو ما استطعنا من قوّة

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (الأَنْفال: 61)،

والمعرفة من أهم أنواع القوى، لأنّ المعرفة هي السبيل إلى امتلاك جميع القوى، ولم تكن قوّة الأمم الغربية في جميع الميادين إلاّ من خلال تحصيلهم للمعرفة في جميع ميادين العلوم والمكتشفات التي بلغوها بعد أن فقدها المسلمون والعرب الذين كانت مفاتيح جميع هذه القوى بين أيديهم يستثمرونها ويعلّمونها لأهل الأرض جميعًا، ويشهد التاريخ على ذلك، كما تشهد مؤلفّات الكتّاب المعاصرين من أهل أمم الغرب أيضًا. راجع (شمس العرب تسطع على الغرب): لـ (زيغريد هونكه)

وتُبيّن لفظة يأجوج ومأجوج حقيقة أنّ هذه الأمم الغربية المسيحية تمتلك نواصي التنقّل السريع والعمل والإنجازات السريعة، وتتمكن من اختراع وسائل السيطرة على النار والطّاقة، وتتميّز بإشعال نار الحروب والفتن بكافّة أشكالها وأنواعها بين البلاد والعباد، وتمتلك نواصي الغنى والقدرات والخيرات جميعًا باعتبارها الدجال الذي يغطي الأرض بكثرة أهله

وهكذا فإنّ حقيقة المسيح الدجّال تكمن في قوّة الأمم والشـعوب المسـيحية الغربيـة والشـرقيـة وامتـلاكهـا القدرات الماديـة بأشـكالها المختلفـة الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها، وهي تؤمن بعقيدة أن الله قد اتّخذ ولدًا وتقوم بنشرها، وهي التي صنعتها عبقرية شاؤول اليهودي مضطهد المسيحيين الموحدين الأوائل والذي صار فيما بعد القديس بولس أبا المسيحية الحديثة ومؤسسها بالرغم من خروجه الهائل على تعاليم المسيح الناصري التوحيدية التي رسّخ فيها عقيدة التوحيد وغيرها كما يبيّن الإنجيل.

وهكذا يُعدّ اليهود الذين قالوا أيضًا بأنَّ (عُزير) ابن الله هم المسـؤولين عن تحريف المسيحية وجعلها تنشر عقيدة أنّ المسيح ابن الله. وكذلك اليهود هم الذين يقيمون غربي نهـر الأردن ويستعدّون لقتال العرب والمسلمين مصداقًا لنبوءة الرسول الكريم محمد :

“لتُقاتلن المشركين حتى يُقاتل بقيّتكم الدجال على نهر الأردن أنتم شرقيّه وهم غربيه”. الطبراني

ومن المعلوم كذلك أنّ معظم البنوك والمؤسسات المالية والاقتصادية والإعلامية العالمية متمركزة في أيدي اليهود يحرّكون بها الأمم المسيحية وغيرها، ويسيطرون عليها، ويوجّهونها الوجهة التي يشـاؤون، وهـذا بالضبـط ما يتفاخر ويعترف به رجالات اليهود الذين أعلنوا ذلك في أكثر من مكان ومناسبة. كما يتفـاخرون بأنهم هـم الذين صنعـوا المسـيحية الحديثـة وحرفوها عن مسارها الصحيح خدمة لأهدافٍ مستقبلية يعملون على تحقيقها، كما أعلنوا أنهم هم الذين قد قسموا العالم إلى معسكرين رئيسين لمصلحتهم، وأنهم هم الذين سينهون هذا الانقسام لمصلحتهم أيضًا.

وهكذا فإنّ اليهـود الذين قالـوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ولبسوا لبوس المسيحية المحرّفة وسيطروا على الأمم الغربية والشرقية من خلالها هم في الأساس رأس الدجال الذي قال عنه رسول الله إنه خارج خلّة بين الشام والعراق؛ وهذه الخلّة هي إسرائيل كما هو واضح جغرافيًا في خارطة ما قبل تقسيم الوطن العربي وهي الخلل في عالمنا العربي، ولذلك فقد قال رسول الله بأنّ الدجال يهودي ويتبعه اليهود المقاتلون الذين وجوههم كأنها المجان المطرقة – ألا تكون أشكال وجوه الجنود المحاربين كالمجان المطرقة تمامًا عندما يلبسون الأقنعة الواقية من الغازات؟ كما تنبأ بأنهم سيكونون في آخر أمرهم في فلسطين شرقي نهر الأردن، وأنّ الله تعالى سوف يدمّرهم فيها. ويُضاف إلى ذلك حقيقة أنّ الأمم والشعوب المسيحية المنحرفة في حضارتها المادّية الهائلة الساحقة تشكل أيضًا البروز الهائل للمسيح الأعور الدجال الذي لا يَرى إلاّ بالعين المادّية القوية في حين أنّ عينه الروحية الإيمانية عمياء مظلمة لا نور فيها ولا حياة[3].

ومن المعلوم أنّ أرباب هذه الحضارة المادّية الساحقة ينادون الآن -من خلال قوتّهم المادية وهيمنتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية- إلى تأسيس ما يُسمى بالنظام العالمي الجديد الذي يعمدون من خلاله إلى أن يكونوا أرباب العالم ويتربّعون على عرش زعامته في حين تتبعهم شعوب الأرض جميعًا فتكون لهم بمثابة التابع الأمين والبقرة الحلوب والخادم المطيع. فهم يستطيعون أن يغرقوا بالخيرات أولئك الذين يقبلون دعوتهم ويمشون في ركابهم، كما أنهم يُحاصِرون من يعصيهم ويخالف أمرهم فيتركونه في فاقة وشحّ وجوع وفقر وبؤس؛ وهذا هو بالضبط ما رمز إليه سـيدنا رسـول الله حين قـال عن الدجال:

“فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ” (صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة). عن النواس بن سمعان.

وهكذا فالدجال الذي يأمر الأرض فتُخرج كنوزها وتتبعه كيعاسيب النحل يستطيع أيضًا أن يُغني دولاً بالخيرات والجنّات إذا ما تبعته ومشت ذليلة في ركابه وسلكت مسالكه وعملت بأفكاره، كما يستطيع أن يُفقر دولاً أخرى، ويجعلها ممحلة بائسة محروقة بحصاره وناره.

هذا هو واقع الأمر الذي يدركه ويعرف حقائقه المفكرون والسياسيون والناس جميعًا، وقد ذكروا الكثير عن هذا النظام العالمي الجديد الذي يفرض الفقر والبؤس والموت على أمم كثيرة، ويحتكر القوى والخيرات جميعًا لنفسه ولمنظومته من الأمم والدول التي تسير في ركابه، حيث نقرأ في استهلال كتاب “الأصوليات المعاصرة وأسبابها”[4] الذي يتحدّث فيه مؤلّفه الشهير روجيه جارودي عن هيمنة الغرب باعتباره أساس الأصوليات المهلكة كلّها والمسؤول عن سياسة الهيمنة من خلال القهر والتجويع فيقول: في الغرب نجد أمّ الأصوليات كلّها، ومنها الأصولية الصهيونية…ويقول ناشر الكتاب في استهلاله:

“يرى غـارودي في بحثه هذا المطـروح في آفـاق إنسـانية لعام 2000 وما بعده أنّ مذهب التفوّق العلمي أو العلموية المبنية على فلسفة (أوغست كانت) الوضعية هو الذي دفع الغرب، رغم ثوراته الصناعية والسياسية ومطامحه الديموقراطية إلى تعيين نفسه مسؤولاً عن استعمار العالم بأسره، سواء بحجة تمدينه واكتشافه واستثمار موارده، أم بحجة التعرف إليه. وفي كلّ حال بات الغرب العلموي المنتج لأصوليات بعضها ديني معاصر كالأصولية الفاتيكانية، وبعضها سياسي ملتو، كالرأسمالية المتوحشة التي تقتل سنويًا 50 مليونا من البشر جوعًا في العوالم الثالثة؛ أي أنها تقصف شعوب الجنوب العالـمي بقنبلة نووية يوميـًا، وهي قنبلة التجويع[5]“.

ويؤكد المفكّر الفرنسي روجيه غارودي حقيقة هيمنة الغرب الاستعمارية وسيطرته على دول العالم المستضعف بالتجويع  في كتابه (حفّارو القبور) فيقول:

“.. فإنّ النظام العالمي الذي خلّفه الاستعمار الذي يتحكّم بفضله خمس سكان الأرض بـ 4/5 من مواردها، يؤدّي كلّ سنة إلى وفاة 60 مليون كائن بشري من المجاعة أو سوء التغذية. ويكلفّ هذا “النظام الدولي” -أي النظام العالمي الجديد- عالم الجنوب ما يُشبه مأساة هيروشيما، ولكن -يوميًا- وبدلاً من القتل بالذرّة، القتل بالتجويع”.  ص: 6″ولا يهـدف إتـمام المشـروع الاستعماري إلى إرجـاع دولـة من دول العالم الثالث إلى الحقبة ما قبل الصناعية فحسب، بل إلى جعل هذا السحق مثالاً على السيادة الغربية بقيادة أمريكية”[6].

هذا هو إذن المسيح الأعور الدجال الذي ادّعى الصلاح في بادئ أمره، فأرسل المبشرين المسيحيين على متن السفن البخارية زاعمًا أنّه يسعى إلى إنقاذ أرواح زنوج أفريقيا وسكان آسيا وأستراليا والهنود الحمر في قارّة أمريكا، في حين كان وما يزال يستعبد أجسادهم ويسرق خيراتهم وكنوزهم، ويقتلهم فقرًا وبؤسًا وجوعًا إلاّ ما رحم ربك، ثم ليستعمر أراضيهم وينصِّب نفسه ربًا لهم مالكًا جميع مقدّراتهم وخيراتهم وقواهم، يتصرّف بها كيف يشاء ويمنّ عليهم بفُتاتها.

وهو ذاته المسيح الأعور الدجال الذي أحرق في الحربين العالميتين وغيرها شعوب أوروبا المسيحية وآسيا وأفريقيا بناره المتأججة، وأمطرهم من السماء والأرض بوابل قنابله وجحيمه فقتل الملايين والملايين ودمّر البلاد والعباد، وقسّم الدول وغيّر الخرائط وقام -من خلال هيمنته الاقتصادية والسياسية والعسكرية- بتنصيب نفسه حاكمًا أوحد يقضي بقوّته وجبروته وأحكامه، ويعيث في الأرض فسادًا يمينًا وشمالاً ينشر الفتن كما يشاء، ويصرّف بين الناس جنته وناره!

بهذا وصفتْ أحاديثُ رسول الله المسيحَ الأعـورّ الدجـال وشـرّه وفتنه منذ ما يزيـد على 1400 سنة، وهـذا هـو ما نراه اليوم حاضرًا ماثلاً أمام أعيننا في زماننا ويشهده ويُعانيه العالم كلّه.

وبالرغم من تملّك هذه الحضارة الغربية المادّية الساحقة لجميع القوى والقدرات التي تدّعيها، فهي عوراء لأنّها لا تزيد عن كونها قدرات مادّية بحتة أحادية العطاء. فهي تمنح أتباعَها القوّةَ المادّية فقط، وتسلبهم القوّة الروحية التي لا يمكن للنفس البشرية أن تهنأ وتطمئنّ بدونها ؛ لذا فإننا نجد أنّ حالة البؤس الاجتماعي وفقدان الطمأنينة والأمن والسلام تنخر في عظام هذه المجتمعات الغربية المادّية -ومن يسير في ركابها- بشكل تُسجِّل فيه أعلى نِسَب الجريمة بأشكالها المختلفة من قتل واغتصاب وسرقة واعتداء وهلاك بالمسكرات والمخدّرات والانتحار والأوبئة الناتجة عن الانحرافات الخُلقية والشذوذ وغيرها من المهلكات. وثمة إحصائيات تتحدّث عن وقوع ثلاث جرائم في كلّ دقيقة في بريطانيا، بالإضافة إلى مئة ألف حالة اعتداء سنويًا. كما جاء في إحصائية حول ما يحدث في أمريكا في يوم واحد حيث: يُقبض على 1253 شخصًا بتهمة تعاطي وترويج المخدّرات، و230 شخصًا بتهمة سرقة السيارات، ويتسبّب السائقون المخمورون بخسائر تُقدّر بحوالي 18 مليون دولارًا، ويجري اغتصاب 180 امرأة وبنتًا وقتل 53 شخصًا وسرقة 1108 أشخاص، وتحمل 2740 امرأة سفاحًا، وتجهض 3231 امرأة، ويفرّ 2740 طفلاً من منازل والديهم إلخ..  عن مجلّة (الأمة) عدد يناير 1981.

يحدث هذا في مجتمعات أمم هذه الحضارة الغربية والمجتمعات الآخذة بأخذها بالرغم من تملّكهم لجميع نواصي الثراء والرفاهية والقوى المادّية والاقتصادية والعسكرية الحربية، وهذا يؤكّد -بالرغم من ثرواتها وقدراتها المادية الهائلة- فشَلها في تقديم الراحة والطمأنينة النفسية والروحية لأنها لا تمتلكها ولا هي قادرة على منحها، فهي مجرّد حضارة قوّةٍ مادّية عوراء ترى بعين واحدة، وتعطي من جانب واحد لا يؤمّن التوازن المطمئن للإنسان، ذلك التوازن الذي لا يمكن ولا يستطيع الإنسان العيش بدونه هانئًا مطمئنًّا مهما مَلَك من وسائل وأموال وثروات. ومن هنا فقد وصف سيدنا رسول الله الدّجال المهيمن على هذه الحضارة المادّية -والجاعل من نفسه ربًا لها- بأنه أعور يُعطي الناس عطاءً ناقصًا أُحـادي الجـانب يميـد بالإنسـان فيهلكـه، في حين أنّ الله تعالى يُعطي خير وطمأنينة العالمين الماديّ والروحي، فقال في حديثه عن الدجال:

“أَنَّهُ أَعْوَرُ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ” (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير)، عن ابن عمر.

أي لا تنخدعوا ولا تفتتنوا بعطاء حضارة الدجال، فإنه عـطاء مادّي بحت لا يضمن لكم الأمن والسلام النفسي والروحي، وإنه سيزعم الربوبية في الأرض، ولكن ربّكم الحقيقي هو اللـه الذي يملك أن يُعطيكم الرزق المادّي بالإضافة إلى الطمأنينة والعافية النفسية والروحية التي هي ضرورية لسعادة الإنسان ولا يمكنه العيش دونها في أمان وهناء. ويؤكّد هذا الوصف من رسول الله أنّ العور هنا ما هو إلاّ رمز يقصد النقص والعيب في الصفات والعطاء، إذ هل يُعقل أن يتصوّر سيدنا رسول الله أن يصل المسلمون يومًا إلى مرحلة يظنون فيها أنّ الله أعور، فحذّرهم بسبب ذلك كي لا يظنّوا أنّ الله (ربّهم) أعور؟!

هذا هو إذن المسيح الأعور الدجال الذي ادّعى الصلاح في بادئ أمره، فأرسل المبشرين المسيحيين على متن السفن البخارية زاعمًا أنّه يسعى إلى إنقاذ أرواح زنوج أفريقيا وسكان آسيا وأستراليا والهنود الحمر في قارّة أمريكا، في حين كان وما يزال يستعبد أجسادهم ويسرق خيراتهم وكنوزهم، ويقتلهم فقرًا وبؤسًا وجوعًا إلاّ ما رحم ربك، ثم ليستعمر أراضيهم وينصِّب نفسه ربًا لهم مالكًا جميع مقدّراتهم وخيراتهم وقواهم، يتصرّف بها كيف يشاء ويمنّ عليهم بفُتاتها.

لابدَّ إذن من الفهم الصحيح السليم لاكتشاف شخصية الدجال الحقيقية، وهذا يستلزم العلم الصحيح بحقيقته وحقيقة دعواه وفتنه، ولذلك فإنّ الرسول قد بيَّن أن مقارعة الدجـّال تستلزم الحجّة الصحيحة لكشف كيانه وأخطاره وفِتَنه فقال:

“إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ” (صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة) عن النواس بن سمعان.

ونلاحظ أنه لم يقل: فحاجّوه أنتم، أو اسألوا علماءكم، وذلك لأنَّ المسلمين زمن الدجال يكونون متفرقين لا يجمعهم جامع، ولـن يكـون علماؤهـم على العلم والمعرفة الحقّة بالإسلام، بل يكونون شـرّ مَن تحت أديم السماء مصداقًا لحديثه الشريف:

“يوشك أن يأتي زمان على الناس،لا يبقى من الإسلام إلاّ اسمه، ومن القرآن إلاّ رسمه. مساجدهم عامرة، وهي خراب من الهدى. علماؤهم شرّ من تحت أديم السماء، منهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود”. مشكاة المصابيح ـ كتاب العلم

ولقد بيّنا من الأحاديث أن الدجال يظهر في خفّة من الدين وإدبار من العلم أساسًا وأنه لا يخرج حتى يذهل الناس عن ذكره وحتى يترك الأئمة ذكره على المنابر/ راجع الفصل الثالث

ولقد أكّد، عليه الصلاة والسلام، بأن الحجّة لدحض دعوة الأعور الدجال إنما تستلزم إعمال العقل والفكر مليًّا فقال:

“إنما أحدّثكم هذا لتعقلوه وتفهموه وتفقهوه وتعوه”. سبق تخريجه

وثمّة أسئلة تخطر على البال، وهي: إلى متى يظلّ هذا الأعور الدجّال مسيطرًا مهيمنًا على الأمم والشعوب بأخطاره وفتنه؟

وهل سينتهي؟

وما النهاية التي سيؤول إليها؟

ولا شك في أنّ الإجابة على هذا السؤال تفيد المتفكّرين والقادة السياسيين الشرفاء المخلصين الحريصين على أمن وأمان أممهم وبلادهم ومواطنيهم، ولذلك فإنّه لابدّ من بيان مصير الأعور الدجال بعد أن بيّنا -بعون الله تعالى- شروره وفِتَنه.

[1] – ورد عن رسول الله أن الدجال يخرج من قِبل المشرق -مسند الإمام أحمد و سنن ابن ماجة عن عن أبي بكر- وهو حديث صحيح حققه الألباني وأخرجه السيوطي.[2] – إنّ المقصود بالتبشير المسيحي هنا ليس التبشير بمسيحية المسيح الحقّة، وإنما هو مسيحية بولس. التي أدانها العارفون المخلصون من علماء الدين المسيحيين كما بيّنا آنفًا. وأمّا انتشار المسيحية الحقّة الخالي من الأغراض والأهداف السياسية والاستعمارية والملتزم بتعاليم المسيح الإيمانية الحقة، فهو حقّ ونؤيّده بكل صدق وإخلاص.

[3] – وكذلك فإنّ صفة الدجال تنطبق على الكهنوت الإسلامي من رجال الدّين المنحرفين وأتباعهم الذين يضللون الناس بجهلهم ونزعاتهم وأهوائهم المادّية المخالفة لكتاب الله ودينه ورسوله، وذلك لأن صفة الدجل تنطبق في الحقيقة على كلّ دجال مهما كان معتقده!

[4] – راجع “حفّارو القبور” و”الأُصوليات المعاصرة” لـ روجيه غارودي.

[5] –  (الأصوليات المعاصرة وأسبابها) روجيه غارودي – ص: 6 ، دار عام ألفين باريس.

[6] – المرجع السابق.

Share via
تابعونا على الفايس بوك