إخراج الأرض كنوزها بأمر الدجّال

إخراج الأرض كنوزها بأمر الدجّال

محمد منير إدلبي

باحث إسلامي

احذروا .. الدجال يجتاح العالم(8)

جاء في حديث لرسول الله يصف فيه الدجّال فقال:

(وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ) (مسلم والترمذي)

لا يمكن طبعًا أن يكون المقصود من هذا الحديث أنّ الدجّال يقف في الخرائب ويصرخ آمرًا إيّاها: “أخرجي كنوزك”، فترتعد فرائص الأرض، وتدفع كنوزها من الذهب والفضة والجواهر وغيرها بين يدي الدجّال، ثم تطير هذه الكنوز وراءه في خطّ مستقيم إلى حيث يشاء! وإنما المقصود هنا اختراع أمّة الدجال وسائلَ حديثة متطوّرة تمكّنهم من استخراج كنوز الأرض مثل النفط والذهب والفضّة والحديد والماس وغيرها من كنوز الأرض وثرواتها الدفينة، بحيث لا يعجزون عن استخراج أية كنوز في عمق الأرض وفي أيّ بلاد تكون. ومن الملفت أنّ الرسول قد بيّن بنبوءته العظيمة أنّ هذه الكنوز لا تبقى في أراضيها التي تُستخرج منها، وإنما تُشحن خارج بلادها وأراضيها وراء أمم الدجال الذين يسرقونها إمّا بالاستعمار أو بالتجارة، فيحملونها على سفنهم وطائراتهم فتتبعهم إلى بلادهم لتزيد في ثرواتهم وقوّتهم على حساب البلاد الفقيرة التي يسرقون منها ثرواتها وكنوزها بالقوة أو بأبخس الأثمان.

وأمّا تشبيه رسول الله للشحن الجوي بطيران يعاسيب النحل، ففيه إعجاز آخر، إذ أنّ يعاسيب النحل تطير في خطّ ثابت مستقيم كما تطير الطائرات.

التقدّم في علوم الطبّ والجراحة

وجاء في أحاديث رسول الله عن الدجّال:

“ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ” (مسلم والترمذي ومسند أحمد)

مع الإيمـان بأنّ أحـدًا لا يقدر على أن يحيي الميت أو يبعثه من الموت إلاّ الله؛ فإنّ هذا الحديث يشير إلى تقدّم الإنسان في مجال الطبّ والعمليات الجراحية الخطيرة، حيث يمكن اليوم لأطباء العالم الغربي ومن تعلّم عندهم أن يجري عمليات جراحية خطيرة على مستوى استبدال قلب الإنسان المعطوب بقلب صناعي أو قلب إنسان آخر كما هو معلوم، حيث يقوم الأطباء -بعد تخدير المريض الذي يصير كالميت تمامًا لا يُحسّ ولا يشعر- بشقّ صدر المريض نصفين ونَشر عظامه بالمنشار ثم فتح صدره إلى العمق ونزع قلبه المعلول واستخراجه من صدره، وبذلك يكون الطبيب قد شقّ صدر المريض شقّين رمية الغرض المقصود، ثم يستبدل القلب القديم السقيم بقلب آخر، ثم يعود فيغلق صدره المشقوق ويلمّ جرحه، ثم ينعشه من التخدير وكأنما يبعثه من الموت، فيصحو المريض متهلّلاً، ويضحك فرِحًا بنجاح العملية ونجاته من الموت، تمامًا على الصورة التي بيّنها الرسولُ الكريم في نبوءته العظيمة.

بقاء الدجال حيًّا في الأرض وعلمه للغيب

قد مرّ معنا في قصّة تميم الداري المروية في حديث رسول الله في صحيح مسلم أنّ الدجال قد تنبأ بالغيب نبوءات صادقة، وأنّه كان حيًّا مقيّدًا في دير منذ الزمن السابق لرسول الله . ولا شكّ في أنّ هذا -عدا عن مخالفته للعقل والمنطق السليم- يُخالف أيضًا القرآن وأسس الإيمان والتوحيد في الإسلام كما هو معلوم للمسلمين أو العارفين بالإسلام.

مع الإيمـان بأنّ أحـدًا لا يقدر على أن يحيي الميت أو يبعثه من الموت إلاّ الله؛ فإنّ هذا الحديث يشير إلى تقدّم الإنسان في مجال الطبّ والعمليات الجراحية الخطيرة، حيث يمكن اليوم لأطباء العالم الغربي ومن تعلّم عندهم أن يجري عمليات جراحية خطيرة على مستوى استبدال قلب الإنسان المعطوب بقلب صناعي أو قلب إنسان آخر كما هو معلوم

ونظرًا للأهميّة الخاصّة المتعلّقة ببعض المعتقدات الخاطئة التي بُنيت على المفهوم الخاطئ لهذا الحديث، نجد أنّ من الضروري البرهان على أنّه لم يكن إلاّ رؤيا تتعلق بنبوءة غيبية يصحّ فهمها بالتأويل المبني على التعليم القرآني الحكيم، في حين يضلّ المصرّ على الأخذ بحرفيتها ويصير أسير عقائد خاطئة ليست من الإسلام في شيء، بل يصير نهبًا للخرافة والخيـال وقابلاً للشرك باسم الدين، وإليكم البيان:

جمع سيدنا رسول الله الناس ذات يوم وهو يتهلل وجه وقال:

“يَا أَيُّهَا النَّاسُ …أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟ … لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ المـَسِيحِ الدَّجَّالِ. حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ فَلَعِبَ بِهِمْ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ ثُمَّ أَرْفَئُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبْ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ فَقَالُوا وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قَالُوا وَمَا الْجَسَّاسَةُ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ[1] فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ قَالَ لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً قَالَ فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ.قُلْنَا وَيْلَكَ مَا أَنْتَ قَالَ قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ قَالُوا نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ، فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا، ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ … فَقَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ نَعَمْ. قَالَ أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ. قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ، قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ. قَالَ أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ. قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ، قَالُوا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ، قَالَ هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ نَعَمْ هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا. قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِب.َ قَالَ أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا نَعَمْ. قَالَ كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوه.ُ قَالَ لَهُمْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا نَعَمْ. قَالَ أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا” (صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة)

يبدو للمتفكّر بكلّ وضوح أنّ هذا الحديث الشريف إنما يتحدّث عن رؤيا وافقت رؤى صادقة أخرى، وليس عن قصّة واقعية حقيقة؛ والبرهان كما يلي:

 أوّلاً، البرهان اللغوي

يتبّين من البيان اللغوي لبعض مفردات هذا الحديث، أن سيدنا رسول الله ، إنما كان يحدّث أصحابه عن رؤيا قصّها عليه تميم الداري، وقد جاءت موافقة لرؤى صادقة، تتعلق بالدجال،كان قد رآها هو ذاته، ففرح بتأكيد هذه النبوءة، وقال:

“أتدرون لم جمعتكم؟… لأنّ تميمًا الداري…حدّثني حديثًا وافقَ الذي كنتُ أحدّثكم عن المسيح الدجال.”

نجد في هذا المقطع من الحديث الشريف كلمـة “حديث” وكلمـة “وافقَ” وهما كلتاهما تُستخدمان في اللغة العربية للتعبير عن الرؤيا؛ فكلمة “حديث” هي المفرد من “أحاديث” التي تعني أيضا الرؤى، كما في قوله تعالى في سورة يوسف:

كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ   (يوسف: 7)

ثم نجد لفظة “وافقَ” التي تُشير هنا بكلّ وضوح إلى أنّ لفظة: “حديثًا” في هذا الحديث الشريف تعني: “رؤيا”، أي أنّ تميمًا الداري قد حدّث رسول الله عن رؤيا صادقة رآها وجاءت موافقة لرؤى الرسول الكريم محمّد عن الدجال التي كان يحدّث بها قومه.

 ثانيًا، البراهين والدلائل من عناصر القصة ذاتها

إذا أمعنّا النظر في قصّة تميم الداري لرسول الله  نجد أنها تحتوي على مجموعة عناصر لا يمكن أن تكون مقبولة إلاّ إذا كانت رؤيا تستلزم التأويل ومنها:

1)  أنها تحتوي على أنباء غيبية تتعلّق بالرسول وقومه وحروبٍ وبلاد ومواقفَ ذَكَرها المسيح الدجّال وهي نبوءات ثبت صدقها؛ وبما أنّه لا يمكن أن يعلم الغيب إلاّ الله تعالى أو من ارتضى من رسولٍ، بوحي منه عزّ وجل، فإنّه لا يصحّ الاعتقاد بأنّ كافرًا كذّابًا دجالاً يعلم الغيب كالله أو كأنه نبيّ صادق من عند الله!

2) نجد أن الدجال في هذه الرواية يعدّ طاعةَ النبيّ الكريم محمّد خيرًا وينصح بها، وذلك بقوله: (أما إنّ ذلك خير لهم أن يطيعوه)، وهو في كلامه هذا يُعدّ صادقًا ولا يُعدّ دجّالاً، وهذا يُناقض دعواه وفِتْنَته!

3) نجد في هذه الرواية أنّ الحيوان (الجسّاسة) تكلّم الناس بكلام فصيح مُبين يفهمه الناس، وهذا أمر مُحال في الواقع واليقظة كما هو معلوم. ثم إنّ لفظة الجسّاسة تُشير إلى التجسّس الذي هو سمة بارزة لدى أمم الحضارة الغربية بسبب تركيبتها العدوانية الحربية.

4) يقول تميم الداري نفسه في هذه الرواية أنّه قد ركب السفينة مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، ولم يَرِدْ في السيرة والتاريخ أنّ أحدًا من الرجال من القبيلتين المذكورتين قد ذكر شيئًا عن هذه القصّة أو أيّدها!

5) جاء في هذه الرواية أنهّ  قد كان على ظهر السفينة المذكورة ثلاثون رجـلاً، وأنّ المـوج قـد لعبَ بها فضلّوا عليها في البحر ثلاثين يومًا دون أن يقصدوا السـفر هـذه المـدّة الطويلة، فكيف كان يمكن لهؤلاء الثلاثين أن يعيشـوا على متنهـا مـدّة ثلاثين يومًا دون ماء أو طعام كاف طوال هـذه الـمدّة الطويلـة ودون اسـتعداد مسـبق؟ ثم كم يجب أن يكون حجم هذه السـفينة حتّى تتسـع لتخزين مؤونـة من الماء والطعام وغير ذلك تكفي ثلاثين رجلاً مدّة ثلاثين يومًا هذا لو كانوا يعلمون أنهم سيضلّون شهرًا؟ وهل كانت قبيلتا لخم وجذام تمتلكان مثل هذه السفن الكبيرة؟! وهل ذكرت الكتب والروايات المعنية أسماء هؤلاء الثلاثين أو أحدًا منهم؟ مطلقًا!

6) ثم أين هذه الجزيرة اليوم التي فيها وحوش أو دوابٍّ هُلبٍ متكلّمة كما تتكلم (الجسّاسة)؟ وأين هذا الدّير الذي يوجد فيه هذا الإنسان الخارق المقيّد بالحديد حتّى اليوم؟ ثم ألم يقدر الجغرافيون والمكتشفون على اكتشافها ومعرفة ما فيها حتى اليوم؟!

إنّ هذه الرواية لا يُمكن أنّ تؤخذ بحرفيتها -لأنها رؤيا- تُبيّن بأنّ الوحش (المسيح الدجّال) الذي كان مقيّدًا بالحديد في دير في جزيرة في زمن رسول الله إنما كان هو الكهنوت المسيحيّ المتمثّل بالتعاليم المخالفة لهدي المسيح الناصري وتعاليمه في التوحيد وعبادة الله الواحد. ولقد كان رجال الدين المسيحي -الذين انطلقوا في الزمن الحديث مبشرين بمسيحيتهم المنحرفة على متن حمار الدجال الناري (السفينة البخارية) ثم القطار البخاري ثم الطائرة بأنواعها، إلى الهند (في الشرق)[2] وأفريقيا وآسيا وأمريكا وغيرها من بقاع استعمارهم- في زمن رسول الله مقيّدين في الجزيرة البريطانية حامية الكنيسة المسيحية آنئذ، ولم يكونوا قادرين على الانتشار إلى الآفاق التي وصلوا إليها في زمننا الحديث بعد اختراعهم وسائط النقل الخارقة التي رمز إليها سيدنا رسول الله باسم (حمار الدجّال)، فسفكوا الدماء، واحتلّوا البلاد، وأذلّوا العباد، وفتنوا الناس، ونهبوا الخيرات تطير وراءهم كيعاسيب النحل!

ولو أردنا إيراد تفصيل كلّ بيان في نبوءات سيدنا رسول الله المتعلّقة بخروج الدجال لوجدنا أن دقائق وتفاصيل تلك النبوءات تفوق قدرتنا على الإحاطة بجميع ما جاء فيها، وسيتبيّن لنا أن ثمّة نبوءات وآيات لا تزال بانتظار المستقبل ليبّينها ويكشفها للناس في حقائق إعجازية جديدة تشهد على صدق رسول الله  ورسالته العظيمة الإسلام وكتاب الله المجيد، وتدفع المفكّرين المخلصين الذين يأبون خداع أنفسهم إلى التصديق بمحمد عليه الصلاة والسلام والدخول في دين الله العظيم الإسلام بدليل ما جاء في أحاديث رسول الله من إعجازات علمية متينة سطعت برهانًا عظيمًا للعالمين.

ولا نزعم أنّ ما قدّمناه هنا هو البيان كلّه أو أنه لا يمكن أن يكون ثمة بيان غيره، بل إنّ بحث الدجال كنز من كنوز محمد المصطفى وستظلّ البشرية تجد فيه الكثير والكثير من آيات الله الإعجازية الداعية إلى التصديق بمحمد رسول الله ودين الله الإسلام، شريطة عدم التمسّك بالحرفية الخرافية الأسطورية المنافية لقواعد العقل والمنطق السليم، وعدم المكابرة بالباطل الأعمى بعد إدراك الحقيقة المبصرة!

 علاقة الدجال بيأجوج  ومأجوج :

إنّ بحث الدجال أوسع من أن يغطيه باحث. كما أنّ له صلة بمواضيع كثيرة وهامّة جدًّا؛ ولذلك فإنني أتوقّع بأنّ الكثير من المؤلفات ستظهر عنه وتُبيّن للبشرية الكثير من الحقائق المتعلّقة به. وليس قصدي في هذا الكتاب الإسهاب أو الإحاطة بهذا البحث، فهو -كما قلت- أمر أكبر من ذلك بكثير. ولكنّ قصدي الأساس هو البرهان من كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله الكريم والمكتشفات والحقائق العلمية الثابتة على أنّ المسيح الأعور الدجّال قد ظهر، بحسب نبوءات خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وأنّه يعيث الآن في العالم فسادًا. ولكن إتمامًا للقصد، لابدّ من التعرّض بشيء من البحث والبيان لمواضيع أخرى تتعلّق بخروج الدجال وتزيد البحث وضوحًا، ومنها خروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها وبضعة مواضيع أخرى ذات صلة ببحثنا هذا، وهي جميعًا قد جاء ذِكرها في القرآن الكريم والحديث الشريف.

ومن المهمّ كثيراً الانتباه إلى حقيقة صلة هذه الأمور بسورة الكهف التي تتحدّث ببيان وتفصيل قرآنيين رائعين عن حقيقة الدجال ويأجوج ومأجوج وصلة ذلك بالإسلام ودعوة سيدنا محمد ، كما أنها تُبيّن المصير المحتوم لهذه الأمم وظهور الإسلام كدين عالمي واحد في نهاية المطاف يجمع الناس ويوحّد الخلق على دين محمّد مصداقًا لوعد الله في القرآن المجيد:

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (التوبة: 34)

ماذا في سورة الكهف؟

يمكن تلخيص مضمون سورة الكهف لمن أراد أن يتمعّن في معانيها بما يلي:

تبدأ هذه السورة ببيان الله تعالى أنه قد أنزل القرآن المجيد ليزيل الأخطاء التي تسرّبت إلى الكتب السماوية السابقة، ولينذر الذين يعتقدون باطلاً بأنّ الله سبحانه وتعالى قد اتّخذ ولدًا، وينشرون هذه العقيدة الباطلة في الأرض ويضطهدون مخالفيها. وتُبيّن السورة أنهم بفعلهم هذا إنما يجلبون على أنفسهم غضب الله الذي سيحلّ بهم ويُنهي ظلمهم واستبدادهم وعقيدتهم الباطلة. إلاّ أن نهايتهم، بالرغم من كرههم للإسلام، لن تكون كبدايتهم. فقد كانوا في بداية عهدهم ضعفاء وعرضة للاضطهاد الشديد فرحمهم الله وأنقذهم من تلك المصائب والشدائد ووضعهم على طريق الازدهار والتقدّم، ولكنّهم، عندما أنعم الله عليهم بالغنى والرخاء، انغمسوا في أعمال وثنية وانكبّوا على الدنيا وتاهوا فيها ووقفوا من التوحيد والإيمان الحق موقف الظلم والعداء بدلاً من أن يُخلِصوا دينهم وإيمانهم وأعمالهم لله وحده.

ولو أردنا إيراد تفصيل كلّ بيان في نبوءات سيدنا رسول الله المتعلّقة بخروج الدجال لوجدنا أن دقائق وتفاصيل تلك النبوءات تفوق قدرتنا على الإحاطة بجميع ما جاء فيها، وسيتبيّن لنا أن ثمّة نبوءات وآيات لا تزال بانتظار المستقبل ليبّينها ويكشفها للناس في حقائق إعجازية جديدة تشهد على صدق رسول الله  ورسالته العظيمة الإسلام وكتاب الله المجيد

وتُحذّر السورة المسلمين، وتحثّهم على أن يعوا أنفسهم ويتعلّمـوا الدرس مما حدث لهـذه الأقوام الضّالة ويَحذروا -وهم لا يزالون في حلّة القوّة والمجد- من أخطار شرور ثلاثة هي:

الأوّل: إهمالهم في عبادة الله الحقّة.

والثاني: التهافت على متاع الدنيا والحبّ الشديد للمال.

والثالث: حياة الرفاهية والرخاء.

ونجد في مثال (الرجلين) صورة واضحة لقوّة وغنى الشعوب المسيحية ومجدها وضعف وفقر وانحطاط المسلمين. حيث نجد الرجل الغني صاحب الجنّتين يتباهى بغناه ويتفاخر على الرجل الفقير بازدراء واحتقار. ويبيّن المثل بأنّ تفاخر الرجل الغني (الأمم الغربية) بثروته وماله وكثرة عدده سوف ينتهي في نهاية المطاف بكارثة هائلة مروّعة تنزل عليه من السماء فتجلب له الحزن والأسى وتؤدّي إلى انحطاطه وزوال مجده وعظمته ودمار حضارته المادية الظالمة.

وتبيِّن السورة بحثها في انحطاط الشعوب المسيحية الأوّل وانهيارها، وقيام الإسلام وانتصاره؛ ثم توضح الأوضاع التي ستتبع انتصار الإسلام فتُنبئنا بأنّه سيأتي وقت على المسلمين يبتعدون فيه عن الدين الحق، ويلهيهم حب الدنيا وسعيهم وراء الثروة والقوّة المادّية. وعقابًا لهم على ذنوبهم وضلالهم سيهب الله التقدّم والقوّة مرّة أخرى لهذه الشعوب المسيحية.

وتبيّن السورة الأحداث التي تتبع ذلك ببيان أنّ دمارًا عظيمًا سيصيب الأرض، وتنقسم شعوب الأرض إلى قوّتين يموج بعضهما في بعض، ويدمّر بعضهما بعضُا بعد أن يكونا قد تسببا في تفشي الظلم والاستبداد والفساد إلى أقصى درجة. ولكن عندما تصل الأمور إلى هذا الحدّ فإن الله تعالى سوف يخلق ظروفًا من عنده تصدّ هذا الطوفان المدمّر الذي بات يهدّد بفناء البشرية والعالم أجمع، والذي بدا وكأنه لا قدرة لأحد بالتصدّي له وإيقاف زحفه ومدّه.

وتؤكّد السورة على أنّ المؤمنين سيقفون سدًّا منيعًا في وجه ضلال وعدوان يأجوج ومأجوج ويكسرون بقوّة الله شوكتهم، وينصر الله دينه ويُعلي كلمته. ( تفسير سورة الكهف) للإمام بشير الدين محمود أحمد .

إنّ هذا البيان ليس تفسيرًا لسورة الكهف وإنما هو إشارة إلى ما ذُكر فيها من بيان مختصر يتعلّق ببحث الدجال وخروج يأجوج ومأجوج. ويمكن للمهتم القيام بدراسة السورة بنفسه ومراجعتها في التفاسير وفهم ما يُرى فيها من بيان ونبوءات.

* يأجوج ومأجوج

يَرِدُ على ألسـنة الكثير من النـاس خرافات كثيرة تتعلق بتسمية يأجوج ومأجوج التي وردت في القرآن الكريم والحديث الشريف. ولكنّ الباحث في المصادر اللغوية وكتب التفسير يجد بيانًا آخـر يتعلـّق بهاتين التسميتين، حيث جـاء في المعنى اللغـوي لهاتين الكلمتين في (لسان العرب) ما يلي:

“أجّج: الأجيج تلهّب النار… والأَجّة والأَجيج صوت النار. وأجّت النار تئِجّ وتَؤجّ أجيجًا إذا سمعتَ صوتَ لهبها وكذلك ائتجّت وتأجّجت، وقد أجّجها تأجيجًا. وأجّج بينهم شرًّا: أوقده. وقولهم القوم في أجّة أي في اختلاط. وقال أبو عمر: أَجَّ إذا حمل على العدو.. وأَجّ الرجل يئجّ أجيجًا: صوّتَ. وأجّ يؤجّ أجًّا: أسرع، قال الشاعر: “سدا بيديه ثم أجَّ بسيره”. وجاء في (التهذيب):

“أجّ في سيره يؤجّ أجًّا إذا أسرع وهرول.. والأجيج والأُجاج والائتجاج: شدّة الحرّ .. وماء أُجاج أي مالح.. قال الله عز وجل (وهذا ملح أُجاج) وهو الشديد الملوحة والمرارة.

ويأجوج ومأجوج: قبيلتان من خلق الله.. وجاء في الحديث أنّ الخلق عشرة أجزاء تسـعة منها يأجوج ومأجوج..” معجم “لسان العرب” لابن منظور، مادّة أجج.

وجاء في (التفسير الكبير) للإمام الفخر الرازي في معرض تفسيره لقول الله عز وجل في سورة الكهف 95:

إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ

ما يلي:

“في يأجوج ومأجوج قولان، الأول: أنهما اسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف. والثاني: أنّهما مشتقّان، وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز. وقرأ الباقون: ياجوج وماجوج، وقرئ في رواية آجوج ومأجوج، والقائلون بكون هذين الاسمين مشتقّين ذكروا وجوهًا، الأول: قال الكسائي: يأجوج مأخوذ من تأجُّج النار وتلهّبها فلسرعتهم في الحركة سمّوا بذلك، ومأجوج من موج البحر. الثاني: أنّ يأجوج مأخوذ من تأجّج الملح وهو شدّة ملوحته، فلشدّتهم في الحركة سمّوا بذلك. الثالث: قال القتيبي: هو مأخوذ من قولهم أجّ الظليم في مشيه يئجّ أجًّا، إذا هرول وسمعتَ حفيفه في عدْوه… واختلف في أنهما -أي يأجوج ومأجوج- من أي الأقوام، فقيل إنهما من الترك، وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجبل والديلم..”[3]

وكذلك قال الرازي:

“هما قبيلتان من جنس الإنس..”[4]

وجاء في “دائرة معارف القرن العشرين” لمؤلفها محمد فريد وجدي:

“.. وأما يأجوج ومأجوج فقبيلتان من ولد يافث. وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجبل الديلم، ومن الناس من وصفهم بصغر الجثة وقصر القامة حتى قالوا إن الواحد منهم لا يزيد في الطول عن الشبر، ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبت لهم مخالب وأضراسًا كأضراس السباع؛ وليس في الكتاب الكريم ما يدلّ على شيء من ذلك، فقد اقتصر على أنّهم من الأقوام المفسدين في الأرض ولو كان فيهم شيء خارق للعادة لنبّه عليه.

أمّا إفسادهم في الأرض فقيل كانوا يقتلون الناس ويأكلون لحومهم. وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئًا أخضر إلاّ أكلوه ولا يابسًا إلاّ حملوه.

نقول إنه لا يمنع أنهم كانوا قومًا أولي بأس يشنّون الغارة على أولئك الأقوام الشاكين، فيكون معنى أنهم مفسدون في الأرض أنهم يغزونهم فيجتاحون ثمراتهم ويقتلونهم ويسبون نساءهم. وعليه فلا محلّ لجميع ما يُروى من الأمور البعيدة عن العقل بشأن يأجوج ومأجوج مادام لم تدلّ عليه إشـارة من كتاب الله ولا من سنّة رسوله الصحيحة”. “دائرة معارف القرن العشرين” – محمد فريد وجدي، المجلد الأول، مادة أجج.

وهكذا يبدو من القرآن واللغة وكلام المفسرين والمفكّرين أنه ليس ثمة خرافة أو أُعجوبة تتعلّق بيأجوج ومأجوج؛ فهم ليسوا سوى أقوام بشرية تتميّز بصفات معيّنة سنعود لتفصيل بيانها في الموضع المناسب.

ونقرأ في سفر حزقيال في الكتاب المقدّس نبوءةً تتعلّق بخروج يأجوج ومأجوج تقول:

 (يَا ابْنَ آدَمَ، اجْعَلْ وَجْهَكَ عَلَى جُوجٍ، أَرْضِ مَاجُوجَ رَئِيسِ رُوشٍ مَاشِكَ وَتُوبَالَ، وَتَنَبَّأْ عَلَيْهِ وَقُلْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا عَلَيْكَ يَا جُوجُ رَئِيسُ رُوشٍ مَاشِكَ وَتُوبَالَ. وَأُرْجِعُكَ، وَأَضَعُ شَكَائِمَ فِي فَكَّيْكَ، وَأُخْرِجُكَ أَنْتَ وَكُلَّ جَيْشِكَ خَيْلاً وَفُرْسَانًا كُلَّهُمْ لاَبِسِينَ أَفْخَرَ لِبَاسٍ، جَمَاعَةً عَظِيمَةً مَعَ أَتْرَاسٍ وَمَجَانَّ، كُلَّهُمْ مُمْسِكِينَ السُّيُوفَ. فَارِسَ وَكُوشَ وَفُوطَ مَعَهُمْ، كُلَّهُمْ بِمِجَنٍّ وَخُوذَةٍ، وَجُومَرَ وَكُلَّ جُيُوشِهِ، وَبَيْتَ تُوجَرْمَةَ مِنْ أَقَاصِي الشِّمَالِ مَعَ كُلِّ جَيْشِهِ، شُعُوبًا كَثِيرِينَ مَعَكَ) (حِزْقِيَال 38: 2-6)

ويظهر بحسب الكتاب المقدّس -وهو المصدر الأول والأهـمّ عن علمنا فيما يتعلّق بيأجوج ومأجوج- أنّ روسيا (روش)، وموسكو (ماشك) وتوبولسك (توبال) التي تقع جميعها في المناطق الشمالية هي موطن هذه الأقوام. والمصادر التاريخية تؤيّد بدورها رواية الكتاب المقدّس عن يأجوج ومأجوج. وقد جاء في الكتاب المقدّس كذلك أنّ مأجوج هو الابن الثاني ليافث بين جومر ومداي حيث جاء:

(وَهذِهِ مَوَالِيدُ بَنِي نُوحٍ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافَثُ. وَوُلِدَ لَهُمْ بَنُونَ بَعْدَ الطُّوفَانِ. بَنُو يَافَثَ: جُومَرُ وَمَاجُوجُ وَمَادَاي وَيَاوَانُ وَتُوبَالُ وَمَاشِكُ وَتِيرَاسُ) (سِفْرُ التَّكْوِينِ 10: 1-2)

فبينما يمثّل جومر (الكمريين) الذين عاشوا شرقي تركيا، ومداي (الميديين) فقد كان مأجوج شعبًا عاش شرقي الكمريين وغربي الميديين، ولكن يظهر من سفر التكوين أنّ قائمة الشعوب المذكورة فيه تعبّر عن اصطلاح يشير إلى خليط من الشعوب البربرية المقيمة في أقصى شمال وشمال شرقي المنطقة الجغرافية المشار إليها في الفصل المذكور … ففي سفر حزقيال الإصحاح: 6  يرد اسم ماجوج باعتباره اسمًا للأقوام الشمالية والتي قائدها وزعيمها يأجوج؛ وفي الوحي يُعتبر لفظ يأجوج ومأجوج كاصطلاح شامل لقوى الشرّ. وقد اعتبرهم يوسيفوس بأنّهم السيكيثيون، ويعني هذا الاسم لدى الكتاب القدماء مجموعة من القبائل المجهولة والمتوحّشة. وحسب (جرومي) فإنّ قبائل مأجوج كانت تقيم وراء القفقاس قرب بحر قزوين. وهذه هي المنطقة الشمالية ذاتها حيث عاش السيكيثيون. ويشير (هيرودوتس) إلى أنّ هؤلاء البدو (السيكيثيين) جاؤوا من الممر الطبيعي الواقع بين جبال القفقاس وبحر قزوين وهو ممر دربند. “الموسوعة اليهودية” تحت عنوان (ياجوج)، و”تاريخ العالم للمؤرِّخين” مجلد 2، ص: 285.

وبناءً على ما جاء في الكتاب المقدّس فإنّ قبائل يأجوج ومأجوج قد حكمـت بلاد فارس، وإنها لحقيـقة تاريخية ثابتة أنّ فارس قد وقعت في أيدي السيكيثيين أو إمبراطور ميديا الذي حكم (آكبتانا) ثم استخلصهـا منه الملك كورش العظيم.” تاريخ العالم للمؤرِّخين “مجلد 2، ص : 589”.

وهكذا يبدو واضحًا أنّ السيكيثيين أو يأجوج ومأجوج قد سيطروا على مناطق إلى الشمال والشمال الشرقي من البحر الأسود، وأنهم قد اجتازوا هذه المناطق من ممرّ دربند وغزوا واحتلّوا وحكموا فارس، وأنّ الملك كورش (ذا القرنين) باني السد قد غلبهم فيما بعد وأنقذ فارس من براثنهم.

وأمّا ما يتعلق بذي القرنين وأنّه قد بنى سدًّا منيعًا في وجه غزوات يأجوج ومأجوج، فإننا نجد سدًّا في المكان الذي يروي هيرودوتس أنّ السيكيثيين كانوا يمرّون عبره لغزو فارس، ويُعرف هذا السدّ بسدّ دربند. وتُشير الموسوعة البريطانية إلى هذا السدّ تحت عنوان (دربند) كما يلي:

“دربند أو دربنت هي بلدة من فارس القفقاس تقع في منطقة داغستان على الشاطئ الغربي لبحر قزوين.. وإلى الجنوب يقع الطرف المحاذي للبحر من هذا السد القفقاسي البالغ من الطول 80 كم والمعروف بسدّ الإسكندر، وهو الذي يسدّ الممر الضيّق المسمّى بالباب الحديدي أو باب قزوين، والذي يبلغ علوّه في حالته الكاملة 29 قدمًا (عشرة أمتار) وسـماكته حوالي عشرة أقدام، وكان يشكّل بأبوابه الحديدية وأبراجه العديدة للمراقبة خطًا دفاعيًا قويًا على الحدود الفارسية”.

“يشير هذا النص -من الموسوعة البريطانية- إلى وجود سدّ أُقيم ليمنع ويحمي بلاد فارس من هجمات السيكيثيين (يأجوج ومأجوج) من الشمال. ويتبيّن من التحقيق التاريخي أنّ الذي بنى هذا السدّ هو الملك المؤمن كورش الذي صدّ بواسطته الغارات التي كان يشنّها السيكيثيون (يأجوج ومأجوج) على بلاد فارس، ولكنّها توقّفت بعـد فتوحـاته، مما يؤكـّد حقيقـة أنّه قـد أقام حاجزًا منع به تلك الهجمات، وأنّ هذا الحاجز هو سدّ دربند المعروف خطأ بجدار الاسكندر). انظر (تفسير سورة الكهف) للإمام مرزا بشير الدين محمود أحمد .

ولا شكّ في أنّ ثمة الكثير مما يمكن أن يتبيّن من الحقائق التاريخية حول قبائل وتاريخ يأجوج ومأجوج. ولسنا هنا بصدد إطالة البحث المتعلِّق بهم والتوسُّع فيه، بل القصد فقط هو بيان هويتهم في الزمن الماضي وحقيقتهم في زمننا الحاضر، وهي أنّ هذه الأقوام عندما لم تتمكن من التغلغل من الشمال جنوبًا لاحتلال بلاد فارس التي كانت تطمع بخيراتها بسبب إقامة سدّ ذي القرنين في وجهها، توجّهت زاحفة باتجاه دول أوروبا فغزتها واستوطنتها، ثم عندما ظهرت المسيحية فيها دخلتْ في المسيحية، وهي تُشكّل اليوم الشعوب المسيحية الأوروبية الغربية، وبذلك تتوحّد في هذا العصر هوية المسيح الدجال مع يأجوج ومأجوج.

ولكننا إذا ما أخذنا بالحسبان الإشارات اللغوية والبيانية في النبوءات المتعلّقة بخروج الدجـّال ويأجوج ومأجوج، فإننا نجد أنّ لفظة المسـيح الدجّال تشير إلى الكهنوت المسيحي المنحرف عن دعوة المسيح عيسى ، وهم رجال الدين الذين أَدخلوا الشرك في دين المسيح وزعموا أنّ الله قد اتخذ ولدًا، في حين أنّ المسيح قد أمرهم بالتوحيد حيث نقرأ تعليمه التوحيدي لأتباعه في الكتاب المقدّس (الإنجيل) حتى اليوم، يقول:

(لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ) (إِنْجِيلُ مَتَّى 4: 10)

وقد ثبت من الأناجيل أنّ المسيح لم يعبد -طوال عمره- أحدًا سوى الله وحده، كما أنّه لم يأمر أحدًا بعبادته أو عبادة أمّه. ومن كان عنده برهان على عكس هذه الحقيقة القائمة فليأت به!

وأمّـا يأجـوج ومأجـوج فيشـكّلان القـوّة الحربية العسكرية التي تتميّز بالسـرعة والقدرة الهائلة على إشعال أوار الحرب والفتن وتأجيج المـدن والقـرى بالنـار التي تنتشر في الأرض بسرعة وكثرة على حدب موج البحار مصداقًا لقوله تعالى:

وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ،

حيث جاء في معاجم اللغة العربية أنّ الحدب اسم من أسماء الموج. وبما أنّ القمّة هي حدب أيضًا فإنّ في ذلك نبوءة تشير إلى أنّ هذه الأمم ستعتلي قمة كلّ شيء فتتربّع على قمم التقدم والقوة في مختلف مجالات الحياة (الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغير ذلك من النشاطات البشرية). وهذا هو الحاصل اليوم بكل وضوح حيث تُجسِّد دول العالم الغربي ذلك التفوّق.

وهكذا فإنّ المؤشرات النبوءاتية في أحاديث الرسول الكريم محمد وكتاب الله المجيد ترسم لنا ببيان واضح مبين وبإعجاز مُفحِم ملامح ومواصفات وتفاصيل العصر الذي نعيشه بدّقة مذهلة!

[1] ـ لاحظ علاقة الدّير بالمسيح الدجّال في هذا الحديث، فهو مكان إقامته ومنطلقه![2]- وهي جهة خروج الدجال كما في النبوءة النبوية الشريفة.

[3] ـ “التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي المجلد 11 الصفحة 170

[4] ـ المرجع السابق، ص: 222 في تفسيره لقوله تعالى: حَتَّى إذَا فُتِحَتْ يَأجوجُ  وَمَأجوجُ

Share via
تابعونا على الفايس بوك