المفهوم الحقيقي لختم النبوة

القسط الثالث من خطاب ألقاه حضرة مرزا طاهر أحمد

الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي

أثناء المؤتمر السنوي للجماعة في بريطانيا سنة 1985م،

ردًّا على تهم باطلة ألصقتها حكومة باكستان آنذاك بجماعتنا ونشرتها في كتيّب تحت عنوان

“القاديانية خطر رهيب على الإسلام” أثناء حملتها الشرسة ودعايتها الكاذبة

ضد جماعتنا ومؤسسها .

“تنشر أسرة التقوى ترجمة هذا الخطاب على مسؤوليتها”

لن يأتي نبي بشريعة جديدة

يشرح الشيخ عبد الوهاب الشعراني (المتوفى 976 هـ) حديث “لا نبي بعدي” ويقول: “وقوله لا نبي بعدي ولا رسول بعدي، أي ما ثم من يشرع بعدي شريعة خاصة”. (اليواقيت والجواهر ج2 ص35 الطبعة الثانية عام 1900م دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت، لبنان)

ولكن عندما يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الكلام نفسه يستاؤون منه كثيرًا.

كذلك هناك عالم معترف بعظمته في القارة الهندية وشارح معروف لـ”مشكاة” اسمه حضرة ملا علي القاري، وهو إمام أهل السنة الذي ذكرتُه سابقًا، يقول:

“ورد “لا نبي بعدي” ومعناه عند العلماء أنه لا يحدث نبي بشرع ينسخ شرعه”. (الإشاعة لأشراط الساعة ص1249، طبعة بيروت)

إمكانية مجيء نبي بدون شريعة

إن جميع العلماء القدامى والصلحاء الأسلاف الذين ذكرتهم إلى الآن يستنبطون نفس المعنى الذي استنبطه سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . ولكنه من الظلم والجور حقًا أن حضرته عندما يستنتج معنى من حديث يصبح كافرًا، وإذا استنبط العلماء القدامى المعنى نفسه ومن الحديث نفسه يبقون مسلمين بل يسمون أقطاب الأقطاب ويحتلون رأس قائمة أولياء الأمة لدرجة اضطر الكتيب الحكومي أيضًا للاعتراف بهم بمن فيهم حضرة ولي الله المحدث الدهلوي الذي يقول: “فعلمنا بقوله “لا نبي بعدي ولا رسول” أن النبوة قد انقطعت والرسالة إنما يريد بها التشريع”. (قرة العينين في تفضيل الشيخين ص319)

وبالإضافة إلى ذلك يقول السيد الحافظ برخوردار المتوفى عام 1093 هـ والذي يحظى باحترام كبير في القارة الهندية: “والمعنى: لا نبي بنبوة التشريع بعدي، إلا ما شاء الله من الأنبياء والأولياء”. (نبراس ص445 في الهامش)

اعتقاد عالِم لأهل الحديث

ما الذي كان يعتقد به علماء أهل الحديث حتى بعثة سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ؟ هذا ما يتبين من خلال قول السيد نواب نور الحسن خان بن نواب صديق حسن خان حيث يوضح اعتقاده عن “لا نبي بعدي”: “الحديث “لا وحي بعد موتي” لا أصل له، غير أنه ورد “لا نبي بعدي”، ومعناه عند أهل العلم أنه لن يأتي بعدي نبي بشريعة تنسخ شريعتي.” (اقتراب الساعة ص162)

لقد قال هذا العالِم هنا: “عند أهل العلم”، والكلمات نفسها قد استخدمها حضرة ولي الله المحدث الدهلوي وحضرة ملا علي القاري حين قال: “معناه عند العلماء..” مما يعني أن بعض الناس كانوا قد بدؤوا في تشويه معاني الأحاديث، وكان الناس قد انقسموا إلى ذلك الحين إلى حزبين. أحدهم يضم العلماء الربانيين من أهل العلم والمعرفة، وأما الثاني فقد شمل علماء السوء من عامة الناس الذين سماهم أحد الصلحاء فيما سبق بـالجهلة البُله، والذين أشاعوا في الناس فكرة أنه لن يكون هناك نبي من أي نوع بعد رسول الله حتى اضطر العلماء الربانيون للتصريح بأن أهل العلم والمعرفة يفهمون من هذا الحديث أن النبوة التي انقطعت إنما هي نبوة التشريع فقط.

هذا هو الحرمان الذي حرم الأمة من كل خير وفضيلة وشرف، لأن البُعد التدريجي من النبي كان من شأنه أن يؤدي بهم إلى هذه الحالة في نهاية المطاف. لا شك أنه كان محتومًا أن تصل الأمة إلى هذه الحالة التي نراها اليوم عليها. فلو كان الكتاب وحده كافيًا لما وصلت الأمة إلى هذه الدرجة.

لن يأتي نبي بمرتبة الرسول

هناك حديث آخر أيضًا يُلقي الضوء على معنى كلمة “بعد”. فقد تمَّ شرح هذا الحديث في كتاب “الفتوحات المكية” حيث جاء: “عن جابر ابن سمرة عن النبي قال: إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده.” (البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي )

لاحظوا كيف بيّن النبي في هذا الحديث معنىً حكيمًا وبليغًا لقوله: “لا نبي بعدي” حيث قال: “فلا قيصر بعده..و..فلا كسرى بعده”. ثم شرح من خلال كلامه أن كلمة “لا” في مثل هذه المواضع لا تفيد نفي الجنس بل تستعمل بمعنى أنه لن يكون هناك أحد بهذه المنزلة والمرتبة. من المعلوم أن كسرى حين هلك بعد زمن النبي كان هناك كسرى آخر، وكذلك إذا هلك قيصر كان هناك قيصر آخر، وهكذا كان هناك قيصر بعد قيصر إلى ما يزيد على ألف سنة، ومن ناحية ثانية من المستحيل أن يكون هذا القول للنبي خطأً. مما يعني أن النبي أوضح من خلال كلامه هذا أنني عندما أقول “لا نبي بعدي” فأقصد أنه لن يكون هناك نبي حائز على المرتبة والمنزلة التي وهبني الله إياها.

يقول الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي في كتابه الفتوحات المكية: “فما ارتفعت النبوة بالكلية، لهذا قلنا إنما ارتفعت نبوة التشريع. فهذا معنى لا نبي بعده.. فعلمنا أن قوله “لا نبي بعدي” أي لا متشرع خاصة لأنه لا يكون بعده نبي. هذا مثل قوله إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده” (الفتوحات المكية الجزء الثالث ص103، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، لبنان عام 1994م)

تلبيس آخر

لقد ورد إعلان آخر في الكتيب الحكومي حيث قدموا أقوال الرسول بصورة خاطئة ثم أسسوا عليها -حسب زعمهم- البنيان العقلي والنقلي لإعلانهم، محاولين الاستناد إلى الشريعة في هذا الصدد. غير أنهم لم يقدّموا على ادعائهم أي برهان بل اكتفوا بالقول إن إعلانهم مبنيّ على دراستهم للقرآن الكريم. وما هو حصيلة دراستهم القرآنية؟ هذا هو السؤال الهام. يقولون عنه: “عندما نطالع آيات القرآن الكريم بتأمل عن مجيء نبي جديد تتبين لنا سنّة الله تعالى بأنه كان يبعث الأنبياء حين كانت تعاليم الأنبياء السابقين تُنسى بشكل عام أو تُنسخ أو تتعرض للتحريف، أو إذا كانت بحاجة إلى تعديلها أو تدوينها من جديد بسبب تغييرات زمنية وغيرها. وبما أن تعاليم النبي الأكرم قطعية وعالمية ومصونة صيانة كاملة فلا مجال ولا حاجة لنبي جديد إطلاقًا”. (الكتيب الحكومي ص5)

ويقولون أيضًا:

“..الحصيلة الطبيعية للإيمان (ختم النبوة) هي أن تعاليم رسول الله جامعة وقطعية وكاملة.” (المرجع السابق)

صحيح تمامًا أن تعاليم سيدنا محمد المصطفى جامعة وقطعية وكاملة، وصحيح أيضًا أن القرآن الكريم كتاب محفوظ، لم يجد التحريف طريقه إليه، وما أضيف إليه شيء ولم ينقص منه شيء. والذين قاموا بتصريحات افتراضية في هذا الصدد لم يكترث بهم أحد. فكلامهم هذا صحيح تمامًا، ولكن لا يصح القول إن مطالعة القرآن الكريم تُبرهن على أن الله لم يبعث نبيًا قط إلا عند ظهور الأسباب الأربعة المذكورة أعلاه. وليس هذا منطوق الآية التي يكونون قد بنوا عليها استنتاجهم غير أنهم لم يذكروا تلك الآية.

على أية حال هناك آية في القرآن الكريم قال الله تعالى فيها:

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا .

أي مِن سُنّتِنا أننا لا ننسخ آية ولا ننسها غير أن الناس ينسونها، أما نحن بدورنا فنأتي بخير منها. وكذلك إذا أنعم الله على قوم مرة لا يسحب منهم نعمته ليحرمهم منها كليًّا. ومن غرائب قدر الله أنه لو حدث النسخ في نعمة أنعم الله بها عباده لَعوّضهم بمثلها على أقل تقدير. ولكن الله تعالى أكبر شأنًا من ذلك بكثير فإنه يأتي بخير منها كما يقول: “نأت بخير منها”. أي نُنعم عليهم بأفضل من تلك. فيتبين من ذلك أن القرآن كامل ولكن لو حدث النسخ فيه -والعياذ بالله- أو نسي الناس آياته لأتى الله عز وجل بخير منها. ولا يتبين من الآية المذكورة أكثر من ذلك. وبما أن القرآن الكريم كتاب محفوظ فمن المستحيل تمامًا أن تُنسى آياته أو تغيب عن الأذهان نهائيًا. وبالتالي لا يمكن أن تنزل تعاليم أو آيات مثل آيات القرآن أو أفضل منها لأنه من المستحيل أن يكون هناك تعليم أفضل من القرآن. إلا أن الكتيب الحكومي يستنتج عن طريق التلبيس من الآيات السالفة الذكر استنتاجًا ذكرته قبل قليل.

المفهوم الحقيقي لخاتَم النبيين

عندما ندرس القرآن من هذا المنطلق نجد الوضع مختلفًا تمامًا. أولاً وقبل كل شيء ليس من الصحة في شيء قولهم بأن الحصيلة الطبيعية للإيمان بختم النبوة فقط هي أن تعاليم الرسول جامعة وقطعية وكاملة، وذلك لأن هناك آيات كثيرة أخرى أيضًا -ما عدا آية خاتم النبيين- تؤدي إلى نتيجة غير التي استنتجوها، بما فيها الآية:

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: 4).

وفي آية أخرى أكد الله تعالى على حفاظة القرآن الكاملة.

وكل هذه الأمور وردت في القرآن في مواضع مختلفة. إذن فليست صفة “خاتم النبيين” وحدها من صفات النبي المذكورة في القرآن بل هناك صفات كثيرة أخرى أيضًا تنكشف لنا من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.

وفيما يتعلق بتكميل الشريعة فلا نختلف معهم أبدًا. يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود :

“لقد أعلن القرآن الكريم بنفسه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا . أي يجب أن تتمسكوا بالحقيقة التي تتضمنها كلمة “الإسلام” والتي شرحها الله تعالى بنفسه. تبين هذه الآية بصراحة أن القرآن الكريم أعطى تعليمًا كاملاً، وأن عصر القرآن كان جديرًا بأن يعطى فيه تعليم كامل. فإعلان التعليم الكامل الذي قام به القرآن كان من حقه وحده، ولم يقم أي كتاب سماوي آخر بمثل هذا الإعلان.” (مقدمة البراهين الأحمدية الجزء الخامس، الخزائن الروحانية ج21 ص3-4)

فاستنتاجهم كما جاء في الكتيب الحكومي بأن الأحمدية ترفض كمال القرآن -والعياذ بالله- لأنها ترفض المعاني التي اخترعوها هم بأنفسهم، استنتاج باطل تمامًا وكذب شنيع. يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود :

«إن كلمة “خاتم النبيين” التي أُطلقت على النبي تقتضي بحدّ ذاتها، بل تتضمن هذا المعنى، أعني أن الكتاب الذي نزل عليه يجب أن يكون كتاباً كاملاً وأن توجد فيه الكمالات كلها». (الملفوظات، ج3 ص 36)

ما أعظمه من استنباط وما أروَعَهُ! وكم هو جميل كلام حضرته في بيان كمال القرآن الكريم إذ يقول: إنه من مقتضيات كونه خاتم النبيين أن ينزل عليه تعلم يكون «خاتم التعاليم» أيضًا، وإلا فلا يتحقق كونُه خاتم النبيين، فيقول حضرته من منطلق هذا المعنى:

«القرآن معجزة لم ولن يكون لها مثيل. إن باب فيوضه وبركاته مفتوح إلى الأبد. هو متميز ومتلألئ في كل الأزمنة كما كان في زمن سيدنا ومولانا محمد ». (الملفوظات ج3، ص57)

هناك أقوال كثيرة لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود بهذا الخصوص لا يمكن بيانها لضيق الوقت حيث مدح القرآنَ الكريم وبيَّن بالتفصيل كمالَه وكونَه محفوظًا ومصونًا، وقدَّم حِكَمًا ودلائل عقلية ونقلية على كون تعاليمه كاملة كما قدم البراهين على أنه ليس ادعاء فارغًا بل كل إنسان في العالم يضطر للاعتراف بصدقه. وبما أن هذا موضوع طويل جدًا لذا سوف أكتفي بهذا القدر في الوقت الحالي.

أسقام الأمة رغم وجود الكتاب الكامل

أما بالنسبة إلى تصريحهم أنه لا يمكن أن يأتي نبي إلا بعد حدوث الفساد والتحريف فقط في التعليم فهو كذب يرفضه القرآن رفضًا باتًا ويذكر أسبابًا للرفض أيضًا. فيقول القرآن الكريم في ذكر بعثة النبي :

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . (الجمعة: 3)

 أي من واجباته أنه: “يتلو عليهم آياته” أي يعلمهم آيات الله التي تنزل عليه و”يزكيهم”: أي أنه مُزكٍّ لأنه أُعطي قدرة على التزكية فيطهّر الناس. و”يعلّمهم الكتاب”.. أي لو لم يعلِّمْكُم الكتاب لنسيتُموه كما لا تستطيعون لوحدكم فهمَهُ أصلاً.

فلو كان الكتاب وحده كافيًا لما كانت هناك حاجة إلى بعثة الأنبياء، وبالتالي كان من الممكن أن ينزِّل الله كتابًا من السماء مباشرة فَيقرأه الناس مباشرة. لو تلقّى سيدنا موسى الألواح بصورة جاهزة لكان من الممكن أن تُعطى للقوم دفعةً واحدة ليستفيدوا منها ويستوعبوا مباشرةً العلم والحِكَم التي تضمها تلك الألواحُ. ولكن هذا لم يحدث قط ولن يحدث أبدًا.

فإذا كان معارضونا يرفضون هذه الحقيقة فليقارنوا بين المسلمين في زمن النبي والمسلمين في زمننا هذا، فسوف يعرفون الأمر على حقيقته. إنهم يعترفون أن الكتاب موجود كما كان في أول أمره، ولم يحدث فيه أدنى تغير. نحن أيضًا نعترف بذلك ونقول إن الكتاب كامل ولم يتغير منه شيء ظاهريًا. ولكن ماذا عن حالة المسلمين؟ هل بَقُوا على ما كانوا عليه في زمن النبي ؟ وإذا كان الجواب بالنفي -كما هو الحال في الحقيقة- فلماذا هذا الفرق الكبير؟ الفرق الوحيد هو أن المــُزكِّي العظيم، ذلك المــُزكِّي الذي لم ولن يبعث مـُزكٍّ مثله، ذلك النبي العظيم الذي كان يعلمهم الكتاب والحكمة لم يعد موجودًا فيهم. هذا هو الحرمان الذي أصاب الأمة مثلَ مرضٍ عُضالٍ. هذا هو الحرمان الذي حرم الأمة من كل خير وفضيلة وشرف، لأن البُعد التدريجي من النبي كان من شأنه أن يؤدي بهم إلى هذه الحالة في نهاية المطاف. لا شك أنه كان محتومًا أن تصل الأمة إلى هذه الحالة التي نراها اليوم عليها. فلو كان الكتاب وحده كافيًا لما وصلت الأمة إلى هذه الدرجة.

دروس من تاريخ الأنبياء

التاريخ الذي يقدمه القرآن أيضًا يُكذِّب التصريحات الواردة في البيان الأبيض المزعوم. إذ يقول الله في كلامه المجيد:

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (الأَنعام: 155)

ثم يقول الله :

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (البقرة: 88)

نعرف عن سيدنا موسى أن التوراة نزلت عليه ثم بُعث سيدنا هارون نبيًا حسب طلب موسى . فهل كانت التوراة قد حُرِّفت خلال فترة وجيزة بين نزول التوراة على موسى وبعثة هارون ؟ هل كان كلام الله قد غُيِّر؟ أم هل كان موسى قد نسي ذلك التعليم؟ كلا، لا يذكر القرآن سببًا واحدًا من الأسباب المذكورة في البيان المزعوم.

ثم قالوا عن داود : إن هناك فترة زمنية لا بأس بها بين موسى وداود عليهما السلام وكان قد بُعثَ بعد أن حُرِّفَ التعليم وبُدِّل، قلتُ: حسنًا، أين الفاصل الزمني بين سليمان وداود ؟ لماذا بُعِثَ سليمان بعد داود عليهما السلام؟ ولأي نوعٍ من التحريف تعرّض الزَبُور في حياة داود ؟ وأي تحريفٍ حدث بعد الإصلاح الذي قام به داود في العهد القديم حسب زعمهم؟ إن أفكارهم هذه إذن باطلة ولاغية كلها، ولا سند لزعمهم إطلاقًا.

نعود الآن إلى زمن سيدنا إبراهيم ونرى أن ابنه إسماعيل كان قد بُعِثَ بعده. وهل كان هناك فارق زمني كبير بينهما؟ أم هل التعليم الذي جاء به إبراهيم كان قد مُحيَ أو جُعِلَ في طيِّ النسيان أو حُرِّف أو بُدِّل حتى اقتضت الحاجة إلى بعثة إسحاق بعده؟ ثم أُعيد التاريخ المؤلم نفسه -على حدّ قولهم- حيث لم تمضِ إلا فترة وجيزة بعد وفاة إسحاق حتى نسيَ قومه تعليمه وحرَّفوه وبدّلوه تبديلاً -والعياذ بالله- حتى اقتضى الأمر لبعثة يعقوب . والأسوأ من ذلك أن سيدنا يعقوب كان لا يزال حيًّا حين حُرِّف تعليمه -وذلك لو قبلناه جدلاً- حتى وجبت بعثة يوسف . فكافة التصريحات التي قاموا بها في الكتيب الحكومي باطلة ولا أساس لها من الصحة إطلاقًا، وليست إلا كلام خادع. إنهم ينسبون إلى القرآن الكريم أقوالاً باطلة دون وازع أو رادع. ولا حقيقة لهذا الكتيب أكثر من ذلك.

الحاجة إلى مصلح سماوي

أما فيما يتعلق بكون القرآن غير مُبدَّل وغير مُحرَّف فنؤمن نحن الأحمديين بذلك إيمانًا أقوى من غيرنا. أما القول إنه لا حاجة لمصلح أو نبي أو مُزكٍّ أو معلم يعلّم الكتاب والحِكمة بسبب كونه غير مُبدَّل فيرفضه القرآن رفضًا باتًّا. لاحظوا ما يبيّنه القرآن عن الزمن المقبل وما يخبرنا عن كيفية تعامل الأمة المحمدية مع القرآن الكريم، يقول الله :

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان: 31)

كم هي مؤلمة الشكوى التي يرفعها النبي إلى الله تعالى عن الذين يأتون في أمته لاحقًا إذ يقول:

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا .

انظروا إلى خطورة الموقف! إن النبي الذي هو سيد البشر وأفضل الأنبياء روحُه يشكو إلى الله بالنسبة إلى هذا الكتاب الكامل أن قومه قد اتخذوه مهجورًا. وكيف يهجرونه؟ يوضح النبي هذا الأمر أيضًا بنفسه فيقول:

«يأتي على الناس زمانٌ لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه». (مشكاة المصابيح، كتاب العلم، فروع الكافي ج3 كتاب الروضة، ص144)

السؤال الآن هو: هل كان هذا قد حدث قبل ظهور سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود أم لا؟ وهل كان القوم فعلاً قد اتخذوا القرآن مهجورا أم لا؟ إن كان كل ذلك قد حدث قبل بعثته فلا يبقى أساس لزعمهم أنه بما أن القرآن الكريم موجود دون أي تغيير فلا حاجة لمصلح.

وإليكم الآن تعريب ما قاله السيد أنور الحسن خانْ وهو معاصر لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود :

«لم يبقَ الآن من الإسلام إلا اسمه فقط، ولم يبقَ من القرآن إلا رسمه. المساجد عامرة ظاهريًا ولكنها خراب من الهدى تمامًا. العلماء شرُّ من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة وإليهم تعود». (اقتراب الساعة ص12)

وبالإضافة إلى ذلك فقد اعترف المولوي ثناء الله الأمرتساري بالأمر نفسه بعد بعثة سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود  أيضًا وبالكلمات عينها، فقال:

«الحق أن القرآن قد ارتفع من بيننا تمامًا، ونؤمن بالقرآن بصورة افتراضية، لكن واللهِ نعتبره من قرارة القلب شيئا بسيطًا جداً وكتابًا بلا طائل». (جريدة أهل الحديث عدد 14 يونيو / حزيران 1912م ص12)

القرآن الكريم موجود بين المسلمين الموجودين في الوقت الحاضر دون أدنى تغير لفظي فيه، كما يقول الكتيب الحكومي/ الأمر الذي نُقِرُّ به نحن أيضًا. أما فيما يتعلق بتعلُّمه وتعليمه الآخرين وجلب البركات منه فتعليق الكتيب الحكومي في هذا الموضوع باطل تمامًا.

وإن خالفني أحد الرأي فليقرأ تعليق مولانا أبي الكلام آزاد حيث يذكر حالة الأمة المحمدية حسبما رآها وإنها لحالةُ أمةٍ تدّعي بالانتماء إلى محمد المصطفى ، فيقول وقد ذكر أنواعًا عدة من الشقاوة:

«ليس هناك نوع واحد من الشقاوة ولا وجهٌ من أوجه الهلاك إلا وقد خيّم على المسلمين. وليس هناك نوع واحدٌ من الضلال لم ينتشر في هذه الأمة بصورة شاملة».

لا يغيبنَّ عن البال بالمناسبة أن السيد أبا الكلام آزاد يُعتبر مرشدًا كبيرًا لمجلس الأحرار. وعندما أنتج الكونغرس الهنديُّ مجلسَ الأحرار كان السيد أبو الكلام آزاد هو الوسيط الحقيقي بين الكونغرس ومجلس الأحرار، يضيف آزاد قائلاً:

«… فجميع خُطوات الضلال التي خطاها المسلمون كلَّها بالعَدِّ والحساب لدرجة قد انطبق عليهم قول الرسول : «لو دخلوا جُحرَ ضُبٍّ لدخلتموه». فدتك أنفسُنا وأراوحُنا يا أيها الصادق المصدوق: فقد تشبّه المسلمون بالمشركين في تقاليدهم وعاداتهم بكل معنى الكلمة. وقد اختار المنتمون إلى دين التوحيد تقاليدَ عابدي الأصنام كلها. وبدأت من جديد عادة اللات والعُزّى التي كانت الدنيا قد تخلصت منها». (تذكرة لأبي الكلام آزاد عام 1919م، الطبعة الثانية ص278 الناشر: دنيا الكتب بلاهور)

إذن الكتاب موجود. ثم ما الذي جرى لكم؟ وما هذه القيامة التي قامت حتى بدأت من جديد عبادةُ اللات والعُزّى؟ وبلغتْ أوجهُ الهلاك والدمار واللعنة كلها منتهاها. فهل فكَّرتم مرة ماذا ينقص المسلمين حتى بلغت حالتهم ما بلغت؟ من الواضح جدًا أنه ينقصهم المــُرسل من الله . ينقصهم المــُزكِّي السماوي والمـــُصلحُ الرباني الذي يقوم الله معه حيثما قام، والذي يرسله الله بأمر منه ويَهبُ له بصيرةً من نوره، ويؤيده وينصره ويَهبُ له قدرةً على إصلاح أحوال القوم الفاسدة.

وهناك مفكر كبير آخر للإسلام حسب رأي الكتيب الحكومي وهو العلّامة د محمد إقبال. فقد شكا العلّامة إقبال أيضًا فيما سبق من كلامه أن الأمة المحمدية تُسمَّى بالأمة المحمدية ظاهريًا، ولكن حالتها تبعث على الرثاء، والأسف الشديدين. وذلك لأننا عندما ننسب شيئًا طيّبًا إلى شخص طيب نسعد ونفرح كثيرًا ولكن حينما نضطر إلى نسب شيء سيء إلى شخص طيب لا نريد حتى ذكره للآخرين. كذلك عندما ذكر النبي العلماء السوء قال: «علماؤهم شرُّ من تحتَ أديم السماء».

أي أنهم علماؤهم لذلك ليسوا مني ولست منهم. ولكن حين ذكر العلماء الصالحين قال: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل». مما يعني أنه ذكر انتماءهم إلى نفسه وأمته بالسعادة والحبور. وهكذا أنا أيضا أتأذى كثيرا عند بيان حالة بلغتها أمة محمد . ولكنني أضطر إلى القول إن المسلمين في الوقت الراهن -ولو كانوا ينتمون إلى سيدنا ومولانا محمد بصدق طويتهم لم يستفيدوا لسوء الحظ من بركات النبي كما يجب وبالتالي تردت حالتهم إلى هذه الدرجة. يقول العلامة إقبال في بيت شعره ما تعريبه: «هناك ضجة أن المسلمين قد اعدموا من الدنيا تمامًا. نتساءل فيما إذا كان المسلمون موجودون أصلا في وقت من الأوقات». أي انعدم المسلمون وكأنهم لم يكونوا موجودين في وقت من الأوقات.

وبمن تشبّه المسلمون في هذه الأيام؟ يقول “مفكر الإسلام” العلامة إقبال مخاطبًا المسلمين: «أنتم النصارى تمدنًا واليهود هيئةً. أنتم مسلمون من نوع بحيث يخجل من سوء تصرفاتكم اليهودُ أيضا. منكم من ينتمي إلى قريش، ومنكم من هو من الأفغان، أيا كنتم ولكن قولوا بالله هل أنتم مسلمون أيضا؟». (جواب الشكوى من كتابه “باتك درا”، الطبعة الثانية عشر أغسطس 1948 ص 226)

فما قولكم الآن؟ إنكم ما قبلتم ما صرح به القرآن، وما اهتديتم بهدي الأحاديث الشريفة، فهل تقبلون الآن حُكم من تزعمونه “مفكر الإسلام”؟

والآن إليكم ما قاله المودودي الذي يحتل مكانة عالية عند أصحاب السلطة في باكستان حاليا. لا شك أن المودودي قد توفي ولكن جماعته لا زالت موجودة بشكل من الأشكال وتغدق عليها حكومة باكستان أنواعًا من النعم والعطايا. يقول المودودي: «ليس في شريعة الله ما يبرر وجود فرق مثل أهل الحديث والحنفية والبريلوية والديوبندية والشيعة وأهل السنة. هذه الفرق نتاج الجهل». (الخطبات، الطبعة الرابعة ص 128، الناشر: إسلامك بيليكيشنز المحدود، لاهور باكستان)

الغريب في الأمر أنه لا يقبل على صعيد الواقع ما يقوله بلسانه.

أما القول إنه لن يُبعث بعد النبي أحد نبيا أبدا فلهذا القول وجهان:

الأول: أنه لن تظهر حاجة تستدعي بعثة الأنبياء نهائيًا. وهذا ما صرحوه في البيان الأبيض المزعوم والذي أبطلتُه بالقرآن الكريم مسلمات المسلمين الأخرى.

والثاني: يمكن القول إنه ستكون الحاجة إلى الأنبياء ولكن الله لن يبعث أحدا، وهذا افتراء على الله ورسوله ما بعده افتراء. ويظهر من هذا الاستنتاج أن النبي جاء لوضع الحد على نعم الله على هذه الأمة (والعياذ بالله). الواقع أنه قد جاء لوضع الحد على كل نوع من اللعنة التي قد تحل بالأمة. ولقد أُرسل النبي ليغلق باب كل لعنة ومصيبة، وليفتح باب كل رحمة وبركة على أمته. غير أن البيان الأبيض المزعوم يقول بلسان حاله: لتُفتَحْ علينا أبوابُ كل لعنة على مصراعيها، وليأت الدجالون بأي عدد -ثلاثين كانوا أو ثلاثين ألف- فمرحبًا بهم، ولكن يجب ألا يأتي مرسل من الله أبدا، لأننا لا نقدر على تحمله إطلاقا. ولو جاءنا مصلح روحاني لتأذينا من مجيئه فلن نسمح له ليجيء لإصلاح المفسدين!

احتجاج قرية سدوم

السؤال الملح الآن هو: هل هناك حاجة إلى مصلح رباني أم لا؟ وإذا كانت هناك حاجة، ورغم ذلك قلتم إنه لن يأتي أحد، فليست هناك تهمة أسوأ منها يمكن إلصاقها بالأمة المحمدية.

اسمعوا الآن عن حقيقة ضرورة مصلح سماوي بلسان المودودي إذ يقول: «إن معظم الناس يبحثون لقيادة حركة دينية- عن رجل كامل متجسد في ذروة أفكار كل واحد منهم. وبتعبير آخر إنهم يطلبون نبيا ولو أقروا بختم النبوة بأفواههم. ولكن لو تفوه أحد بإمكانية النبوة لاستعدوا لنزع لسانه من جذره». (مجلة ترجمان القرآن ديسمبر 1942 ص4-6)

يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ما معناه: «إن قلوبهم معنا، ولو أطالوا علينا لسانًا سليطًا». فوالله إن قلوبهم معنا وتؤيدنا، والزمن يقتضي بإلحاح شديد بمجيء مصلح، إن الذين هم مستعدون دائمًا لنزع ألسنتنا من الجذور تنادي قلوبُهم أيضا أنه لا يقدر على إصلاحهم أي شخص هو أقل مرتبة من نبي، ليست هناك عين رأت مثل هذه المساوئ التي هي منتشرة في العالم في أيامنا هذه.

يتبين من التاريخ الذي يذكره القرآن أنه كلما وجد الضعف -مهما كان بسيطًا- طريقه إلى قوم بعث الله الأنبياء إليهم، لدرجة أنه إذا اضطربت معاييرُ الوزن والكيل لدى قوم، بحيث استخدم الناس معيارا مختلفا عند الأخذ واستخدموا غيره عند الدفع، أرسل الله نبيًّا إليهم. وإذا أساؤوا التصرف في الأموال أُرسل إليهم نبي. وإذا ارتكبوا الشذوذ الجنسي جاء لإصلاحهم نبي.

فخلاصة الكلام أن الأنبياء كانوا يُبعثون فيما سبق لكل مرض روحي مهما كان صغيرًا. ولقد قام الأنبياء فقط دون غيرهم بالإصلاح رغم وجود الكتب السماوية في أقوامهم. أسأل معاندينا: كيف ولماذا انقلبت المعايير الآن رأسًا على عقب؟ إذ ليس هناك مرض روحي يمكن أن يتصوره الإنسان إلا وهو منتشر على نطاق واسع في أيامنا هذه، ومع ذلك يرفضون إمكانية مجيء مصلح من الله رفضًا باتًا. يذكّرني هذا الوضعُ الخطير بقول مفكر بريطاني يقول: «الأمور التي أراها سائدة اليوم في العالم لو تركناها كلها جانبًا، وركّزنا على الشذوذ الجنسي وحده، ولو لم يأت أحد من الله لإصلاح الشذوذ الجنسي وحده -لنهضت يوم القيامة قريةُ سدوم التي بُعث إليها سيدنا لوط ولقامت في وجه الله وقالت: يا رب هذه الجريمة قد ارتكبها الناس أكثرَ منا بالآلاف المؤلفة من المرات، ولم تبعث أحدًا نبيًا، ولم تُهلك المجرمين، فلماذا أهلكتنا عقابا للجريمة نفسها؟».

إذن الكتاب موجود. ثم ما الذي جرى لكم؟ وما هذه القيامة التي قامت حتى بدأت من جديد عبادةُ اللات والعُزّى؟ وبلغتْ أوجهُ الهلاك والدمار واللعنة كلها منتهاها. فهل فكَّرتم مرة ماذا ينقص المسلمين حتى بلغت حالتهم ما بلغت؟

إذن فلم يقتصر الأمر اليوم على جريمة واحدة فقط وإنما تُخترع ألوف مؤلفة من جرائم جديدة كل يوم، وقد اكتشفت الدنيا أنواعا جديدة للظلم والاضطهاد، ورغم ذلك كله يقول هؤلاء: لا حاجة لنا لمرسل من الله. أما لو ظهر الدجالون الكذابون لرحبنا بهم، ولكن يجب ألا يأتي نبي من الله فإننا لا نقدر على تحمله.

انتظار ظهور المهدي

يذكر الشيخ أبو الكلام آزاد كيفية الانتظار الشديد للمهدي المنتظر في زمنه ويقول: «لو انتبه أحد من هؤلاء الصلحاء، ولو للحظة، إلى حالة القوم المتردية لحاول إقناع نفسه وأتباعه بالقول: ما الفائدة من مساعيكم ومساعينا؟ وقد قَرُبت القيامة، ولا بد من هلاك المسلمين، فلنؤجل الأمور كلها إلى ظهور الإمام المهدي، عندها سوف تخلو الدنيا كلها للمسلمين تلقائيا». (التذكرة الطبعة الثانية ص10، الناشر: دنيا الكتب بلاهور باكستان)

وكذلك ورد في كتاب مهم لأهل الشيعة «إذا كان الناس بحاجة في وقت من الأوقات إلى معلم روحي فإنهم أحوج إليه اليوم. إلا أن يقال إن  الناس لم يكونوا  في وقت من الأوقات بحاجة إلى رسول أو إمام أو معلم روحي، وأن بعثة المعلمين من الله لاغية وباطلةً». (أقول: قولوا هذا وتخلصوا من الأنبياء)

«غير أن الذي اعترف بالحاجة من قبل فسوف يعترف بها الآن أيضا. والذي آمن بالأنبياء والأولياء والأوصياء من قبل سوف يؤمن بهم الآن أيضا، وسوف يعترف بوجود الإمام. إن المنكر بوجود إمام آخر الزمان ينكر جميع الأنبياء والأوصياء. وهذا ما يثبت من أقوال الرسول أيضا». (الصراط السوي في أحوال المهدي للسيد محمد سبطين الموسوي، ج1، ص45،46)

ولكن المشكلة أن معاندينا لن يقبلوا شيئًا ما لم يقله مفكرو الإسلام -على حد قولهم- لذا لا بُدّ لنا أن نبحث في أقوال مفكري الإسلام هؤلاء. وها قد وجدنا مقتبسًا من أقوال «مفكر الإسلام» العلامة محمد إقبال بعد جهد مضن. في كتاب «إقبال نامه» ص 41 ضمن رسالته الموجهة إلى السيد سراج الدين بال، جاء فيها: «يا ليت يُستجاب دعاءُ المولوي نظامي في عصرنا هذا، فيُشرف النبيُ بمجيئه مرة أخرى ويكشف اللثام عن دينه للمسلمين الهنود».

أي لا يمكن إحياء الإسلام دون مجيء محمد مرة أخرى حسب رأي «مفكر الإسلام» هذا. والدين الذي كان قد جاء به محمد المصطفى غير الذي يعيش معه الناس ويتصورونه اليوم. فلا يمكن أن تطّلع الدنيا على الدين الحقيقي إلا أن يعود إليها النبي بنفسه.

كان من المرجو من مفكر الإسلام على أية حال أن يصدق ولو مرة واحدة ففعل. لقد اضطر لقول الصدق لأن الأمر نفسه مذكور في القرآن الكريم حيث يقول الله :

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (الجمعة: 3-5)،

والجملة:

وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ

تجدر هنا بالانتباه بشكل خاص، إذ تعني أن “الآخرين” أيضا سيكونون بحاجة إلى محمد ، لأنهم عندما يفقدون الحكمة والتعليم مرة لن يقدر على أن يطلعهم على تلك الأحكام إلا محمد ، أي خادمُه المطيعُ والمخلص وظلُّه الكامل وحده الذي سوف يُفني نفسه في شخص سيده محمد وطاعته وسيستمد البركات من سيده ثم يوصلها إلى الآخرين.

ثم يقول الله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .. أي أن الله قادر أن يوصل الأزمنة اللاحقة بالأزمنة السابقة.

أما السؤال : لمن يهب الله هذا الشرف والمرتبة؟ وكيف يهبه ولماذا؟

فقد أجاب الله بنفسه على كل هذه الأسئلة بقوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ .. أي لا يحق لأحد أن يحتج على ذلك ولن تلقى حججكم في هذا الصدد اهتماما أبدا. من أنتم حتى تقسموا رحمة الله وفضله؟ وقال تعالى في موضع آخر: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ فقد أعيد الموضوع نفسه في هذه الآية أيضا وله علاقة بالنبوة ولا سيما ببعثة النبي .

تحديد ”الآخرين منهم

يحاول العلماء الفرارَ من هذا الموقف قائلين إن المراد من “الآخرين” المذكورين في الآية هم من كانوا في زمن النبي .. أي أولئك الذين لم يلتقوا بالنبي وأصحابه بل سوف يأتون بعد برهة من الزمن ولكن في زمن النبي نفسه. هذا تأويل قد رفَضَه الرسول بنفسه. فقد جاء في أَصَح الكتب بعد كتاب الله:

عَنْ أبي هُرَيرَة قالَ: كُنّا جُلُوسًا عنْدَ النبي ، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ: وَآخَرينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهمْ . قال، قُلْتُ: مَنْ هُم يا رَسُولَ الله؟ فَلَمْ يُرَاجعْهُ، حتَّى سَأَلَ ثَلاثًا، وَفينَا سَلْمَانُ الْفَارسيُّ. وَضَعَ رَسُولُ الله يَدَهُ عَلَى سَلمَانَ ثُمَّ قال: لَو كَانَ الإيمانُ عنْدَ الثُّريّا لَنَالَهُ رِجاَلٌ أو رَجُلٌ مِنْ هؤلاءِ. (البخاري كتاب التفسير، تفسير سورة الجمعة)

أي لو ارتفع الإسلام إلى الثريا لأعاده رجل أو رجال عظام من أهل فارس، قوم سلمان الفارسي . هنا أوضح النبي السؤال: «من هم يا رسول الله؟» أي ليس من الضروري أن يكون هؤلاء «الآخرين» من زمن قريب بل سوف يظهرون بعد زمن طويل، زمن انتشار الظلام والجهل، وإنهم من الأميين.. أي سوف تصبح حالتهم مثل حالة العرب الأولى. فقُدِّرت البعثة الثانية للنبي في الآخرين منهم، في مثل الحالة التي قُدِّرت فيها بعثته الأولى. فوضع النبي يده -كما ورد في الحديث- على سلمان الفارسي وقال:

لَو كَانَ الإِيمانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ أَو رَجُلٌ مِنْ هَؤُلَاءِ.

هنا يتضح بكل جلاء من هم “الآخرين منهم”. هم أولئك الذين يظهرون حين يكون الإيمان بالثريا. وهل يعقل أن يحدث ذلك ويرتفع الإيمان إلى الثريا في زمن النبي ؟ في حين يقول النبي بنفسه: «خيرُ القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب»

أي القرون الثلاثة الأولى بعد فجر الإسلام تكون مستنيرة بنور رسول الله ولن يرتفع الإيمان إلى الثريا في تلك القرون الثلاثة. فبيّن النبي أن نوري لن يختفي فجأة. الشمس المادية أيضا لا تغيب فجأة بل يتراءى ضوؤها في الشفق بعض الوقت بعد المغيب أيضا. وأنا شمس الهداية التي سوف يبقى ضوؤها في الشفق إلى ثلاثة قرون بعد وفاتي وسوف ترون هذا الضوء بأم أعينكم. ثم يأتي عصر الظلام ولن يُبعث أثناءه أحد حتى يطول هذا الليل المظلم. وسيبدو وكأن الإيمان قد اختفى من الدنيا وأصبح بالثريا. عندها سوف يبعث الله أحدًا في الآخرين ليناله أي يعيده من الثريا.

إذن فلم يقتصر الأمر اليوم على جريمة واحدة فقط وإنما تُخترع ألوف مؤلفة من جرائم جديدة كل يوم، وقد اكتشفت الدنيا أنواعا جديدة للظلم والاضطهاد، ورغم ذلك كله يقول هؤلاء: لا حاجة لنا لمرسل من الله. أما لو ظهر الدجالون الكذابون لرحبنا بهم، ولكن يجب ألا يأتي نبي من الله فإننا لا نقدر على تحمله.

فكيف يمكن إذن أن تعتبر الآخرين هؤلاء من زمن النبي ؟ لابد أن يظهر هؤلاء “الآخرين” بعد رسول الله بفترة طويلة من الزمن. إنهم أولئك الذين يقول عنهم مفكر الإسلام:

«يا ليت يُستجاب دعاء المولوي نظامي في عصرنا هذا، فيُشرِّف النبي بمجيئه مرة أخرى ويكشف اللثام عن دينه للمسلمين الهنود». (إقبال نامه، ج١، الرسالة الموجهة إلى سراج الدين بال، ص٤١، الناشر: شيخ محمد أشرف تاجر الكتب، كاشميري بازار لاهور، باكستان)

أتساءل هل تريدون بعثةَ رسول الله مرة أخرى لتتعاملوا معه مثلما تعاملتم مع خادمه المطيع سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ؟

يقول الأستاذ ميكنزي في الفقرتين الأخيرتين من كتابه:Introduction To Socialogy

وما أورعه ما يقول وتعريبه كالآتي:

«لا يبلغ المجتمع إلى أوج الكمال دون أناس كاملين. ولا تفي بهذا الغرض المعرفةُ البحتة والاطلاع على الحقائق، بل لا بد من الهياج والقوة المحركة… نحتاج إلى معلم ونبي….. لعلنا بحاجة إلى مسيح جديد…… ومن الضروري لرسول هذا العصر أن يستخدم الوعظ والتبشير في هذه المعمعة».

تجدر الإشارة إلى أن الشخص الذي اقتبستُ كلامه هنا هو من غير المسلمين وليس من “مفكري الإسلام”، فلماذا اقتطفت كلامه؟ السبب في ذلك يعود إلى أن “مفكر الإسلام”، العلّامة إقبال بنفسه نقل هاتين الفقرتين حرفًا حرفًا في رسالته المؤرخة في 24 يناير عام 1921م الموجهة إلى الدكتور نكلسن -الذي كان فيما سبق قد نقل المجموعة الشعرية للعلّامة إقبال إلى الإنكليزية- وقال معلقًا على هاتين الفقرتين: «ما أصدَقَ الفقرتين الأخيرتين من كتاب Introduction To Socialogy  للأستاذ ميكينزي”!! فيؤيد مفكر الإسلام كلامه ويقول بتحسر شديد: ما أروعه من كلام ليتني أنا قلته: فإننا في عصرنا هذا بحاجة إلى رسول وبالإضافة إليه نحتاج إلى مسيح.»

Share via
تابعونا على الفايس بوك