التعليم القرآني في تأويل النبوءات

التعليم القرآني في تأويل النبوءات

محمد منير إدلبي

باحث إسلامي

يتبيّن من خلال دراسة بحث المسيح الدجّال في أحاديث سيدنا رسول الله أنّ الله تعالى قد أطلع محمدًا عليه الصلاة والسلام على الأحداث المستقبلية المتعلّقة بخروج الدجّال من خلال الرؤى الصادقة، كما روى هو ذلك، حيث نقرأ ألفاظه التي تشير إلى رؤياه في أحاديثه تلك إذ يقول:

“وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ … ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَاءَهُ جَعْدًا …فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ”. (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء)

ثم إنّ تصنيف هذا الحديث في صحيح البخاري في كتاب الرؤيا، يلفت إلى أنّ إخبار الله تعالى للرسول الكريم محمد عن الدجال وخروجه قد كان عن طريق الرؤى الصادقة التي يُطلِع اللهُ من خلالها رسله على ما يشاء من الغيب.

وكذلك يتبيّن من قصّة تميم الداري في حديث رسول الله أنها لا يمكن أن تكون إلاّ رؤيا، وذلك بدلائل وبراهين سنبيّنها فـي موضعها من هذا الكتاب، حين نكشف النقاب عن حقيقة مفهوم الدّجال وبيان كيف أنه آية من آيات الله .

وثمة المزيد أيضًا من الأحاديث الصحيحة التي تؤكّد أنّ الرسول قد عَلِم خروجَ الدجّال وفِتَنِه من خلال الرؤى الصادقة، ولكن يكفينا -تجنّبا للإطالة- هذا الحديث الصحيح للبرهان على أنّ رسول الله قد حدّثنا عن المسيح الدجّـال وفِتَنِه من خـلال ما أوحى الله إليه في الرؤيا الصـادقة لينذر أمّتـه ويحذّرهم من شرّ أشدّ الفِتَن التي هي فِتَنة المسيح الدجّال.

التعليم القرآني في سورة يوسف

وليس من المستغرب في سِيَر الأنبياء أن يُطلعهم الله على الغيب عن طريق الرؤى الصادقة، إذ أننا نقرأ في القرآن الكريم ما أخبرنا به الله عن النبي يوسف الذي أراد أن يبشّره بالنبوة وتمام النعمة، وأنّ أباه وأمّه وإخوته سيتبعون هَدْيه ويصدّقون بدعوته، وأنّ شأنه سيعلو في البلاد والعباد، فيُبيّن لنا الله تعالى في القرآن الكريم أنّه عندما أراد أن يُخبر يوسـف بتلك الأنباء الغيبية العظيمة، أطلعه على ذلك من خـلال الرؤيا، ولكن ماذا كانت تلك الرؤيا وكيف تحققت؟

نقرأ في القرآن الكريم إخبار يوسف لأبيه عن رؤياه، حيث يقول تعالى في سورة يوسف:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (يوسف: 5)

عَلِم أبوه النبي خطورة وأهمية النبوءة المستقبلية في رؤياه فنصحه بكتمانها:

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (يوسف: 6)

ثمّ بشرّه من خلال علمه بتفسير الرؤى الصادقة وقال له:

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (يوسف: 7)

وهكذا نتأكد من أنّ القرآن الكريم يُعلّمنا أنّ إحدى طرق الوحي للأنبياء هي الرؤيا الصادقة التي لابدّ من التصديق بها. ولكنّ السؤال الهامّ والهامّ جدًا هنا هو: هل يُلزِمنا التعليم القرآني بالأخذ بحرفية هذه الرؤى، أم أنّه لابدّ من التأويل الصحيح لها إذا كانت حرفيتها تتناقض مع الأسس العقلية والعلمية للمنطق البشري السليم؟

القرآن مؤسس علم التأويل

حين نقرأ في القرآن الكريم تفسير رؤيا يوسف نجد أنه، بكل بساطة ووضوح، يرفض الحرفية رفضًا باتًّا، ويؤيّد منطق التأويل الصحيح الذي يبيّنه العالمون بتأويل الرؤى الصادقة، التي أطلق عليها القرآن الكريم مصطلح “تأويل الأحاديث”. وبذلك يكون القرآن الكريم ذاته هو المؤسس العظيم لعلم تأويل الرؤى الصادقة، باعتبارها مصدرًا من مصادر الوحي للأنبياء، والتي لابدّ أن تُفهم على ضوء الأساس القرآني في تأويل الرؤى، فيستطيع الناس عندئذ أن يهتدوا بهداياتها الحقّة التي لا خرافة فيها ولا منافاة للعقل والمنطق السليم.

وتأكيدًا للإيضاح ندرس رؤيا يوسف وكذلك تأويلها على ضوء بيان القرآن الكريم.

يقول ربنا تبارك وتعالى عن تلك الرؤيا:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (يوسف: 5)

تُشير هذه الرؤيا إلى مشهد واضح أراد الله أن يطلع -من خلاله- نبيَّه يوسف على بشارة مستقبلية تتعلق به وبأهله وبدعوته. وسنرى فيما إذا كان يمكننا موافقة المصرّين على الأخذ بحرفية رؤى الأنبياء أم يستحيل ذلك.

إذا كانت الحرفية هي الأساس الذي يجب أن نبني عليه فهمنا لهذه الرؤيا، فهذا يعني أنّ كلّ كلمة أو صورة فيها يجب أن تتحقق بشكل حرفي مادّي، وهذا يعني أن ما يجب أن يحصل في المستقبل هو: أن يرى يوسف نفسه قد كبر وكبر في الحجم حتى صار عملاقًا كونيًا يفوق في حجمه المجموعة الشمسية بكاملها، ثم يجد أنّه يستطيع -بالإضافة إلى ذلك- أن يقف في فضاء الكون بشكل ما حتى تتمكن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا من السجود عند قدميه، وبذلك تكون الرؤيا الصادقة التي أوحى الله بها إليه قد تحقّقت كاملة وبحرفيتها!

فهل ثمة عاقل واحد في الكون يستطيع أن يقبل إمكانية هذا التحقق الحرفي لرؤيا النبي يوسف لمجرّد الاعتقاد بأنّ رؤى الأنبياء وحي صادق من الله تعالى؟!

ثم لماذا لا نأخذ بتعليم القرآن الكريم ذاته في هذا الشأن، ونسأل أنفسنا هل أراد الله بتعليمه لنا في هذه السورة أن نُصِـرَّ -مع المـُصِرّين- علـى حتمية الأخذ بحـرفية رؤى الأنبيـاء مهما خالف ذلك العقل والمنطق السليم؟ حتمًا لا.

فلقد بيّن لنا ربنا تأويل الرؤيا في كتابه المجيد ذاته، وأكّد أنه كان لابدّ من فهم تلك الرؤيا الصادقة بتأويلها السليم، وإلاّ فإنها ستكون مجرّد خرافة باطلة لا هَدْي فيها ولا تعليم؛ فماذا كان التأويل القرآني لتلك الرؤيا؟

يقول القرآن الكريم:

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا (يوسف: 101)

قبل أن نعمد إلى بيان التفسير القرآني لهذه الرؤيا يفيدنا أن نلفت النظر إلى رموز مادية معيّنة استخدمها القرآن الكريم ليشير بها إلى حقائق روحية هامّة. من هذه الرموز: (الشمس).

نقرأ في القرآن الكريم أن الله قد جعل في سمائنا المادّية شمسًا وهّاجة تنير لنا نهارنا بشكل مباشر، وتنير لنا ليلنا بانعكاس أنوارها من خلال القمر. قال تعالى عن الشمس في سورة (عمّ):

وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (النبأ: 14)

فالشمس هي سراج السماء الدنيا.

وحين نذكر قولَ الله تعالى في وصفه لرسوله الكريم محمّد :

وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (الأحزاب: 47)

نجد أنّ رسول الله هو أيضًا الشمس في سماء الدين، وأنّ علماء الدين من أصحابه هم النجوم الذين يدورون في فلكه، لذا فقد وصفهم هو ذاته في حديثه الشريف بالنجوم، حيث قال:

“إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ”. (مسند أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين) عن أنس بن مالك.

وقد ورد عن رسول الله قوله: “أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ”. (فتح الباري بشرح صحيح البخاري، كتاب الحج).

وهكذا يكون النبي شمسًا في سماء الدين، وأصحابه الذين يدورون في فلكه نجومًا[1].

بهذه المفاتيح القرآنية نستطيع فهم بيان النبوءة في رؤيا يوسف . ولكي نفهمها بسهولة أكثر، يفيدنا أن نلاحظ وجود عناصر معيّنة في الرؤيا يجب أن يقابلها عناصر في التأويل.

والعناصر في رؤيا يوسف هي:

1) الشمس

2) القمر

3) أحد عشر كوكبا

4) سجود الكواكب ليوسف .

والآن ما هي العناصر المقابلة في التأويل بحسب ما جاء في القرآن الكريم؟ يقول تعالى:

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا (يوسف: 101)

فما هي العناصر المقابلة للرؤيا هنا؟

– مقابل الشمس نجد النبي يعقوب..

– ومقابل القمر نجد أمّ يوسف التي هي زوج النبي يعقوب وهي التي تدور في فلك زوجها كالقمر وتعكس أنواره..

– ومقابل الأحد عشر كوكبًا نجد إخوة يوسف الأحد عشر الذين يدورون في فلك والديهم.

وأمّا السجود فيعني الطاعة والاتّباع كما في قوله تعالى:

وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (الرحمن: 7)

وهذا يعني الخضوع التام لهذه المخلوقات وغيرها لأمر الله .

وهكذا لا نرى سجودًا للشمس أو القمر أو النجوم عند قدمي يوسف، فقد كانت الشمس في الرؤيا ترمز إلى والد يوسف النبي يعقوب باعتباره نور الله في قومه؛ والقمر يرمز إلى أمّه التي تستمد نور إيمانها من زوجها النبي؛ وأمّا النجوم الأحد عشر فقد كانت ترمز في الرؤيا إلى إخوة يوسف الأحد عشر الذين كانوا يدورون في فلك أبيهم النبي؛ وذلك مصداقًا لحديثٍ عن رسول الله أورده الإمام أحمد في مسنده، يقول:

“مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ”. (مسند أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين).

كانت الرؤيـا إذًا تُشير إلى وصول يوسف إلى مرتبة النبوّة بفضل الله تعالـى الذي اجتباه وأتمّ نعمته عليـه. كما تُشـير إلـى قبول والدَي يوسف وإخوته لدعوته واتّباعهم إيّاه مصدقين مؤمنين بعد أن جعله الله نبيًّا يدعو إلى عبادته وحده.

وعودًا إلى الآيات من بدايتها نقرأ توبة إخوة يوسـف وقولهـم لأبيهم:

قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [2] (يوسف: 98 – 101)

إنّ هذا البيان القـرآني الواضـح يبيّن بكلّ تأكيـد أنّ الله قد استخدم الرمز في الرؤيا لاطلاع نبيّه على غيب المستقبل، كما تُبيّن الخطأ الكبير في الإصرار على أخذ جميع النصوص الدينية بالحرفية فتجعل منها خرافة تدعو إلى النفور من الدين بدل قبوله والتصديق به.

إنّ ثمّة من الناس مَن يُكفِّر الدعاة المتفكِّرين الذين يؤمنون بأنه لا يمكن وجود أي تناقض أو تعارض بين العقل والعلم من جهة، ودين الله الحق من جهة أخرى؛ وتكون دعوى هؤلاء المكفِّرين بأنّ عدم الأخذ بحرفية النص، مهما كان مؤدّاها، إنما هو تحريف للدين وخروج عنه واعتداء عليه وعلى المؤمنين به؛ ولذلك هو في نظرهم كفر مبين.

وهكذا فإنّهم بإصرارهم هذا يحيلون الكثير من الكنوز المعرفية في النصوص الدينية إلى خرافات باطلة يرفضها العقل البشري السليم بجميع صورها وأشكالها، ويجمّدون الفكر والحضارة العربية والإسلامية في إسمنت الأفهام الذاتية المغلقة على ما سلف بِعَجَره وبَجَره، ويكبحون التفكّر والإبداع الباني للحضارة الفكرية والتقدّم العلمي والحضاري الواعي الذي يجب أن يُبنى على يقينِ أنّ القرآن هو كلام الله، والكون هو فعله، ولا يمكن، مطلقًا، أن نجد أيّ تناقض بين كلام الله وفعله.

ومن هنا يمكن الانطلاق السليم للتغلّب على التخلّف الفكري والعقلي والعلمي والحضاري الناشئ عن الإصرار على الأخذ بالأفهام الخرافية والخوارقية للنص الديني سواء في أحاديث سـيّدنا رسـول الله محمد أو في القرآن الكريم، وسواء فيما يتعلّق بخروج المسيح الدجّال وانتشار فِتَنِه، أو غير ذلك من النبوءات النبوية الشريفة.

[1]- يمكنك -عزيزي القارئ- أن تطَّلِع على مسألة الرموز هذه في كتابنا (أبناء آدم من الجن والشياطين) بشكل أوسع.

[2]- وكذلك يُمكن فهم رؤيا عزيز مصر حول البقرات والسنابل، فقد كانت تشير إلى نبوءة تتعلّق بسنوات الخصب والجفاف التي كانت تنتظر مصر؛ ولم يكن التأويل القرآني حرفيًا كما هو معلوم جيّدًا. ولقد جاء في رؤياه أنه قال: ]إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ[ (يوسف: 44) ويوضّح التأويل القرآني أنّ هذه الرؤيا الصادقة لم يكن لها علاقة بالبقر من قريب أو بعيد.

Share via
تابعونا على الفايس بوك