أين المسيحية الحقة! التي بشر بها المسيح الناصري عليه السلام

أين المسيحية الحقة! التي بشر بها المسيح الناصري عليه السلام

محمد منير إدلبي

باحث إسلامي

احذروا الدجال يجتاح العالم (9)

 

ليس قصدنا في هذا الفصل أن ندرس المسيحية المستحدثة بالمقارنة مع تعاليم المسيح الأصيلة في جميع نواحيها كما يعرضها الإنجيل، وإنما لا بدّ لبحثنا من تبيّن وجهة المسيحية التي أسسها المسيح لنتمكّن من تبيّن الوجهة التي انحرفت المسيحية الحديثة والمعاصرة عنها وخرجت بها بعيدًا عن المسيح وتعاليمه الحقّة التي لو اتّبع سبيلها المسيحيون اليوم كما اتبعه المؤمنون الأوائل من أتباع المسيح الناصري عليه السلام لتلاقت المسيحية مع الإسلام واتّحدت معه في دين الله الواحد ولظلّت الإنسانية على النهج القويم الذي يهدي إلى السلام، ولَما كان للدجال وقواه يأجوج ومأجوج خطر يُذكر أو يُخشى منه ولامتنع ظهوره.

وقبل أن نلقي نظرة تحقيقية مخلصة على شخصية القديس بولس لبيان حقيقة دوره في العقيدة المسيحية المعاصرة، لابدّ من أن نلقي الضوء على بعض تعاليم المسيح الحقّة كما يبيّنها الكتاب المقدّس.

تأكيد المسيح على التزامه بشريعة الكتاب المقدّس (الناموس)

من المعلوم أنّ المسيح الناصري قد جاء مُصدّقا بشريعة موسى والأنبياء، وقد ألزم نفسه بها وأكّد على أتباعه أن يلتزموا بها وبيّن لهم أنه لم يأت لينقضها، بل ليُتمّ ويُكمل العمل بها فقال:

(لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ) (إِنْجِيلُ مَتَّى 5: 17-18)

وهكذا فقد أكّد المسيح الناصري عليه السلام -بهذا التعليم- على أتباعه أن يلتزموا بشريعة موسى والأنبياء (الناموس). وكلام المسيح هنا واضح بيّن بأنّه ما جاء لينقض حرفًا واحدًا من شريعة موسى والأنبياء في الكتاب المقدّس، بل على العكس فهو قد جاء ليُتمّ ويكمل العمل بهذه الشريعة وهذا الناموس الذي ما لبث (بولس) أن وصفه بأنه (لعنة) وحضّ المسيحيين على تركه، مخالفًا بذلك أهم تعاليم المسيح، كما سنرى عما قليل!

تعاليم المسيح التوحيدية

نقرأ في إنجيل متى الإصحاح الرابع تأكيدَ المسيح على عقيدة التوحيد في شريعة موسى، فيقول:

(لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ) (إِنْجِيلُ مَتَّى 4: 10)

ويعرف العالمون بالكتاب المقدّس أنّ المسيح عليه السلام قد عمل بهذا التعليم التوحيدي على تأكيد تعليم الله لموسى في الكتاب المقدّس حيث قال له:

(لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ) (اَلْخُرُوجُ 20: 3-5)

وعندما سئل المسيح عن الوصية الأولى العظمى أكّد أيضًا على الوصية العظمى للكتاب المقدّس في شريعة موسى فقال:

(تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى) (إنجيل مرقس: 12: 30) و(إنجيل متى 22: 38).

وأمّا هذه الوصية التي أكّد عليها المسيح فهي ذاتها الوصية الأولى في الكتاب المقدّس حيث نقرأ:

(اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ) (اَلتَّثْنِيَة 6: 4-5)

ونقرأ وصيّة المسيح لتلاميذه بأن لا يدعوا مع الله أحدًا، فيقول:

(وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَبًا عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ) (إِنْجِيلُ مَتَّى 23: 9)

كما أنّ المسيح قد ذكر الله عز وجل بقوله:

(إِلهِي وَإِلهِكُمْ) (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 20: 17)

وكذلك يعلم الأخوة المسيحيون جميعًا نداءه الشهير من فوق الصليب:

(إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟ أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) (إِنْجِيلُ مَتَّى 27: 46)

والسؤال هنا:

وهكذا فقد أكّد المسـيح على حقيقـة أنّ الله أحد، وأما هو فلم يكن إلا المسـيح الذي أرسـله الله ليعلِّم الناس الحيـاة الأبديـة من خلال معرفة أن الله هو الإله الحقيقي وحده، ولا يزال الإنجيل يؤكّد هذا التعليم المسيحي الحق، فكيف خرج بولس عن هذا التوحيد المسيحي إلى عقيدة التثليث؟!

مَن تركَ مَن؟!

هل ترك الإله بعضه، أم أنّ العبد يستغيث بربّه؟

ويشهد الإنجيل أنّ المسيح كان دائمًا يعبد الله وحده ويدعو الله وحـده، وأنّه لم يدْعُ أحدًا يومًا إلى عبادة غير الله وحده، كما أنّه أكّد على كونه رسولاً من عند الله جاء ليدعو قومه ويعرّفهم على الإله الواحد، وأنّه هو المسيح المرسل من عنده، حيث نقرأ في إنجيل يوحنا نداءه لربه رافعًا عينيه ويديه إلى السماء وهو يقول:

(وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 17: 3)

إذن ثمة الإله الواحد الذي أَرسل، ويسوع الرسول الذي أرسله الإله الواحد.

وهكذا فقد أكّد المسـيح على حقيقـة أنّ الله أحد، وأما هو فلم يكن إلا المسـيح الذي أرسـله الله ليعلِّم الناس الحيـاة الأبديـة من خلال معرفة أن الله هو الإله الحقيقي وحده، ولا يزال الإنجيل يؤكّد هذا التعليم المسيحي الحق، فكيف خرج بولس عن هذا التوحيد المسيحي إلى عقيدة التثليث؟!

 

تعاليم القدّيس بولس:

في (الإنجيل كتاب الحياة، ترجمة تفسيرية)[1] نقرأ في مقدّمة سِـفر أعمال الرسل ص 156 ما يلي:

“استمرّت الكنيسة المسيحية في نشاطها ونموها رغم الاضطهاد الشديد الذي كان يهدف إلى خنق المسيحية في مهدها؛ حتى إننا نرى بولس الذي كان من أكثر المضطهدين حماسة، يتحوّل إلى رسول للأمم يحمل الإنجيل في أرجاء الإمبراطورية الرومانية. وهكذا خرجت المسيحية من النطاق اليهودي..”

ويتحدّث سفر أعمال الرسل عن شاؤل (بولس) فيقول:

(وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَسْطُو عَلَى الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ يَدْخُلُ الْبُيُوتَ وَيَجُرُّ رِجَالاً وَنِسَاءً وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى السِّجْنِ.) (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 8: 3)

ويتحدّث بولس عن نفسه وكيف أنّه كان يضطهد أتباع المسيح الناصري عليه السلام، فيقول:

(.. وَاضْطَهَدْتُ هذَا الطَّرِيقَ حَتَّى الْمَوْتِ، مُقَيِّدًا وَمُسَلِّمًا إِلَى السُّجُونِ رِجَالاً وَنِسَاءً) (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 22: 4)

ويقول أيضًا:

(فَأَنَا ارْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَصْنَعَ أُمُورًا كَثِيرَةً مُضَادَّةً لاسْمِ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ. وَفَعَلْتُ ذلِكَ أَيْضًا فِي أُورُشَلِيمَ، فَحَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ الْقِدِّيسِينَ، آخِذًا السُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ. وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذلِكَ. وَفِي كُلِّ الْمَجَامِعِ كُنْتُ أُعَاقِبُهُمْ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى التَّجْدِيفِ. وَإِذْ أَفْرَطَ حَنَقِي عَلَيْهِمْ كُنْتُ أَطْرُدُهُمْ إِلَى الْمُدُنِ الَّتِي فِي الْخَارِجِ) (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 26: 9-11)

“وشاؤل هو ما يُعرف الآن باسم القديس بولس وقد كان من طائفة الفريسيين اليهودية التي جاء في (تاريخ الكنيسة) أنها كانت أشد طوائف اليهود بُغضًا للمسيح[2]. كان بولس متعدّد النشاط[3]. وكان مفطورًا على فرط الخيال. وكانت نفسه مملوءة بذكريات الفلاسفة [4]وتكشف لنا الدراسة المفصّلة لرسائل بولس الكبرى النقاب عن مزيج من الأفكار التي تبدو لأول وهلة غريبة حقًا، فهي مزيج من الأفكار اليهودية، ثم من المفاهيم المنتشرة في الأوساط الوثنية اليونانية ومن الذكريات الإنجيلية والأساطير الشرقية[5]. ويتحدّث بولس عن نفسه في أعمال الرسل، وبدلاً من أن يقول أنا مسيحي، نجده يقول في مواجهة مع السلطات:

(أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ طَرْسُوسِيٌّ) (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 21: 39)

(أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، أَنَا فَرِّيسِيٌّ ابْنُ فَرِّيسِيٍّ. عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ أَنَا أُحَاكَمُ) (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 23: 6)

(.. وَالآنَ أَنَا وَاقِفٌ أُحَاكَمُ عَلَى رَجَاءِ الْوَعْدِ الَّذِي صَارَ مِنَ اللهِ لآبَائِنَا، الَّذِي أَسْبَاطُنَا الاثْنَا عَشَرَ يَرْجُونَ نَوَالَهُ، عَابِدِينَ بِالْجَهْدِ لَيْلاً وَنَهَارًا) (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 26: 6-7)

وقاد شاؤل (القديس بولس) حملات العنف والاضطهاد ضدّ المؤمنين الأوائل من أتباع المسيح عليه السلام، وبدأت سياطه تمزّق أجسادهم بتصريح من السلطات[6]، وفرّ أتباع المسيح هربًا من الاضطهاد.

وبدون مقدّمات دخل شاؤل (بولس) النصرانية، وانتقل من كرسي الجلاّد إلى كرسي القاضي! وأثار هذا التحوّل حيرة العلماء والباحثين. ثم أطلق شاؤل على نفسه اسم بولس .. وأسّس المسيحية الحديثة بعناصرها الجديدة التي خرج فيها كلّيًا عن مسيحية السيّد المسيح عليه السلام!

وكان بولس سبّاقًا إلى قبول فكرة (انفصال) المسيحية عن اليهودية، ومهّد بإنشاء العقيدة المناسبة[7]. وكان من الملاحظ، منذ بدء حياة بولس المسيحية العملية أنّ الحقل الحقيقي لعمله هو الأمم[8].

ويتفاخـر يواكيم بنز صـاحب كتاب (بابـوات من الحيّ اليهـودي) -وهو من كبـار الشخصيات اليهودية الأمريكية المعجبة بـ (بولس)- فيقول عنه إنه حرّر المسيحية من القيود التي وضعها المسيح[9].

إنّ هذا البيان يجعلنا في مواجهة مكشوفة مع السؤال الصّارخ:

من الذي خوّل بولس السلطة لأن يحرّر المسيحية من المسيح؟!

إنّ بولس الذي لم يلتق بالمسيح ولم يره أبدًا، لم يحرّر المسيحية من المسيح فحسب، بل بعد أن خرج بالمسيحية عن تعاليم المسيح صار هو أبا المسيحية الحديثة. فكيف أحدث بولس ثغرته في جدار المسيحية، وكيف أخرج المسيحيين منها؟

تقول الإجابة إنّ بولس قد ادّعى أنّه رأى المسيح ذات ليلة على طريق دمشق! وكان هذا هو جواز المرور. ويستغرب الدارس لأقوال بولس في سِفر أعمال الرسل وهو يروي رؤياه العجيبة التي عَيّن نفسه من خلالها -ودون شهود عليها- رسولاً للمسيح وقيّمًا على المسيحية وتعاليمها، حيث يجد تناقضًا واضحًا يثير شكوك الباحثين المخلصين حول مصداقية رؤيا بولس هذه المذكورة في سِفر أعمال الرسل الإصحاح: 9 و22 و26، إذ عندما يمعن الباحث المحقق النظر في هذه الرؤيا لا يملك إلاّ الاعتراف بأنها متناقضة بشكل واضح، إذ في الوقت الذي لا يمكن لرجلٍ أن ينسى تلك الواقعة -التي يُفترَض أنّ إيمانه يقوم عليها- وأنَ هداية العالم جميعه تقوم عليها أيضًا؛ نكتشف في رؤيا بولس -من خلال روايته إياها- تناقضَ بعضها مع بعضـها الآخـر بشكل يفرض على العقل المخلص الشكّ وعدم اليقين، فنقرأ مثلاً عن رواية بولس لرؤياه في أعمال الرسل، الإصحاح:  9 العدد 8 أنه:

(فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتًا قَائِلاً لَهُ:«شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ … وَأَمَّا الرِّجَالُ الْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ[10]، يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ[11] أَحَدًا) (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 9 : 4- 7)

في حين نجده يروي ما يُخالف ذلك تمامًا في أعمال الرسل حيث يقول:

(وَالَّذِينَ كَانُوا مَعِي نَظَرُوا النُّورَ وَارْتَعَبُوا، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ الَّذِي كَلَّمَنِي) (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 22: 9)

قارن بأنّ الآخرين الذين معه:

“وَقفوا صامتين يسمـعون الصـوت ولا ينظرون أحدًا”.  بـ :

“نَظروا النور وارتعبوا ولكنّهم لم يسمعوا صوت الذي كلّمني”.

قارن:

(يسمعون الصوت)   ×   (لم يسمعوا)!

(لا ينظرون)   ×   (نظروا)!

فهل يمكنك أن توافق على أنّ الذي يسمع ولا يرى هو تمامًا كالذي يرى ولا يسمع؟!

وهل تُصدّقُ هاتان الروايتان بعضُهما بعضًا، أمّ أنّ كلاًّ منهما تكذّب الأخرى بكلّ قوّة وتأكيد؟

وإذا ما حاولتُ جاهدًا إقناعك بأنّ راوي هاتين الروايتين هو رجل صادق، فهل تَقبل منّي وتُصدّقني؟

ولم لا؟

وكذلك نجد اختلافات وتناقضات أخرى في رواية القدّيس بولس عن تعيين المسيح إيّاه رسولاً له، غير أننا الآن لسنا بصدد دراسة هذا البحث شاملاً وإنما هو مجرد لفت نظر.

والغريب أنّ بولس لا ينفي عن نفسه الكذب في قضية الدين والتبشير؛ بل يعترف به ويُثبته على نفسه بكل فخر! ففي حين أنّ المسيح عليه السلام لم يُعلِّم أتباعه المؤمنين إلاّ الصّدق والحق نجد بولس يقول:

(فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟) (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ 3: 7)

والأسئلة التي لابدّ من طرحها هنا هي:

هل يصحّ الزعم بأنّ المسيح عيسى الناصري كان يمكن أن يقبل الكذب من أتباعه، أو أن يسنّه قدّيسوه ولو في سبيل الدين والتبشير؟!

وهل كانت مسـيحية المسيح -وهي دين الله الحـق- بحاجة إلى الكـذب كوسيلة للانتشار بدلاً من التزام الحق وقول الصدق؟! 

وهل يصحّ أنّ الله تعالى يحتاج إلى بشرٍ يزيدون صدقَه -صدق الله عزّ وجلّ- ومجده بالكذب؟!

وهل نستطيع القول إنّ رجال الدين المسيحي ومبشريه يُبيحون الآن الكذب للمسيحيين لإعلاء مجد الله عملاً بتعليم بولس؟! 

وأي مجدٍ لله يعلو بالكذب؟!

وأيّة عقيدة صادقة يمكن أن تؤخذ من تعليم يُبِّرر الكذب لنشر صدق الله ودينه؟

وكيف يمكن إثبات مصداقية مثل هذه العقيدة؟!

والغريب أنّ بولس لا ينفي عن نفسه الكذب في قضية الدين والتبشير؛ بل يعترف به ويُثبته على نفسه بكل فخر! ففي حين أنّ المسيح عليه السلام لم يُعلِّم أتباعه المؤمنين إلاّ الصّدق والحق نجد بولس يقول:(فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟) (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ 3: 7)

ثم إذا كانت الدعوة المسيحية تحتاج إلى استخدام الكذب لتعظيم مجد الله الذي تدعو إليه، فهل يعني هذا أنّ مجد الله لا يظهر بالصدق بل يحتاج إلى الكذب كالذي استخدمه بولس في تبشيره ليزيد مجد الله -على حدّ زعمه- ممّا جعله يعترف متفاخرًا بكذبه مطالبًا بتقدير ذلك الكذب باعتباره عملاً تقيًّا، فيقول:

(فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟)

ما كان المسيح إلاّ صادقًا.

وما كانت المسيحية إلاّ دين الله الحق بالصدق.

وما كان المسيحيون من أتباع المسيح عليه السلام إلاّ صادقين.

ولا يقبل المسيح ولا الله إلاّ الصادقين. ولا يمكن قبول ما يُخالِف هذا الحق بأيّ صورة كانت وتحت أي مبرر!

الله وحده يعلم الثمن الباهظ الذي دفعه المسيحيون الأوائل لقاء صدقهم وصدق إيمانهم وإصرارهم الإيماني المشهود، فكيف يمكن قبول رسول يأتي من بعدهم يبرّر الكذب لنشر المسيحية أو مجد الله بالكذب!

وهكذا بدأ بولس، بعد رؤياه العجيبة المتناقضة، يُطلِق تصريحاته الغريبة التي قدّم فيها آراءً لا تستند إلى وقائع مثبتة، فقال:

(وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ) (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ غَلاَطِيَّةَ 1: 11-12)

ولم يقدّم أيّ دليل!

ولم يكن لديه أيّ شهود على زعمه ذلك!

ولم يسأله أحدٌ عن دليل ولا شهود!

بل أخذوا منه ما أراد، تمامًا كما أراد!

[1]ـ دار الثقافة المصرية، القاهرة، ط 1983.

[2] – (تاريخ الكنيسة) جون لوريمر، دار الثقافة 1982 ـــ ص 53.

[3] – (بابوات الحي اليهودي) يواكيم برنز ــ دار إحسان، دمشق 1983.

[4]- (حياة الحقائق) جوستاف لوبون- ط الحلبي 1949، ص: 163، 187.

[5] – (المسيحية نشأتها وتطورها) شارل جنيبر، ط الكتبة العصرية، ص:70.

[6] – (مواقف من تاريخ الكنيسة)، الثقافة 1978

[7]- (بابوات من الحي اليهودي)، ص: 74، 112

[8]- (تاريخ الكنيسة) جون لوريمور، ص: 62

[9]- (بابوات من الحي اليهودي)، ص: 74

[10]ـ وفي (الكتاب المقدس) منشورات دار الحياة أعمال الرسل 9: 8 (وقفوا مبهوتين)

[11]ـ في المرجع السابق (لا يرون) أعمال الرسل 9: 8

Share via
تابعونا على الفايس بوك