تزودوا للدنيا والآخرة
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (198)

شرح الكلمات:

رفث-الرفث كلام متضمن لما يُستقبح ذكره من الجماع ودواعيه، وجُعل كناية عن الجماع (المفردات). وقال الطبري: الرفث اللغو من الكلام.

فسوق-الفسوق هو عدم طاعة أوامر الله عن عصيان؛ الانحراف عن قصد السبيل (الأقرب).

التفسير:

أشار بقوله (الحج أشهر معلومات) إلى أن القرآن لم يأت في صدد الحج بحكم جديد، وإنما استبقى ما كان يفعله الناس منذ زمن إبراهيم، ولذلك فإن شهور الحج معروفة لدى الناس.. أي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

ويرى الإمامان أبو حنيفة والشافعي أن الأيام العشرة من ذي الحجة من أشهر الحج وليس كل ذي الحجة (البحر المحيط).

(فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).. أي من انتوى الحج فيها وخرج لأداء هذه الفريضة فعليه أن يحفظ لسانه طاهرا، فلا ينطق بما يثير الأهواء الجنسية. ويقول البعض إن إنشاد الشعر الغزلي لا يندرج تحته، لأن ابن عباس أنشد ذات مرة شعرا جاهليا أيام الحج. ومثل هذه الرواية لا يمكن أن تُعتبر صحيحة بعد هذا الأمر القرآني الواضح. أما لو قبلناها على سبيل الافتراض، فلا نستطيع الجزم بنوع هذه الأبيات بعد مرور زمن طويل. فقد يكون قد أنشدها استدلالا في حديثه على ما يقول، وظن السامع أنه ينشدها للمتعة. وعلى أية حال.. يجب اجتناب هذا الكلام نظما كان أو نثرا، وعلى الإنسان أن يقضي هذه الأيام في ذكر الله وعبادته فقط.

ولا يعني أسلوب النهي هذا أن الرفث والفسوق والجدال جائز في الأيام الأخرى، وإنما الحكمة فيه أن الإنسان لو ضغط على نفسه ليتجنب عملا لفترة فإن الله تعالى يوفقه لاجتنابه في الأيام الأخرى أيضا.. لأن التدريب يسهل عليه هذه المهمة. وبعض الأحيان لا يجد الإنسان -بسبب ضعفه البشري – في نفسه الهمة على ترك أمر لمدة طويلة، ولا بد لتأهيله لهذا الأمر من تدريبه بأن يُنهى عنه لبعض الوقت، وعندما يمتنع عن فعله لمدة مناسبة تتولد فيه القدرة على ضبط النفس، وهكذا يستعد بالتدريج للامتناع عنه كلية. ونظرا إلى نفس هذه الحكمة قال سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) إنه يجب على الإنسان في شهر رمضان كل مرة أن يحاول التغلب على أي تقصير أو ضعف فيه. ساعيا إلى تجنبه طوال الشهر، وعندئذ سوف تشمله رحمة الله وتأييده بعد رمضان أيضا، ويُوفق للتغلب على هذه السيئة للأبد.

لقد ذكرت الآية ضرورة اجتناب ثلاث مساوئ هي: الرفث والفسوق والجدال، والرفث ما يكون بين الزوجين من علاقة خاصة، وكذلك يُطلق على فاحش الكلام والسباب، وسماع لغو الحديث وتافهه. والفسوق هي تلك الآثام التي تتعلق بذات الله تعالى والتي بارتكابها يخرج الإنسان عن طاعته والاستسلام له. ثم الجدال وهو ما يقطع الصلات بين الناس. والحقيقة أن الله بهذه الأمور الثلاث وجّه النظر إلى الإصلاح من ثلاثة أنواع: أولا-يجب أن تصلحوا أنفسكم وتُطهروا قلوبكم من كل أنواع الميول السيئة غير الطاهرة. وثانيا-أن تبقوا على صلة إخلاص بالله تعالى. وثالثا-أن تنشئوا علاقات المحبة مع الآخرين. وكأنه تعالى لم ينه هنا عن ثلاثة أنواع من السيئات فقط، بل قد نهى عن كل السيئات.. إذ لا سيئة تبقى خارجة عن هذه الثلاث. فالسيئة إما تتعلق بالإنسان نفسه، أو بالله تعالى، أو بسائر الخلق. ومن الضروري للرقي الروحاني أن يهتم الإنسان بعد إصلاح نفسه بأداء حقوق الله تعالى وحقوق العباد.

(وما تفعلوا من خير يعلمه الله).. نعلم أن اجتنابكم هذه الأمور سوف يعرضكم لأنواع الصعاب.. فمثلا لو سبّكم أحد يصعُب عليكم الصبر عليه، وعندما تتقيدون بهذه القيود لوجه الله تعالى، وتشتركون في فعل الخيرات، فمهما تفعلوا من خير فإن الله يُظهره لا محالة، لأن من سنة الله تعالى أنه لا يُبقي أي حسنة وخير خفيا. صحيح أن بعض الحسنات تبقى في طي الكتمان أحيانا، ولكن لا بد في آخر الأمر أن تظهر، ولا يملك العدو إلا أن يعرفها ويعترف بها. انظروا إلى معارضي النبي .. كيف كانوا يسبونه، ولكن أبا سفيان لم يستطع أن يعيبه أمام الإمبراطور هرقل، وكل ما استطاع أن ينال منه هو أن قال: بيننا وبينه معاهدة ولا ندري هل سيفي بها أم يخلفها (البخاري، الوحي). فالله يقول: مهما فعلتم من خير فإن الله سوف يظهره لا محالة، ولا بد أن يترك حسن سلوككم وسمو أخلاقكم وقعا طيبا في الناس.

ولا يعني أسلوب النهي هذا أن الرفث والفسوق والجدال جائز في الأيام الأخرى، وإنما الحكمة فيه أن الإنسان لو ضغط على نفسه ليتجنب عملا لفترة فإن الله تعالى يوفقه لاجتنابه في الأيام الأخرى أيضا..

(وتزودوا) أي إذا خرجتم للسفر فخذوا معكم زادكم. قال من قبل (وما تفعلوا من خير يعلمه الله).. وبذلك حث على الرقي في فعل الخيرات والحسنات على وجه الخصوص، والآن أضاف (وتزودوا).. أي صحيح  أن أداء الحج والعمرة فيه ثواب كبير، ولكن ذلك لا يعني أن تخرجوا شوقا إلى الكعبة صفر الأيادي، ثم تتسولوا وتسألوا الناس لتصلوا إلى الكعبة. وإنما عليكم أن تأخذوا معكم زاد السفر. ينبغي أن توفروا معكم نفقات الذهاب والإياب والإقامة والطعام وما إلى ذلك، ثم تخرجوا إلى هذا السفر. (فإن خير الزاد التقوى) وتذكروا أن أفضل الزاد هو ما تتجنبون به عن السؤال والإثم.

وللأسف أن المسلمين في هذا الزمن عموما يظنون أن الإسلام يأمر الإنسان بعدم الأخذ بالأسباب وترك كل أمره على الله. ولكن هذا خطأ ومخالف تماما لتعاليم الإسلام. لذلك ينصح الله المسلمين هنا أنكم إذا خرجتم فلا تتغافلوا عما تحتاجون إليه من زاد في هذا السفر.

ويعني أيضا قوله (وتزودوا) أن تأخذوا زاد التقوى في هذا السفر. ولما كان زاد التقوى خفيا؛ لذلك زاد في توضيحه وقال (إن خير الزاد التقوى).. أي أن التقوى هي أفضل زاد ينفعكم في رحلتكم إلى الآخرة.

وبهذا المعنى نصح مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية أفرادها: (الوقت قليل، ولا ضمان للعمر. أسرعوا الخطى، لأن المساء قريب، وافحصوا مرة بعد أخرى ما تريدون تقديمه كيلا تنسوا وراءكم شيئا فتخسروا، أو تأخذوا ما هو فاسد ومتاع كاسد لا يليق بالتقديم إلى الملك)(سفينة نوح ص26،الخزائن الروحانية، ج19).

ولما كان الحديث من قبل عن الحج فنبه بقوله (إن خير الزاد التقوى) أن مسئوليتكم قد ازدوجت وزادت، ويجب أن تلتزموا التقوى أكثر.. كالذي يلبس ثيابا نظيفة ويلتزم الحذر كله حتى لا يصاب لباسه بما يلوثه ولو قليلا.

(واتقون يا أولي الألباب). أيها العقلاء، إذا أردتم الأخذ بأسباب نجاتكم فاخضعوا لي، وأنيبوا إلي، واتخذوني وحدي سببا لحفاظتكم.. لأن الأسباب الأخرى لا تساوي شيئا أمام هذه الوسيلة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك