بيلاطس.. الحاكم الروماني

بيلاطس.. الحاكم الروماني

محمد طاهر نديم

نظرة سريعة على تاريخ كنعان

شدَّ آلاف من بني إسرائيل الرحيل إلى فلسطين في ظلِّ قيادة سيدنا موسى محرِّرين أنفسهم من أغلال عبودية المصريين، وكادت هذه القافلة تُحاذي الحدود الفلسطينية، حين لبّى قائدها الأجل، فدفنه بنو إسرائيل في أرضِ موآب، ثم تابعت هذه القافلة مسيرها تحت قيادة خليفته وهو (يوشع بن نون)، حتى دخلت أرض فلسطين واستولت عليها. لقد ظلّت المملكة اليهودية متأرجحة بين قطبي الازدهار والاضمحلال خلال فترة ما بين سيّدنا موسى وسليمان عليهما السلام التي تُقدَّر بحوالي 378 عامًا، غير أنّ عهد سيدنا داود وسليمان عليهما السلام، يُعتبر عهدًا ذهبيًّا في تاريخ اليهود. لقد تفرّق شمل الدّولة بعد وفاة سيّدنا سليمان عندما اعتلى العرش ابنه العقوق “رحبَعام”، فتمرَّدت الأسباط العشرة، وأنشأوا دولةً في الشمال بقيادة “يَربَعام”. وهكذا فإنّ فلسطين انقسمت إلى دولتين: الشمالية والجنوبية. ولقد استغلّت القوى الخارجيّة هذا الانقسام الداخلي، إذ بعد مائتي عام تقريبًا وفي 721 ق.م. دمّر الآشوريون المملكة الشمالية. وأما المملكة الجنوبية، فبعد سقوط أختها بحوالي قرن ونصف، كسرَ شوكتها ملك بابل نبوخذّ نصَّر في عام 581 ق.م.، وذلك بشنِّ غارات متعدِّدة عليها، ثم سبى معه وجهاء اليهود إلى بابل. وبعد نصف قرن تقريبًا، أي في عام 538 ق.م، هَزمَ الإمبراطور الفارسي “خورس” البابليين. وهكذا سقطت فلسطين بيد الفرس. ولقد تمّ زوال الفرس في عام 333 ق.م. على يد الإسكندر الكبير، ومن ثم فإنّ يهود فلسطين أصبحوا خاضعين لليونانيين.

لقد انقسمت الإمبراطورية اليونانية إلى أجزاء مختلفة بعد الإسكندر الكبير، وأمّا اليهود فقد حكمهم البطالمة أوّلاً، ثم السّلوقيون، فالمكابيون، وفي نهاية المطاف، وعندما هزم الروم الإمبراطورية اليونانية، خضعت فلسطين لسيطرة الروم عام 63 ق.م.

واستمرت هذه الأحداث لفترة من الزمان تُقدَّر بـ 1250 عامًا. وعلى أية حال فإنّ دولة الروم في ذلك الوقت كان يحكمها الولاة المختلفون في المناطق المختلفة. وقد عيّنوا في بداية الأمر، أسرة هيروديس، حاكمةً على فلسطين لكونها أسرة رومية مقيمة في فلسطين. ولكنها عندما صبّت على اليهود سوط الظلم والاضطهاد إرضاءً لبعض رؤسائها الروم، انتزعت الإمبراطورية الرومانية من يدها زمام إقليم اليهودية وسلّمته إلى حاكم مركزي رومي.

لمحة عن حياة بيلاطس

ولا يُعرف رأس مسقط بيلاطس. وفي اسمه “النبطي” احتمال انتمائه لأسرة “سامنايت” (Samnite) النبطية، في حين أنه لو كان لفظ بيلاطس مأخوذًا من الكلمة اليونانية “بيليطس” (Pileatus) فإنّه يشير، عندئذٍ، إلى أنّ أسرته كانت قد تعرّضت للعبودية يومًا ما؛ وذلك لأنّ كلمة “بيليوس” (Pilleus) تُطلق في اليونانية على قلنسوة كان العبيد يلبسونها؛ وكان يُدعى لابس هذا النوع من القلنسوة: “بيليطس” (Pilleatus). إنّ هذان الرأيان لا يستندان إلى شواهد تاريخية قطعية، لأن التاريخ لم يذكره بشكل عام، ماعدا المؤرّخ الروماني “تاسيتوس” (Tasitus) الذي أورد ذكره ضمن حادثة الصليب (راجع: ENC. BIBLICA UNDER WORD PILATE VOL.3 P.3772 ED. 1899)

نطاق صلاحية بيلاطس

كان بيلاطس حاكمًا على منطقة اليهودية والسامرية والآدومية. وظلّ يشغل هذا المنصب طيلة عشرة أعوام. وقد كانت له صلاحيات واسعة، وبيانها كما يلي:

* كان يستطيع أن يُصدر أوامر إعدام أي ّشخص.

* كان بإمكانه أن يُطلق سراح المحكوم عليه بالإعدام.

* وكانت له سلطة تغيير قرارات المحكمة المركزية اليهودية “السنهدرين” (SANHEDRIN)

* كما يتوقف أمر تنفيذ جميع قرارات هذه المحكمة على موافقته.

* كانت له السلطة العليا في خزائن الهيكل.

* كما كان اختيار رئيس الكهنة أيضًا يتم برضاه، ويُحتفظ لديه بلباس رئيس الكهنة، الذي كان يُرتدى في المناسبات فقط.

* كان تحته جيش قوامه أكثر من خمسة آلاف جندي، يتّخذ من الثكنة القيصرية معقلاً له، هكذا كان بيلاطس، في إقليم اليهودية، حاكمًا يتمتّع بحريّة التصرّف. (انظر قاموس «الكتاب» تحت كلمة بيلاطس.)

بيلاطس واليهود

بشكل عام، يقدِّم اليهود بيلاطس على أنه حاكم غاشم يتّسم بالقسوة وعدم الرحمة. وعلى حدِّ قول المؤرِّخ الشهير “فيلو” (PHILO) فإنّ “أغريبا الأوّل” AGRIPPA 1  قدّم إلى الإمبراطور الروماني “كاليجولا” (CALIGULA) صورة عن بيلاطس بالكلمات التالية:

“إنّه متعنِّت، عديم الرحمة وعنيد”!

 كما أنّ المؤرِّخ اليهودي الشهير “جوزيفوس” JOSEPHUS هو الآخر يذكره بالأسلوب نفسه.

هذا وثمّة حوادث شهيرة وبارزة في عهد بيلاطس:

  1. كانت العادة المتّبعة في أورشليم أن تُزاح الأعلام التي عليها صورة القيصر، والتي كان الجنود يحملونها لدى دخولهم أورشليم، وذلك حتى لا يستاء منها اليهود. ولكن بيلاطس ألغى هذه الرُخصة بعد تولّيه الحكم، ومن ثمّ فقد دخلت ثلّة عسكرية إلى أورشليم رافعةً تلك الرايات الخافقة. ولما احتجَّ اليهود عنده، لم يُلقِ لهم بالاً.
  2. والحديث الثاني، هو أنّ قناةً حُفِرَت بأمرٍ من بيلاطس، ولكن على حساب تبرُّعات الهيكل.

وإنّ هذا وإن كان عملاً ذا طابعٍ قوميّ، إلا أنه أثار غضبَ اليهود، فقاموا بمظاهرة، ولكنّ بيلاطس نجح في كبحِ جِماحِهم، وذلك ببثه رجال شرطةٍ بلباس مدني في صفوف المتظاهرين.

وثمّة حادثةً تُحكى عن معاملة بيلاطس القاسية مع السامريين؛ حيث يذكر أنّ السامريين؛ اجتمعوا ذات مرة على جبل “غرزيم” للبحث عن رُفات موسى المدفونة هناك حسب اعتقادهم، ولكنّ الحاكم أرسل فصيلة عسكرية حالت دون قصدهم وأعادتهم خائبين.

(NEW AGE ENC. UNDER WORD PONTIS PILATE VOL14 P.361 ED 1979)

وقد تَرسمُ الوقائع السالفة الذكر في ذهن القارئ صورةً سلبية وذلك لأن ناقليها اليهود والنصارى، إذ قدَّموا وجهًا واحدًا لهذه الوقائع. وإليكم فيما يلي وجهًا آخر:

إنّ من أهمِّ واجبات الحاكم الروماني المسئول من قِبل رؤسائه، والملتزم بالقوانين، هو المحافظة على أمن المنطقة واستقرارها؛ وبناءً على ذلك، فإنّ من واجبات الحاكم أن يقمع جميع محاولات التَّمرُّد والانقلاب والإخلال بالأمن، ولاسيما إذا كان ذلك يتعارض مع القوانين الرومانية. وكما يبدو فإنّ هذا الحاكم كان يرغب في مُداراة اليهود وإقامة علاقاتٍ طيّبةٍ معهم؛ ولا أدلَّ على ذلك من دأبِه في إطلاق سراح بعض سجنائِهم في العيد والمناسبات الأخرى، كما نجد في إنجيل مُرقس الإصحاح 15 العدد 6 “(وكان في كلِّ عيد يُطلق لهم سجينًا، أيَّ واحدٍ طلبوا). هذا وقد يكون ارتباط بيلاطس بحادثة الصليب هو ذلك السبب الذي أدّى إلى تشويهِ صورته عن قصد؛ فقد ورد في دائرة معارف “الكتاب المقدس” عن مأساة بيلاطس كما يلي: “إنّ من سوء طالع بيلاطس، أنّه قد كان له علاقة بمأساة المسيح، الأمر الذي جعل من جميع أعماله التي قام بها أثناء فترة حكمه تختفي عن الأنظار؛ في حين أنّ حكمه الذي امتدَّ طوال عشر سنين، لهوَ دليل على نجاحه العام في إدارةِ حُكمِه. أنظر ENC. BIBLICA UNDER WORD PILATAE))

السيد المسيح وبيلاطس

يتبيّن عيانًا من الكتب الأخرى لليهود والنصارى، والعهد الجديد من الكتاب المقدّس، أن صدقَ سيدنا المسيح ، كان قد انكشفَ على بيلاطس، فاعتنقَ النصرانية، إلا أنه لم يُجاهِر بذلك حِفاظًا على حكومته ومكانته المرموقة، تمامًا كما فعل هِرقل ملك الروم، حيالَ صدق نبينا الكريم ، ولكنه كتم ذلك عندما شاهد تهارُجَ القساوسة ورجال البلاط. غير أنّ بيلاطس عمل بالمثل القائل: “فَلتمُتْ الحيّة وتسلم العصا أيضًا”، إذ إنّه علّق المسيح على الصليب في الظاهر، إرضاءً لليهود، ولكنه هيّأ أسبابًا لإنقاذه من الموت على الصليب، وذلك بخطّةٍ مدروسة تمامًا.

يقول سيدنا المسيح الموعود مُشيرًا إلى هذا الأمر: “قُتِلَ بيلاطس بأمرِ القيصر، لأنه كان مُريدًا للمسيح في الخفاء، كما أنّ زوجته هي الأخرى مُريدةٌ لسيِّدنا عيسى “. (البراهين الأحمدية الجزء الخامس، الخزائن الروحانية 21/42).

وثمّة شواهد أخرى تدعم ما ذهبنا إليه نُجمِلها فيما يلي:

رؤيا زوجة بيلاطس

عندما كانت قضية المسيح قيد المناقشة لدى بيلاطس، أرسَلت له زوجته رسالةً يُورِدها متّى في إنجيله، كما يلي: دَعْكَ من هذا البارّ، لأنّي عانيتُ في الحلم آلامًا شديدة بسببه” (إنجيل متّى الإصحاح 27 العدد 19)

لقد قدم سيدنا الإمام المهدي نقطة هامّة جدًا بهذا الشأن حيث يقول في كتابه (المسيح الناصري في الهند) ما تعريبه: كما أنّ تدبيرًا سماويًا آخر قد ظهر أيضًا، وهو أنّ زوجة بيلاطس أرسلت إليه -عندما كان جالسًا على كرسيّ المحكمة- تقول له: إيّاك وذلك البار، (أي تجنّب قتله)؛ لأنّني قد تأذّيت الليلة كثيرًا من أجله في المنام (إنجيل متى الإصحاح 27 العدد 19). ونتبيّن نحن -وكل منصف- من الرؤيا التي رأت فيها زوجة بيلاطس الملاك أن الله لم يُرد أن يُقتل المسيح على الصليب، ولم يحدث منذ بدء الخليقة بأن الله تعالى قد حرَّض أحدًا في منامه أن يفعل شيئًا لإنقاذ شخص ما ثم لا يتحقّق ذلك الأمر.

وكذلك ورد في إنجيل متى أنّ ملاكًا قد ظهر ليوسف النّجار في الحلم وقال له: قُمْ وخُذ الصبي وأُمّه إلى مصر وأَقِمْ هناك حتى أقول لك، لأنّ هيرودوس سيبحث عن هذا الصبي ليقتله (انظر إنجيل متى الإصحاح 2 العدد 13). فالآن، وقد تبيّن لنا ذلك، هل يصحّ القول بأنّ قتل المسيح بعد أن بلغ مصر كان ممكنًا؟ ولقد كانت أيضًا رؤيا زوجة بيلاطس تدبيرًا سماويًا لإنقاذ المسيح، وكان من المستحيل أن يفشل هذا التدبير السماوي فكما أنّ احتمال تعرّض المسيح للهلاك في مصر إنما هو زعم يُخالف الوعد الإلهي المحتّم، كذلك فإنّه مما لا يقبله العقل، أن يَظهر ملاكُ الله لزوجة بيلاطس -في الحلم- وأن يُنذرها بأنه إذا قُتل المسيح على الصليب، فإنّ هذا الأمر سيعود عليكم بالضّرر، ثم يذهب ظهور الملاك، لهذه الغاية سدىً فيُقتل المسيح على الصليب، هل تجدون لذلك مثيلاً؟

كلا، بل إن كلّ رجل عاقل سليم الفطرة -إذا اطلع على رؤيا زوج بيلاطس- تيقّن من أعماق قلبه بأنّ تلك الرؤيا لم تكن تهدف في الواقع إلا إلى وضع خطّة لتخليص المسيح. أجل، إنّ كل إنسان في العالم له الخيار في أن يرفض حقيقة ناصعة، بدافع التّعصب لعقيدته، ويُعرض عنها، ولكن مقتضى العدل يضطرنا إلى الاعتراف بأنّ رؤيا زوج بيلاطس- المتعلّقة بنجاة المسيح من الموت على الصليب، تتضمن شهادة قاطعة لها وزنها الكبير وأهميتها البالغة. وثمة ظاهرة سماوية أخرى ظهرت أيضًا، وهي أن بيلاطس لما كان جالسًا على كرسي المحكمة، أرسلت إليه زوجته قائلة: إيّاك وذلك البار (أي تجنّب قتله)، لأنني تأذّيت الليلة كثيرًا في المنام من أجله (انظر إنجيل متى الإصحاح 27 العدد 19).

محاولة بيلاطس الفعلية لإطلاق سراح المسيح

أوردت الأناجيل الأربعة بشكل عام، ولا سيما إنجيل يوحنّا، ذِكرَ محاولات بيلاطس المتكرّرة التي قام بها من أجل إقناع اليهود بالتخلّي عن صلب المسيح . حيث نقرأ في إنجيل يوحنّا:

“ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ، وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا، فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ. فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ:«أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هذَا الإِنْسَانِ؟» أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ:«لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ:«خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ:«لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا». لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ.ثُمَّ دَخَلَ بِيلاَطُسُ أَيْضًا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ:«أنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ:«أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هذَا، أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟» أَجَابَهُ بِيلاَطُسُ: «أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا». فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَفَأَنْتَ إِذًا مَلِكٌ؟» أَجَابَ يَسُوعُ:«أَنْتَ تَقُولُ: إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي». قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ:«مَا هُوَ الْحَقُّ؟». وَلَمَّا قَالَ هذَا خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ:«أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً. وَلَكُمْ عَادَةٌ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ وَاحِدًا فِي الْفِصْحِ. أَفَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟». فَصَرَخُوا أَيْضًا جَمِيعُهُمْ قَائِلِينَ: «لَيْسَ هذَا بَلْ بَارَابَاسَ!». وَكَانَ بَارَابَاسُ لِصًّا” (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 18 : 28-40). فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ. وَضَفَرَ الْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبَ أُرْجُوَانٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ:«السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!». وَكَانُوا يَلْطِمُونَهُ. فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ أَيْضًا خَارِجًا وَقَالَ لَهُمْ:«هَا أَنَا أُخْرِجُهُ إِلَيْكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً». فَخَرَجَ يَسُوعُ خَارِجًا وَهُوَ حَامِلٌ إِكْلِيلَ الشَّوْكِ وَثَوْبَ الأُرْجُوانِ. فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ:«هُوَذَا الإِنْسَانُ!». فَلَمَّا رَآهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْخُدَّامُ صَرَخُوا قَائِلِينَ:«اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!». قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ:«خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ، لأَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً». أَجَابَهُ الْيَهُودُ:«لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللهِ». فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هذَا الْقَوْلَ ازْدَادَ خَوْفًا. فَدَخَلَ أَيْضًا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَقَالَ لِيَسُوعَ:«مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟». وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَابًا. فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَانًا أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَانًا أَنْ أُطْلِقَكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ». مِنْ هذَا الْوَقْتِ كَانَ بِيلاَطُسُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ، وَلكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ:«إِنْ أَطْلَقْتَ هذَا فَلَسْتَ مُحِبًّا لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكًا يُقَاوِمُ قَيْصَرَ!».

فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هذَا الْقَوْلَ أَخْرَجَ يَسُوعَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ «الْبَلاَطُ» وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ «جَبَّاثَا». وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الْفِصْحِ، وَنَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَقَالَ لِلْيَهُودِ:«هُوَذَا مَلِكُكُمْ!». فَصَرَخُوا: «خُذْهُ! خُذْهُ! اصْلِبْهُ!» قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟» أَجَابَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ:«لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرَ!». فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ. فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ.” (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 19: 1-16)

  1. جرّب بيلاطس جميع المحاولات الممكنة، إلا أنّ ذلك لم يَثْنِ اليهود عن عزائمهم النجسة قيد ذرّة، الأمر الذي حمل بيلاطس على رسم خطّة، وهي أن يُعلّق المسيح على الصليب برهة من الزّمن مع المراعاة ألا يموت عليه، وشارك معه في هذه الخطّة الطبيب نيقوديموس ويوسف أرميتيا الذي كان تابعًا بارزًا للمسيح وعضوًا في المجلس القضائي الإداري لليهود والسنهدرين، كما كان رجلاً ذا نفوذ كبير.

وبناءً على ذلك أطال بيلاطس المناقشة يوم الجمعة في قضية المسيح عن قصد وبالتالي لم يعلّقه على الصليب، إلاّ في الربع الثالث من النهار، طبقا للخطّة المرسومة.

  1. إنّ هذا اليوم (أي يوم الجمعة) وهذا الوقت من الأهمية بمكان حيث أنه بمجرد غروب الشمس، كان سيبدأ يوم السبّت الذي لا تُجيز فيه الشريعة اليهودية إبقاء أحد على الصليب.
  2. ولقد هيّأ الله ذاته أيضًا أسبابًا سماوية؛ فالأناجيل تشهد على أن الظلام قد انتشر في الربع الثالث من النهار تقريبًا، وكأن علامات غروب الشمس قد ظهرت قبل موعده المعتاد. إنّ جميع هذه الأمور تؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي أنّ المسيح لم يبق على الصليب إلا ساعتين أو ثلاثًا؛ وكان من المستحيل أن يموت المسيح خلال هذه المدّة الوجيزة على صليب ذلك العصر؛ فقد جاء في الموسوعة اليهودية ما يلي:

“وفيما يتعلّق باليوم الذي سبق السبت (وهو يوم الجمعة)، فإنّ الإعدامات التي تكون في وقت متأخر بعد الظّهر، كانت تقريبا مستحيلة، وذلك نظراً إلى اقتراب السبت أو العطلة”- الموسوعة اليهودية تحت لفظ CRUCIFICTION

  1. لقد وجّه بيلاطس تعليماته الخاصّة بهذا الشأن إلى قائد المئة والجنود الذين كلّفهم بإتمام عملية الصلب، كما جاء في إنجيل لوقا، الإصحاح 23 العدد 47:

“فلمّا رأى قائد المئة ما حدث، مجّد الله وقال: حقًّا، هذا الرجل كان بارًا”

  1. لقد كسر الجنود سيقان اللّصيّن اللذين صُلبا مع المسيح (وكان ذلك لإنهاء آخر رمق الحياة في المصلوب)، وأمّا المسيح فقد اكتفوا بطعنه في جنبه، ولم يكسروا ساقيه قائلين: إنه قد فارق الحياة.
  2. ثمة أمر آخر لافت للنظر، وهو أنّ بيلاطس أظهر تعجبّه عندما قيل له إنّ المسيح قد مات، وكأنه قد عجب من خطّته لنجاة المسيح. ولكنه لمـّا عرف من القائد حقيقة الأمر واطمأنّ قلبه، سلّم الجثمان ليوسف أرميثيا. (انظر مرقس الإصحاح 15 العدد 44-45)
  3. ذهب يوسف أرميثيا بالسيد المسيح بعد حادثة الصليب ووضعه في قبره المحفور بين الصّخور، ومن ثم باشر الطبيب نيقوديموس بمداواته. وجاء اليهود أثناء ذلك إلى بيلاطس يلتمسون منه أن يضع حراسة على قبر يسوع، ولكنه لم يستجب إلى طلبهم. وهكذا فإنّه قد هيّأ للمسيح فرصة الاستمرار في تلقّي العلاج، ومن ثم الهروب من هناك.
  4. إنّ الزلزال الذي أعقب حادثة الصليب، كان، بحسب اعتقاد بيلاطس، عبارة عن غضب الله الشديد الذي نزل لمعاقبة اليهود؛ حيث نجده (بيلاطس) قد كتب في التقرير الذي رفعه إلى “طيباريوس” ملك الروم، مايلي:
“لذلك يا مولاي القيصر، ظلّ النور معدومًا تلك الليلة؛ إلا أنّ الذي حدث هو أنّ كثيرًا من اليهود قد لقوا مصرعهم، وأرى أنّ أولئك هم الذين كانوا يبسطون ألسنتهم ضدّ المسيح”.(THE LAST BOOKS OF THE BIBLE, THE REPORT OF PILATE TO TIBERUS P277)

إنّ اليهود والنصارى بشكل عام، يعرضون نهاية بيلاطوس بأبشع ما يكون؛ حيث يقول البعض إنه مات منتحرًا. والحقيقة الكامنة وراء هذا التشويه، هي أنّه لمـّا تنصّرت الإمبراطورية الرومانية، نشأت فكرة إيجاد سبيل لتبرئة القيصر الروماني من مَظْلمة مُوْرسَتْ على السيد المسيح؛ فوجدوا حلّاً سائغًا لهذه المـُعضلة في إلقائهم المسؤولية الكاملة لحادثة الصلب، على عاتق بيلاطس؛ إلا أنّ لسيدنا المسيح الموعود رأي آخر في هذا الخصوص، إذ يكتب ما تعريبه:

“إنّ الحاكم بيلاطس، الذي رُفعت إليه الدعوى ضدّ المسيح، قد كان في الحقيقة مُريداً للمسيح، حتى وإنّ زوجته هي الأخرى كانت مريدة له أيضا”. (كتاب محاضرة لدهيانا، الخزائن الروحانية 20/271)

ثم يقول:

“لقد ورد في كتب التاريخ أنّ القيصر الروماني، عندما علم بأن الحاكم بيلاطس قد تمكّن من إنقاذ المسيح بحيلة أو بأخرى من عقوبة الموت على الصليب، وهربَّه سرًّا إلى جهة ما، استشاط غضبًا شديدًا. ولقد أُلقي بيلاطس في المعتقل بأمر من القيصر على إثر هذه الوشاية. وفي نهاية المطاف، ضُرب عنقه. وهكذا استشهد بيلاطس في حب المسيح.” (تذكرة الشهادتين، الخزائن الروحانية 20/32)

لقد ذهب المؤرخ المسيحي يوسيبوس EUSEBIUS إلى أنّ الحاكم قد انتحر، ولكن مؤلّف دائرة المعارف الكتابية، يورد نقلاً عن الأناجيل غير المعتبرة APROCRYPHA بأنّ بيلاطس وزوجته كانا بريئين، وأنّهما قد اعتنقنا النصرانية. حيث يقول المؤلّف: ” لقد مات بيرطس وزوجته مَكسورَي القلب ومتسّرين، وكان قد تمّ التأكيد لهما بالمغفرة من خلال صوت من السماء. وإنّ النزعة المائلة إلى إبراز بيلاطس وزوجته على أنّهما قد اعتنقا المسيحية، يُمكن أن تُفهم بسهولة” (انظر. ENC..BIBLICA UNDER PILATE ألّف البروفيسور  BRANDON   .F.G.S  مؤخّراً كتابًا تحت عنوان THE TRIAL OF JESUS  OF NAZARETH، أي محاكمة المسيح النّاصري، وناقش من خلاله شخصية بيلاطس والدّور الذي لعبه، ومن ثم أثيت براءته في قضية المسيح ؛ كما كتب أيضاً أنّ بيلاطس قد حوكم ثمّ دُقَّ عنقه؛ ولا شكّ في أنّه مات كإنسان بارّ وموحّد. (أنظر  THE TRIAL OF JESUS OF NAZARETH   P.155 1968 LONDON)

هذا ولقد صدر في عام 1926م مجموعة من الكتب باسم الأسفار الضائعة للكتاب المقدس، وهي تتضمن مراسلة بين بيلاطس وهيرودس، كما تحتوي على كتاب باسم “موت بيلاطس” جاء فيه: عندما مَثَل الحاكم بين يدي الإمبراطور بخصوص محاكمته، كان مرتديًا جبّة المسيح ” ( أنظرTHE LOST BOOKS OF THE BIBLE ,DEATH OF PILATE” NEW 1926 YORK)

الأمر الذي حمل بيلاطس على رسم خطّة، وهي أن يُعلّق المسيح على الصليب برهة من الزّمن مع المراعاة ألا يموت عليه، وشارك معه في هذه الخطّة الطبيب نيقوديموس ويوسف أرميتيا الذي كان تابعًا بارزًا للمسيح وعضوًا في المجلس القضائي الإداري لليهود والسنهدرين، كما كان رجلاً ذا نفوذ كبير.

الكلمة الأخيرة في حق بيلاطس 

قد قلنا فيما سبق، بأن المؤرّخين قد تعمّدوا إلقاء المسئولية الكاملة في قتل المسيح المزعوم على بيلاطس، سعيًا منهم لإبعاد الإمبراطور الروماني عن التورّط في هذه الفعلة الشنيعة. هذا وإنّ اليهود في العصر الراهن، يحاولون ـ لتطبيع علاقاتهم مع المسيحيين ـ إعطاء الانطباع بأنه لم يكن لهم أي ضلع في حادث صلب المسيح؛ إذ أنّه قد حصل على يد الرومانيين وحسب قوانينهم. كما حاولوا إثبات هذا الأمر في الموسوعة اليهودية، حيث قالوا: إنّ عقوبة التجديف على الله، ليست الصلب مطلقًا حسب الشريعة اليهودية. وقصارى القول: إنّ اليهود والرومانيين (اليد المحرّكة وراء هذه القصة) كليهما لا يفتؤون يتغنّون ببراءتهم وطهر ذيلهم، بينما يجعلون بيلاطس ـ المظلوم ـ كبشَ فداء هذه القضية. إلا أنّ ثمة أناساً كانوا موجودين في بداية المسيحية، وكانوا يعدّون بيلاطس ليس تابعًا صادقًا للمسيح فحسب، بل ووليًا من أولياء الله عندهم. والبرهان على ذلك، هو المقتبس التالي من الموسوعة البريطانية ” إنّ بيلاطس يروي كيف أنّ طيباريوس قد أدانه وزوجته “بروكلا” كليهما باعتبار كونهما قد اعتنقا المسيحية، وقد أدّى كلّ ذلك إلى إدراج بيلاطس في عداد القدّيسين في الكنيسة الحبشية وثمّ إدراج زوجته في سجلات التقديس في الكنيسة اليونانية، ويقال إنّ بعض الكنائس الشرقية تحتفل بيوم الخامس والعشرين من شهر يونيو تذكارًا لبيلاطس باعتباره قديسًا وشهيدًا

( انظر ENC. BRITANICA VOL.21 P. 602 ED. 1911 UNDER  WORD PILATE )

ورد مثل ذلك في مقدّمة أحد كتب  THE LOST BOOKS OF THIE BIBLE أي الأسفار الضائعة للكتاب المقدّس، المسمّى ب “”THE DEATH OF PILATE (موت بيلاطس)، حيث اعتُبر بيلاطس وليَّا وشهيدًا.

فالحق كلّ الحق، أن بيلاطس قد استُشهد في حبّ المسيح .

Share via
تابعونا على الفايس بوك