الحجاب الإسلامي

الحجاب الإسلامي

مها دبوس

طالما تعرض الإسلام للعديد من التهم الباطلة بسبب عدم الفهم الصحيح لتعاليمه. ومن الأمثلة الشائعة في هذا الصدد الفكرة الخاطئة أن الإسلام عامة يحرم المرأة من حقوقها ويرغمها على البقاء وراء الحجاب.

إن الحجاب الإسلامي قد أُدين من قِبل غير المسلمين الذين اعتبروه علامة للتأخر وشيئًا من الماضي قد أصبح الآن غير عملي في حياتنا اليومية. لقد ظنوه عبئًا على المرأة المسلمة وقيدًا فُرض عليها ليحرمها من حريتها، ويرونه وكأنه الأغلال التي قيد بها الرجل المسلم القاسي زوجته المسكينة أو ابنته أو أخته أو أي سيدة أخرى تحت سيطرته بسبب أنانيته أو غيرته.

الحجاب في الكتاب المقدس

ولكننا إذا أمعنا النظر في هذا الموضوع وجدنا أن حجاب المرأة ليس بالشيء الذي ابتدعه الإسلام، بل إن الأسفار المنزلة السابقة أيضًا تحتوي على تعاليم مماثلة، وجاء الإسلام ليكمل هذه التعاليم ويتممها. إن الأديان السماوية تحث المرأة على الاحتشام في الملبس والسلوك. وإذا درسنا الكتاب المقدس وجدناه يعلّم أتباعه أن الاحتشام والوقار يقتضي تغطية وجه المرأة وأن سيدات الطبقة الراقية كن يستخدمن الحجاب.

نقرأ في العهد القديم من الكتاب المقدس عما فعلته رفقةُ أمام إسحق :

“وَرَفَعَتْ رِفْقَةُ عَيْنَيْهَا فَرَأَتْ إِسْحَاقَ فَنَزَلَتْ عَنِ الْجَمَلِ. وَقَالَتْ لِلْعَبْدِ: «مَنْ هذَا الرَّجُلُ الْمَاشِي فِي الْحَقْلِ لِلِقَائِنَا؟» فَقَالَ الْعَبْدُ: «هُوَ سَيِّدِي». فَأَخَذَتِ الْبُرْقُعَ وَتَغَطَّتْ”. (التَّكْوِينِ 24: 64-65).

ونقرأ في أسفار العهد الجديد من الكتاب المقدس مايلي:

“وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغُطَّى، فَتَشِينُ رَأْسَهَا، لأَنَّهَا وَالْمَحْلُوقَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. إِذِ الْمَرْأَةُ، إِنْ كَانَتْ لاَ تَتَغَطَّى، فَلْيُقَصَّ شَعَرُهَا. وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُقَصَّ أَوْ تُحْلَقَ، فَلْتَتَغَطَّ”. (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ 11: 5-6).

يتضح مما سبق أن الكتاب المقدس يعتبر حجاب المرأة فضيلة. ولكن المفسرين المعاصرين للكتاب المقدس قد أنكروا هذه الحقيقة ليثبتوا أن تعاليم الكتاب المقدس لا تحرم المرأة من حقوقها أو حريتها بأي شكل، لأنهم اعتبروا الحجاب عبئًا على المرأة. وبالمثل فإن بعض المسلمين المعاصرين قد اتبعوا نفس الأسلوب ولنفس الأسباب، وراحوا يحاولون إثبات أن الإسلام أيضًا لا يضع هذا القيد على المرأة المسلمة. ولكنهم لم يفلحوا في محاولاتهم لأن القرآن الكريم على عكس الكتاب المقدس قد حفظ نصه الأصلي، وبالتالي فإنه من المستحيل أن يتمكن أحد من تحريف معاني آياته.

ولكن هذا يثبت أن الجهل بتعاليم الإسلام المتعلقة بحجاب المرأة وعدم فهم الحكمة الحقيقية وراء ذلك، منتشر حتى بين المسلمين. إن أغلب السيدات المسلمات اليوم لا يفهمن تعاليم دينهن ولا يُدركن مضمونها ولا الفوائد التي ستعود عليهن باتباعها، ولإعجابهن الشديد بالمجتمعات الحديثة اتبعن بدون فهم المعتقداتِ الباطلة المتعلقة بتحرير المرأة، وتبنَّين بعض الأفكار الخاطئة، وبالتالي تمردت الكثيرات منهن على تعاليم الإسلام المتعلقة بحجاب المرأة، وانغمسن في أسلوب حياة المجتمعات غير الإسلامية بكل بريقها الزائف.

ومن ناحية أخرى فإن بعض السيدات المسلمات كرد فعل على تمرد أخواتهن الجاهلات.. قد سلكن الطريق المضاد واتبعن هذه التعاليم الإسلامية بأسلوب غير سليم، وحمَّلن أنفسهن أعباء لم يفرضها الإسلام، فأصبحن سببًا في زيادة التمرد على الحجاب الإسلامي، ودفعن بغير المسلمين بعيدا عن رؤية محاسن الدين الإسلامي.

والحقيقة المعروفة المسلَّم بها اليوم هي أن هناك الكثير من غير المسلمين الذين تمكنوا من رؤية صدق الإسلام، ولكنهم مع ذلك رفضوا الانضمام إلى صفوفه بسبب هذا القيد المزعوم. فهم يشعرون أنهم غير قادرين على التخلي عن عاداتهم وأسلوب حياتهم الحديث وغير مستعدين للتضحية بحريتهم في الاختلاط بالجنس الآخر كما يشاؤون.

ولكن من الخطأ أن نلوم الإسلام على أساس ما يظنه غير المسلمين، ومن الخطأ أيضًا إدانته على أساس معتقدات وعادات الجهلة من أتباعه. إن الحقيقة الأزلية الأبدية هي أن الإسلام قد منح المرأة الحقوق التي ليس لها مثيل في أي دين آخر.

أما الحجاب الإسلامي فإنه بجانب عدم كونه عبئًا على المرآة فهو أيضًا نعمة وفضل من عند الله على المرأة. إن المعنى الحقيقي للحجاب الإسلامي يمكن فهمه والحكم عليه بشكل سليم بعد دراسة منبع كل التعاليم الإسلامية، وهو القرآن الكريم.

الحجاب في القرآن الكريم

إن القرآن الكريم لم يحتفظ فقط بتعاليم الإسلام على شكلها الأصلي، ولكنه أيضًا شرح لنا الأسباب والحكم وراء هذه التعاليم، وبين الفوائد التي يمكن تحقيقها باتباعها.

وإحدى الآيات المعروفة التي تتناول موضوع الحجاب الإسلامي هي قول الله تعالى:

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور: 32).

إن هذه الآية توصي المؤمنات بأن يغضضن من أبصارهن عندما يواجهن الرجال، وأن يحافظن على عفتهن، وكذلك ألا يُظهرن حسنَهن وزينتهن سواء أكانت طبيعية أو مصطنعة.

ولقد وصى الله المؤمنين بوصايا مشابهة لهذه في الآية السابقة لها حيث يقول :

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (النور: 31).

ومن الواضح أن مسؤولية اتباع هذه التعاليم متساوية بالنسبة للرجل والمرأة. فعليهم جميعا أن يغضوا من أبصارهم عند مواجهة الجنس الآخر أي أن عليهم مراعاة ما يمكن أن نسميه (حجاب الأبصار).

حكم ومنافع الحجاب

والآن يجب أن نعرف الفوائد التي يمكن أن تعود علينا إذا اتبعنا هذه التعاليم. إن الله لا يفرض أبدًا على عباده أعمالاً بدون سبب، بل إن وراء كل فرض من الفروض الإلهية حكمة بالغة. إن الكلمات ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ و لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تبين أن هذه التعاليم تهدف إلى مصلحة المؤمنين وأنه باتباعها يمكنهم تزكية أنفسهم وحمايتها من التعثر الأخلاقي.

لقد شرح لنا سيدنا المهدي والمسيح الموعود هذه النقطة في بعض ما كتبه معلقا على هذه الآيات. فقد كتب قائلا:

“وهنا نعلنها مدوّيةً أن الإسلام وحده يمتاز بهذا التعليم الأسمى الشامل لكافة التدابير اللازمة، والمذكور في القرآن المجيد.

ثَمّة حكمةٌ جديرة بالذكر، وهي أن الحالة الطبْعية التي هي منبع الشهوات، والتي لا يتحرر منها الإنسان إلا بعد تحول كامل.. إنما تتمثل في أن نـزعاته الشهوانية لا تلبث أن تضطرم عندما تُصادف مواقعَ الإثارة، أو بألفاظ أخرى: إنها تصبح في خطر شديد عندئذ.. لذلك لم يُبِح الله لنا أن ننظر إلى المحارم بلا حرج، ونتطلع إلى زينتهن، ونشاهد رقصهن وما إلى ذلك حتى بالنظر الطاهر؛ وكذلك لم يَسمح لنا أن نسمع من الأجنبيات الشابات الغناء والموسيقى، أو نستمع لقصص حسنهن وجمالهن ولو بنية صالحة. كلا، بل وصانا ألا ننظر إلى غير المحارم وإلى أماكن زينتهن أبدا، لا بالنظر الطاهر ولا بالنظر الخبيث؛ وألا نسمع كذلك أصواتَهن ذات الألحان والغناء وألا نصغي إلى قصص جمالهن، لا بالنية الصالحة ولا بغيرها، بل علينا أن ننفر من كل ذلك كما ننفر من الجيفة.. لكيلا نعثر، لأنه لا بد وأن نتعرض يوما للعثار بسبب هذه النظرات الطليقة. فبما أن الله سبحانه وتعالى يريد أن تبقى أبصارنا وقلوبنا وخواطرنا جميعها مصونةً، لذلك فقد أرشدنا لهذه المبادئ السامية. فأي شك في أن التحرر المطلق يؤدي إلى العثار والسقوط؟ أوَليس من الخطأ الفاحش أن نضع أمام الكلب الجائع أرغفة ناعمة.. ثم ننتظر منه أن لا يمر بباله أي خاطر عن الرغيف؟ لذلك فقد أراد الله تعالى ألا تتاح للقوى النفسانية فرصةُ نشاط خفي أيضا، وأنْ لا يتعرض الإنسان لموقف يهيج خواطرَ السوء فيه.

هذه هي الحكمة من الحجاب الإسلامي. وهذه هي الهداية الشرعية فقط. لم يقصد كتابُ الله بالحجاب اعتقالَ النساء وحبسهن كالأسرى، ذلك ظن الجهلة الذين لا يعلمون عن المبادئ الإسلامية شيئا. إنما المقصود من الحجاب الإسلامي كفُّ النساء والرجال جميعا عن إلقاء نظراتٍ حرة، وكشفِ زيناتٍ للجانب الآخر، وتبرُّجِ الجاهلية.. لأن في الكف عن كل ذلك مصلحةَ الجنسين.

كما يجب أن نتذكر أيضا أن غضّ البصر في لغة العرب هو أن ينظر الإنسان بعين فاترة.. بحيث يصون نظرَه عما لا تحِلّ رؤيته، ولا ينظر إلا إلى ما يجوز النظر إليه. وكل من يريد تزكية نفسه لا ينبغي له أن ينطلق ببصره كالحيوان حيث يشاء من دون قيد ولا ضابط، بل عليه أن يُعوّد نفسَه غضَّ البصر في هذه الحياة المتمدنة، وبهذا السلوك المبارك تتحول عادته الطبْعية هذه إلى خُلقٍ عظيم دون أن يتعارض ذلك مع ضرورات حياته الاجتماعية شيئًا. وهذا هو الخلق الذي يسمى الإحصان والعفة. (فلسفة تعاليم الإسلام: ص 96 إلى 99)

ولكن بما أن القرآن الكريم كتاب يهدف إلى التقدم الروحاني للنفس، فإنه يطرح سؤالاً: كيف يمكن أن تساعد هذه التعاليم على تطور الحالة الروحانية للنفس؟ إن الإجابة على هذا السؤال موجودة أيضًا في كتابات سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، حيث قال:

وبما أن النوازع الطبْعية تصبح عند الإفراط خطرًا عظيمًا، وكثيرا ما تُفسد أخلاقَ الإنسان وتتلف روحانيته، لذلك فقد عُبر عنها في كتاب الله القدوس باسم النفس الأمارة بالسوء.

وإذا سأل سائل: ما هي تعاليم القرآن المجيد لأجل إصلاح الحالات الطبْعية؟ كيف يرشد الإنسان في شأنها، وإلى أي حد يسمح بالعمل بمقتضاها؟

فالجواب -وفق هداية الفرقان- أن هناك روابط شديدة للغاية بين الحالات الطبْعية والحالات الأخلاقية والروحانية، حتى إن أسلوب المرء في الأكل والشرب يؤثّر أيضا في حالاته الأخلاقية والروحانية. ولو استخدم الإنسان أحواله الطبْعية بمقتضى الشريعة لتحولت كل أحواله الطبْعية أخلاقًا كما تتحول الأشياء في داخل الملح مِلحًا، ولأثّرت في روحانيته تأثيرًا عميقًا. ومن أجل ذلك اهتم القرآن المجيد أشد الاهتمام برعاية الطهارة الجسمانية والآداب الظاهرية والحركات الجسدية في سائر العبادات وفي جميع الفرائض التي كان القصد منها إخضاعَ النفس وتزكية الباطن.

وإذا أمعنا النظر تبين لنا أن الفلسفة الصحيحة الصائبة للغاية هي أن للأوضاع الجسمانية تأثيرًا قويًا في الروح. فإننا نرى أن أفعالنا الطبْعية، وإن كانت جسمانية، إلا أن لها أثرًا محسوسًا في حالاتنا النفسية والروحانية يقينا. فالعين مثلا إذا أخذتْ في البكاء ولو تصنعًا.. فلا بد أن تنبعث من الدموع لوعة تسري إلى القلب، يَخضع لها ويكتئب. وكذلك لو ضحِكنا -وإن يكن تكلّفًا- اكتسب الفؤاد فرحًا وانبساطًا. وكذلك نرى أن السجود الجسماني يولد في نفس الساجد حالة من التضرع والخشوع. كما نشاهد بالعكس أنه لو مشى الإنسان رافعا رأسه مبرزا صدره، فمشيته هذه تولد في نفسه كبرا وغطرسة. ومن هذه الأمثلة يتبين تماما أن للأوضاع الجسمانية أثرا في الحالات النفسية والروحانية من دون ريب”. (فلسفة الأصول الإسلامية ص52)

وكتب حضرته أيضًا:

وكما أن الأفعال الجسمانية تؤثر في الروح، كذلك فإن للروح تأثيرًا يَنبثّ في الجسد أيضًا في بعض الأحيان. فمَنْ أصابه الغم اغرورقت عيناه بالدموع، ومن أحس بالسرور افترّ مبسمه. إن جميع أفعالنا الطبْعية الضرورية -كالأكل والشرب والنوم واليقظة والحركة والسكون والاغتسال وغيرها- تؤثر في حالاتنا الروحانية. ثمة رابطة محكمة بين تكويننا الجسماني وتركيبنا النفسي، إذ تذهب الذاكرة فجأة عند إصابة مركزها في الدماغ، وقد يغيب الإنسان عن الوعي والحس تماما بإصابة المركز الحسي في الدماغ. وكذلك ترون أن نَسَمة من الهواء السام الموبوء سرعان ما تؤثّر في الجسد، وتنتقل منه إلى القلب، فلا يلبث أن يختل النظام النفسي الذي به قوام الأخلاق كلها، حتى يصبح الإنسان كالمتخبط الذي مسه الجنون، فما يلبث أن يفرط في بضع دقائق.

فالإصابات الجسمانية تُرينا مَشهدًا عجيبًا يُثبت أن بين الروح والجسد علاقة ليس في وسع الإنسان أن يكشف سِرّها المكنون”. (نفس المرجع ص 56 و57)

يتبين مما سبق بوضوح أن الجسد والروح متشابكان، وكل منهما يؤثر على الآخر. ونفهم أيضًا الحكمة وراء تعاليم الإسلام المتعلقة بالحجاب والفوائد الروحانية التي يمكن أن يحققها كل من الرجل والمرأة إذا اتبعها. ويتبين لنا أيضًا بوضوح الآن أن الحجاب ليس مفروضًا على المرأة وحدها، بل مفروض بالتساوي على كل من المرأة والرجل.

ولكن الله فرض هذه الوصايا على المؤمنين في آية منفصلة عن الآية التي فرض فيها نفس الأمر على المؤمنات. ولا بد وأن تكون هناك حكمة بالغة وراء ذلك. إن أحد الأسباب الجلية وراء هذا هو الإشارة بوضوح إلى أن كل من الرجل والمرأة مسؤول أمام الله عن مسلكه عند اتباع هذه التعاليم وطاعة هذه الأوامر. وهذا يثبت أن الرجل المسلم ليس له أي دخل في إرغام المرأة على طاعة هذه الأوامر بسبب أي حب للسيطرة من ناحيته.

وبمقارنة الآيتين أيضًا يتضح لنا حقيقة أخرى وهي أنه بسبب الفرق الجسماني بين الرجل والمرأة فإن طبيعة الأسلوب الذي يجب أن يتبع به الرجل هذه التعاليم تختلف عن طبيعة أسلوب المرأة. لقد فرضت على المرأة مسؤولية إضافية. فالمطلوب بطبيعتها هي الجنس الرقيق وهي تحتاج إلى الحماية والرعاية الخاصة. وإن الإسلام يعتبر المرأة كالدرر الثمينة التي يجب حفظها في مكان أمين وصيانتها وحمايتها من نظر الناس إليها أو إزعاجها أو مضايقتها بأي شكل.

إذًا فإن هذه التعاليم الإسلامية بجانب كونها لا تحرم المرأة من حقوقها أو حريتها فإنها أيضا تبين سمو منزلة المرأة المسلمة. إن الإسلام يصون حتى المشاعر الداخلية للمرأة. ولفهم معنى هذا الكلام جيدًا يجب أن نفهم طبيعة دور كل من المرأة والرجل في المجتمع.

إن الرجل والمرأة مختلفان في إمكانيتهما وتكوينهما الجسماني. إن الرجل أقوى جسمانيًا من المرأة، وهذا هو السبب في أن دوره في الأسرة أن يعمل خارج المنزل ويمدّ الأسرة بوسائل معيشتها، وهو أيضًا حامي الأسرة من الأخطار الخارجية. ولكن هذا لا يقلل من شأن المرأة من أي ناحية، لأن المرأة أيضًا لها مجال مسؤولياتها. فبطبيعتها العاطفية الحنونة الودودة وبقدرتها على العناية والرعاية فهي أقدر على رعاية أفراد الأسرة. وفي هذا المجال نجد أن ما يمكن أن تقدمه المرأة أكثر بكثير مما يستطيع الرجل تقديمه. إنها تقوم بحماية الأسرة من الأخطار الداخلية، وهي مسؤولة عن تربية الأطفال وتعليمهم. إن المجهودات المشتركة من الرجل والمرأة ضرورية من أجل إنشاء الأسرة المثالية. فكما أن الرجل يحتاج إلى مساعدة المرأة لحماية منزله ورعايته أثناء غيابه للقيام بواجباته كربّ الأسرة، فإن المرأة أيضًا تحتاج إلى حماية الرجل من الأخطار الخارجية حتى يتوفر لها الجوُّ الآمن الذي يمكنها من القيام بواجباتها داخل منزلها على أحسن وجه.

إن المجتمع الإسلامي يمكن تشبيهه بأسرة واحدة كبيرة حيث تمثل النساء الجسد الروحاني لهذه الأسرة ويمثل الرجال روحها. وكما بين لنا حضرة المهدي والمسيح الموعود ، فإن هناك صلة عميقة بين الجسد والروح، وكل من الرجال والنساء يعتمد على الآخر من أجل قيام المجتمع المثالي. إن الرجال مسؤولون عن الشؤون الخارجية وحماية المجتمع من الأخطار الخارجية، وأما النساء فهن مسئولات عن الرفاهية الداخلية للمجتمع وتربية أفراده وتعليمهم. إن الحماية التي يقدمها الرجال لا تعني أن مكانتهم أسمى من النساء، ولكنها تبين أهمية دور المرأة في المجتمع. إن المرأة تحتاج إلى الحماية الكاملة من الأخطار الخارجية حتى تتمكن من تركيز كل انتباهها على القيام بواجباتها المقدسة.

وإن الحجاب الإسلامي رمزٌ لحماية المسلمين الروحانية، وبما أن المرأة تمثل الجسد الروحاني للمجتمع الإسلامي فإن الحجاب يتخذ شكلاً ملموسًا في حالة المرأة، بينما يبقى خفيًا في حالة الرجل. إن المرأة تحتاج إلى الحماية من الأخطار الخارجية ولذلك فإن حجابها ظاهر، لأنه يعبر عن حمايتها الخارجية. أما الرجل فإنه يظل مختبئًا لأنه يعبر عن حمايته الداخلية. ولكن يجب أن نتذكر دائمًا أن الحجاب فرض مفروض على كل من الرجل والمرأة بالتساوي حتى ولو اتخذ شكلين مختلفين.

ونلاحظ أنه في الآيات المذكورة سابقًا، وبعد ذكر الوصايا المتعلقة بالرجال والنساء منفصلة، يختتم القرآن هذه الوصايا بالقول:

وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون .

وهذا يبين حقيقة هامة، وهي أنه لتحقيق النتائج المنشودة يجب على كل من الرجل والمرأة القيام بالأعمال المكلف بها وطاعة الأوامر الموجهة إليه في هذا الصدد.. أي أن الرجل والمرأة مثل الروح والجسد يكمل أحدهما الآخر، وعليهما أن ينهضا معًا ويعملا سويًا كيدٍ واحدة لتحقيق رفاهية المجتمع وفلاحه ككل. إن هذه نعمة يمكن الحصول عليها فقط بالمجهودات المشتركة من الرجل والمرأة.

وبمقارنة الآيتين تتضح لنا نقطة هامة أخرى. فالوصايا المتعلقة بالمؤمنين تنتهي بعبارة:

ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ..

أي أنه إذا أطاع المؤمنون هذه الأوامر فإنهم سيتمكنون من تزكية أنفسهم، والله يعلم بما في نفوسهم وبالنتائج المترتبة على أعمالهم، فعليهم أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم لطاعة هذه الأوامر. وإذا كانوا مخلصين في مجهوداتهم فإن الله سيبارك أعمالهم وفلاحهم. ولكن الوصايا المتعلقة بالمؤمنات لم تختتم بمثل هذه العبارة. وفي هذا تلميح للمؤمنات بأن هناك بعض المقتضيات الأخرى التي يجب أن يحققنها ليحصلن على النتائج المثمرة. وهذه المتطلبات قد ذكرت منفصلة في الآيات التي تلي الآيات السابقة لأنها تتحقق فقط بالعمل المشترك بين الرجل والمرأة. هذه الآيات توصي المسلمين بزواج الأيامى أي السيدات غير المتزوجات. وفي هذا تلميح بأن الوظيفة الحقيقية للمرأة في المجتمع لا تتحقق بالكامل إلا عندما تصبح ربّةً لبيت. وستتضح هذه النقطة أكثر عندما نفهم دور المرأة الحقيقي في المجتمع.

إن الوصايا المفروضة في الآيات السابقة تساعد المؤمنين والمؤمنات فقط على اتخاذ الخطوات الأولى في رحلتهم تجاه خالقهم، والتعاليم التي تضمنتها مقصود بها التحكم في الشهوات والرغبات الطبيعية.. أي تهذيب النفس التي بيَّن لنا حضرة المهدي والمسيح الموعود أن القرآن الكريم قد عبر عنها باسم “النفس الأمارة بالسوء”، وهذه هي المرحلة الأولى من تطور الإنسان والتي تميزه عن الحيوانات الأخرى. وبالتالي فإن القرآن الكريم قد ذكر تعاليم إضافية في هذا الصدد. وبالنسبة للمرأة فإن الله تعالى لم يأمرها فقط بأن تخفي زينتها الخارجية، ولكنه أيضًا علّمها ألا تظهر محاسنها الداخلية، حتى إن القرآن الكريم أمرها في الآيات السابقة أن تكون حذرة حتى في مشيتها وحركاتها. فيجب عليها أن تحترس وتعتني بكل نواحي تصرفاتها وأعمالها. وقد تبلور هذا الموضوع أكثر في موضع آخر من القرآن الكريم حيث يقول الله :

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (الأحزاب: 33-34).

هنا نلاحظ أن القرآن الكريم قد اختتم هذه الوصايا بقوله:

إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا .

وهذا يبين أن هذه التعاليم مكملة للتعاليم السابقة وغرضها تطهير المؤمنات. وهذه الآيات تخاطب النساء اللاتي قد اتخذن الخطوات الأولى من قبل وهذَّبن شهواتهن الطبيعية، وهنّ الآن في مرحلة تهذيب حالتهن الأخلاقية.

إن الآيات تخاطب أمهات المؤمنين زوجات الرسول ، ولكن بما أن الرسول هو الأسوة الحسنة لكل المسلمين فإن أسلوب القرآن الكريم هو مخاطبة الرسول بما يريد أن يخاطب به كل المسلمين. وبالمثل فإنه يمكن اعتبار أن زوجات الرسول هن الأسوة الحسنة لكل المسلمات. ومن الملاحظ أيضًا هنا أن النساء يخاطَبن كزوجات في هذه الآية حتى يتحول انتباهنا إلى حقيقة أن المرأة يجب أن تصبح ربة بيت حتى تصل إلى هذه التعاليم تختص بالسيدات المؤمنات اللاتي يرغبن في أن يصبحن من أهل البيت الروحاني لرسول الله .. أي يرغبن في أن يصلن إلى درجة روحانية سامية.

في هذه الآيات مطلوب من المرأة أن تتصرف باحترام وتتحدث بأسلوب رسمي عند مخاطبة الرجال الغرباء. وهذا حجاب آخر يجب مراعاته بين الرجل والمرأة. إن الإسلام لا يشجع الألفة ورفع التكلفة والاختلاط الحر بين الرجل والمرأة. والغرض من هذا هو تطهير نفوسهما وحماية المرأة من الافتراءات. وواضح أن هذه التعاليم تهدف إلى مصلحة المرأة وإزالة أي أسباب إزعاج لها من الجذور.

والآية تحث المرأة أيضا على أن تهتم تماما بالقيام بواجباتها الجدية الهامة كربة بيت، مثل إدارة الأمور المنزلية والعناية بالأطفال وتربيتهم. وتضيف الآيات أنه يمكن تحقيق ذلك بنجاح بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله .

والغرض الحقيقي وراء بقاء المرأة في البيت يتبين لنا من الآية التي تلي الآيات السابقة حيث يقول الله :

وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (الأحزاب: 35).

وهذا يبين أن الغرض من بقاء المرأة في البيت هو تمكينها من الاستفادة من النعم الروحانية المتاحة لها واستخدامها على أحسن وجه من أجل تحضير الطعام الروحاني للآخرين. لقد أنعم الله على المرأة بالمقدرة على الإنجاب أي أن تصبح أمًّا، وبالتالي فإن لديها المقدرة على العناية والتغذية ماديًا وروحانيًا. إذًا فالغرض الحقيقي وراء بقاء المرأة في البيت هو التغذية الروحانية لأفراد الأسرة وتربية الجيل الصاعد. إن المرأة تمثل جسد المجتمع، والجسد هو أم الروح، وبالتالي فإن مهمة المرأة هي إعداد الغذاء الروحاني وتقديمه للمجتمع. وهذه مسؤولية عظيمة ومقدسة كُلفت بها المرأة. ومن أجل تعليمها كيفيةَ القيام بمهمتها العظيمة، ذكر الله مثال النحل في القرآن الكريم حيث قال:

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (النحل: 69-70)

تشابه المرأة بالنحل

تبارك الله أرحم الراحمين. لقد خلق أشياءً كثيرة في هذه الدنيا لتعليم الإنسان الحكمَ البالغة. ومن مثال النحل يتعلم الإنسان الكثير من الدروس العظيمة. وفي هذه الآيات أصدر الله بعض التعليمات للنحل وهي في الحقيقة تعليمات يجب أن يتبعها الإسنان أيضًا كما يتضح من قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .

لقد وجّه الله النحل لأن تتخذ أولا بيتا مناسبًا لها، ثم تأكل من الثمرات ورحيق الزهور، وتتبع السبل التي ذللها الله لها حتى تُنتج الشراب أو العسل الذي وصفه القرآن الكريم: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ .

ومن الملاحظ هنا أن هناك تشابهًا عميقًا بين أعمال النحل وأعمال المرأة. إننا نرى في حياة النحل صورة من دور المرأة الحقيقي في المجتمع. ففي البداية يجب على المرأة أن تحمي نفسها بالانتماء إلى بيت. والبيت الروحاني هو الدين الإلهي، لأنه يوفر الملجأ والمأوى الروحاني للإنسان. فالمرأة تتعلم من هذه الآية بأن عليها أولاً أن تبحث عن الدين الإلهي الحقيقي حتى تجده، ثم تأكل من ثمراته أي تتبع بنفسها تعاليم هذا الدين وتجني الثمار الطيبة والنتائج الحسنة من ذلك. وعندما تهتدي إلى اتباع الطريق المستقيم الذي يقربها من خالقها فإنها ستصبح نموذجًا للآخرين وستصبح قادرة على إرشادهم وهدايتهم إلى نفس الطريق الذي سلكته هي، فتستطيع تقديم الشراب الذي يشفي الآخرين ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

ولكي تتمكن المرأة من القيام بهذه المهمة العظيمة المقدسة أمر الله المؤمنين بما جاء في قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (الأحزاب: 54).

إن الغرض الظاهر من هذه الآية هو تعليم المسلمين بعض القواعد العامة في السلوك والآداب، ولكن هذه الآية أيضًا تظهر رفعة شأن المرأة في الإسلام وقداسة مكانتها. لقد ذكرت زوجات الرسول وبيوته في هذه الآية وكأنها شيء واحد. إن البيت يوفر للإنسان المأوى والحماية، وهو أيضًا المسكن الذي يجد فيه السكينة والراحة ويتناول فيه غذائه. إن البيوت المذكورة في الآيات السابقة تعني البيوت التي توفر المأوى، ولكن البيوت المذكورة في هذه الآية الأخيرة هي البيوت التي توفر المسكن للناس حيث يتناولون غذاءهم ويستريحون ويستعيدون قوتهم. وفي الحالتين كلتيهما فإن البيت الروحاني يعني الإسلام وهو دين وتعاليم رسول الله . إن أتباعه يمثلون البيوت التي تأوي الإنسان وتحميه، أما النساء فيمثلن البيوت التي توفر السكن والراحة. وهنا أيضًا نجد أن هناك علاقة وطيدة بين الرجل والمرأة، لأنهما معًا يمثلان البيت الروحاني لرسول الله .

إن تحريم الزواج من زوجات الرسول من بعده يعني أيضًا بجانب معناه الحرفي، أنه يجب على المؤمنين ألا يخلطوا تعاليم أخرى جديدة من عند أنفسهم، لأن دينه هو الدين النهائي الكامل. بهذا المعنى نفهم أن الرسول هو خاتم الأنبياء وبيته هو خاتم البيوت الروحانية ولن يقام بعده أي بيت آخر. وبهذا المعنى أيضًا نفهم أن الرسول باعتباره خاتم الأنبياء لأن أي نبي يأتي إلى العالم يجب أن يكون من أهل بيته الروحاني.

ونلاحظ في هذه الآية أيضًا أن الوصايا المتعلقة بالمؤمنين قد ذكّرتهم بمسؤوليتهم تجاه المؤمنات. فيجب عليهم أن يهتموا بتقدم النساء المؤمنات ورقيهن الروحاني لأن في ذلك رقيهم هم، بل يتوقف عليه. إذًا فكأن الله قد حث الرجال على أن يكونوا في خدمة النساء لحمايتهن ومساعدتهن على بلوغ أعلى درجات الفضيلة والتقوى، لأن تقدم الرجال أنفسهم يتوقف على ذلك أيضًا. وهذا هو المعنى الحقيقي لقول الله سبحانه وتعالى:

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (النساء: 35)

إن فضيلة المرأة وتقواها عامل في غاية الأهمية لتكوين المجتمع القويم. ولذلك ضمن الإسلام حمايتها وأمَّن سلامتها وجعل هذا جليًا في لباسها الخارجي.

ولقد لخص لنا القرآن الكريم تعاليم الإسلام المتعلقة بالحجاب الإسلامي في هذه الآية الجميلة التي قال فيها الله :

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (الأحزاب:60)

وفي هذه الآية وجه الله أوامره إلى كل النساء حتى يوضح أن هذه الوصايا يجب أن تطيعها كل النساء المسلمات وليس فقط النساء اللواتي وصلن إلى مرحلة معينة من التقدم الروحاني. إن طاعة هذه الأوامر واجبة على كل النساء المؤمنات اللاتي ينتمين إلى أي منزلة روحانية. وبما أن الغرض من هذه التعاليم هو الكمال الروحاني للنفس فإن الملبَس المذكور في هذه الآية يجب ألا يؤخذ بمعناه المادي فقط. ففي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الله :

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (الأَعراف: 27).

وهذه الآية تنطبق على كل من الرجل والمرأة، وتبين لنا في إطار جميل الجوهرَ الحقيقي للحجاب الإسلامي. إنها تأمر الرجال والنساء أن يرتدوا لباس التقوى الذي تصفه بأنه (خير). وهذا يعني أن اللباس المادي الذي يغطي الجسد في الحقيقة يرمز إلى تغطية الروح بالتقوى والفضيلة حتى يحميها من أي شر.

إن الحجاب الإسلامي للمرأة يرمز إلى حمايتها من الأخطار الخارجية التي قد تؤثر على تقدمها الأخلاقي والروحاني. والحجاب الإسلامي الحقيقي لا يعني فقط غطاء الجسد المادي، ولكنه يعني أيضا جلب ستار جوهري فعال على النفس لحمايتها من كل الأخطار والمساوئ المحيطة بها.

وإذا كانت المرأة ما زالت في خطواتها الأولى لتزكية نفسها، فإن حجابها سيكون الحامي لها من أي أخطار خارجية قد تعوق تقدمها. وعندما تصل إلى منزلة أخلاقية سامية فإنه سيكون من مصلحتها، وسيكون رغبتها أيضا، أن تغطي نفسها وجسدها بالكامل لئلا تصاب بأي ضرر أو أذى في مشاعرها بأي شكل. وحتى تتمكن من التقدم روحانيا وتصل إلى درجات أعلى مما حققته فاللباس الخارجي للمرأة المسلمة هو في الحقيقة رمز لحماية نفسها الداخلية أيضا.

إن حجابها يجلي الصفة الإلهية (الغفور)، وهي الصفة المذكورة في نهاية الآية التي تناولت موضوع الحجاب بشكل عام. إن المعنى الحقيقي للمغفرة هو الصفح عن الذنوب السابقة للإنسان وتغطيته وحمايته من أي ضعف أو تقصير قد يعوق تقدمه في المستقبل. وواضح أن هذا المعنى ينطبق تماما على ما ذكرناه أعلاه عن الغرض من الحجاب الإسلامي.

ولكننا نجد أيضا أن نفس الآية قد ذكرت صفة إلهية أخرى وهي (الرحيم). إن الله قد وهب المرأة القدرة على حمل طفلها في رحمها لتحميه وتغذيه حتى يصبح قادرًا على الحياة خارج جسدها بشكل مستقل، بل إنها تستمر في العناية به وتربيته وتغذيته ماديا وروحيا حتى ينضج ويستقل بذاته. والمرأة لديها القدرة على القيام بنفس هذا العمل من أجل البشرية بشكل عام. إن لديها القدرة على رعاية الآخرين وتغذيتهم وإمدادهم بالغذاء الروحاني الذي تعده باستخدام النعم الإلهية الروحانية المتاحة لها. وكما تشمل المرأة طفلها في رحمها، فالله يحيطها برحمته.

والجدير بالملاحظة هنا هو أن الكلمتين (رَحم) و (الرحيم) مشتقتان من أصل واحد وهو (رحم). وهذا دليل واضح على أن المرأة تظهر في نفسها الصفة الإلهية (الرحيم). وكجزاء لها على خدمتها العظيمة للبشرية فإن الله نفسه يحميها ويحيطها برحمته، ولباسها الخارجي يعبر عن هذه الحماية والرحمة أيضا. وبالتالي فإن الله قد فرض هذه التعاليم على المرأة المسلمة حتى يظهر حبه لها وعنايته بها، وليعلن للعالم أجمع حمايته وتأييده ومساعدته لها في أثناء قيامها بهذه المهمة المقدسة للعناية بالبيت الروحاني لحبيبه المصطفى رسول الله . وهذا يوضح لنا معنى قوله تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ، وهذا يعني أن اللباس الخارجي للمرأة المسلمة يعلن للعالم أنها تحت حماية الله رب العالمين، وبالتالي فيجب أن لا يجرؤ أحد على إيذاءها.

لقد وهب الله المرأة هذه القدرات والكفاءات العظيمة، وترك الحرية لها في اختيار واستخدام هذه النعم العظيمة بالشكل الصحيح حتى تحقق الغرض من خلقها.

وطبقًا للإسلام، يمكن للمرأة أن تخرج من بيتها طالما كانت هناك ضرورة شرعية لخروجها، ولكن مسؤوليتها الأساسية الرئيسية تنحصر في بيتها وأسرتها. وهي مهنة لها أهميتها وجديتها المتساوية، إن لم تكن أزيد، مع مِهَنِ الرجال. إن مجال مسؤولياتها الأساسي هو منزلها. إن المرأة تستطيع إثبات وجودها وتفوقها داخل منزلها. وإذا اتجهت المرأة إلى القيام بمهن الرجال وأهملت واجباتها العائلية كربّة بيتها فتكون في تحدّ مع الطبيعة، والطبيعة لا تسمح بمقاومة قوانينها بدون عقاب.

والآن إذا نظرنا إلى المجتمعات المعاصرة الحديثة سنجد صورة للنساء مختلفة تمامًا عن الصورة التي وصى بها القرآن. إن أغلبية النساء اليوم قد أهملن واجباتهن كربَّات البيوت، وبدأن في منافسة الرجال في كل مجالات الحياة. إنهن يشاركن في كل أنواع المهن ويقمن بالأعمال التي كان الرجل وحده يقوم بها في الماضي، وبذلك يحملن أنفسهن مسؤوليات لم تفرضها عليهن الطبيعة. ويعتقدن بالخطأ أن هذه هي الوسيلة التي يمكن بها تحرير المرأة ومساواتها بالرجل.

إن المرأة اليوم تختلط بالرجل بحرية وبدون أي قيد، وتتنافس النساء على جذب الرجال إليهن. إن المرأة تتلذذ وتفتخر بالكشف عن مفاتنها، وتتبارى النساء على عرض أجسادهن حتى أصبح الآن شيئاً طبيعيًا جدًا أن نجد مسابقات ملكات الجمال في كل أنحاء العالم حيث تقوم كل مسابقة بعرض جسدها على المشاهدين حتى يحكموا من هي الأجمل.

إن المرأة تعامل جسدها وكأنه نوع من البضاعة المعروضة المتاحة لأي إنسان أن ينظر إليها ويحدق فيها بحرية. والمرأة لا تدري خطورة أعمالها، ولا تدرك مدى الضرر والأذى والخسارة التي تسببها لنفسها ولمجتمعها من جراء ذلك. إنها تظن أن هذه هي حريتها الشخصية، ولكن الوضع الحقيقي هو ما ذكرنا. إن ما يبدو حرية المرأة قد ظهر أنه في الحقيقة هو السبب في إهانتها وفقدان كرامتها. فبدلاً من أن تنال حريتها قد انحدرت إلى مرتبة الجواري. لقد أصبحت أسيرة للأهواء والشهوات المادية، وبكامل إرادتها جعلت من نفسها أسيرة لإشباع ملذات الرجال. لو نظرنا اليوم إلى المجتمعات المسماة (المجتمعات الحرة) لن نجد أي أثر للأخلاقيات، دَعْكَ من الروحانيات. سنجد فقط الفسق والفجور والفساد. نرى مجتمعًا فيه كل المساوئ والشرور التي يمكن أن يتخيلها أحد. فنرى العلاقات الزوجية المنهارة، والأطفال غير الشرعيين، والخيانات الزوجية. وقد سببت إباحة المرأة إشباع رغبات الرجل في أن الرجل نفسه لم تعد لديه رغبة في المرأة، ونتجت عن ذلك علل اجتماعية أخرى مثل جرائم الاغتصاب وخاصة الأطفال والمسنين والشذوذ الجنسي وإدمان المخدرات وحتى القتل من أجل المتعة. وواضح أن أول من يعاني من هذه الأمراض الاجتماعية هي المرأة نفسها وهي المسؤولة الأولى عن حدوث هذا. إن هذا ما أنذرنا القرآن الكريم بحدوثه قبل 14 قرنًا، وهذا هو السبب في أن الله قد وضع على المرأة مسؤولية أكثر من الرجل في هذا الصدد، لأنها هي التي ستعاني أكثر بسبب التغافل عن طاعة هذه التعاليم الإسلامية الطبيعية.

فإن الحجاب الإسلامي ليس بالشيء المـُخزي للمرأة، وليس بالقيد على حريتها، بل على عكس ذلك، إنه يمنحها الشرف والكرامة ويحررها من الأغلال والعوائق التي قد تمنع تقدمها الأخلاقي والروحاني. إنه وسيلة خلاصها من المعاناة ونجاتها من الأمراض الاجتماعية التي تتعرض لها في المجتمعات المعاصرة. إنه في الحقيقة تجسيد لرحمة الله للمرأة.

وإذا تمكنت المرأة في كل أنحاء العالم من إدراك المعنى الحقيقي للتعاليم الإسلامية الصحيحة المتعلقة بحجاب المرأة، وإذا عرفت الفوائد التي يمكن أن تعود عليها والمنزلة السامية التي يمكن أن تصل إليها باتباع هذه الوصايا، فإنها ستبدأ في النداء بحريتها من مجتمعها المريض، وستحارب من أجل حقوقها للعودة وراء الحجاب حيث تضمن حريتها الحقيقية، وحيث تجد الأمان والسلام الحقيقي، وحيث تكمن كرامتها وعزتها، وفي ذلك الوقت فقط ستتمتع المرأة بالهناء والسعادة وراحة البال تحت الحماية والرحمة الإلهية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك