كنتم خير أمة أخرجت للناس (الحلقة الثالثة)

كنتم خير أمة أخرجت للناس (الحلقة الثالثة)

مها دبوس

لقد تكلَّم الله مع أنبيائه السابقين عن طريق الوحي، فقد قال سبحانه وتعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (النحل: 44).

إذن فمن المؤكَّد أن المبعوث الذي يصطفيه الله من بين المسلمين ليكون مرشدهم سيتلقى الوحي أيضًا؛ لأنّه لا يُغيِّر سُنّته أبدًا كما قال:

سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (الإسراء: 78).

ولكن الاعتقاد السائد اليوم عند المسلمين هو أنّ الكلام الإلهي مع البشر قد انقطع، وهذا بالرغم من أنّ الله يخبرنا بغير ذلك في القرآن الكريم. فالقرآن لم ينفِ أبدًا إمكانية نزول الوحي على البشر في أي زمان حتى بعد بعثة الرسول ، بل إنه قد أكَّد لنا أنّ الوحي مستمر في أمة المسلمين. بالطبع أنّ أسمى نوع من الوحي، وهو الوحي الذي يحمل الشريعة، لن يتكرّر أبدًا حتى آخر الزمان. إنَّ هذا النوع من الوحي قد انقطع بعد نزول القرآن الكريم، لأنّ البشر ليسوا بحاجةٍ له بعد أن جاء رسول الله بأحسن وأكمل وآخر شريعة للبشر.

أما الوحي الذي يعتبر الوسيلة التي يتكلم بها الله مع عباده المقرَّبين فإنّه مستمرٌ دائمًا. وكما ذكرنا فيما سبق، فإنّ القرآن الكريم لا ينفِ أبدًا إمكانية نزول الوحي الإلهي على البشر، بل إنّ القرآن الكريم نفسه يؤكِّد لنا أنّ هذا النوع من الوحي مستمرٌ ما دام هناك من يستحقُّ أن يتلقَّاه من الناس. وقد ذكر القرآن الكريم علاوةً على ذلك، أنّ الوحي لا ينزل فقط على الأنبياء بل إنه ينزل أيضًا على أي إنسان يختاره الله. فهذا النوع من الوحي هو إحدى الوسائل التي يُعبِّر بها الله عن حبِّه لعباده ورضاه عنهم. فما أسعد ذلك العبد الذي ينعم بالحديث من الله، وإذا ناجى ربه سمع إجابته كما وعد بقوله:

أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (البقرة: 187).

إن الإنسان الذي ينعم بهذه النعمة العظيمة، حتى إذا لم يكن نبيًّا، فإنّه يتأكّد من رضا المولى عليه وحبّه سبحانه وتعالى له.

ويمكننا إثبات هذا من آيات القرآن الكريم. فلقد قال الله في كتابه المجيد:

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى: 52)

هذه الآية تُبيّن لنا ثلاث وسائل لكلام الله مع البشر: أولاً عن طريق الوحي، ويكون هذا عن طريق نزول كلام على قلب الإنسان مباشرة. وثانيًا من وراء حجاب، وهذا يكون عن طريق الرؤى الصادقة التي يراها الإنسان في منامه أو الكشوف التي يراها في حالة اليقظة التامة، وتكون مستترة وراء حجاب اللغة المجازية التي تحتاج إلى التأويل والتفسير. وثالثًا عن طريق إرسال رسول، وهذا يكون إما بإرسال الملائكة التي تحمل الرسالات الإلهية إلى البشر، أو بإرسال الأنبياء الذين يصطفيهم الله من بين الناس حتى يُبلِّغوا الرسالات الإلهيّة إلى بقية الناس.

والآية تُبيّن لنا أنّ الله يتكلَّم مع كل الناس، وليس فقط مع الأنبياء؛ فقد استخدم سبحانه وتعالى كلمة (بَشَرٍ) في الآية ولم يستخدم مثلاً التعبير (أنبياء الله) أو (رسل الله) أو حتى (عباد الله). فمعنى هذا أن الله يتكلّم مع كل البشر. ولكن بالطبع إنه في نفس الوقت، يختصُّ سبحانه وتعالى عباده الصالحين بنوعٍ خاص من الكلام الإلهي.

فإذا أخذنا مثلاً النوع الثالث من الكلام الإلهي، أي إرسال الرسل، فإننا سنجد أنّ كل الناس يتلقُّون هذا النوع من الكلام الإلهي عن طريق الأنبياء الذين يبعثهم الله لهم. فالأنبياء هم رسل الله، الذين يصطفيهم سبحانه وتعالى من بين عباده الصالحين من البشر، ويبعثهم من أجل تبليغ الرسالة الإلهيّة إليهم. وبذلك يكون الله قد كلَّم هؤلاء الناس عن طريق أنبيائهم.

ولكن بالطبع هذا النوع من الكلام الإلهي يختلف طبقًا للإنسان الذي يتلقّاه. فمع أنّ النبي الذي يرسله الله تكون رسالته واحدة إلى الناس، إلا أن النتيجة المترتّبة على هذه الرسالة تختلف حسب من يتلقَّاها، فيصبح هذا النبي مُبشِّرًا لمن آمن به ونصره، ومُنذرًا لمن كفر به وحاربه. إذن فإنّ الله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون. إنه يرسل إليهم نفس الرسالة في البداية، ولكن ردّ فعلهم، أي قبولهم أو رفضهم لهذه الرسالة، هو الذي يُحدِّد النتيجة المترتّبة على ذلك. وبذلك يكون الله قد اختصَّ عباده الصالحين بنوعٍ مميز من الكلام الإلهي، لأنّ هؤلاء العِباد الصالحين هم الذين استجابوا للدعوة الإلهيّة وآمنوا بالرسول الذي أرسله لهم. وبذلك جعلوا رسالة الله حاملة البشائر لهم. أما من كفروا بمن أرسَلهُ الله لهدايتهم، فقد أصبحت الرسالة الإلهيّة حاملةً لأنباء هلاكهم.

ولقد بيّن لنا القرآن الكريم أنّ الله يرسل الرسل، سواء كانوا من البشر أو من الملائكة إلى كل الناس. ولكن كما بيّنا فيما سبق، إنّ الرسالة الإلهية التي يحملها هؤلاء الرسل تختلف طبقًا لمن يتلقَّاها. ومن أمثلة ذلك، ما ذكره القرآن في سورة هود على الرسل التي أُرسلت إلى إبراهيم ، كما جاء في قوله تعالى:

وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى (هود: 70)

إنّ نفس هذه الرسل التي أرسلها الله بالبشرى لإبراهيم ، أُرسلت أيضًا إلى قوم لوط، كما نجد في قوله :

قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (هود: 71)

ولكن في هذه الحالة، كانت الرسل تحمل أخبار عِقاب قوم لوط وهلاكهم بعد أن رفضوا رسالة الله التي أرسلها الله لهم عن طريق لوط . والقرآن الكريم يُبيِّن لنا سبب هذا، وهو أنّ إبراهيم كان من أنبياء الله الصالحين، أما قوم لوط فكانوا من الفاسقين.

والقرآن الكريم يُبَيِّن لنا أيضًا أنّ رُسل الله من الملائكة التي تأتي بالبشائر للناس، لا تتنزَّل فقط على أنبياء الله، بل على كل من يختصُّه الله بهذا الشرف، فنقرأ مثلاً في القرآن الكريم عن السيدة مريم قوله سبحانه وتعالى:

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (آل عمران: 43 و44)

وهنا نجد أنّ الملائكة تنزَّلت على السيدة مريم لتُبشِّرها برسالةٍ من عند الله. إذن فإنّ الملائكة، وهي رُسل الله، تتنزَّل على أولياء الله الصالحين أيضًا لتوصِل إليهم رسالات الله وإرشاداته.

أما بالنسبة للنوع الثاني من الكلام الإلهي، وهو الكلام من وراء حجاب فإننا نعرف انّ أنبياء الله وأولياؤه الصالحين يرون الرؤى الصادقة في منامهم، ويرون أيضًا الكشوف وهم في حالة اليقظة التامة. ولكن هذا لا يقتصر فقط على الأنبياء أو الأولياء الصالحين، إنّما يمكن لبقيّة الناس أيضًا أن يمرُّوا بهذه التجربة. ويُعطينا القرآن الكريم مثلاً على هذا في سورة يوسف في قوله :

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (يوسف: 44)

هذه الآية تُبيِّن أنّ مَلِك مصر في وقت يوسف قد رأى رؤية صادقة، لأنّ بقية السورة تُخبرنا أنّ يوسف قد فسَّر معنى هذه الرؤية للملك وأنّها تحقَّقت بعد ذلك بالفعل. والقرآن لم يخبرنا أبدًا أنّ ملك مصر كان نبيًّا أو حتى من أولياء الله الصالحين.

إذن فالرؤى الصادقة ليست بالشيء الذي يختصُّ به الله الأنبياء أو الأولياء الصالحين، بل إنها نعمة مُتاحة لكل الناس. ولكن في هذه الحالة أيضًا يختلف الكلام الإلهي طبقًا لمن يتلقَّاه. ويختلف المضمون الذي ينقله هذا الكلام حسب ظروف الإنسان وحالته. فنجد أنّ المقرَّبين إلى الله ينعمون بالرؤى الصادقة أكثر من غيرهم، وتكون لهذه الرؤى سمات خاصة تميّزها عن غيرها.

ونأتي الآن إلى النوع الأسمى من الكلام الإلهي، أي الوحي. لقد أخبرنا الله في مواقع كثيرة من القرآن الكريم أنه تكلَّم مع أنبيائه عن طريق الوحي. ولكنه في نفس الوقت أخبرنا أيضًا أنّه أنعم بهذا النوع من الكلام الإلهي على بعض الناس الذين لم يكونوا أنبياء. فمثلاً ذكر الله في القرآن الكريم أنّه أوحى إلى أُمِّ موسى ، فقد قال عنها سبحانه وتعالى:

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (القصص: 8)

 هنا يخبرنا الله أنه تكلَّم مباشرة مع أُمِّ موسى عن طريق الوحي. ولقد ذكر أيضًا في القرآن الكريم أنه أوحى إلى الحواريين عندما قال:

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (المائدة: 112)

إذن فإن الوحي الإلهي إلى البشر ليس مقصورًا على الأنبياء فقط، بل إنّه نعمةٌ عظيمة، يُشرِّف بها الله من يشاء من عباده. وهذا النوع من الكلام الإلهي يختصُّ به الله من يصطفيهم من بين الناس، حتى يوجِّههم ويرشدهم، ويُعبِّر عن حبّه لهم ورضاه عنهم. وبالطبع إنّ هذا الوحي الإلهي أيضًا يختلف حسب الحالة الروحانيّة للإنسان الذي يتلقَّاه، ودرجة قربه من الله.

ومما سبق يتضّح لنا أنّ شرف تلقِّي الكلام الإلهي بكل أنواعه، لم يكن مقصورًا على الأنبياء، بل إنّه أُتيح لكل البشر فيما مضى. والآن نتساءل: إذا كان الكلام الإلهي من صفات الله التي تجلَّت على خلقه فيما سبق فلماذا لا تتجلَّى هذه الصفة الآن؟ وإذا كان الله قد كلَّم الناس في الماضي فلماذا يكفُّ عن الكلام معهم في الوقت الحاضر؟ وإذا كان أتباع الأنبياء الآخرين قد تلقُّوا الوحي من الله، فلماذا يُحرم أتباع سيد الرسل من هذه النِّعمة؟ لماذا تُحرم خيرُ أمةٍ أُخرجت للناس من هذا الشرف العظيم؟

بالطبع أنّه لا يمكن أبدًا أن تتعطَّل أي صفة من صفات الله. فإذا كانت أي صفة من صفاته سبحانه وتعالى قد تجلَّت على البشر السابقين، فلا بدَّ وأن تتجلَّى على البشر الآن أيضًا. وإذا كان أتباع الأنبياء الآخرين قد تلقُّوا الوحي من الله، فبالتأكيد لا بدّ أن يتمتَّع أتباع سيد الرسل بهذه النِّعمة أيضًا. لا بدَّ أن تنال خير أُمةٍ أُخرجت للناس هذا الشرف العظيم.

إنّ الكلام الإلهي مع البشر نعمةٌ عظيمة لا يمكن أن تنقطع أبدًا. وبكل تأكيد أنّ هذه النِّعمة ما زالت مُتاحة لمن يستحقُّها من البشر. وبدون شك أنّ هذه النِّعمة باقية في خير أُمةٍ أُخرجت للناس، ومستمرة حتى آخر الزمان.

ولقد بَيَّن لنا الله في كتابه الكريم أنّ الفرصة ما زالت مُتاحة للبشر لتلقّي الكلام الإلهي بكل أنواعه. وبشَّر المسلمين جميعًا بإمكانية تلقّيهم هذه النِّعمة. فمثلاً، قال الله :

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (فُصِّلت: 31-33)

هنا يذكر القرآن الكريم أنّ الذين آمنوا بالله واستقاموا على هذا الإيمان بصدقٍ وإخلاص، ستتنزَّل الملائكة عليهم لتُطمئِنهم ولتُبشِّرهم بالجنة التي وُعِدوا بها ولتُخبرهم بأن:

نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ .

أي أنّ الملائكة ستتكلَّم مع هؤلاء المؤمنين مباشرةً. وستُعَرِّف الملائكة أيضًا هؤلاء المؤمنين، أنّ كل هذه النِّعم من عند الله الغفور الرحيم. ومعنى هذا أنّ الملائكة ستتنزَّل عليهم بهذه البُشرى من عند الله – أي أنّها ستأتي لهم بهذه الرسالة من عند الله. بمعنى آخر، أنّ الملائكة ستكون رُسل الله لهؤلاء المؤمنين. وهذا هو النوع الثالث من أنواع الكلام الإلهي كما وصفه الله في قوله:

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى: 52)

والآيات تُبيِّن أنّ الملائكة ستتنزَّل على هؤلاء المؤمنين في هذه الدنيا. لقد وعد الله عباده المقرَّبين وأولياؤه الصالحين بأن يتلقُّوا هذه البشائر في الحياة الدنيا مثلما سيتشرَّفون بهذا في الآخرة أيضًا، فقال :

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (يونس: 63-65)

هنا يُبشِّر الله أولياؤه الذين آمنوا وكانوا يتّقون، بأنه سيُنعم عليهم بنِعَم في هذه الدنيا، كما سيُنعم عليهم في الآخرة أيضًا. وتؤكِّد الآيات أنّ هذه البُشرى هي من كلمات الله لأنها تُخبرنا أيضًا أنّه لا تبديل لكلمات الله.

أمّا عن الكلام الإلهي من وراء حجاب، فكما ذكرنا فيما سبق، إنّ المسلمين ما زالوا يؤمنون بأنّ هذا النوع من الكلام الإلهي مستمر وباقٍ في أمة الإسلام. ولذلك لا حاجة لنا أن نخوض في هذا الموضوع من أجل إثبات أنّ بعض المسلمين يَنعَمون بهذا النوع من الكلام الإلهي.

ولكن ماذا عن الكلام الإلهي مع البشر، الذي يكون عن طريق الوحي المباشر إليهم؟ هذا الوحي الذي تلقّته أم موسى وتلقّاه أيضًا الحواريين الذين كانوا أتباع عيسى ، كما بيَّنا فيما سبق. هل انقطع هذا الوحي عن أتباع سيد الرسل ؟ هل حُرِّم هذا الوحي على خير أُمةٍ أُخرجت للناس؟

بالطبع ليس من المعقول أبداً أن ينقطع هذا النوع من الكلام الإلهي أبدًا عن أمة الإسلام وإلا دلَّ هذا على عدم وجود أي عباد مُقرَّبين إلى الله في أمّة المصطفى . ولقد بشَّر القرآن الكريم بأنّ هذا الوحي الإلهي أيضًا باقي معهم، وأمر الله سبحانه وتعالى رسوله أن يخبر المسلمين بذلك في قوله :

قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (الكهف: 110 -111)

هنا يطلب الله من الرسول أن يُبشِّر أتباعه بأنّ كلمات الله لن تنفد أبدًا. فالكلام الإلهي نِعمةٌ عظيمة من النِّعم التي يُنعم بها على البشر، ولا يمكن أن تنقطع هذه النِّعمة أبدًا. ولقد أمر الله رسوله بعد ذلك أن يُخبر الناس أنه إنسانٌ من البشر مثلهم، وأنّ الله قد اصطفاه وأنعم عليه بالوحي الإلهي، وأنّه تشرَّف بلقاء ربه وهو على قيد الحياة في هذه الدنيا، وهذا لأنه صلح في أعماله ولم يُشرك بعبادة ربّه أحدا. وبالتالي فمن كان يُريد أن يتمتَّع بنفس هذه النِّعمة، ويتشرَّف بلقاء ربّه هو أيضًا، فعليه أن يتَّبع مَثَلَهُ ، أي أنّ عليه أن يعمل أعمالاً صالحة ولا يُشرك بعبادة ربه أحدا.

وبذلك بيَّنت لنا هاتان الآيتان أن أي إنسان من أتباع الرسول بإمكانه أن يتمتَّع بنفس النِّعمة الإلهيّة هذه التي أنعم بها الله على نبيّه المصطفى ، إذا اتّبع مثله الطيّب وسار على منهجه وسُنّته . ونفهم من هذا، أنّ كلام الله أو وحيه إلى عباده من المسلمين ليس بالشيء المستحيل ولكن هناك بعض الشروط التي يجب أن تتوفر في العبد قبل أن يُنعم الله عليه بهذا الشرف العظيم ويكون من المقرَّبين إلى الله الذين يُحدِّثهم .

والقرآن الكريم لا يُبيِّن فقط أن الوحي مستمر في أمة المسلمين ولكنه يُشير أيضًا إلى إمكانية تنزُّل سيدنا جبريل نفسه على من يصطفي الله من عباده وذلك في قوله :

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (غافر: 16)

هذه الآية في صيغة المضارع، وهذا يعني انّ الله مستمر في إلقاء الروح من أمره على من يشاء من عباده. والروح، هو سيدنا جبريل ، كما يُشير قوله :

وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (الشعراء: 193-196)

  وبذلك يتأكَّد لكل مسلم أنّ الله ما زال مستمرًا في إرسال جبريل إلى من يصطفي من عباده. وإذا ظنَّ أحدٌ أنّ هذا الكلام ينطبق على الناس قبل بعثة الرسول ، ولا ينطبق على المسلمين من بعده، فما عليه إلا أن يقرأ قوله :

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر: 4-6)

هنا ذكر الله أنّه في ليلة القدر، تتنزَّل الملائكة والروح. وليلة القدر هي الليلة التي ينتظرها المسلمون في كل عام في الليالي العشر الأواخِر من شهر رمضان المبارك، ويدعون ويتضرَّعون إليه حتى تتجلَّى لهم بركات هذه الليلة المباركة. ولقد أخبرنا الله في هذه الآيات أنّ من بركات ليلة القدر تنزُّل الملائكة والروح. إذن فنزول الروح -سيدنا جبريل – هو من النِّعم الإلهيّة التي ينشدها أتباع المصطفى ، ويتضرَّعون إلى الله من أجل رزقهم إيَّاها، ويُجاهدون أنفسهم من أجل الحصول عليها.

ومما سبق يتأكَّد لنا أنّ الوحي الإلهي مستمرٌ في أمّة الإسلام، وأنّه يتنزَّل على عباده من المسلمين المخلصين، الذين يُطيعون الله ورسوله ، ولا يُشركون مع الله أحدًا في عبادتهم. ويتأكَّد لنا أيضًا أنّ هذا الوحي، يُنعِمُ به الله على هؤلاء العِباد في هذه الحياة الدنيا – أي أنّهم سينَعَمون بلقاء ربِّهم والتحدُّث معه وهم ما زالوا أحياء في هذه الدنيا كما سينعمون بذلك أيضًا في الآخرة.

وبذلك يتأكَّد لنا أنّ الله يستجيب لدعاء هؤلاء الصالحين من عباده المسلمين، هذا الدعاء الذي يُردِّدونه في كل ركعةٍ من صلاتهم اليوميّة:

اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (الفاتحة: 6)

لقد أرسل الله نبيّه المصطفى حتى يدلّ الناس ويرشدهم إلى هذا الصراط المستقيم. وبكل تأكيد أنّ أتباعه المخلصين يهتدون بالفعل إلى صراط الله المستقيم، كما قال سبحانه وتعالى:

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (الشورى: 53)

لقد دلَّ الرسول أتباعه على طريق الهداية الذي سلكه الذين أنعمَ الله عليهم من قبلهم. هذا هو الطريق الذي يؤدِّي إلى الوصول إلى الله، والذي يُمكِّن الإنسان من نيل الشرف العظيم، شرف لقاء الله والحديث معه.

وبالطبع انّه إذا كان الله قد وعد أولياءه الصالحين من المسلمين بهذه النِّعم العظيمة، فَمِنَ المؤكَّد أنّه سيُنعم بها أيضًا على من اصطفاه مِن عباده ليكون مبعوثه إلى الناس حاملاً إليهم الرسالات الإلهيّة. وكما بيَّنا فيما سبق أنّ القرآن الكريم ذكر إمكانية مجيء مثل هؤلاء المبعوثين من أجل تقويم المسلمين وهدايتهم، وتوحيد العالَم كله تحت راية الإسلام. وهنا نعود مرةً أخرى إلى الآية التي ذكرناها سابقًا:

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (غافر: 16)

هذه الآية تُبيِّن أنّ الله يُرسل جبريل إلى من يصطفي من عباده ليكون نذيرًا للناس ويُذكَّرهم بيوم التلاق. والنذير هو النبي، كما قال :

فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ (البقرة: 214)

وقال أيضًا : وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ (الأنعام: 49) وأيضًا (الكهف: 57)

إذن فخلاصة القول هي أنّه كما كان الحال بالنسبة للأنبياء والرسل في الماضي، فإنّ المبعوثين الذين يبعثهم الله من أجل هداية المسلمين ينعمون أيضًا بالوحي الإلهي عن طريق سيدنا جبريل .

ولكن هنا يجب أن نؤكِّد مرةً أخرى على أنّ هذا الوحي يختلف عن الوحي الذي نزَلَ على خاتَم النبيّين . فالوحي الذي تلقَّاه الرسول كان الوحي الأسمى الذي احتوى على الكتاب الكامل والتشريع النهائي للبشر. وهذا الوحي هو قمّة درجات الكلام الإلهي الذي لم ينعَم به أيُّ نبيٍّ من الأنبياء الذين سبقوا الرسول ، وفي نفس الوقت لن يتلقَّاه أي إنسان من بعده. فهذا هو قمّة الوحي الذي اختَصَّ به الله الرسول الكريم وحده.

وبالتالي فإنّه من الممكن للمبعوثين إلى أمّة الإسلام أن يتلقُّوا الوحي الإلهي مثل من سبقهم من الأنبياء، ولكن بالتأكيد أنّ هذا الوحي لن يكون في نفس مقام الوحي الذي تلقَّاه سيد ولد آدم، الرسول الأكرم ، ولن يكون محتويًا على أيّ شريعة أو تعاليم جديدة من عند الله. إنّه سيكون فقط كلامًا إلهيًّا يُعبِّر عن قربه وحبّه للشخص الذي يُنعم عليه بهذه النِّعمة العظيمة. وقد يكون من أجل تشجيع هذا الشخص وتأييده حتى يثبت قلبه في وقت المحن والمصاعب. وقد يحتوي أيضًا على نبوءات ستتحقَّق في المستقبل القريب أو البعيد، حتى يكون هذا دليلاً على صدق هذا المبعوث في ادِّعائه أنّ الله قد أرسله من أجل إصلاح أمة المسلمين؛ لأنّ الله لا يُطلع أحدًا على الغيب إلا إذا كان من أنبيائه المكرَّمين – كما قال :

عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ (الجن: 27 -28)

إذن فإنّ هذا الوحي يكون أحد الوسائل التي يؤيِّد بها الله مبعوثه ويُثبت صدقه للناس.

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك