ولدي الحبيب

ولدي الحبيب

“أقف فوق فراشك، وأنت غارق في نومك، وقد توسدت كفك الصغير، وانعقدت خصلاتُ شعرك فوق جبهتك الغضة. فمنذ لحظاتٍ خلت كنتُ جالسا إلى مكتبي أطالع الصحيفة وإذا بفيض غامر من الندم يطغى عليَّ. فما تمالكت إلا أن تسللت إلى مخدعك ووخْزُ الضمير يصليني نارًا.

وتذكرت الأسباب التي أشاعت الندم في نفسي. أتذكر صباح اليوم؟ لقد عنفتُك وأنت ترتدي ثيابك تأهبًا للمدرسة، ولمتُك لأنك لم تنظف حذاءك كما ينبغي.. وصحتُ بك في غضب، لأنك نثرتَ بعض الأدوات عفوًا على الأرض!

وعلى مائدة الفطور أحصيتُ لك أخطاءك الواحدة تلو الأخرى؛ فقد أرقتَ شرابك، والتهمتَ طعامك بصوت، وأسندتَ مرفقيك إلى حافة المائدة، ووضعت نصيبا من الزبدة على خبزك أكثر مما يقتضيه الذوق.

وعندما اتخذتُ الطريق إلى عملي، التفتَ إليّ ولوحتَ لي بيديك وهتفتَ: “مع السلامة يا أبي”.. قطبتُ لك جبيني ولم أجبك. ثم أعدتُ الشيء نفسه في المساء. ففيما كنتُ أعبر الشارع لمحتك جاثيًا على ركبتك تلعب “البلي” أمام ساحة الدار، وقد بدت في جواربك ثقوب، فأذللتك أمام أقرانك إذ أمرتك بالسير أمامي باكيًا. إن الجوارب غالية الثمن يا بني ولو كنت أنت الذي تشتريها لحرصت على العناية بها.

ثم أتذكر بعد ذلك وأنا أطالع في غرفتي، كيف جئتَ تجر قدميك متخاذلاً وفي عينيك عتاب صامت. فلما نحيت الصحيفة عني، وقد ضاق بك صدري، صحتُ بك أسألك: “ماذا تريد؟”. لم تقل أنت شيئًا ولكنك اندفعت إليّ، وطوقتَ عنقي بذراعيك وقَبَّلتَني، ومددت ذراعيك الصغيرتين حولي في عاطفة أودعها الله في قلبك الطاهر.. عاطفة مزدهرة لم يقو حتى إهمالي على أن يعصف بها. ثم انطلقتَ مهرولا تصعد الدرج إلى غرفتك.

لقد كنتَ في قرارة نفسك تعفو وتصفح. كان قلبك الصغير كبيرًا. أما أنا فما هذا الذي صدر عني؟ كلا! لم يكن مردُّ الأمر أني لا أحبك وإنما أني طالبتك بالكثير برغم حداثتك. أفهم أنك لم تفهم مما أقول شيئا لو سمعته في يقظتك، ولكني من الغد سأكون أبًا حقا. سأكون زميلاً وصديقًا، سأتألم عندما تتألم، وسأضحك عندما تضحك، ولن أندفع في توجيه كلمات اللوم والعتاب.

لشد ما يحز في نفسي أنني قد حمَّلتك فوق طاقتك. نظرت إليك كرجل.. إلا أنني وأنا أتأملك الآن منكمشًا في مهدك، أرى أنك ما زلتَ طفلاً.. وبالأمس القريب كنتَ بين ذراعي أمك يستند رأسك الصغير على كتفها”.

(من مختارات الصديق: رأفت صديق صالح. نقلا عن مجلة (هو وهي) يونيو 1987، العدد117ص 9 تصدر من مصر.)

Share via
تابعونا على الفايس بوك