تفسـير آيـة "شهاب مبين"
  • لا يصل الشيطان إلى السماء
  • الشيطان لا يمكن أن ينزل رسالة سامية تأمر الناس بما فيه هلاكه هو
  • الجن والشياطين لا يمكنهم اختطاف الوحي
  • إبليس ليس غافلاً عن بعثة النبي منذ بدايتها
  • الجن إنما يستمعون لحديث النبي بسوء النية
  • يعاقب الجن لإساءتهم للرسل، فيُرمون بالشهب قبل إلقائهم الأخبار على الناس أو بعده
  • الوحي يحرسه جبريل حتى يصل إلى النبي
  • لا يستطيع أحد تبديل وحي الله فهو حاميه
  • الشيطان الرجيم والشيطان المارد
  • يسمح الله للشيطان أن ينشر أكاذيب عن الوحي، لكن ينزل عليه شهاب فيفضح أمره

__

تتـمة:

أولاً: تقول التفاسير بأن الشياطين قادرون على سماع أخبار السماء، ولكن القرآن الكريم يخالف هذا الزعم صراحةً في الآيات التالية:

  1. أم لهم سُلّمٌ يستمعون فيه فليأتِ مستمِعهم بسلطان مبين (الطور:39). فالآية صريحة في إعلانها أن الكفار وأعوانهم غير قادرين حتى على الوصول إلى السماء ناهيك أن يستمعوا منها أخبارها. ولو سلّمنا جدلاً بصعود الجن إلى السماء فسؤالنا هو: ألم يكن بإمكان الكفار أن يعترضوا على النبي لدى نزول هذا الوحي قائلين: أنت تقول، من جهة، إن الجن تصعد إلى السماء، فكيف تقول لنا في الوقت نفسه: أم لهم سُلّمٌ يستمعون فيه ؟

2- وما تَنـزَّلتْ بِهِ الشياطِينُ* وما ينبغِي لهم وما يستطيعون* إنهم عنِ السَّمْعِ لمَعزولون (الشعراء: 211 -213).. أي أنه لا حقيقة لاتهام الكفار بأن الشيطان هو نـزل على محمد بهذا الكلام، وذلك للأسباب التالية: الأول: أنه من المستحيل أن تكون للشيطان علاقة مع شخص طاهر الذيل نزيه السيرة كمحمد. والثاني: أن ما أتى به محمد من تعليم مقدس سامٍ يستحيل أن يُنـزله الشيطان، إذ كيف يمكن للشيطان أن يأمر الناسَ بما فيه هلاكه هو. والثالث: أن ما نـزل على محمد يتضمن علومًا سماويةً، والشيطان غير قادر على أن يسمعها، لأن الله تعالى قد حظر عليه سماعها.

فثبت من هذه الآية أن اختطاف الوحي من قِبل الشيطان يبدأ بعد أن يكون الأنبياء قد نشروه بين الناس. ونظرًا إلى هذا المفهوم فإن «السماء الدنيا» ستعني مجلس النبي، وليس الجو أو الفضاء الذي نراه فوق رؤوسنا.

فكيف يمكن لأحد – بعد قراءة هذه الأدلة القرآنية القوية – أن يتصور أن الشيطان يستطيع سماع أخبار السماء؟

ثانيًا: يزعم كثير من المفسرين أن الشياطين أو الجن كانوا يختطفون هذه الأخبار الغيبية، ولكن هذا الزعم أيضًا باطل على ضوء الآيات القرآنية التالية:

  1. فقُلْ إنما الغيب لله فانتظِروا إني معكم من المنتظرين (يونس: 21).
  2. أم عندهم الغيب فهم يكتبون (الطور:42 والقلم: 48). فكيف يقال- بعد هذه الآيات الصريحة- أن الجن كانوا يختطفون علم الغيب من السماء؟
  3. وقد كفَروا به مِـن قبلُ ويَقذِفون بالغيب مِن مكانٍ بعيد* وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون كما فُعِلَ بأشياعِهم مِن قبلُ إنهم كانوا في شَكٍّ مُرِيبٍ (سبأ: 54 و55).. أي أن هؤلاء في شك مريب، لذا هناك حائل بينهم وبين الغيب، لأنه لا يَنـزِل إلا على قلب يكون أسمى من كل شك وريبة، ويكون على درجة عالية من الإيمان واليقين. إذن فهذه الآية أيضًا تؤكد أنهم ما كانوا يصعدون إلى السماء، بل كانوا يقولون ما يقولون خرصًا وتخمينًا.
  4. وكذلك جعَلْنا لكل نبيٍّ عدوًّا شياطينَ الإنس والجنِّ يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القولِ غُرورًا ولو شاء ربُّك ما فعَلوه فَذَرْهم وما يَفتَرون (الأنعام:113). لقد أكد الله تعالى هنا أيضًا أن أعداء الأنبياء من الجن والإنس ما كانوا يتبادلون أخبار الغيب، وإنما كانوا يتناقلون الكذب والغرور؛ ولذلك نجده لا يقول لرسوله بأنهم يسمعون أخبار السماء، فعليك بالحذر منهم، بل يقول: إنهم يفترون، فدَعْهم وشأنهم، فإن الله تعالى هو الذي سوف يرد على افترائهم.
  5. عالِمُ الغيبِ فلا يُظهِرُ على غيبه أحدًا* إلا مَنِ ارتضَى مِن رسولٍ فإنه يسلُك مِن بين يديه ومِن خَلْفِه رَصَدًا* لِيعلَمَ أنْ قد أبلغوا رِسالاتِ ربِّهم وأحاطَ بما لديهم وأحصَى كلَّ شيءٍ عَدَدًا (الجن: 27-29)

فانظر كيف تبطل هذه الآية مزاعم هؤلاء المفسرين بكل وضوح وجلاء. فالله لا يعلن فيها أنه هو وحده يحتكر علم الغيب فحسب، بل يصرح كذلك أنه لا يُطلع على غيبه إلا رسلَه الذين يختارهم هو بنفسه وليس الناسُ. كما أنه تعالى لا يزال يحرس هذا الغيب إلى أن يصل إلى رسله دون أي تدخل من أحد، بل لا يبرح الله تعالى يحمي رسالته حتى بعد وصولها إليهم إلى أن يبلِّغوها الناسَ. وكأن الشياطين لا يعلمون من أمر الوحي شيئًا قبل أن يوصله الرسل إلى البشر. أما بعد انتشاره بين القوم فكما هو ظاهر من آيات أخرى فإن الشياطين تبدأ في الكيد والمكر ضد الوحي، لكن من دون أن يفلحوا في مكائدهم الخبيثة. فثبت من هذه الآية أن اختطاف الوحي من قِبل الشيطان يبدأ بعد أن يكون الأنبياء قد نشروه بين الناس. ونظرًا إلى هذا المفهوم فإن “السماء الدنيا” ستعني مجلس النبي، وليس الجو أو الفضاء الذي نراه فوق رؤوسنا.

  1. ذكرتُ حتى الآن الآيات التي فيها دلالة عمومية، وسأذكر الآن آية تتحدث عن الجن خاصة، وتبين تمامًا أنهم ما اطّلعوا على الغيب قط، قليلاً أو كثيراً، لا في زمن النبي ولا بعده، وهذه الآية هي قوله تعالى: فلمّا قضَينا عليه الموتَ ما دَلَّهم على موتِه إلا دابّةُ الأرضِ تأكُلُ مِنْسَأَتَه فلمّا خَرَّ تَبيَّنتِ الجنُّ أنْ لو كانوا يعلَمون الغيبَ ما لبثوا في العذابِ المُهينِ (سبأ:15).

تتحدث هذه الآية عن موت سليمان ، وتدل صراحة على أن الجن لم يعلموا الغيب حتى قبل زمن الرسول أيضًا. لو كان الجن يستمعون أخبار الغيب من السماء فلماذا لم يطلعوا على وفاة سليمان؟ إن سليمان نبي، والظاهر أن خبر وفاته لا بد أن يكون قد نزل بالوحي مع ملائكة خصوصيين لأن مبعث نبي أو وفاته حادث بالغ الأهمية.

ثالثًا: زعم المفسرون أن الجن بل إبليس إنما عَلِمَ بمبعث النبي بعد ظاهرة رمي الشهب حين وجد أعوانُه الرسولَ قائمًا يصلي بالناس. ولكن الثابت تاريخيًّا أن الرسول بدأ الصلاة بالجماعة علنًا بعد مبعثه بعدة سنوات (السيرة النبوية لابن هشام: إسلام عمر). ولو سلّمنا برأي المفسرين لكان معناه أن إبليس لم يعلم بمبعث النبي إلا بعد مضي عدة سنوات، وهو أمر يخالف الواقع وصريح القرآن؛ ذلك أنه بمجرد أن يعلن النبي دعواه ينقلب بيت الشيطان مأتمًا، وتبدأ الشياطين، سواء شياطين الإنس أو شياطين الجن، في الكيد والمكر بجماعة النبي. فإذا كان إبليس وغيره من الشياطين غافلين عن بعثة الرسول طيلة هذه الفترة فمن ذا الذي كان وراء موجة المعارضة والاضطهاد في مكة. فليفسروا كلمة إبليس بأي معنى يشاءون، إلا أن الزعم بأنه ظل جاهلاً بمبعث النبي طيلة هذه الفترة لزعمٌ مناف للعقل والقرآن والسنة الإلهية؛ إذ يصرح الله في القرآن الكريم قائلا وكذلك جعَلْنا لِكل نبيٍّ عدوًّا شياطينَ الإنسِ والجنِّ يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القولِ غُرورًا (الأنعام: 113). وهذا يعني أن الله تعالى نفسه يخبر الشياطين من الجن والإنس بمبعث النبي، وذلك بطريق يراه هو ملائمًا ومناسبًا، فيناصبون النبيَّ العداء بمجرد أن يعلن دعواه. فكيف يمكن إذًا أن يبقى إبليس وأعوانه غافلين عن مبعث الرسول طوال هذه الفترة.

علمًا أنني قد استخدمتُ هنا مسميات الجن وإبليس والشيطان بمعناها المتداول والمتعارف عليه عمومًا، وذلك تسهيلاً للقارئ وإلزامًا للخصم؛ فلا ينخدعن أحد بذلك فيظن أنني أقبل تلك المعاني مائة بالمائة؛ كلا، بل سوف أبين موقفي الخاص بصددها في مكانها.

هذا، وبقي سؤال يجب الرد عليه وهو: إذا كان الجن غير قادرين على سرقة علم الغيب من السماء أو استماع أخبارها فما هو المراد مما ذُكر في الحديث بأنهم يصِلون إلى السماء صاعدين بعضهم على بعض يختطفون أخبارها؟

والجواب أن المراد من سرقة الجن علمَ الغيب هو استماعهم لحديث الأنبياء بسوء النية. وأما صعود بعضهم فوق بعض فيعني أن أئمة الكفر منهم لا يحضرون بأنفسهم مجالس الأنبياء لتـزول شكوكهم بسماع موقف الأنبياء من أفواههم مباشرة، وإنما يطلعون على تعاليمهم دائمًا بوسائط عديدة أخرى ظانين أن هذا هو الطريق الأكثر دهاءً وذكاءً. وبما أن نيتهم غير سليمة، وأنهم يعارضون بناءً على ما يسمعونه من هذا وذاك، فلذلك يختلط الكذب في حديثهم عن الرسل كثيرًا بحيث لو يصدُقون فيه مرة فإنهم يكذبون فيه مائة مرة.

وأما ما ورد في الروايات أن الجن يُرمَون بالشهب أحيانًا قبل إلقائهم الأخبار إلى الناس، وأحيانًا بعد الإلقاء.. فمعناه أن بعض أعداء الحق يعاقَبون فورًا على إساءتهم للرسل، وبعضهم يُمهَلون طويلاً لحكمة يعلمها الله تعالى، فلا يبرحون في إثارة القوم ضد الرسل إلى أن يفاجئهم “الشهابُ” في يوم من الأيام.

وأود أن أنقل هنا اثنتين من الروايات حتى يستحضر القارئ نص الحديث. تقول الرواية الأولى: “عن أبي هريرة يبلغ به النبيَّ قال: إذا قضى الله الأمرَ في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها – خُضْعانًا لقوله – كالسلسلة على صفوانٍ. قال علي وقال غيره: صفوان يَنفُذهم ذلك. فإذا فزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقَّ وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع. ومسترقو السمع هكذا: واحد فوق آخر، ووصفَ سفيان بيده وفرّج بين أصابع يده اليمنى نَصَبَها بعضها فوق بعض. فربما أدرك الشهابُ المستمعَ قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي بها الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى الأرض. وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض فتُلقى على فم الساحر، فيكذب معها مائة كذبة فيصدَّق، فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا، فوجدناه حقًّا للكلمة التي سُمعت من السماء”. (البخاري: التفسير، سورة الحِجر)

والرواية الثانية هي: “قال ابن أبي حاتم.. عن النواس بن سمعان قال قال رسول الله : إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السماواتِ منه رجفةٌ أو قال رعدةٌ شديدة من خوف الله تعالى. فإذا سمع بذلك أهلُ السماوات صُعقوا وخرّوا لله سجّدًا. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام. فيكلمه الله من وحيه بما أراد. فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة كلها من سماء إلى سماء يسأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول : قال الحقَّ وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض”. (تفسير ابن كثير، سورة الحجر)

لقد أكدت هذه الرواية أن الوحي يصل تحت حراسة جبريل إلى حيث يريد الله وصوله إليه.. أي إلى الرسول. إذًا فالراويات التي تقول بأن الجن يختطفون من الوحي لا تعني إلا أنهم يختطفون منه بعد وصوله إلى الرسول وبعد إعلانه عما نزل عليه بين الناس، فينشر الجنُّ بين أعوانهم ما اختطفوه من الوحي بعد خلطهم إياه بكثير من الأباطيل التي افترَوها من عند أنفسهم. ومما لا شك فيه أن عامة الناس يستغربون دائمًا مما يعلنه النبي، وأنهم حين يسمعون من أتباع النبي أنفسهم ما نقل إليهم شياطينُ الناس من الوحي على صورته الصحيحة فإنهم أي عامة الناس يصدّقون بسبب سذاجتهم كل ما يعزوه هؤلاء الشياطين إلى النبي من رطب ويابس، فيقولون – أي عامةُ الناس – فيما بينهم مخدوعين بمكر هؤلاء الشياطين: ألم تروا أن فلانًا من الصالحين الكبار كان قال عن هذا المدعي كذا وكذا وها قد ثبت صدقه، فها إن أتباعه أنفسهم يؤكدونه. وهكذا يصدّق هؤلاء السذج كلَّ ما يبلغهم من قبل كبرائهم الكاذبين ضد الرسول من أباطيل؛ ظنًّا منهم أن أتباعه يُخفون الكثير من أمره، وأن الصحيح هو ما بلغهم عن طريق زعمائهم.

وتحدث هذه الظاهرة الغريبة في عصر كل نبي، فيقع الآلاف فريسةً لها؛ لأنهم لا يتكبدون بأنفسهم عناء البحث عن الحق، وإنما يعتمدون على بيانات زعمائهم الدينيين اعتمادًا كليًّا وأعمى، وبالتالي يظلون محرومين من قبول الحق.

ثمة أمور أخرى أريد ذكرها هنا بصدد ما شاع بين العوام من معان خاطئة حول هذه الآيات، أو ذكَرها بعض المفسرين، خلافًا لمراد القرآن الكريم، بسبب خطئهم في فهم الأحاديث الصحيحة أو لاعتمادهم على الروايات الضعيفة.

لقد أخطأ المفسرون الذين ظنوا أن ما يسقط من السماء في صورة ضوء ساطع هو نجم. كلا، بل هو شهاب. إن القرآن الكريم لم يقل أبدًا بأن النجوم الحقيقية هي التي تسقط، كما أن هذا ليس هو الأمر الواقع، ولم يقل به المفسرون الموثوق بهم، حتى إن الكفار أنفسهم كانوا يدركون أن علامة بعث النبي هي سقوط الشهب لا سقوط النجوم.. كما تؤكد على ذلك الروايةُ التي تتحدث عن أهل الطائف والتي سجلناها قبل بضع صفحات.

هذا، وإن الله تعالى يؤكد في القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا أنه يقوم بحماية السماء، فكيف، يا تُرى، يستطيع الشيطان أن يختطف شيئًا من السماء المحمية بيد الله .

يقول البعض أن الشياطين تختطف بعض الوحي حينما تأتي به الملائكة إلى السماء الدنيا! وهنا نسأل أصحاب هذا الرأي: أيُّ الفريقين أسبق من الآخر في إنزال الغيب على أوليائه.. الملائكة أم الشياطين؟ فإذا كانت الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الرسول فما الداعي أن يختطفه الشياطين ما دام الناس قد سمعوا خبره من فم النبي نفسه؟ ولو قالوا أن الشياطين هم الذين يسبقون الملائكة في نشر خبر السماء بين أوليائهم فهذا يعرّض النظامَ الإلهي كله لسهام الطعن والارتياب! إذ لو كان هؤلاء المَرَدة الأشرار يتمكنون من اختطاف الوحي قبل وصوله إلى البشر – رغم الحماية الإلهية الصارمة – فكيف يمكن أن يثق أحد بوحي الأنبياء؟ إذ قد يقول قائل: ربما يضيف هؤلاء الشياطين إلى الوحي شيئًا من عندهم قبل أن ينـزل على الأنبياء مثلما يتمكنون من اختطافه وهو في السماء؟! وبالفعل يوجد بين المفسرين من يزعم أن الشيطان ألقى – والعياذ بالله- بعض الكلمات من عنده على لسان الرسول أثناء نزول الوحي عليه (ابن كثير: سورة الحج). والحق أن الشيطان لو كان قادرًا على اختطاف بعض وحي الله رغم الحماية الإلهية – معاذ الله – لكان قادرًا أيضًا على إهلاك النبي بالرغم من العصمة الإلهية. فكما أن هذا غير وارد كذلك اختطاف الشيطان للوحي وهو ينـزل من السماء أمر محال.

وهناك من يحتج بقول الله تعالى إلا مَنِ استرَق السمعَ وقولِه إلا مَن خَطِفَ الخَطْفةَ .. ويقول بأنه تعالى نفسه قد أعلن هنا أن الشيطان قادر على سماع غيب أو اختطاف خبر من الوحي.

والجواب أن الاستثناء المذكور هنا بـ “إلا” متعلق بفعل الشيطان لا بفعل الله تعالى. لو أنه قال: إننا نحفظ وحينا إلا قليلا مما نسمح بأخذه للشيطان لجاز هذا الاستدلال، لأنه تعالى يمنحه هذا عن رضى ورغبة، ولكن الله تعالى يقول: إننا نحفظ كلامنا، ولكن الشيطان يختطف منه شيئًا. فإذًا من المحال الأخذُ بالمعنى الظاهري الذي يتمسك به هؤلاء لأنه منافٍ لعظمة النبي والوحي، بل يشكل دليلاً – والعياذ بالله – على عجزه بدلاً من أن يؤكد قدرته . ثم لو كان هذا المعنى الظاهري صحيحًا للزم تساقُط الشهب كلما قام أحد من المنجمين بعمل حسابه عن النجوم. ولكن الواقع يخالف ذلك، لأن هناك آلافًا من المنجمين والكهّان وعلماء الرمل والجفر والفلك والجو الذين يحاولون ليلَ نهارَ معرفةَ أخبار الغيب، فإذا كانت الشياطين هي التي تزوّد هؤلاء بالأخبار التي تختطفها من وحي السماء.. فيجب أن يستمر سقوطُ الشهب كالمطر ليل نهار دونما انقطاع!

ولو قيل بأن الشهب إنما تسقط لدى سماع الشياطين أخبارَ السماء، لكان معناه أن سماعها واختطافها للأخبار عند مبعث نبي يكون أكثرَ منه في أي وقت آخر، لأنه زمن يكثر فيه سقوط الشهب عادة؛ مع أن مبعث نبي من الأنبياء هو فترة تكون الحماية الإلهية فيها على أشدها، ويجب أن تكون كذلك.

ثم ما هو المقياس الذي نعرف به أنه فيما يتعلق بزمن نبي فإن المنجمين يتنبؤون عن أحداث المستقبل بمساعدة الشياطين، وأما في الأوقات الأخرى فيتنبؤون بناءً على حساباتهم فحسب، إذ لا بد من التمييز بين هذين النوعين من الأخبار. فإن قيل أن أنباء المنجمين في زمن نبي تكون أكثر تحققًا منه في أي فترة أخرى، فهذا باطل بالبداهة؛ وإن قيل بأنهم يتنبؤون بمساعدة الشياطين دومًا، فهذا أمر سوف يرفضه ويعتبره خلافًا للعقل كلُّ مَن له إلمام بعلم النجوم. لا شك أن علم النجوم والرمل وما شاكلهما من العلوم لغوٌ لا فائدة فيها، ولكنها قائمة على أسس علمية، ولا علاقة لها بالجن وغيره بتاتًا.

نعم، هناك فئة من أصحاب هذه العلوم تسمّى “الأرواحية” أو “الروحانيين”، الذين يدّعون بمناجاة الأرواح وتحضيرها. والواقع أن هؤلاء أيضًا فئتان: فئة يقومون بخداع الناس وتسفيههم، وعددهم كبير؛ وفئة أخرى هم مخدوعون بأنفسهم حيث إنهم – بسبب جهلهم بدقائق العقل الإنساني – اعتبروا بعض القدرات الإنسانية الروحانية عملاً وتأثيرًا من قبل أرواح العالم الأخروي. ومهما يكن من أمر فإن الآية لا تتحدث عن هذه الفئة أيضًا، لأننا لا نرى سقوط الشهب لدى قيامهم بتحضير الأرواح.

وخلاصة القول إن هذه الآيات تتحدث عن الحماية الإلهية للوحي حيث يؤكد الله فيها أنه ليس بوسع كائن أن يطّلع على شيء من الوحي قبل أن ينـزله الله على رسوله، أما بعد نزوله عليه وإعلانه عنه فإن شياطين الإنس والجن يختطفون الوحي بشتى الطرق، ليخلطوا فيه الكذب من عند أنفسهم وليَعرضوه على القوم بهذا الشكل المشوه الممسوخ، إثارةً لمشاعر القوم ضد رسولهم. والواضح أن عملية خلط الوحي بالكذب إنما تنفع هؤلاء الماكرين في حالة واحدة فقط وهي بعد أن يكون الوحي قد نزل، وإلا فلو كان الجن بالفعل يختطفون أخبار الغيب من السماء فما الداعي أن يخلطوها بالكذب؟ هل هم مجانين حتى يخلطوا هذه الأخبار بالكذب فيفضحوا أنفسهم بأنفسهم حين ينكشف زيفُ ما لا يتحقق من هذه الأخبار المستقبلية. أما قيام أعداء الحق بخلط وحي الأنبياء بالكذب والباطل فهي ظاهرة مستمرة تشاهَد على الدوام، حيث يأخذون عبارة من الوحي ويفسرونها تفسيرًا مشوَّهًا، أو يعرضون على الناس فقرة من الوحي مبتورة عن سياقها، ليثيروا القوم ضد الأنبياء. لم يزل هذا دأبَ أعداء الرسل في كل زمان، وهذا هو الخطف الذي أجازته المشيئة الإلهية للشياطين، بل وقد أتاحت لهم الفرصة لذلك حيث يخبرنا الله بكلمات لا لبس فيها ولا غموض: وكذلكَ جَعَلْنا لِكل نبيٍّ عدوًّا شياطينَ الإنسِ والجِنِّ يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القولِ غُرورًا (الأنعام: 113)، وقال أيضًا وكذلك جَعَلْنا في كلِّ قريةٍ أكابِرَ مجرميها لِيمكُروا فيها وما يمكُرون إلا بأنفسهم وما يشعُرون (الأنعام: 124)

المراد من سرقة الجن علمَ الغيب هو استماعهم لحديث الأنبياء بسوء النية. وأما صعود بعضهم فوق بعض فيعني أن أئمة الكفر منهم لا يحضرون بأنفسهم مجالس الأنبياء لتـزول شكوكهم بسماع موقف الأنبياء من أفواههم مباشرة، وإنما يطلعون على تعاليمهم دائمًا بوسائط عديدة أخرى ظانين أن هذا هو الطريق الأكثر دهاءً وذكاءً.

إذن، فكما أن الله تعالى يقوم بحماية وحيه بحيث لا يستطيع أحد من الأعداء تبديل وحيه ، سواء كان هذا العدو ظاهرًا أو خفيًّا، كذلك فإن الله يسمح – لحكمة ما- لشياطين الناس بأن ينشروا بين القوم معانيَ محرّفة لوحيه، أو أن يثيروا مشاعرهم ضد نبيهم بنشر الأكاذيب حول ما نزل عليه من الوحي؛ ولكن بعد أن يقوم هؤلاء الماكرون بدعايتهم المزوّرة ضد وحي الأنبياء وإثارة القوم خلافهم بشتى الافتراءات.. ينـزل عليهم شهاب من السماء، فيُفضَحون على يد الأنبياء.

وهذا الاستثناء – كما ترى – لا يقدح في عظمة الله تعالى لأنه هو الذي قد أجازه، كما لا يضر هذا بالدين شيئًا، وإنما يبقى الدين مصونًا محفوظًا كما كان، لأن هذه الأباطيل تنتشر بين الأعداء فقط، ليفرحوا بها فرحةً باطلةً عابرةً.

علمًا أنه يتضح من القرآن الكريم أن أصحاب هذه الأنشطة المعادية نوعان: أولهما العدو من الداخل أي المنافقون، وثانيهما العدو من الخارج أي المعارضون. ذلك أن الله تعالى قد عزا هذه العمليات إلى “شيطان رجيم” مرةً (سورة الحِجر والمُلك)، وإلى “شيطان مارد” مرة أخرى (سورة الصافات). والرجيم في اللغة هو المطرود المُبعَد، وأما المارد فهو الباغي المتمرد. إذًا فسورتا الحِجر والمُلك تشيران إلى أعداء الدين من الكفار.. أي الذين لم يوفَّقوا للاقتراب من الدين ولو ظاهرًا، بل أُبعدوا عنه، والله تعالى يَعِدُ بحماية القرآن من هجماتهم. وأما سورة الصافات فتنبئ أن من أهل الإسلام من سيَعرضون على الناس مفاهيم القرآن بصورة مشوَّهة، وهؤلاء هم مَرَدة الشياطين.. أي أنهم – رغم انتمائهم إلى الإسلام في الظاهر- سيكونون في الواقع من المارقين المتمردين عليه، قصدًا منهم أو خطأً، ولكن الله تعالى سوف يحفظ وحيه من شرورهم أيضًا. وهذا نبأٌ يتعلق بالمستقبل، حيث أخبر الله فيه أنه كلما تقاصرت عقول المسلمين عن فهم معارف القرآن، وشوّه بعض منهم المفاهيم القرآنية الأصيلة، سيبعث الله من عنده من يحمي القرآن من شرورهم وفتنهم. فتبارك الله أحسن الخالقين!

وتحدث هذه الظاهرة الغريبة في عصر كل نبي، فيقع الآلاف فريسةً لها؛ لأنهم لا يتكبدون بأنفسهم عناء البحث عن الحق، وإنما يعتمدون على بيانات زعمائهم الدينيين اعتمادًا كليًّا وأعمى، وبالتالي يظلون محرومين من قبول الحق.

وثمة أمر آخر جدير بالذكر وهو أن هذه الآيات قد تنطبق أيضًا على المنجمين وعلى من يطلقون على أنفسهم “الروحانيين” أو “الأرواحيين”، لأن الأنبياء يقضون على أفكار هؤلاء أيضًا؛ ولكن هذا الانطباق انطباق ضمني جزئي. ذلك أنه فيما يتعلق بتأثيرات النجوم أو ما يوجد في علم الهيئة والفلك من حقائق فإن الإسلام لا ينكر ذلك أبدًا، بل لقد أمَرَنا القرآن الكريم نفسه بالتفكر في الكون والتنقيب عن أسراره، لذا فمن المستحيل أن يؤكد القرآن على وجود حِكمٍ في علم الهيئة والفلك ويحثّنا على السعي لمعرفتها من جهة، ومن جهة أخرى يرمي بالشهب من يتعلم هذه الحِكم والمعارف. إن ما ينهى عنه الإسلام إنما هو الوهم والشرك. فنسبة هذه العلوم إلى الوهم والتخمين غير سليم، أما أن نهتم بها كاهتمامنا بالدين فهذا أيضًا غير صحيح لأن هذا يصبح إشراكًا بالله تعالى. إذ لا شك أن لحركات النجوم تأثيرات يقينية، ولكنها واحد من النواميس الكونية الكثيرة الأخرى. فهناك آلاف الظواهر الطبيعية الأخرى التي تؤثر في الكون باستمرار وفي وقت واحد؛ والحق أنه لا شيء في الوجود يملك التأثير الكامل في ذاته بحيث لا يحتاج إلى سند خارجي إلا الله وحده . فمن ظن أن أي شيء مادي – دعك عن النجوم – يملك تأثيرًا ذاتيًّا قطعيًّا يقينيًّا فهو مشرك، ولذلك قال النبي : “من قال: مُطِرنا بنَوْءٍ كذا وكذا فهو كافر” (البخاري: الأذان). والنوء هو النجم. ذلك أنهم قد أضافوا إلى تأثيرات النجوم الحقيقية كثيرًا من الأوهام، ثم إن ما ثبت منها على أسس علمية فهو أيضًا سبب من ملايين الأسباب الأخرى التي خلقها الله تعالى ويحافظ عليها. فالأولى بالإنسان أن يتوكل عليه هو .

فالمراد من رجم الشياطين بالشهب – بالنسبة للمنجمين والأرواحيين وغيرهم- هو أن هؤلاء يقومون بدعاوى عريضة في زمن ليس فيه نبي، ولكنهم عند ظهور نبي يتلقون ضربة قاضية، إذ يفضحهم النبي أمام الدنيا بكشف خُدعهم، ويعرف الناس الفرق بين معرفة الغيب الصافي وبين الخرص والتخمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك