بركات التقوى وعلامات المتقين

بركات التقوى وعلامات المتقين

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • كيف أن التقوى جوهر كل عمل
  • وما فلسفة تقديم القرابين في الإسلام
  • ثم ما العلاقة المتبادلة بين الروح والجسد
  • وإذا كان المسلمون موعودون بنصر الله تعالى، فما السر وراء تسلُّط الكافرين على المسلمين عبر التاريخ
  • وأخيرا.. ما علامات المتقين كما بينها المسيح الموعود عليه السلام

_____

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (1)

اليوم عيد القربان ونسميه عيد الأضحى أيضًا، في هذا العيد يذبح المسلمون الأضاحي من المعز والضأن والبقر والإبل بكل شوق ورغبة، ففي العالم الإسلامي تُنحر مئات الآلاف من رؤوس الماشية كل عام، كما تُنحر مئات الآلاف منها خلال أيام الحج في مكة وحدها. منذ سنتين لم يكن هناك سماحٌ عام للحجاج بسبب كوفيد، وإنما سمح لعدد محدود من الحجاج، لذا بسبب العدد المحدود من الحجاج تُنحر القرابين أيضًا بعدد محدود في الحج. أما في الأوضاع العامة فتُنحر في مكة وحدها مئات الآلاف من رؤوس الماشية التي يقال أن الحكومة تُرسلها إلى بلاد فقيرة. ومن الملاحظ أيضًا أن قدرًا كبيرًا من تلك اللحوم يتعذر حفظه، فيتلف ويضيع سُدًى، فهذا أيضًا احتمال وارد.

اضطهاد الأحمديين دومًا، فكيف بأيام العيد؟!

نرى عمومًا في العالم الإسلامي نحر عشرات الملايين من الحيوانات في أيام الحج، كما نلاحظ التسابق في شراء الحيوانات السمينة والغالية بدافع الرياء، لكي يتباهى أصحابها بأنهم قدَّموا أضحية كبيرة مما يكون مدعاة للتفاخر. أما سكان باكستان فراحوا يتفاخرون مؤخرًا بأنهم قطعوا على الأحمديين سبيل نحر الأضاحي في عيد الأضحى، إذ يزعم مقاولو الدين هؤلاء أن الأحمديين ليسوا مسلمين، فلا يُسمح لهم بالنحر خلال أيٍّ من أيام العيد الثلاثة، والتي يُعد النحر فيها ممارسة مقصورة على المسلمين حصرًا، ومن ثم لا يسمح لأي أحمدي بذبح أي حيوان! ومما يثير العجب أن المسؤولين الحكوميين أو المؤسسات المنفذة للقانون يمنعون الأحمديين من التضحية لأقوال هؤلاء العلماء المزعومين المغرضين. على كل حال هناك في بعض المناطق مسؤولون نبلاء يراعون الأحمديين لدرجة يقولون لهم أن يذبحوا الأضاحي خفية، ودون الجهر، وإلا فإن مشاعر العلماء تتأذى وتنشأ الفتنة، فهذا ما قد آل إليه مآل البلد. حيث تصدر المساعي لتنفيذ دين المشايخ المزعومين باسم الإسلام، والحكومة تدعمهم أو هي مضطرة إلى الصمت. لكن ذلك لا يمت إلى تعليم الإسلام بصلة. باختصار إن تاريخ الجماعة الأحمدية  يخبرنا أن من دأب معارضي الأحمدية أنهم يتخذون كل طريقة ممكنة لإيذاء الأحمديين، وهذه ظاهرة شائعة بينهم وآخذة في الازدياد، والسر في ذلك دومًا أنهم قَفْرٌ من التقوى. فهم بممارسة الظلم باسم الله ورسوله الكريم يحسبون أنهم يُسدون للإسلام خدمة كبيرة، ويحرزون أسمى معايير الصلاح والبر. على كل حال سوف تتضح معايير البر ويميز الله التقوى يومًا والمتقين، ومن هو على الصواب عند الله، ومن هو المخطئ. أما نحن فننيب إلى الله ونستعين به وحده، وإذا بقينا منيبين إليه سالكين سبلَ التقوى، فمن المؤكد أن نصر الله سيحالفنا، إن شاء الله. لقد قال الله في الآية التي تلوتها لن يقبل منكم نحر الحيوانات السمينة والغالية إن لم يكن فيكم التقوى. فليس به حاجة إلى لحومها ودمائها، فهو غني عن هذه الحوائج. إذن لا داعي للحزن على أننا نُهينا عن نحر الأضاحي أو أن المشايخ أو مسؤولي الحكومة صادروا ماشيتنا، فقد صادروا في بعض الأماكن لحوم الذبائح، قائلين لمن تسنى له النحر وعلموا بذلك أنه لا يحلّ له بل حرام عليه، ومن ثم صادروا الذبيحة، ولا أعرف كيف يكون لحم تلك الذبيحة التي نحرها أحمدي حلالًا لهم! باختصار ، إن الله يقول أن تلك الأضحية لا تُعدُّ مقبولة عنده إلا إذا كنا نوينا نحرها سالكين سبل التقوى، أما إذا كان ذلك القربان عاريًا من التقوى، فهو مجرد ذبح عابث.

التقوى جوهر كل عمل

من واجبنا أن نضع التقوى في الحسبان عند القيام بأي عمل. من سعادة حظنا أن الله قد وفقنا للإيمان بسيدنا المسيح الموعود والمهدي المعهود عليه الصلاة والسلام الذي علَّمنا حقيقة التقوى في ضوء القرآن الكريم والسنة. فلا داعي لأن نحزن أو نقلق على أنه لم يتسن لنا نحر الأضاحي، إذا ظللنا نعمل بحسب المنهاج الذي علَّمَناه إمام الزمان، وثبتْنا على التقوى، فإن نياتنا الصادقة في نحر الأضاحي ستُتقبَّل عند الله إن شاء الله. كما ورد في رواية أن الله تقبَّل حجَّ من ثبت على التقوى لنيته الصادقة فقط، الذي تبرع بنفقات الحج لسد احتياج ذي الحاجة، ولم يتقبل حجَّ الذين قاموا بمناسك الحج عمليًّا. إذن ثمة حاجة إلى استيعاب هذه الحقيقة، فالأصل هو التقوى، ولا قيمة للأعمال بدون التقوى.

فلسفة تقديم القرابين في الإسلام

الآن أود أن أخبركم أي نوع من التقوى كان سيدنا المسيح الموعود يريد خلقه في أتباعه، فإذا خلقناها في نفوسنا فنحن سعداء، وإلا إذا كنا قد ذبحنا الأضحية، ولم تكن تلك الأضحية مقترنة بالتقوى ولم تكن وراءها فكرة أننا نضحي ابتغاء مرضاة الله فقط، فلا جدوى منها. فقد ذُكرت التقوى في القرآن في آيات كثيرة جدًّا. وشرح لنا سيدنا المسيح الموعود في عدة مناسبات حقيقة التقوى من وجهات نظر شتى، واضعًا في الحسبان أننا إذا استوعبنا ذلك فسوف نُفلح. فقد تحدث سيدنا المسيح الموعود موضحًا قول الله تعالى:

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ

فقال:

لقد وضع الله تعالى في الشريعة الإسلامية نماذج كثيرة من الأحكام الضرورية، وأُمر الإنسان أن يضحي بنفسه في سبيل الله بكل قواه وبكل وجوده. فقد جُعلت القرابين الظاهرية نموذجا لتلك الحالة، ولكن الغرض الحقيقي هو هذه التضحية كما يقول الله تعالى:

لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ .

أي اتقوا الله وكأنكم تكادون تموتون في سبيله. وكما تذبحون الأضاحي بأيديكم كذلك اذبحوا نفوسكم أيضًا في سبيل الله. فإذا كانت التقوى أدنى من هذه الدرجة كانت ناقصة.

فهذا هو المعيار، فالتقوى الحقيقية أن يلفتنا كل قربان إلى أن علينا الاستجابة الكاملة لأوامر الله .

ثم قال سيدنا المسيح الموعود : إن لم يصحب الصلاةَ والصوم الظاهرين الإخلاصُ والصدقُ فلا خير فيهما. فالرهبان الهندوس والمتنسكون أيضًا يقومون على حد زعمهم بمجاهدات كبيرة. يلاحَظ في كثير من الأحيان أن بعضهم يتحملون مشاق كثيرة ومصائب شديدة حتى تضمر سواعدهم، (بحيث يثبِّتون أيديهم في وضع ما أياما حتى ينقطع دوران الدم وتجفّ) ولكن هذه المشاق لا تهب لهم نورًا ولا ينالون سكينة أو اطمئنانًا بل تسوء حالهم الباطنية. يقومون بمجاهدات جسدية لا علاقة لها بالباطن ولا تؤثر على روحانيتهم، لذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم:

لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى .

الحق أن الله تعالى لا يحب القشر بل ينظر إلى اللب.

العلاقة المتبادلة بين الروح والجسد

(ما هو الأصل وما هي روحه وما هي أمنيات قلبك، الأصل هو ما يحبه الله وإلا فالأعمال الظاهرية ليست بشيء، لقد طرح المسيح الموعود هنا سؤالا فقال:

في هذا المقام يُطرح سؤال بأنه إذا كان اللحم والدم لا يصله فما الحاجة للتضحيات أصلا؟ كذلك إذا كان الصوم والصلاة تتعلق بالروح فما الحاجة إلى الحركات الظاهرية؟ وجوابه بأنه صحيح تماما أن الذين يتخلون عن استخدام الجسم لا تقبلهم الروح أيضا ولا يتولد فيها الخشوع والعبودية التي هي الهدف الحقيقي. والذين يستخدمون الجسد فقط ولا يُشركونه الروحَ هم أيضا مخطئون خطأ كبيرا. والرهبان والمتنسكون يدخلون في القسم نفسه. (يقومون بالمجاهدات الجسدية فقط ولا علاقة لهم بالروح) لقد أقام الله تعالى علاقة بين الروح والجسد. والجسد يؤثر في الروح

… باختصار، إن السلسلة الروحانية والمادية تمشيان جنبا إلى جنب. عندما يتولد الخشوع في الروح يتولد في الجسم أيضًا، لذا عندما يتولد التواضع والخضوع في الروح تظهر آثاره في الجسم تلقائيًّا، كذلك عندما يقع تأثير خاص في الجسد تتأثر به الروح أيضًا(2).

فإذا فعلتم شيئًا ظاهريًا واضعين في الحسبان أنه لوجه الله لأثّر الظاهر في الروح.

السر وراء تسلُّط الكافرين على المسلمين عبر التاريخ

نبَّه المسيح الموعود إلى أن الجماعة بحاجة إلى التقوى بوجه خاص فقال:

إن جماعتنا بأمسّ الحاجة إلى التقوى بوجه خاص، فإنهم قد بايعوا وانتموا إلى شخص يدّعي أنه مأمور من الله تعالى، ذلك لينجوا من الآفات كلها، سواء أكانوا مصابين بأنواع الأضغان والأحقاد وصنوف الشرك، أو كانوا متكالبين على الدنيا لأقصى حد.

تعلمون أن المرء إذا مرض مرضًا خطيرًا أو بسيطًا، فلا يتماثل للشفاء دون العلاج وتكبّد العناء للعلاج. فلو ظهرت على وجهه بقعة سوداء لأصابه قلق شديد مخافة أن تكبر وتسوّد الوجه كله. كذلك فإن المعصية تترك بقعة سوداء على قلب الإنسان، (ولغسل هذه البقعة ثمة حاجة إلى التقوى والاستغفار ولا بد من التوجه إلى ذلك. قال : “وإن الصغائر تتحول إلى الكبائر نتيجة التساهل والاستهانة. والصغائر هي تلك البقعة السوداء التي تكبر حتى تسوّد الوجه كله. (إذا لم تنتبهوا إلى صغائر الأمور لصارت كبائر شيئًا فشيئًا)”

إن الله رحيم وكريم، كما أنه قهار ومنتقم. إنه حين يرى جماعة تدّعي ادعاءات فارغة (يدّعون أنهم قد فعلوا كذا وكذا أو سيفعلون كذا وكذا) بحيث لا تتفق أعمالها مع دعواها، فيثور غيظه وغضبه، (ولا تفيدهم رحمة الله ولا كرمه ويثور غضبه لأنهم يدعون شيئا ويفعلون شيئا آخر) فيسلط عليها الكفار عقابًا. (قال 🙂 إن المطلعين على التاريخ يعلمون أن المسلمين قُتلوا بأيدي الكفار مرارا، فمثلاً قام جنغيز خان وهولاكو خان بتدميرهم. كان الله تعالى قد وعد المسلمين بالنصرة والحماية، ومع ذلك صاروا مغلوبين. (إن الله تعالى يقول لو جاهدتم في سبيلي فسوف أنصركم ولكن هنا حدث العكس ولقي المسلمون هزائم، قال : مع أن الله وعد المسلمين بالنصرة والحماية فقد صاروا مغلوبين) وقد وقعت مثل هذه الأحداث مرارًا، وليس ذلك إلا لأن الله حين يرى أن هذه الجماعة تشهد بأن «لا إله إلا الله»، ولكن قلوبها معرضة عنه، ومتكالبة تمامًا على الدنيا عمليًّا، فيحلّ عليهم قهره وغضبه(3). إنه لمقام خوف عظيم، فما دمنا آمنا بالمسيح الموعود وقطعنا عهدا أننا سنؤثر الدين على الدنيا فلا بد أن نفحص قلوبنا كل حين ونرى ما إذا كنا نسعى بصدق القلب للعمل بأحكام الله تعالى أم لا؟

علامات المتقين كما بينها المسيح الموعود

ثم قال المسيح الموعود موضحا علامات المتقي:

… فعلينا أن نفحص دائما مدى تقدّمنا في الطهارة والتقوى، والمعيار لاختبار ذلك هو القرآن الكريم. (أي أن نرى ماذا أمر به القرآن الكريم، ولقد تضمن القرآن أوامر كثيرة ينبغي وضعها نصب أعيننا ونرى إلى أي مدى نعمل بها، قال ) لقد بيَّن الله تعالى أن من علامات المتقين أن الله تعالى ينجيهم من مكاره الدنيا ويتكفل أمورهم، فقال:

وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (4) ،

أي أن الذي يتقي الله يجعل الله له مخرجًا من كل مصيبة، ويهيئ له أسباب الرزق من حيث لا يحتسب. أي أن من علامات المتقي أن الله تعالى لا يجعله يضطرّ إلى حاجات لا طائل منها. يزعم التاجر مثلاً أن تجارته لن تزدهر ما لم يكذب ويُزَوِّر، فلا يتورع عن الكذب ويتظاهر أنه مضطر إليه. ولكن هذا باطل تماما، فإن الله نفسه يتولى المتقي ويحميه من مواقف تضطره إلى قول ما ليس بحق. اعلموا أن من ترك الله تركَه الله، ومن تركه الرحمن والاه الشيطان حتمًا. (ثم يتقدم إليه الشيطان ويقترب منه ويتولاه) لا تظنوا أن الله تعالى ضعيف، كلا، بل هو شديدُ القُوى المتينُ، فلو توكلتم عليه في أموركم لأعانكم يقينًا (ومن يتوكل على الله فهو حسبه). كان أول المخاطَبين في هذه الآيات أهل الدين، وكانت جلُّ همومهم عن الدين، وقد فوّضوا أمر دنياهم إلى الله تعالى، ولذلك طمأنهم بأنه معهم.

باختصار، إن من بركات التقوى أن الله تعالى ينجي الإنسان المتقي من الصعاب التي تعيقه عن خدمة الدين(5). فلا يترك المتقي بلا سند، ولو فهمنا هذا الشيء لتحسنت دنيانا وعقبانا.

ثم يقول المسيح الموعود موضحًا هذا الأمر أكثر:

«نجد في كلام الله تعالى أن المتقين هم أولئك الذين يمشون بحلم ومسكنة، ولا يتكلمون بكلام ينمّ عن الزهو والغرور، بل يكون حديثهم كحديث الصغير مع الكبير. علينا أن نعمل دومًا ما فيه فلاحنا. إن الله تعالى ليس حكرًا على أحد، وإنما يريد التقوى خاصة، فمن اتقى بلغ الدرجة العليا. لم يرث أي من رسول الله أو إبراهيم العزة من أحد. لا جرم أننا نؤمن أن عبد الله والد النبي لم يكن مشركًا، إلا أنه لم يورثه النبوة، وإنما تشرف بها فضلاً من الله. إن أنواع الصدق الذي كان في فطرته هو الذي كان وراء نزول هذا الفضل عليه. وإن صدق وتقوى إبراهيم ، أبي الأنبياء، هو ما جعله لم يتردد في ذبح ابنه، ثم هو نفسه أُلقي في النار وقدم التضحية. انظروا إلى صدق ووفاء سيدنا ومولانا محمد رسول الله ، فقد تعرّضَ لأنواع الهجمات الشريرة، وكابد صنوف المصائب والآلام، ولكنه لم يكترث لها بتاتا، وبسبب هذا الصدق والوفاء أنزل الله عليه فضله، ومن أجل ذلك قال تعالى:

إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (6).

إن هذه الآية تكشف لنا أن أعمال النبي قد بلغت من العظمة بحيث لم يستخدم الله تعالى للإشادة بها وتحديد وصفها كلمة معينة. لا شك أنه كان بالإمكان استخدام كلمات لائقة بها، ولكن الله لم يستخدمها قصدًا، ذلك لأن أعماله الصالحة فاقت الوصف. ولم يستخدم الله تعالى مثل هذه الآية بحق أي نبي آخر. كانت روحه متحلية بالصدق والوفاء، وكانت أعماله مرضية عند الله تعالى بحيث أمَر الناسَ بالصلاة عليه للأبد شكرًا على هذه النعمة. لقد بلغ من الهمة والصدق بحيث لا نجد له نظيرا ولو أجلْنا النظر في كل طرف وصوب. انظروا إلى المسيح مثلا لتعرفوا مدى تأثير همته أو روحانية صدقه ووفائه في أتباعه. يعرف الجميع كم هو صعب إصلاح إنسان سيئ السلوك، وكيف يبدو تطهير المرء من عادته الراسخة أمرًا شبهَ مستحيل، ولكن نبينا المقدس قد قام بإصلاح آلاف الناس الذين كانوا أسوأ من الوحوش. كان بعضهم لا يفرقون كالبهائم بين الزوجات والأمهات والبنات، وكانوا يأكلون أموال اليتامى وأموال الأموات. وكان بعضهم عَبَدة النجوم، وبعضهم ملحدين، وبعضهم كانوا يعبدون أشياء أخرى. ماذا كانت حالة الجزيرة العربية؟ كانت مجموعة أديان شتى.

ولكنه أحدث فيهم جميعا انقلابًا. هذه هي مرتبة سيدنا رسول الله التي وهبنا المسيح الموعود معرفته، ومع ذلك يقول هؤلاء العلماء المزعومون إن الأحمديين يسيئون إلى النبي ، والعياذ بالله لذا لا يحق لهم أن يقوموا بالعبادات ويؤدوا الشعائر الإسلامية ويعملوا بسُنّة سيدنا ومولانا محمد رسول الله . فليبذلوا كل ما في وسعهم من الجهود فلن يقدروا على أن ينـزعوا من قلوبنا ما تكنه من احترام النبي ومكــانته.

معيار الشكر الحقيقي

ثم يقول شرحًا المسيح الموعود لفكرة أن التقوى ضرورية لشكر الله تعالى على وجه الحقيقة، وأن الله تعالى يقدّر التقوى كما هو حقه:

«إن شكركم الحقيقي إنما يكمن في تَحلِّيكم بالتقوى والطهارة، أما قولكم: «نعم أنا مسلم، والحمد لله» فهذا ليس من الشكر في شيء؟ إذا سلكتم سبيل الشكر الحقيقي، أي سبيل الطهارة والتقوى، فإني أبشرّكم أنكم مرابطون على الحدود، ولن يغلبكم أحد.

ثم يقول : التقوى هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُعدَّ ملخص الشريعة. فإذا أردنا تعريف الشريعة بإيجاز كانت التقوى وحدها هي مغزاها. إن مدارج التقوى ومراتبها كثيرة ولكن المرء إذا اجتاز المراتب والمراحل الابتدائية بالمثابرة والإخلاص نال المدارج العليا بسبب صدقه وبحثه الصادق. (أي إذا سلكتم مسالك التقوى نلتم مراتب عليا ووُفِّقتم لكسب الحسنات العظيمة ولن تضيع منكم أصغرها أيضًا، وهذه هي صفات المتقين الحقيقيين. ثم يقول :

«يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، أي أنه تعالى لا يجيب إلا دعوات المتقين. وكأن هذا وعد من الله تعالى، والله لا يخلف وعده كما قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، فما دامت التقوى شرطًا ضروريًّا لاستجابة الدعاء، فما أشدَّ حُمقَ وسفاهة مَن أراد استجابة دعائه مع عيشه عيشة الغفلة والانحراف، فعلى جماعتنا أن يبذل كل فرد منها قصارى جهده لسلوك سبل التقوى، لكي ينال لذة استجابة الدعاء ومتعتها، ويزداد إيمانًا».

خُلق التقوى هو الغرض من بعث المسيح الموعود

يقول مبينا أهمية التقوى والغرض من مجيئه: إن ما كلّفني الله به هو أن أُعيد الناس إلى سبيل التقوى بعد أن صارت مهجورة تمامًا. يجب أن تتمسكوا بالتقوى بدلا من أن ترفعوا السيف (أي لا حاجة إلى الحروب بالسيوف بل إذا خلقتم في أنفسكم التقوى لأحرزتم الفتوحات) فهو حرام (أي رفع السيف حرام). إنْ تتقوا الله يحالفكم العالم كله، فاتقوا الله. الذين يشربون الخمر أو الذين صارت الخمر هي الجزء الأعظم من دينهم لا يمكن أن تكون لهم أدنى علاقة بالتقوى، إنهم يحاربون الحسنة. فلو وفق الله جماعتنا لهذه السعادة ووفقهم لمحاربة السيئات وتقدموا في مجال التقوى والطهارة لكان ذلك فوزًا كبيرًا (أي أن أكبر نجاح للجماعة هو التقدم في التقوى) ولا شيء أكثر منه تأثيرًا. انظروا إلى أديان العالم كلها ترون أن هدفها  الحقيقي أي التقوى مفقود وقد اتُّخذت وجاهة الدنيا إلها. (أي أنهم غير منتبهين إلى التقوى بل يهدفون إلى وجاهة دنيوية وقد اتخذوها إلها لذا يبتعدون من الدين رويدًا رويدًا) وقد اختفى الإله الحقيقي ويساء إلى الإله الحق ولكن الله يريد الآن أن يؤمن الناس به وتعرفه الدنيا. والذين يتّخذون الدنيا إلها لا يمكن أن يكونوا متوكّلين على الله».

البيعة وسلوك درب التقوى

بعد بيعتنا المسيحَ الموعود تمس الحاجة إلى إدراك الحقيقة من أن علينا أن نخلق في أنفسنا تغييرات حسنة ويجب أن نسلك مسالك التقوى، فهذا هو سر نجاحنا.

يقول ناصحًا جماعته: إن الذين يريدون بالبيعة الظاهرية أن يأمنوا بطش الله هم مخطئون. لقد خدعتهم نفوسهم. انظروا لو أن المريض لم يتناول الدواء بقدر ما يريده الطبيب كان الأمل في شفائه عبثًا. فمثلًا إذا أراد الطبيب أن يتناول المريض عشر قطرات من الدواء، ولكن المريض يكتفي بقطرة واحدة فهذا لن ينفعه شيئًا. يجب أن تطهّروا أنفسكم وتتقوا الله بقدر ما ينجيكم من غضب الله تعالى. إن الله تعالى يرحم التوابين ولولا ذلك لأظلمت الدنيا. إذا كان الإنسان تقيًّا جعل الله بينه وبين غيره فرقانًا (أي فرقًا بيِّنًا واضحًا)، وأنقذه من كل ضيق، وليس ذلك فحسب بل يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (7). فاعلموا أن الذي يتقي الله فإنه تعالى يخلصه من المصائب ويُنعم عليه ويُكرمه، فيصبح الأتقياء أولياء الله تعالى. إن التقوى هي المدعاة للإكرام.

إذا كان المرء مثقفا ولم يكن تقيًّ فلن تكسبه ثقافته الإكرام والاحترام مهما تثقّف. أما إذا كان المرء ذا مكانة دنيا وأُميًّا تمامًا، ولكن كان تقيًّا، فهو المكرّم (أي إنما المكرم في الإسلام من هو صاحب التقوى وإنما المكرم عند الله تعالى من هو من أهل التقوى).

التخلِّي ثم التحلِّي

ثم يقول سيدنا المسيح الموعود وهو يبين من هو التقي، وما هي شروط التقوى، وكيف يعامل الله التقي: لابد للإنسان لكي يصير تقيًّا، أنه بعد ما يكون صارمًا في ترك الذنوب الكبيرة الجلية مثل الزنا والسرقة وهضم حقوق الآخرين والرياء والعُجْب والتحقير والبخل، وبعد أن تخلَّى عن هذه الأخلاق الرذيلة، يتقدم مقابلَها في التحلي بالأخلاق النبيلة (أي لا يكفي تجنب الأخلاق السيئة كلها بل لا بد بعدها من الترقي في الأخلاق الفاضلة) وأن يعامل الناس بمروءة ودماثة خُلق ومواساة، ويبدي الوفاء الكامل والصدق مع الله تعالى، ويبحث عن المقام المحمود في الخدمات (والمراد من المقام المحمود في الخدمات أن يؤدي حقوق الله وحقوق عباده بحيث يحمده الله ويحمده الناس أيضًا ويقولوا: نعمْ، إن هذا يؤدي حقوقنا حقًّا. ولا يُنال هذا المقام إلا إذا كان المرء متحلِّيًا بالتقوى، الأمر الذي يجب على كل مؤمن السعي له، أعني أن يبحث عن المقام المحمود في الخدمات)  فبالتحلي بهذه الأمور يسمَّى المرء متقيًّا، والذين يجمعون في أنفسهم هذه الأمور كلها هم المتقون حقًّا، (أي إذا كان المرء يتصف بواحد من هذه الأخلاق فلن يسمى تقيا، إنما يسمى تقيًّا إذا اجتنب المساوئ كلها وتركها جميعا، وتحلى بالأخلاق السامية كلها، أما أن يتحلى بخلق من هذه الأخلاق ويجتنب سيئة من هذه السيئات فهذا لا يجعله في زمرة الأتقياء، كلا، بل من المحال أن يسمى تقيًّا ما لم يجمع في نفسه جميع هذه الأخلاق الفاضلة)

ومثل هؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله تعالى في حقهم:

لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (8).

فما الذي يريدونه أكثر من ذلك؟! ويكون الله تعالى وليًّا لأمثال هؤلاء كما قال الله تعالى: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (9). وورد في الحديث الشريف عن رب العزة أنه قال عن وليِّه:

«كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»(10).

وجاء في حديث آخر: «مَن عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب»(11).  وقال في موضع آخر: عندما يهاجم أحدٌ وليَّ الله فإن الله ينقضّ عليه كما تنقضّ اللبؤة غضبًا على من انتزع منها شبلها.

ثم يقول : لقد أكد القرآن الكريم على التقوى والسداد أكثر من تأكيده على الأحكام الأخرى كلها، وذلك لأن التقوى تهب قوة تُعين على الاتقاء من كل سيئة، وتحرك صاحبها للجري إلى كل حسنة. والسر في هذا التأكيد الكثير هو أن التقوى مَعَاذٌ لسلامة المرء في كل باب، وهي الحصن الحصين للاحتماء من كل فتنة. (أي أن التقوى حصن منيع، فمن تحلى بها فكأنما دخل قلعة حصينة، ونجا من كل فتنة واجتنب كل فساد وسيئة). إن التقي يستطيع أن يتجنب كثيرًا من الخصومات الخطيرة التي لا طائل منها، والتي يقع فيها الآخرون ويهلكون أحياناً كثيرة، ويحْدثون الفرقة بين القوم جراء أنواع الاستعجال وسوء الظن، ويتيحون للمعارضين فرصة للطعن والاعتراض.

فهذه هي الأمور التي قد ذكرها المسيح الموعود . لقد بين حضرته في كتاباته وأقواله موضوع التقوى أيما بيان، وأوصى أتباعه مرارًا وتكرارًا أنهم إنما ينتفعون من تصديقه إذا  أحدثوا تغييرًا طيبًا في  أنفسهم  وبلغوا معيار التقوى بحسب ما قال الله تعالى ورسوله، وإلا فمجرد البيعة الظاهرية غير مجدية بتاتًا. ففي يوم عيدنا هذا الذي قال الله تعالى بمناسبته إن أعمالكم الظاهرة إذا خلت من التقوى فلن تجعلكم مقربين عند الله تعالى، على كل واحد منا أن يعاهد الله على أنه سيسعى لبلوغ هذا المستوى من التقوى وللعيش بحسبه، بحيث يصبح كل قول وفعل لنا وفقًا لحكم الله تعالى. لو أننا عاهدنا الله على العمل بذلك، وسعينا لذلك، فسيعطينا الله تعالى حتمًا ما وعد به السائرين في سبل التقوى، ولن تضرنا معارضة المعارضين شيئًا، ولن نتأسف على أننا مُنعنا من ذبح الأضاحي، أما إذا لم نفزْ برضا الله تعالى فإن ذبح الأضاحي أيضًا ليس مدعاة للفرحة الحقيقية لنا. وفقنا الله تعالى لإدراك حقيقة التقوى وللعيش بحسبها.

والآن سوف نقوم بالدعاء. اذكروا في الدعاء الأسرى في سبيل الله تعالى خاصة الذين يكابدون صعاب الأسر والسجن ويقدمون التضحيات، ادعوا الله تعالى أن يعجّل بإطلاق سراحهم. ثم اذكروا في الدعاء أولئك الذين يواجهون شتى المحن والأذى بسبب الدين والإيمان، حيث يسعى المعارضون لإلحاق الضرر بأعمالهم وتجاراتهم وليس ذنبهم إلا أنهم أحمديون، ففي باكستان عموما يسعى الأعداء لتضييق الخناق على أبناء جماعتنا والاعتداء عليهم، في بعض الأماكن يطردونهم من الوظائف مع استحقاقهم لها. وادعوا أيضا لكل المظلومين والمحرومين. ادعوا للإنسانية جمعاء بأن يوفق الله تعالى الناس جميعًا لمعرفته فينجوا من غضبه. فادعو الله تعالى أن يلهمهم العقل والصواب لكي ينجوا من الدمار الذي تتجه الدنيا إليه، ولكي يعرفوا ربهم، ويغيروا ما بأنفسهم، وإلا فإن دمارًا هائلًا جدًّا ينتظرهم مكشِّرًا عن أنيابه. نسأل الله رحمته. جعل الله هذا العيد مباركًا لجميع الأحمديين من كل النواحي.

الهوامش:

  1. (الحج 38)
  2. (الحكم، مجلد7، رقم8، عدد 28/ 2/1903م)
  3. (الملفوظات ج1)
  4. (الطَّلَاق: 4)
  5. (الملفوظات ج1)
  6. (الأحزاب:57)
  7. (الطَّلَاق: 4)
  8. (يونس: 63)
  9. (الأَعراف: 197)
  10. (صحيح البخاري, كتاب الرقاق)
  11. (صحيح البخاري, كتاب الرقاق)
Share via
تابعونا على الفايس بوك