مراتب الأخلاق
  • القرآن الكريم تبيانًا لكل شيء.
  • مزايا التعليم الكامل.
  • الوحي والشرع مُنزل من الله وحده.
  • ما الإحسان؟*أنواع السيئات.
  • مراحل التطور الروحاني الست.
  • الفرق بين التعليم الإنجيلي، والتعليم القرآني.

__

إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (91)

شرح الكلمات:
العَدْل: عدَل يعدِل فلانًا بفلان: سوَّى بينهما. عدَل القاضي والوالي عدْلاً وعدالةً: أنصفَ. العدْلُ: ضدُّ الجورِ؛ العادِلُ المرضيُّ للشهادة. والعَدْل من القضاة والحكامِ: الوافون للحق في أحكامهم (الأقرب).
الإحسان: أحسنَ: أتَى بالحسن. وأحسنَ الشيءَ: جعَله حسنًا؛ عَلِمَه، ومنه: فلان يُحسن القراءةَ (الأقرب).
القربَى: القربُ في الرَّحِم (الأقرب).
الفحشاء: الفاحشةُ؛ البخلُ في أداء الزكاة (الأقرب).
المنكَر: ما ليس فيه رِضى الله من قولٍ أو فعلٍ، والمعروفُ ضدُّه (الأقرب). للمزيد راجِعْ شرح الآية رقم 63 من سورة الحِجر.
تذكَّرون: تذكَّرَ أي ذكَر (الأقرب).

التفسـير:
لقد أعلن الله تعالى من قبل أن في القرآن الكريم أربع ميزات: تبيانًا لكل شيء، وهدًى، ورحمة، وبشرى للمسلمين. وقد بدأَ من هذه الآية وما يليها يسوق البراهين على توافر هذه المزايا في تعليم القرآن، مؤكِّدًا أنه من المحال أن يحوم حول نجاحه أي شك.
وإن أول هذه البراهين مذكور في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، وأرى أن مضمونها ليكفي وحده لإثبات هذه المزايا الأربع في القرآن، وإليكم بيان ذلك:
تأمر هذه الآية بثلاث وتنهى عن ثلاث، والظاهر أن الأمر بالمعروف هداية، بينما النهي عن المنكر رحمة؛ فأصبحت هذه الآية هدًى ورحمةً .
ثم بيّنت هذه الآية مراتبَ الأخلاق بأسرها، فصارت آيةً جامعةً شاملةً ومصداقًا رائعًا لقوله تعالى: تِبيانًا لكل شيء .
وتنتهي هذه الآية بقوله تعالى: لعلكم تذكّرون ، ومعنى التذكر ذكرُ الشيء أو ذكرُ الله وتسبيحه وحمده ؛ فالمعنى: كي تذكروا حقوق الله وحقوق العباد وتؤدّوها، أو لكي تسبّحوا الله وتمجّدوه . وبما أن غاية خلق الإنسان تنحصر في هذين الأمرين الاثنين: حقوق الله وحقوق العباد.. فصارت هذه الجملة بمثابة بشرى للناس بأنهم إذا عملوا بهذا التعليم حققوا غاية خلقهم حتمًا.
فانظر كيف أن هذه الآية، رغم قِصرها، تلقي الضوء على كل هذه المزايا التي ادعى بها القرآن الكريم. والواقع أن هذا الإيجاز البليغ سمة للقرآن وحده دون سائر الأسفار الأخرى؛ فكلمات هذه الآية قليلة جدًّا، ومع ذلك ليس فيها غموض ولا إشكال، بل المعنى واضح جليّ جدًّا بحيث يستطيع كل عاقل استيعابه بأدنى تدبر.
والآن أتناول فحوى هذه الآية ببعض التفصيل. اعلمْ أن لكل شيء جانبين: إيجابي وسلبي، ويستحيل اكتماله بدون اكتمال الجانبين فيه.. بمعنى أنه يجب أن يتوافر في الشيء ما لا بد من توافره فيه حتى يكتمل، وأن يخلو مما لا بد من أن يخلو منه حتى لا يقع فيه نقص أو عيب. ومن وجهة النظر الدينية، لا بد للتعليم الكامل من أن يتحلى بالمزايا التالية:
1- أن يأمر بما يحقق الكمال الروحاني، وينهى عما يحول دون هذا الغرض.
2- أن يراعي – لدى سَنِّ قانون عام لا يخص فردًا أو قومًا بل أفرادًا وأقوامًا كثيرة – كل الطبائع البشرية بمختلف أنواعها بحيث يتمكن كل إنسان من العمل به حسب استعداده.
3- أن يكون صالحًا للعمل به حتى لا يؤدي إلى فساد دين الناس أو خُلقهم أو عقلهم أو حضارتهم.
لقد جمع الله في هذه الآية القصيرة هذه الأوجهَ الثلاثة للكمال جمعًا رائعًا؛ فقد أمر بالإيجابيات الثلاث: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن السلبيات الثلاث: الفحشاء والمنكر والبغي.
فالعدل هو التساوي والمراد منه أن يعامل المرء صاحِبَه بالمثل؛ فإذا ظلمه انتقم منه بقدر ما ظلمه دون أن يعتدي عليه، وإذا صنع به معروفًا ردّ عليه بمعروف مثله على الأقل.
والعدل مع الله يعني أنه تعالى قد شمل الإنسان بنعم كثيرة، فعليه أن يؤدّي حق هذه النعم، فلا يتيح بأعماله السيئةِ الفرصةَ لأحدٍ للطعن في ذاته ، أو لا يعطي غيرَ الله ما هو حقه ، وذلك بالإشراك به، لأن الشرك ظلم وهو بمثابة سلب حق من أحد وإعطائه غيرَه، ومن أجل ذلك فقد سمى القرآن الكريم الشركَ ظلمًا عظيمًا. فالاعتقاد بوجود ابن أو زوجة أو شريك لله تعالى ظلم وخلاف للعدل.
كما ليس من العدل مع الله تعالى أن يعزو الإنسان إلى نفسه الصفاتِ الخاصة بالله تعالى. فمثلاً إن إنزال الوحي والشرع من اختصاص الله تعالى وحده، ولو أن أحدًا ادعى أنه هو يُنـزل الوحي أو الشرع مثلما ادعى “البهاء” (قرن بديع ص 181 و188).. فلا شك أنه يخالف مبدأ العدل. والواقع أن الإنسان لو عدل مع الله تعالى لما بقي للشرك والكفر والعصيان من أثر.
والوجه الثاني هو الإحسانُ، أي أن تصنع المعروف إلى غيرك، سواء أحسَنَ هو إليك أم أساء. وهذا أفضل من العدل، ويندرج تحته العفوُ عن الآخرين ومساعدةُ الفقراء وإعطاء الصدقات وأداء الخدمات القومية وما شابه ذلك. ومن الإحسان أيضًا السعي لترويج العلوم وتدوين المعارف ونشرِها، إذ يعود هذا على الأقارب والأباعد بفوائد مادية جمة ومنافع روحانية كثيرة.
والوجه الثالث هو “إيتاء ذي القربى”، أي أن تنفق على الناس كما تنفق على أقاربك.. أي أن تعامل الناسَ كما يعامل القريبُ قريبَه. ولا يراد به الإحسان الذي سبق ذكره، بل المعنى أن تعامل الناس بمحبة طبيعية تلقائية دونما تفكير في أي مقابل؛ ذلك أن الإنسان، حين يردّ بالإحسان إلى من أحسن إليه، قد يفكر أنه لو ردّ على محسنه بأفضل مما أخذ منه لكسب به مدحَ الناس وثناءهم، أو يفكّر- حين يغفر لأحد خطأه – أن هذا العمل سيمحو من قلبه العداوة وسيجعله صديقًا له معينًا. ولكن ما تبديه الأم من حبٍّ وتفانٍ لولدها لا تشوبه ذرة من شوائب التفكير في المقابل والجزاء، بل ليس وراء حبها إلا روح التفاني في خدمة الولد. إن المرأة لا تفكّر في الإنجاب من أجل أن يخدمها ابنها، بل إن حبها للإنجاب يرجع إلى عاطفتها الطبيعية أن تُرزَق ولدًا حتى تسهر على رعايته وخدمته، وغذائه وكسائه، وأن تزوِّجه لترعى أولاده أيضًا. فالأم لا تريد الأولاد لكي يخدموها، وإنما لكي تخدمهم. فلو فعل المرء المعروفَ بمثل هذه العاطفة فقد عمل أفضل حسنة، وإذا بلغ هذه الدرجة في الخيرات فقد اكتمل كيانه الخُلقي. وكأن الله تعالى ينصحنا هنا: إذا كنتم قد تعودتم على فعل الإحسان بحيث صار العطاء أحبَّ إليكم من الأخذ فعليكم أن تحوزوا الآن مرتبة أعلى منها، وانظروا إلى أفراد الجنس البشري جميعًا وكأنهم أولادكم، حتى تفيض قلوبكم بعواطف التفاني في خدمتهم كما يفيض قلب الأم بمشاعر خدمة ولدها.
إن التعليم المذكور أعلاه تعليم إيجابي ولا جَرَمَ أن القرآن قد أوجَزَ في الكلمات المختصرة الأخلاقَ الفاضلة بجميع أشكالها.
ولنتذكرْ هنا أن حقوق الله تنتهي إلى حد العدل، إذ من المستحيل أن يعامل الإنسان ربَّه على سبيل الإحسان وإيتاء ذي القربى، ولكن فيما يتعلق ببني جنسه فهو مأمور بأن يعاملهم على أساس العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى؛ فالنوعان الأخيران من السلوك تخصان العباد فقط دون الله تعالى. وفي هذا تنبيه أنه لا مناص للإنسان للوصول إلى الله والظفر برضوانه من إسداء الخير إلى عباده؛ وكأن الإحسان وإيتاء ذي القربى سُلّمان للتقرب إلى الله تعالى.
بعد هذا التعليم الإيجابي بيّن الله التعليمَ السلبي حيث نهى أيضًا عن ثلاث من المساوئ؛ وذكر في صدارتها الفحشاءَ التي تعني – إذا ذُكرتْ إزاءَ المنكر – السيئةُ التي لا يعلم بها إلا مرتكبها فقط.
ثم نهى عن المنكر وهي السيئة التي يطّلع عليها الآخرون أيضًا ويكرهونها، وإن لم يؤدِّ ارتكابُها إلى ضرر مباشر بحقوقهم.. مثل السباب والكذب وما شابه ذلك. وقد سمّاها المنكر لأنها تُلحق بالناس أذًى نفسانيًّا.
وأخيرًا ذكر البغيَ أي هضم حقوق الآخرين، وهو بالطبع مما يحسّ به الناس ويَكرهونه، كما يتضررون منه.
والحق أن كل ما في الدنيا من سوء وفساد ينحصر في هذه الأنواع الثلاثة من السيئات؛ فإما أن تكون سيئة خفية عن أعين الآخرين، أو تكون مما إذا اطّلع عليه الناس أصابهم أذى نفسانيّ وإن لم يصبهم أذى آخر مباشر؛ أو تكون من السيئات التي تبلغ من الفداحة والبشاعة حيث تضرّ البعضَ ضررًا نفسانيًّا، كما تؤدي إلى هضم حقوق البعض الآخر.
لقد قلتُ من قبل إن التعليم الكامل الذي هدفه تلبيةُ الحاجات الإنسانية بكل أنواعها لا بد له من أن يراعي الطبائعَ البشرية جمعاء، وإن هذا الشرط أيضًا متوفر في تعليم القرآن السلبي المذكور هنا. فمن الناس من يقع في الفحشاء ولكن يكره أن يظلم أحدًا، ومنهم من يهضم أموال الآخرين ظلمًا ولكنه يكره الكذب، ومنهم من لا يسلب أموال الناس ظلمًا ولكن يرتكب المعاصي الأخرى من بغض وغِيبة ونميمة وغيرها. والله تعالى قد حصر في هذه الكلمات الموجزة الثلاث كلَّ أنواع المساوئ التي يمكن أن تصدر عن أي صنف من صنوف الطبائع البشرية، مثلما شمل من قبل الحسناتِ بكل أنواعها باستخدام كلمات ثلاث: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى .
كما هدانا الله تعالى بهذه الكلمات الوجيزة إلى الطريق الطبيعي لتجنب المساوئ ولفعل الخيرات. فإنه تعالى عند ذكر السيئات أو الحسنات بدأ بالأدنى منها ثم الأعلى وهلمّ جرًّا؛ وقد نبّهَنا بذلك على أن من أراد التحلِّي بالحسنات فعليه أن يُحرز أوّلاً مقام العدل ثم الإحسان ثم إيتاء ذي القربى؛ ومَن أراد التخلص من المعاصي فليحاوِلْ أوّلاً تجنُّبَ البغي، وإذا فعل ذلك استطاع اجتنابَ المنكر، وإذا تخلص من المنكر قدر على ترك الفحشاء.
كما نبّه بهذا الترتيب أن من كان حائزًا مقامَ “إيتاء ذي القربى” عليه أن يسعى كل السعي للثبات في هذا المقام، وإلا هبط منه إلى درجة “الإحسان”. ومن كان يتبوّأ مقامَ “الإحسان” عليه أن يأخذ حذره وإلا سقط إلى مقام “العدل”. كذلك يجب أن لا يفرح أحد ويقول في نفسه إنه لا يرتكب إلا “الفحشاء”، إذ من السهل جدًّا لمرتكب الفحشاء أن يقع في “المنكر” وبالتالي في “البغي”.
وبالاختصار لقد لفت الله تعالى بهذا الترتيب الرائع الأنظارَ إلى أن الإنسان يبدأ رحلته إلى الخير بفعل أصغر الحسنات، وبترك أكبر السيئات، وأن مثل كِفاحه هذا كمثل السُّلّم، فمن أراد الصعود على صرح الخير لا بد أن يضع قدمه أولاً على أولى درجات السلم فما فوقها؛ ومن كان قد وصل إلى قمة السيئات وأراد الهبوط منها فلا جرم أنه سيضع قدمه الأولى على عليا درجات السلم، وينـزل تدريجيًّا.
والميزة الثالثة التي لا بد من توافرها في التعليم الكامل هي أن يكون صالحًا للجميع بحيث يستطيع العمل به، وإن التعليم القرآني المذكور في هذه الآية يفي بهذا الشرط أيضًا، فبالرغم من أنه تعليم سامٍ رفيع إلا أن كل إنسان يمكن أن يعمل به أيًّا كان مستواه وطبقته. فلا هو يكتفي بالدعوة إلى النوع الأدنى من الأخلاقيات فقط غاضًّا النظر عن إطفاء غليل الطامحين إلى ذروة الأخلاق الفاضلة، ولا هو يدعو إلى قمة الأخلاقيات فقط بحيث يبقى الضعفاء محرومين من كسب الخير؛ بل يبين كل المدارج من الخير والسوء، لكي يساعد أهلَ السوء على ترك السيئات، ويعين أهلَ الخير على الترقي في الحسنات؛ إذ لا جدوى من أن نقول لمن هو غارق في وحل المساوئ عليك أن تبلغ من الصلاح بحيث تكون سندًا للدنيا كلها وتصبح بمثابة الأم للناس جميعًا، لأن هذا يعني أننا نحاول أن نعلّم الصغير الذي لا يزال يتعلم الألف والباء منهاجَ الماجستير. وبالمثل لو قلنا لمن قد بلغ مقامًا عاليًا في الصلاح: لا تخرج على القانون، ولا تعتدِ على أحد، ولا تظلم أحدًا، لعُدّ قولنا هذا مهزلةً. إنما يتأتى الإصلاح إذا سعينا لتخليص الغارق في المساوئ من الكبائر أولاً، أما الذي بدأ الترقي في الخير فلا داعي لتحذيره من المساوئ العادية لأنه قد تخلى عنها سلفًا، بل يجب توجيهه إلى الحسنات العظام. وكل هذه المزايا موجودة في هذا التعليم القرآني، فإنه يهدي إلى الحسنات كبيراتها وصغيراتها أيضًا، ويحذر من السيئات كبائرها وصغائرها، كما أن كل إنسان – أيًّا كان مستواه – يستطيع أن يفهم هذا التعليم ويعمل به.
وجدير بالذكر أن الله تعالى قد ذكر هنا ثلاث درجات لكل من الخير والشر.. أي ست درجات بالمجموع؛ ذلك لأننا نجد في النواميس الطبيعية أيضًا أن كل شيء يمرّ قبل اكتماله بست مراحل من التطور. فكأن الآية تبين المنهج الكامل لطالب الروحانية الذي إذا أكمل دراسته نال الشهادة في الكمال الروحاني. فعلى الغارقين في الآثام أن يسعوا أولاً للتخلص من مستنقع البغي ، فإذا تخلصوا منه سعوا للخروج من وحل المنكر ، ثم عليهم أن يخرجوا من غبار الفحشاء ، ليصلوا إلى حدود وادي العدل ، وبعدها يمرون بحديقة الإحسان ، ليصلوا بعد ذلك إلى البستان الذي تجري فيه عيون إيتاء ذي القربى ، ثم يدخلون الجنة الفيحاء الغناء؛ وإلى هذا المعنى نفسه أشار النبي بقوله: “الجنة تحت أقدام الأمهات” (كنـز العمال: الباب الثامن في بر الوالدين، الأم)، لأن هذه الآية تبين أن مرحلة “إيتاء ذي القربى” – التي تأمرنا بمعاملة الناس معاملةَ الأم بولدها- هي آخر مرحلة من الكمال الروحاني، وبعدها يدخل الإنسان الجنة. والجنة مقام الذاكر الذي يستغرق ويتفانى في ذات البارئ تعالى، ويصبح قلبه عرشًا لله ، حيث يتحد المحب مع الحبيب بالصلة الوثقى لا انفصام لها.
هذا، ومن السُنَّة قراءة هذه الآية في الخطبة الثانية من كل جمعة، وأول من سنَّ هذه السنة هو سيدنا عمر بن عبد العزيز أحد خلفاء بني أمية (تاريخ الخلفاء للسيوطي: ذكر عمر بن عبد العزيز)؛ مما يعني أن المسلمين منذ أوائل الإسلام كانوا يدركون عظمة هذه الآية.
إن النصارى يضيقون بهذه الآية ذرعًا، حتى قال القسيس “ويري” أن المسلمين يتفاخرون بها عبثًا، عليهم أن يقارنوها بتعليم ربنا المسيح التالي: “تحبُّ الربَّ إلَـهَك مِن كل قلبك ومِن كل نفسك ومِن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. الثانية مثلُها: تحبّ قريبَك (أي جارَك) كنفسك (متى 22: 37 – 39)” (تفسير القرآن لـِ “ويري”).
ولكن الحق أن النصارى هم الذين يتباهَون بتعليم المسيح عبثًا، إذ شتان بينه وبين تعليم القرآن، بل هو بمثابة الخطوة الأولى إزاء ما يعلّمه القرآن. لا جرم أن المسيح علّمهم: “تحب الرب إلهك مِن كل قلبك ومِن كل نفسك ومِن كل فكرك”، ولكن مَن الذي وهب لنا القلب والنفس والفكر؟ فمهما أحببنا اللهَ بهذه الأشياء فلن يتجاوز حبُّنا لـه سبحانه وتعالى دائرةَ العدل. ولكن كلمة “العدل” الواردة في القرآن الكريم تنطوي على مدلول أوسع من هذا التعليم الإنجيلي، لأن هناك أشياء كثيرة – بالإضافة إلى القلب والنفس والفكر – يجب أن يبذلها الإنسان في سبيل الله تعالى مثلَ العواطف والأحاسيس والأهواء والرغبات. فإذا لم يكن الله أحبَّ إلى الإنسان من كل ما سواه فلا يمكن أن يكون عادلاً في حق الله تعالى. لا شك أن حبَّ المرء ربَّه أكثَرَ من نفسه شيء جميل، ولكن مِن الناس مَن يكون أولاده أحبَّ إليه من نفسه وقلبه أيضًا، ومنهم من يكون عزُّه وكرامته أحبَّ إليه من نفسه حتى إنه لا يتردد في أن يضحي بحياته حفاظًا على كرامته. إذن فجملة: “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك” لا تؤدي معنى المحبة الكاملة والتضحية بكل أشكالها ومفهومها كما تؤديه كلمة “العدل” الواردة في القرآن. ولقد حث الله تعالى على التضحية بالمشاعر والعواطف بسائر أشكالها في مواضع أخرى من القرآن الكريم حيث قال: قُلْ إِن كان آباؤُكم وأبناؤكم وإخوانُكم وأزواجُكم وعشيرتُكم وأموالٌ اقْتَرَفْتموها وتِجارةٌ تَخشَون كَسادَها ومَساكِنُ تَرضَونها أحبَّ إليكم مِن الله ورسولِه وجِهادٍ في سبيله فتَرَبَّصوا حتى يأْتيَ الله بأمرِه والله لا يهدِي القومَ الفاسقين (التوبة:24).
فانظر كيف أن القرآن قد بيّن هنا مقياسًا لمعرفة حب الله عند كل إنسان. فمن الناس من يكون الشعورُ بالإحسان عنده قويًّا فيكون آباؤه أحبَّ إليه من كل شيء سواهم، فقيل له: إن كان آباؤك أحبَّ إليك من الله تعالى فلم تصل إلى درجة الإيمان بعد. ومنهم من يستولي عليه حب استمرار النسل أكثر من أي شيء آخر، فيكون أولاده أحبَّ شيء إليه، فقيل له ولأمثاله: إن كان أبناؤكم أحبَّ إليكم من الله فلستم من أهل الإيمان المقبول. ومنهم من يحبون أحزابهم، فقيل لهم: إن كان إخوانكم أحبَّ إليكم من الله فلستم من أهل الإيمان الحقيقي. ومنهم من يكون مغلوبًا بيد الشهوة، فقيل له: إن لم تجعل حبَّك لزوجك تابعًا لحبك لله فلن تفوز برضوانه. ومنهم من يؤثر عشيرته على كل شيء آخر، فقيل له: إذا لم تحب الله أكثر من حبك لقبيلتك فلن تحظى بقرب الله تعالى. ومنهم من يضنّ بالمال بحيث يكون ماله أعزَّ عليه من نفسه وولده، فهُناك كثير من البخلاء الذين أدت بهم الشقاوة لدرجة أنهم لم ينفقوا على علاج أولادهم المرضى، فماتوا وهم يقاسون آلام المرض؛ فقيل لمثل هؤلاء: عليكم أن تؤثروا حبَّ الله على حب المال وإلا لن تحرزوا مقامًا رفيعًا في الصلاح والتقوى. ومنهم من يقدّم حبَّ الوطن وخدمة القوم على كل أمر سواه، فيردّد دائمًا: حب الوطن من الإيمان، مثلما حدث في بلادنا إبان الهجرةحيث ترك مئات الآلاف أولادهم وديارهم وعقارهم وأموالهم باسم حب الوطن، فقيل لهؤلاء: إذا كان الوطن والبلد أحبَّ إليكم من الله فلستم من المؤمنين.
هذا هو الشرح الوجيز لكلمة “العدل” كما بيّنه القرآن الكريم. فشتان بينه وبين التعليم الإنجيلي القائل: “تحب ربك مِن كل قلبك وكل نفسك وكل فكرك؟”
أما الجزء الثاني من هذا التعليم الإنجيلي فهو: تحبُّ قريبَك (أي جارك) كنفسك.”
فأولاً: إن القول “والثانية مثلها” يخالف العقل. لا شك أنه تعليم هام، ولكنه لا يساوي التعليمَ الأول في الدرجة بتاتًا، لأن الله تعالى لا بد أن يؤثَر على كل ما سواه. فهل تعني كلمة “والثانية مثلها” أنه إذا تعارضت رغبةُ الجار مع حكمٍ من أحكام الله تعالى فلا نخالف رغبة الجار قائلين: إن حب الله وحب الجار سيّان! فأيهما يستحق الترجيح وبأي دليل؟
ثم إن هذا التعليم الإنجيلي لا يفوق “العدلَ”، لأنه يأمر كل إنسان بأن يحب جارَه تمامًا كما يحب نفسه هو، وهو ما يسميه الإسلام “العدلَ”، أو “الإحسانَ” على أسخى التقدير. ولكن الإسلام يريد أن يرفعنا إلى مقام أسمى من ذلك، فيأمرنا أن نعامل الناس معاملة تكون نزيهةً من شوائب الرياء أو انتظار المقابل والجزاء، شأنَ الأم التي هي أشد حبًّا لولدها مِن حبّها لنفسها، فتضحي براحتها من أجل راحته بمنتهى البشاشة والسعادة.
ثم أين تعليم الإنجيل مما يقدمه القرآن الكريم هنا من تعليم جامع؟ فإنه قد أمر بالخير ونهى عن الشر مع ذكر درجاتهما بترتيبها الطبيعي، مراعيًا شتى الطبائع البشرية، ولكن الإنجيل قد غضّ الطرف عن هذه الأمور الهامة كافةً. فلا جرم أن تعليم القرآن الكريم هو الجامع والكامل والأسمى والصالح للعمل.

Share via
تابعونا على الفايس بوك