نبذة من خصائص الإسلام ومميزاته

مجلس أسئلة وأجوبة

نحاول في «التقوى» أن نعرض للقارئ الكريم عيّنة من المجالس التي يعقدها حضرة أمير المؤمنين (أيدّه الله). فحياة حضرته اليومية حافلة بالنشاطات التربوية، التثقيفيّة والدينيّة حيث يتفضّل بصفة منتظمة بإعطاء الفرصة لِمَنْ ينزل ضيفًا على مائدة حواره -بغضّ النظر عن قوميّاتهم وجنسيّاتهم ودياناتهم- لإلقاء أسئلة تتعلق بمجالات شتى يجيب عليها حضرته مستنيرًا من معارف القرآن الكريم وأنواره، وفيوض وبركات سيدنا محمد المصطفى .

*  إعداد: أبو حمزة التونسي

وقد اخترنا لقرَّائنا الكرام في هذا العدد سؤالين ألقاهما ضيفان مسيحيان خلال مجلس الأسئلة والأجوبة الذي ترأسه حضرة مرزا طاهر أحمد (أيّده الله) في أول شهر يونيو من عام 1997. ويجدر الإشارة هنا إلى أنّ إجابات حضرته موجَّهة بالدرجة الأولى للعقليّة المسيحيّة التي انقادت تحت ضغوط وتأثيرات مختلفة لـتأويلات خاطئة، ورسمت لنفسها صورة مشوَّهة تمامًا عن الدين الإسلامي الحنيف.. وسيطَّلع القارئ الكريم من خلال تحليل حضرة أمير المؤمنين المنطقي عن حقائق عدّة تساعده في التعرُّف على الوجه النقيّ والبهيّ لدين الإسلام، الذي طالما أُلصقت به التُّهم، وارتُكِبت باسمه المظالم والمجازر والمفاسد.

 

السؤال الأول

“من خلال دراستي لعقائد الجماعة الإسلامية الأحمدية فهمت أنّكم تعتقدون أنّ القرآن الكريم يحتوي على الحقيقة الأبديّة. فهل هذا يعني أنّ عامل الزمن لا يؤثِّر في صلاحيّة النصّ القرآني.

إنّني أرى أنّه.. من خلال محاولة إقناع الناس الذين وُجِّهت إليهم رسالة الإسلام بالدرجة الأولى.. قد استُعمِلت لغة ذات مصطلحات بسيطة ومحدودة، واستُخدمت معاني لها علاقة بقضاياهم ومشاكل ساعتهم، لذلك أجدُ نفسي مُضطرًّا لتبنّي المفهوم القائل بأنّ بعض المسائل التي عالجها القرآن تكون محدودة زمنيًّا، ولا تنطبق على شعوب وأقوام أخرى في المستقبل، لأنّ عقليّة وحاجيات الناس ومتطلبّاتهم تتغيّر وتنمو من حقبة زمنيّة إلى أخرى”.

أما في عصرنا الحالي فقد فقدت التعاليم المسيحيّة قيمتها وأصبحت بمثابة عُملة غير قابلة للتداول في الحياة اليوميّة للفرد والمجتمع. إنّ المعاملات الإنسانيّة السائدة اليوم في الدول المسيحيّة ليس لها سوى علاقة نظريّة بواقع وحقائق الديانة المسيحيّة

جواب حضرة أمير المؤمنين

“إنّ الرسالة السماويّة التي تختصُّ بزمنٍ معيّن ويكون لها ارتباط مباشر بنمط حياة القوم الذي وُجِّهت إليه ومصالحه ولم تُغطِّ حاجيات ومتطلبات ونمط حياة الشعوب المستقبليّة تكون رسالة سماويّة محدودة زمنيًّا وجغرافيًّا ولا تحتوي على مميزات وخصائص تجعل منها رسالة للإنسانيّة جمعاء. أما إذا كانت الرسالة نفسها تُعلن أنّها تتعلّق بالنفسيّة البشرية وطبائِعها، فإنّ هذه الرسالة لن تتغيّر ما دامت النفس البشرية هي الأخرى لم تتغيّر (ولا أرى أنّ فيها القابليّة لذلك). من حقِّك أن تدرس دعوى تلك الرسالة وتتأكَّد هل أنّ تعاليمها موجَّهة فعلاً للنفس البشريّة أم لا؟ فالباحث المنصف يتوصّل غالبًا إلى أنّها فعلاً تُخاطب نفسيّة الإنسان ولا يؤثِّر فيها تغيُّر السلوك الإنساني عبر العصور، كما أنّها تمتدُّ لتغطية حاجيات وتفاعلات النفس البشريّة. فالرسالة السماويّة التي تحتوي على هذه الخاصيّة تكون دعواها صادقة وبالتالي فإنّ كتابها لن يتغيّر ولن يتأثَّر بأيّ عامل من العوامل بل على عكس ذلك ستكون صالحةً وسارية المفعول في كل زمان ومكان.. وهذا بالضبط ما يعلنه القرآن الكريم عن رسالة الإسلام.”

السؤال الثاني

“سؤالي يتعلّق بموضوع تفسير القرآن الكريم.. إذ قضى الناس عبر القرون وقتًا طويلاً في محاولات تفسير الأحكام الخاصة ببعض الحدود. ونجد في بعض البلاد.. كالمملكة العربية السعودية مثلاً.. أن تلك الحدود تُطبَّقُ حرفيًّا ولكن في بعض الدول الأخرى يسود الشعور بضرورة إعادة تفسير أحكام تلك الحدود وتطبيقها. فما هي نظرة الجماعة الإسلامية الأحمدية بخصوص هذه المسألة؟”

جواب حضرة أمير المؤمنين

“هذا سؤال هام جدًّا وأرى أنّ له علاقة مباشرة بما يدور في الشارع الإسلامي والساحة السياسيّة المعاصرة. إنّ جميع الكتب السماويّة وُضِعت لها تأويلات مختلفة كلّما تقدَّم الزمن وابتعد الناس عن المنبع الأول. إذ حدث دائِمًا أنّ أتباع كل دين كانوا يضعون له تفسيرات وتأويلات مختلفة في كل مرحلة يتباعد فيها جيلٌ من الأجيال عن الزمن الذي ظهر فيه مؤسس ذلك الدين. وغالبًا ما نجد أولئك الذين لهم زمام الأمور في المجالات الدينيّة، والذين يتمتَّعون بـتأييد السُلطة السياسيّة والقوى الماديّة.. كانوا هم الذين يُبادرون بتقديم تفاسير وتأويلات مُخالفة ومتضاربة مع تلك التي أرادها مؤسس الديانة، وذلك حِفاظًا على سلطتهم السياسيّة والدينيّة، وتأكيدًا على إظهار قدرتهم وحِنكتهم وعظمتهم على جميع المستويات الاجتماعيّة. هذه العوامل زرعت بذور المشاكل والتشويش، وغالبًا ما نجد أنّه في مثل هذه الظروف يفرض رجال الدين من أصحاب الديانات المختلفة آراءهم ومفاهيمهم وتأويلهم الشخصي للدين على بقيّة أفراد الشعب المغلوبين على أمرهم. وقد قام هؤلاء بأعمال شنيعة واعتداءات لا تُغتفر ضد الأبرياء، وارتكبوا مظالم لا تُنسى ضد الناس البُسطاء. والغريب أنّ جميع أعمال الفساد هذه كانوا يقومون بها باسم الله. ويجب ألا نَغفَل عن أنّ تاريخ الإسلام لم يكن استثناءً من هذه القاعدة، بل كان له نفس هذا الهيكل المخيف.

والمسيحيّة أيضًا.. هي الأخرى لها نفس هذه الخلفيّة وتاريخ مُشابه. ولم يأخذ الناس التعاليم المسيحيّة مأخذ الجدّ إلا في الحقبة الزمنيّة الأولى، أما في عصرنا الحالي فقد فقدت التعاليم المسيحيّة قيمتها وأصبحت بمثابة عُملة غير قابلة للتداول في الحياة اليوميّة للفرد والمجتمع. إنّ المعاملات الإنسانيّة السائدة اليوم في الدول المسيحيّة ليس لها سوى علاقة نظريّة بواقع وحقائق الديانة المسيحيّة بينما تنعدم هذه العلاقة عمليًا، ومع ذلك فإنّهم يُضفون على معاملاتهم الإنسانيّة تسمية “السلوك المسيحي”، مع أنّ السلوك المسيحي غائب تمامًا عن أساليب وأُسس الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والدينيّة في الحياة اليومية للمجتمع الغربي. لهذا لا يجد الكثير حرجًا من انتمائهم للمسيحيّة، لأنّهم لا يتَّخذونها كركيزةٍ أساسيّة في حياتهم اليوميّة وفي سلوكهم، ولا يجعلونها تؤثِّر فيهم على المستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

ويختلف الحال بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في حالة غفلة وسبات بالنسبة للتقدُّم الذي وصلت إليه الدول الغربيّة. فغالبًا ما نراهم متمسكين ليس بتعاليم الإسلام.. بل بتفاسير وآراء علماء العصور التي يمكن أن تسمّى بالعصور الوسطى. وسلبيات هذا التفكير الرجعي وآثاره الخاطئة لا تُسيء إلى الدين فحسب، بل تقع على عاتق الذين تبنُّوا هذه الأفكار المـُشوَّهة.

وهؤلاء الجهلَة يُغمِضونَ أعينهم عن رؤية الحقيقة، بل إنهم لا ينظرون إلى ماضيهم وإلى تاريخهم أو تاريخ المسيحيّة والديانات الأخرى التي مرَّت جميعها بمراحل متشابهة في ظروف وأزمنة مختلفة، مما دفعهم لتبنّي تفاسير علماء عصور الظلام. ويبدو أنّهم لم يتعلَّموا درسًا من واقع وحقائق التاريخ التي دلَّت على حتميّة فشل أي مشروع نادى بالشعارات الربَّانيّة.. رغم أنّه لم يكن يحمل في طيَّاته الطبائع والخصائص الربَّانيّة.

هناك علاقة جدليَّة بين سوء فهم التعاليم السماويّة وتحقيق الأهداف الربَّانية.. فسوء فهم التعاليم يؤدي حتمًا إلى عدم تحقيق أهداف المولى . وجميع المساعي الدينيّة المبنيّة على مفاهيم خاطئة لا تحظى بنصرة الحضرة الأحديّة. فغالبًا ما نجد أنّ رجال الدين يقومون بأعمال غير لائِقة، وبالرغم من هذا نجدهم ينسبونها إلى الله، ويُعلنون أنّهم باسم الله يقومون بهذا العمل أو ذاك، مع أنّه بريءٌ مما نُسِب وما يُنسب إليه. لذلك فإنّ حملاتهم ومساعيهم اللاربّانيّة هذه لا تحظى أبدًا بعناية ونصرة الحضرة الأحديّة.

إنّ الذين درسوا تاريخ الديانات وتاريخ الإنسانيّة، وفهموا واستوعبوا الطريقة التي يُعامل بها الله الناس في الظروف المختلفة، يصلون إلى الخُلاصة التالية: إنّ الأطهار الذين يُكلِّفهم الله بأداء مهمة مُعيّنة يُكتب لهم النصر رغم أنف الكارهين.. ولكن أولئك الذين يجعلون من أنفسهم مُمثلين للسلطة الدينيّة، أو الذين تُعيِّنُهم السلطة السياسيّة لهذه المهام، وتكون مخططاتهم ومشاريعهم وأهدافهم خالية من الأهداف الربّانيّة السامية، فإنّهم يفشلون حتمًا ولا تتحقَّق أهدافهم مهما ساندتهم القوى الدنيويّة والسياسيّة، وذلك لأنّها لم تحصل على موافقة العزيز القدير بوعود نُصرته وتأييده. هذه السُّنة الإلهيّة لم تتغير عبر تاريخ الإنسانيّة، ونراها تحقَّقت حرفيًّا في مناسبات ومواقع شتى. وللأسف الشديد يمرُّ العالم الإسلامي اليوم بأقوى وأوضح تجلٍّ لها.

إنّ الدول الغربيّة المعاصرة تعتبر علماء ومشائخ “هذا الزمان”، من قادة الفرق الإسلاميّة ذات النفوذ السياسي الواسع النِطاق، ممثلين حقيقين للإسلام. ولكن موجبات الحِكمة تفرض على هذه الدول أن يدرسوا التعاليم القرآنيّة الأساسيّة الواضحة السمحاء والسُّنّة النبويّة الشريفة، وبعد ذلك يُقارنوها بسلوك أولئك الذين يدَّعون أنهم حُماة الإسلام. فعلاً.. إذا درس المستشرقون والعلماء الغربيّون حالة العالَم الإسلامي بهذه الطريقة التي اقترحتها، ولم يقبلوا ممثلي الفرق الإسلاميّة الأُصوليّة (بالاسم فقط) والفرق المتطرِّفة على أنّهم ممثلين شرعييّن للإسلام، ولم يُبالوا بتصريحاتهم التي أوجَدت على الساحة اختلافات متعدِّدة ومشاكل متشعِّبة، لما اتخذوا موقفًا عدائيًّا ضد الإسلام.. بل على النقيض من ذلك سنجدهم يُشفقون على هذه الفِئات الإسلاميّة التائِهة في ظُلمات التخلُّف والجهل، ولن يُولوهم أيَّ اهتمام، بل قد يشعرون بالأسى عليهم لأنّهم استمدُّوا مبادِئهم من علماء عصور الظلمات، ولم يستقوا مباشرةً من تعاليم الإسلام السمحاء. ومن ناحيةٍ أخرى.. لو درسوا تاريخ ديانتهم المسيحيّة لوجدوا أن فِرَقًا مماثلة لهذه تواجدت بنفس الصورة وبنفس المكوِّنات في ظروفٍ مختلفة، ولكنها لم تؤثِّر على مجريات الأحداث بصفةٍ قوية ومستمرة، بل اندثرت وذهبت أدراج الرياح ولم تبقَ بصماتها على مجتمعاتهم. إنّ هذا التحليل المنطقي سيقودهم.. بل سيُقنِعهم أنّ هذه الفِرَق الإسلاميّة المتطرِّفة لن تمثّل أي خطرٍ على مجتمعاتهم أو مجتمعات أخرى، لأنّ مفاهيمهم لا تمتُّ إلى الإسلام بأي صِلة، ولا ترتكز على حقائق كونيّة ثابتة. إنّ الباطل يندثر عبر صفحات التاريخ، ولا تجد له ذكرًا أو ثناءً في السجلات التي خطَّتها الأيادي الأمينة، بل إنّه لا يحتوي على القوى التي تُغيِّر مجرى التاريخ وتترك بصماتها على الطابع البشري. هذه هي القاعدة التي يجب على الشعوب الغربيّة أن تنظر من خلالها إلى مسلمي اليوم.

ولإيضاح ما قُلته لك.. أذكر مثالين ضربتهما خلال زيارتي الأخيرة لألمانيا، حيث ألقيتُ الأضواء على بعض النُقاط الحساسة التي تتعلّق بموضوع بحثنا، وكان ذلك عبر مجالس الأسئلة والأجوبة التي حضرها كبار القوم من المواطنين الألمان، وعلى رأس هؤلاء مجموعة من كبار العلماء والخبرات في المجالات المختلفة، الذين تابعوا تحليلي لهذه القضية بكل انتباه وتركيز تام، ويبدو أنهم فهِموا كل كبيرةٍ وصغيرةٍ ذكرتها، إذ أنّهم كانوا يُطأطِئون رؤوسهم إبداءً لموافقتهم التامة لما أقوله. وقد أقرُّوا بذلك قائلين: الآن عرفنا أخطاءنا وكان يجدر بنا أن ندرس تعاليم الإسلام مباشرة من القرآن الكريم والسُّنة النبويّة، لا من مفاهيم الإسلام المشوَّهة التي يعرضها العلماء المسلمين المعاصرين.

المثال الأول يتعلّق بسلمان رُشدي.. أنتم في الدول الغربيّة تعتقدون أنّ الإسلام يأمر بقتل من يتطاول على إهانة رسول الله أو من يسبُّ الله ويحطُّ من شأن كتابه العزيز، فإنّ التجديف حسب ظنِّكم خطيئة لها عقوبة ماديّة ينفِّذها الإنسان في هذه الدنيا وعلى وجه هذه الأرض على من يرتكبها، وأنتم تظنُّون أنّ هذه التعاليم هي أحكام الإسلام. فهل هذه التعاليم لها جذور في القرآن؟ لا والله.. هذه التعاليم لا علاقة لها بالإسلام الذي أوحاه الله لسيدنا محمد المصطفى . وكان من الواجب أن تُطالبوا المسلمين المعاصرين أن يُقارِنوا بين معتقداتهم غير الإسلامية التي يُدينون بها، وبين التعاليم القرآنيّة السمحاء والسُّنة النبويّة الشريفة. هذه هي الطريقة التي أتَّبِعها في تحليلي لقضايا الساعة، ولم يحدث ولا في مرة واحدة أن سمعتُ صوتًا من أي فئةٍ يعترض عليَّ وجاء بما يؤيِّد ما يدَّعيه بنصٍّ قرآني أو بدليل صحيح من السُّنة النبويّة الشريفة.

إنّ التجديف على الله تعالى.. أي سبَّهُ وإهانة مقدَّساته.. ذُكِرَ في القرآن الكريم في مواضع عدّة فيما يختصُّ بأقوام مختلفة وفي فترات زمنيّة متعدِّدة. وحسب التفسيرات المتباينة نجد أن ما يُعتبر تجديفًا حسب رأي من الآراء، لا يُعتبر كذلك حسب رأي آخر، وما كان يُعتقد انّه تجديف في زمنٍ من الأزمان لا يُعدُّ تجديفًا في زمنٍ آخر.. وهكذا.

لنأخذ بني إسرائيل على سبيل المثال.. الذين يعتقدون أنّ عيسى ابن مريم لم تكن ولادته شرعيّة بناءً على قوانين ديانتهم. ولكن القرآن الكريم يعتبر هذا التصريح تجديفًا من أفسد ما يكون، وتوعَّد اليهود الذين يُصِرُّون على هذا القول بعقابٍ شديد، ولكن هذا العقاب لن يُنفِّذه فيهم الإنسان، بل سيُنفِّذه الله سبحانه وتعالى. ونفس هذا المسيح عيسى ابن مريم يعتقد المسيحيّون أنّه ابن الله، وهذا التصريح الخطير يعتبره القرآن الكريم قمّة التجديف حيث قال :

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (مريم: 91).

وبالرغم من ادِّعائِهم هذا الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بعباراتٍ يقشَّعرُّ لها كيان المرء، لم يُحدد الله أي عقوبةٍ ماديّةٍ لمثل هذه الخطيئة، ومعنى ذلك أنّه غير مسموح للإنسان أن يَسُنَّ قانونًا لهذا الغرض.

ومن ناحية أخرى نجد أنّه قد جاء في القرآن الكريم ذكر الوثنيين الذين يعبدون حجارةً يصنعونها بأيديهم ويعتبرونها آلهةً من دونه، وهم أيضًا يرتكبون تجديفًا في حقِّ الله. ولكن انظر إلى تعاليم القرآن.. إذ يحثُّنا بل ويوكِّد علينا أن لا نسُبَّ الوثنيين الذين يُؤمنون بآلهةٍ باطلة، بل ولا نسُبّ حتى آلهتهم كي لا تكون لهم حُجّة فيسُبُّوا الإله الملك الحقّ المبين. إنّ أولئك المشركين الذين يتَّخذون آلهةً غير الله قد اقترفوا أفظع التجديف في حقِّ الله تعالى، ومع ذلك لم يُسمح للمسلمين أن يردُّوا على ذلك فيسُبّوا تلك الآلهة الباطلة. تأمَّلوا سماحة الإسلام. ثم يستمر القرآن الكريم في إبراز هذا المعنى السامي ويؤكِّده، حتى إنّه يَلفت الأنظار إلى أنّ المفاهيم الإنسانيّة جميعها مفاهيم نسبيّة، فمن يؤمن بشيء يرى فيه الكمال والجمال الذي يتّفق مع فكره ومزاجه وقناعته، ولذلك فليس من حقِّ أحد أن يُعاقب غيره على ما يؤمن به، لمجرَّد أنّه يرى فكره قبيحًا بينما ذلك الغير يراه جميلاً، فما تراه أنت جميلاً يكون قبيحًا في نظر الآخرين الذين ينظرون إلى ما تؤمن به أنت من منظور يختلف عن ذلك الذي تنظر أنت منه إليه، أو يراه من زاويةٍ لا تراه أنت منها. وعلى هذا فإنّ القرآن بعد بحث هذا الموضوع يحضُّ على أن يترك موضوع العقاب والجزاء على فكر الآخرين إلى الله تعالى، فهو سبحانه الذي له أن يُقرِّر من كان على صوابٍ في فكره أو كان على خطأ، وهو الذي له الحق في أن يحكم بينهم بالأجر والثواب والجزاء والعقاب.

بعد أن أوضح لنا القرآن الكريم خلفيّة خطيئة التجديف التي ارتُكِبت في حقِّ الله من طرف الوثنييّن والمشركين، يُواصل توضيح الصورة أكثر ويُركّز على أنّه بالرغم من أنّ الوثنييّن تمادوا في استعمال لغةٍ بذيئة جارحة في الحطِّ من فكرة الإله الواحد وتفضيل فكرة الآلهة المتعدِّدة، فليس لأحدٍ من البشر سُلطة إصدار وتنفيذ أي عقوبة دنيويّة فيهم.. وهذا هو المنهج الذي اتَّبعه سيدنا محمد المصطفى إذ أنّه لم يحدث قط أنّه عاقب أي مشركٍ لعبادته آلهةً مختلفة.

ويواصل القرآن الكريم توضيح هذه المسألة الحسّاسة التي لها أيضًا علاقة مباشرة برسول الإسلام سيدنا محمد المصطفى الذي هو محلُّ فهمٍ خاطئ في عصرنا الحالي نتيجةٍ لوجود صورةٍ مشوَّهة للإسلام.. ولم تظهر هذه الصورة البشعة للدين الحنيف على الساحة الفكريّة والعقائديّة من باب الصُدفة، ولكن هذا ما يحدث دائمًا في الظروف التي يضعف فيها الدين. فغالبًا ما يُبالغ الناس في تعظيم أنبيائِهم لدرجة أنّهم ينسِبونَ إليهم صفاتٍ اختصَّ الله بها نفسه وتفرَّد بها، ولا يليق بألوهيّته وقدوُّسيَّته أن يتّصف بها غيره، أو أنّهم ينسِبونَ إلى أنبيائِهم أنّهم لم يموتوا ولكنهم يعيشون مُخلَّدون منذ مئات وألوف السنين في مكانٍ ما!! وبالتالي تجعلهم أفكارهم هذه أكثر حساسيّةً لما يعتقدون أنّ فيه مساسًا بشرف أنبيائهم، بشكلٍ قد يفوقُ إحساسهم لما فيه مساسٌ بعزّة وعظمة الواحد القهَّار. وهذه بدون شكّ حالةٌ من الشرك المستتر التي تتولَّد رغم وجود عقيدة توحيد الله، ولكن لكل مأساة نقطة بداية. لذلك فإنّ القرآن الكريم يحكي لنا واقِعةً حدثت في زمن رسول الله وكان هو طرفًا فيها، لأنّ الله يعلم أنّه سوف يأتي من بين أتباعه من يُبالِغون في احترامه ويُفرطون في تبجيله حتى أنّهم يعتبرون أنّ أيّ إساءة إليه أو إلى دينه ليس لها من عقابٍ إلا الموت والقتل. ولذلك فقد ذكر لنا القرآن الكريم حيثيّات إهانةٍ وُجِّهت لشخص رسول الله لم يكن لها مثيلٌ في قُبحها وشدّتها، وبالرغم من أنّه في تلك الظروف كانت للرسول السُلطة والقدرة لعقاب مرتكبها عقابًا شديدًا، ولكنه مع ذلك لم يتَّخذ أي إجراء انتقامي. وذكر هذه الحادثة في القرآن الكريم لا يترك أي فرصة لأعداء الإسلام أو المتزمِّتين من علمائِهم للهروب من المواجهة، بل عليهم أن يقبلوا هذه الحقيقة القرآنيّة. أما تفاصيل هذه الحادثة فهي كمايلي:

حدث أن كان رسول الله عائِدًا إلى المدينة من إحدى المهام الدفاعيّة.. وقعت في شهور الصيف التي يشتدُّ فيها الحرُّ والقيظ. وكان المسلمون يُعانون بوجهٍ عام من الفقر والحاجة، كما كانت المهمة الدفاعيّة قد نُظِّمت على وجه السرعة بغير قضاء الوقت الطويل في أمور الاستعداد والتحضير، ولذلك فقد استُهلِكت كميات الطعام والشراب التي حملها الجيش معه، وصار الجميع يُعانون من الجوع والعطش في طريق عودتهم. ولما وصل الجيش إلى مشارف المدينة قال أحد رؤساء المنافقين، وكان اسمه عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وجاء عنه في كثيرٍ من الروايات أنّه كان مُنافقًا، غير أنّه أعلن بلسانه أنّه دخل في الإسلام، وعلى ذلك فكان يُعدُّ واحدًا من المسلمين رغم أنّ إسلامه لم يكن قائمًا على الحق.

كان ذلك الرجل زعيمًا من أعظم زعماء المدينة، حتى إنّه لولا هجرة الرسول ومجيئه إلى المدينة وتوليه الأمور فيها لكان هذا الرجل قد تُوِّج ملكًا على المدينة وزعيمًا عامًّا على كل قاطنيها من قبائل الأوس والخزرج وقبائل اليهود وغيرهم. كان ذلك الرجل يعلم أنّ أمر توليته ملكًا على المدينة قد انتكس بسبب مجيء الرسول إلى المدينة، ولهذا كان هو وأتباعه يُبطِنون الحقد الشديد والكراهية البالغة للرسول ولدين الإسلام، رغم تظاهرهم بقبوله ودخولهم فيه، فهم شاهدوا كيف التفَّ الناس حول رسول الله الذي اكتسب قوةً وسُلطانًا، مما دفع بعبد الله بن أُبيّ بن سلول نفسه وأتباعه أن شاركوا في موجة التأييد وأظهروا ولاءهم لسُلطة النبيّ، واضطروا أن يُعلنوا موافقتهم على الميثاق الذي واثق به رسول الله أهل المدينة.

والحادثة التي أُشير إليها وقعت بعد عقد ميثاق المدينة، والذي حسب نصوصه تولّى رسول الله أعلى سُلطة إداريّة وتنظيميّة، بالإضافة إلى أنّه كان صاحب الكلمة الأخيرة الذي يفصل في الأمور الشرعيّة. وعلى هذا فقد جمع في يده السُلطة العليا طبقًا لميثاق المدينة. ولما بلغ الجيش الذي نال منه التعب والجوع والعطش مشارف المدينة أخذ هذا الزعيم يضجُّ بالشكوى. لقد ظنَّ أنّ جميع أفراد الجيش يشاركونه شعوره بالضيق والتبرُّم من هذا الرسول ومن كل ما يدعو إليه، فوقف يُعبِّر عمّا يعتمل في صدره من غِلٍّ وحقد، وقال أمام الجميع أنّه عندما يصل إلى المدينة فإنّ أشرف وأعزّ الناس سوف يُخرج أحقرَ وأذلَّ الناس من المدينة. وقد فهم الجميع.. بما فيهم ابنه.. ما كان يُقصد بهذه الكلمات، إذ أنّه كان يقصد نفسه بكلمات “أشرف” وأعزّ الناس”، بينما كان يقصد رسول الله بكلمة “أحقر” و”أذلّ الناس”، الذي قال أنّه سوف يُلقي به ويطرده من المدينة حينما يصل إليها. وقد وصلت هذه الأقوال إلى مسامع رسول الله عن طريق صحابته المقرَّبين إليه، الذين استشاطوا غضبًا لإهانة رسول الله الحبيب إلى قلوبهم، وكان هؤلاء معروفين بقوّتهم وبأسهم ومهارتهم القتاليّة، فكان كلّ منهم.. الواحد تلو الآخر.. يطلب من النبيّ أن يأذن له بقتل ذلك الرجل الذي أهان رسول الله، أي أنّه ارتكب الخطيئة الكبرى وهي خطيئة التجديف بسبِّ وإهانة نبيّ الله ورسوله، وهذا هو الموضوع الذي نحن بصدده.

في كلّ مرة كان أحد الصحابة يطلب من النبيّ أن يأذن له بقتل هذا الرجل كان طلبهُ يُقابل بالرفض. كان يُنصت إلى ما يقولون، ويُجيب أنّه يفهم تمامًا مشاعر أصحابه ويُقدِّر آلامهم، ولكنه أصرَّ على عدم توقيع أي عقوبةٍ على مرتكب هذا الخطأ الفظيع. فهل لم يفهم الرسول تعاليم القرآن الكريم كما يفهمها اليوم هؤلاء الذين يزعمون بوجود عقابٍ في الشريعة لمن يرتكب خطيئة التجديف بإهانة أنبياء الله. وإذا كانت وجهة نظري التي ذكرتها فيما سبق، قد أسأتُ بها تفسير القرآن الكريم، لكان ينبغي لرسول الله أن يحكم على هذا الرجل أن يُعاقب بالقتل، خاصةً وأنّه كان معروفًا بأنّه زعيمٌ للمنافقين، لأنّ عقوبة القتل هي عقوبة التجديف في الشريعة ولا أقل، ولكنه لم يفعل، بل إنّ أحداث هذه الواقعة تزداد وضوحًا في دلالتها وموضوعها.

أخيرًا.. بعد أن رفض رسول الله كل طلب تقدَّم به أحد صحابته لقتل ذلك الرجل.. تقدَّم إليه ابنُ ذلك الزعيم. كان ذلك الابن معروفًا بولائِه الشديد لرسول الله . وحين جاء إليه أراد أن يُحسِن تقديم التماسِه ليحصل على موافقته، فقال: يا رسول الله.. لعلّك رفضت طلب جميع من تقدَّموا إليك لتأذن لهم بقتل والدي حتى لا تأخذني حميَّةُ الجاهليّة فأنتقم من قاتل أبي، فإذا كان هذا هو السبب فإنّي أرجو منك أن تأذن لي بقتل والدي حتى لا أنظر إلى قاتل أبي.

إلى هذا المدى كانت مشاعر الغضب مشتعلة، وكان الإحساس بالغضب لإهانة الرسول الكريم يغمرُ قلوب الصحابة، ومع كل هذا.. فقد كانت الإجابة دائمًا: لا.. ليس هناك أي عقوبة لهذا الرجل.

ولكن لكل مأساة نقطة بداية. لذلك فإنّ القرآن الكريم يحكي لنا واقِعةً حدثت في زمن رسول الله وكان هو طرفًا فيها، لأنّ الله يعلم أنّه سوف يأتي من بين أتباعه من يُبالِغون في احترامه ويُفرطون في تبجيله حتى أنّهم يعتبرون أنّ أيّ إساءة إليه أو إلى دينه ليس لها من عقابٍ إلا الموت والقتل.

هذا ما يتعلّق بموضوع التجديف في الإسلام، فإذا قُدِّمت هذا القضيّة إلى العالَم الإسلامي المعاصر بهذا الشكل فلن يستطيع المتشدِّدون والمتزمِّتون أن يتحايلوا لنقض حُكم الله ولو قضوا أعمارهم في التفكير والتدبير. إذًا.. النتيجة الأخيرة هي أنّه لا تُوجد عقوبة دنيويّة ماديّة يُنفِّذها الإنسان على من يقوم بالتجديف في شريعة الإسلام وفي سُنّة الرسول .

ولم تنته حكاية زعيم المنافقين إلى هذا الحدّ، ولم ينزل الستار بعد على هذه التعاليم والأخلاق المحمّديّة النورانيّة، بل إنّ المشهد يزداد تشويقًا عندما توفِّي عبد الله بن أُبيّ بن سلول. حينذاك قرَّر سيد الخلق وخاتَم النبييّن محمد المصطفى أن يُصلّي عليه بنفسه صلاة الجنازة. كان قراره هذا خاليًا تمامًا من المراوغات السياسيّة التي تعوَّد عليها القوم، وأيضًا مُترفِّعًا عن المجاملات الدبلوماسيّة التي تبتغي المحافظة على المصالح الخاصّة، بل كان نابعًا من فهمه العميق والصحيح للإسلام.

وحينما كان الرسول ذاهبًا في طريقه لأداء صلاة الجنازة على عبد الله بن أُبيّ بن سلول اعترض طريقه حضرة عمر بن الخطاب – – الذي صار فيما بعد الخليفة الثاني، والذي عُرِفَ بالحِدَّة والتشدُّد، وذكَّر الرسول بكل أدب: ألم يوحِ لك الله آيةً بخصوص المنافقين

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة: 81).

هل تعرفون تلك الإجابة الخالدة؟  قال إنّه سوف يستغفر لهؤلاء أكثر من سبعين مرة.

بطبيعة الحال.. لقد فَهِمَ أنّ التعبير القرآني سَبْعِينَ مَرَّةً يمكن أن يؤخذ حرفيًّا ليدلّ على العدد 70، ويمكن أن يدلّ على الكثرة بغير تحديد لعدد معيّن. ولما كان يريد أن يُؤدّي صلاة الجنازة، لذلك اختار أن يأخذ هذا التعبير القرآني بمعناه الحرفي. وفيما بعد.. نزل الأمر الإلهي يمنع الرسول حتى من الوقوف على قبور أولئك المنافقين. ولكن الحادثة التي نحن بصدد دراسة جوانبها المختلفة سمح الله لها أن تقع وما كان لرسول الله أن يُنافي أو يخالف أوامر الله، بل إنّ كل خطوة خطاها وكل عمل صدر منه كان بموافقة العزيز القدير. لقد أراد الله أن يُلقّن الأجيال المستقبليّة درسًا لن ينسوه للأبد، وهو أنّ الإسلام لا يحتوي بتاتًا على عقوبة ماديّة ينفّذها أحدٌ من البشر في الدنيا على من يرتكب خطيئة التجديف.

إذا أردتم أن تكونوا أصولييّن حقيقييّن ارجعوا إلى المنابع الأساسيّة للإسلام الذي نحن بصدد الحديث عن محاسنه، فهذه هي الأصوليّة الحقيقيّة. إننا لا نوافق على لفظ “الأصوليّة” التي تطلقه الدول الغربيّة اليوم على الفرق الإسلاميّة المتشدِّدة والمتطرِّفة والتي تستمدُّ مبادئها من علماء عصور الظلمات.

هذا باختصار موقف الجماعة الإسلامية الأحمدية، والذي برهنت لكم من خلاله أننا أصوليّون بكلّ المعنى الحقيقي للكلمة، فإننا نستمدُّ مبادئنا من جذور الإسلام التي نصل من خلالها بفضل الله إلى إسلام محمد المصطفى لا لصورة الإسلام المشوِّهة التي وضعها ورسمها علماء عصور الظلمات.”

*   *   *

بعد أن أَخَذَنا حضرة أمير المؤمنين في رحلةٍ استطلاعيّة عبر صفحات التاريخ الإسلاميّ وأثبت حقائق قرآنيّة خالدة تعرض تسامح الرسول وحبّه للإنسانيّة الذي لا مثيل له، وتثبت يقينًا أنّه رحمة للعالمين تطرَّق حضرته إلى قضيةٍ هامة جدًا نذكرها تحت هذا العنوان الجانبي:

هل يسمح الإسلام بقتل المرتد؟

“إنّ معظم علماء الأمة المعاصرين قد أجمعوا على أنّه إذا قَبِلَ شخصٌ الإسلام ثم ارتدَّ عنه يجب قتله!! وعلى رأس هؤلاء العلماء.. يأتي المودودي الذي تعتبره المؤسسات التعليميّة الغربيّة كمرجعٍ أساسي لفهم الإسلام، ومما يؤسف له.. إنّ المعهد الذي درست فيه بلندن، وهو معهد الدراسات الشرقيّة والإفريقيّة، تحتوي رفوف مكتبته على كتبٍ كثيرة لهذا الرجل تتضمّن أفكاره وتعاليمه. وتحوم علامات الاستفهام الكثيرة حول الاحترام المبالغ الذي يحظى به المودودي في الأوساط الدينيّة والثقافيّة الغربيّة، وهذا الأمر المريب يدفع أي شخص غيور على دينه أن يتساءل عن الأسباب الخفيّة وراء هذا التأييد المشبوه. إذ يبدو أن الغرب يريد للمواطن الغربيّ أن يفهم الإسلام من خلال نظرة المودودي الـمُشوِّهة للإسلام، والتي يُرَوَّج لها في الغرب في الساحة الفكريّة والعقائديّة حتى أنّهم يعرضون مبادئه على أنّها الإسلام في حدِّ ذاته.

أما عن الآية القرآنيّة الكريمة الصريحة والواضحة التي تقول: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: 257)، يُعلِّق عليها المودودي ويقول: نعم الإسلام لا يُكره الناس على الدخول فيه، ولكن إذا دخل فيه أحدٌ تُغلق الأبواب وراء ظهره ولا يجوز له شرعًا أن يرتدّ عن الإسلام. تصوَّروا هذا!! كأنّه يقول إنّ الإنسان إذا صار مسلمًا يكون قد وقع في مصيدة إذا حاول الخروج منها يكون من حقِّ السلطات التشريعيّة الإسلاميّة أن تحكم عليه بالإعدام.

انظروا كيف شوّهوا وجه الدين الحنيف وعرضوه بأبشع صورة يمكن أن يتصوّرها العقل البشري! ولكننا حينما ندرس الآيات القرآنيّة المتعلِّقة بهذا الموضوع، والموجودة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، لا يعود هناك أي مجال للشكّ في أنّ ما يقوله المودودي لا علاقة له بالنصّ القرآني، وكلام الله بريءٌ تمامًا مما يُنسب إليه من أعمال القمع. ولا سبيل أمام العلماء المتطرفين للاستدلال على صحة آرائهم سوى الاستناد إلى أقوال واجتهادات العلماء السابقين في العصور الوسطى. فهم يقولون على سبيل المثال أنّ الإمام الغزالي، رحمة الله عليه، بناءً على فهمه العميق للإسلام الذي لا مثيل له بين علماء الأمة، قد أباح هذا العمل وأدان ذاك إلخ… ومن يتجرأ على نقد أعمال عالمٍ جليل كالإمام الغزالي؟

غير أنني لا أقارن آرائي بآرائهم أو بآرائكم، بل أقدِّمُ آراء الإسلام الممتدة من الكتاب الكامل الذي

لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت: 43).

اقرأوا تاريخ الإسلام لتعلموا أنّه في زمن رسول الله كان هناك من يدخلون الإسلام في الصباح ويُغادرونه بعد بضع ساعات.. أو بالأحرى يتركونه ويرتدّون عنه في المساء. ونجد أنّ اليهود تعمَّدوا القيام بهذا العمل كي يُلحقوا ضررًا فادحًا بالإسلام، وذلك أنّهم كانوا يأملون أنّهم حين يرتدُّون عن الإسلام سيأخذون معهم بعض ضعاف النفوس من المسلمين. إذ أنّ ارتداد الجموع الغفيرة يمكن أن يؤدِّي بالعامة إلى التساؤل عن سبب الارتداد، مما يُحدث جوًا من التشويش والشكِّ والارتياب في صفوف المسلمين.

ولكن لا نجد أثرًا لأي عقوبة لأي شخصٍ ارتدَّ عن الإسلام، ولا أثرًا لتنفيذ حكم الإعدام على أي مرتدٍّ عن الإسلام، لم تحدث ولا حالة واحدة. وتحتوي كتب الأحاديث النبويّة الشريفة، كصحيح البخاري وغيرها، على واقعات ارتداد أشخاص عن الإسلام، ولم يذكر أي مصدرٍ منهم أنّهم عُوقِبوا بطريقةٍ أو بأخرى. واليهود تعمَّدوا فعل هذا بغرض الإساءة إلى الإسلام، ولكن لم يحدث أن عُوقب أحدهم على ذلك. ويذكر القرآن الكريم هذه الأحداث بصفة عامة، ولكن كتب الأحاديث تذكر الكثير من التفاصيل، لذلك اخترت لكم حادثة تتعلّق بأعرابي قدِمَ مرة إلى المدينة وطلب من الرسول أن يقبله في دائرة الإسلام، فأخبره أنّه بتصريحه هذا أصبح مسلمًا. وتنعَّم الأعرابي لمدة يومين أو ثلاثة في ظلال ضيافة الرسول الكريم ، غير أنّه أصابته وعكةٌ فتشاءم من الإسلام وذهب إلى الرسول لكي يُرجع له إسلامه على أن يردَّ له بيعته. وبطبيعة الحال فقد رفض الرسول أن يُرجع الرجل إليه شيئًا، كما رفض أن يردَّ إليه بيعته حسب مطلبه، لأنّ البيعة ليست بين الرجل وبين رسول الله، بل هي بين الرجل وبين الله تعالى، فهي ليست شيئًا ماديًا يستطيع الرسول ان يردّهُ إلى الرجل. ولما كان الأعرابيّ مُصرًّا على أن يترك الإسلام ويرتدَّ عنه، فقد تركه الرسول يُغادر المدينة دون أن يعترض له أحد.

هذا ما فهمه الرسول من تعاليم القرآن الكريم التي أوحاها الله إليه ولم يوحِ بها لعلماء الملّة المعاصرين. فما هو الأساس الذي يستند إليه هؤلاء؟ إنّهم لا يستندون إلا إلى مئات من الأقوال والجُمل التي كتبها علماء عصور الظُلمات الذين يدَّعون أنّهم استقوا المفاهيم الإسلاميّة وتعلّموها من علماء العصور الوسطى. ومع هذا لا نجد ذكر لحديثٍ واحد للرسول ذُكِرَ فيه أنّه سمح بقتل شخصٍ لأنّه ارتدَّ عن الإسلام. ويقف القرآن شاهدًا وشامخًا مُبينًا ومُثبتًا أنه يسمح لأي شخصٍ أن يعتنق الإسلام ويتخلّى عنه متى شاء،

فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 30)،

وكذلك لم يذكر الله أي عقوبة دنيويّة لمن يقوم بهذا العمل:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (النساء: 138).

هذا التصريح القرآني العظيم أُردِّده اليوم إلى العلماء الغربييّن وإلى المستشرقين، وأنصحهم بدراسة الإسلام من جذوره وأُسسه التي أرساها الرسول ، لا من مفاهيم واجتهادات علماء الأمة الذين وُلِدوا بعد قرون عديدة من بعثة الرسول ، أعني في ظروف هيمنت فيها أفكار السيطرة السياسية للإسلام على عقليّة وتفكير المسلمين.

بإمكانكم أن تفهموا هذه المسالة بصورةٍ أحسن إذا ما قارنتموها بتاريخ المسيحيّة، فإنّ نفس الشيء وقع للمسيحييّن أنفسهم. انظروا ماذا حدث من إرهابٍ للمسيحييّن في عهد “إيزابيلا” و”فرديناند”. وهنا في إنجلترا.. كيف وافقت الحكومة البريطانية على إعدام خمسة آلاف امرأة اتُهمنَّ أنّهنَّ ساحرات. كل هذه الأعمال كانت تُنفذ باسم الله وبموافقة الكنيسة وباسم المسيحيّة. فرجائي أن لا تُسيئوا فهم الإسلام بسبب تصرُّفات وسلوك من نصَّبوا أنفسهم اليوم ممثلين للإسلام وحُماته. وهذا هو كل ما أطلبه منكم.”

  *   *   *

إلى هنا انتهت إجابة حضرة أمير المؤمنين، ولا أجد من تعليق أذكره سوى التحديث بأنعُمِ وأفضال الله على جماعتنا، إذ أنّه يُحافظ على وحدتنا وعلى أُلفة قلوبنا، وذلك باستمرار التفضيل علينا بالنِّعمة التي ذكر الرسول الكريم أنّ الله سوف يُعيدها إلى المسلمين مرةً أخرى، وهي نعمة “الخلافة على منهاج النبوة”، وصيانتها في صُلب جماعتنا. فحضرة أمير المؤمنين (أيّده الله) لا يستعرض عبر إجابته عضلات معارفه بأصول قواعد اللغة، كما تعوَّدنا من كثير من المشائخ، ولا يُطيل الحديث حول مسائل بسيطة لا تُسمنُ ولا تُغني من جوع، بل يعرض بطريقةٍ منطقيّة نقاطًا مُقنعة، تدخل عقل المرء وقلبه. وفي الحقيقة إنّ حضرة الإمام المهدي – – ومن بعده خُلفائه الكرام لم يُحضروا للدنيا جديدًا لم يعرفه الإسلام من قبل، بل كل ما قاموا به بعون الله وتأييده، أنّهم أزالوا خلال تحاليلهم وتفاسيرهم الأقنعة والأدران التي وُضعت على وجه الإسلام عبر العصور التي مضت، وهكذا استطعنا نحن أن نطّلع على جمال الإسلام ونرى بهاءه، وكأننا نسمع ونرى لأول مرة ذلك الدين الحنيف العظيم. إنّهم يَعرِضون ذلك المتاع القديم (الإسلام) الذي تَشوَّه وفقد صورته الأصليّة الجميلة التي أحضره فيها إلى الدنيا سيدنا محمد فإذا بجلال وتسامح وعقلانيّة هذا الدين الحنيف تصدم أصحاب الفكر المشوَّه بجميع أنواعه. إن هذه المهام لا يقدر عليها إلا أولئك الأبرار الذين يختارهم الله ويُطهِّرهم بنفسه، وهو الذي يدلُّهم على دقائق الأمور وأسرارها، وهو الذي يمنحهم ميراث السُلطة الروحانيّة لخاتَم النبييّن وسيد الخلق أجمعين. سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك