إبداعات أدبية خالدة

إبداعات أدبية خالدة

 

الحسد

مع مرور الزمن وتراكم السنين، نحاول جميعًا التقاط الأنفاس، والنظر إلى الوراء لنستعيد تلك الومضات الساحرة، المنبعثة من تلك الأقلام المخلصة، التي زينت صفحات الأدب والبلاغة، بتراث أدبي جميل ينعش الذاكرة والفؤاد. وتستعيد (التقوى) مع قارىء اليوم بعضًا من تلك الإبداعات الفريدة. وموعدنا اليوم مع مقتبسات من كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.

لو عرف المحسود ما للحاسد عنده من يد، وما أسدى إليه من نعمة لأنزله من نفسه منزلة الأوفياء المخلصين، ولوقف بين يديه تلك الوقفة التي يقفها الشاكرون بين أيدي المحسنين. لا يزال صاحب النعمة ضالا عن نعمته، لا يعرف لها شأنًا، ولا يقيم لها وزنًا، حتى يدله الحاسد عليها بنكرانها، ويرشده إليها بتحقيرها، والغض منها، فهو الصديق في ثياب العدو، والمحسن في ثياب المسيء.

أنا لا أعجب لشيء عجبي لهذا الحاسد، ينقم على محسوده نعم الله عليه، ويتمنى لو لم تبقى له واحدة منها وهو لا يعلم أنه في هذه النقمة، وفي تلك الأمنية قد أضاف إلى محسوده نعمة هي أفضل من كل ما في يديه من النعم.

وجه الحاسد ميزان النعمة ومقياسها، فإن أردت أن تزن نعمة وافتك فارمِ بخيرها في فؤاد الحاسد، ثم خالسه نظرة خفيفة، فحيث ترى الكآبة والهم فهناك جمال النعمة وسناؤها.

ليس بين النعم التي ينعم بها الله على عباده نعمة أصغر شأنًا، وأهون خطرًا من نعمة ليس لها حاسد، فإن كنت تريد أن تصفو لك النعم فقف بها في سبيل الحاسدين، وألقها في طريق الناقمين، فإن حاولوا تحقيرها وازدراءها، فاعلم أنهم قد منحوك لقب “المحسَد” فليهنأ عيشك وليعذب موردك.

إن أردت أن تعرف أي الرجلين أفضل، فانظر إلى أكثرهما نقمة على صاحبه، وكلفًا بالغض منه، والنيل من كرامته، فاعلم أنه أصغرهما شأنًا وأقلهما فضلاً.

قد جعل الله لكل ذنب عقوبة مستقلة يتألم بها المذنب عند حلول أجلها، فالشارب يتأقلم عند حلول المرض، والمقامر يتألم يوم نزول الفقر، والسارق يتألم يوم دخول السجن.

أما الحاسد فعقوبته حاضرة دائمة، لا تفارقه ساعة واحدة. إنه يتألم لمنظر النعمة كلما رآها، والنعمة موجود من الموجودات الثابتة التي لا يلم بها إلا التنقل من مظهر إلى مظهر، والتحوّل من موقف إلى موقّف فهيهات أن يفنى ألمه، أو ينقضي عذابه، حتى تقر عينه التي تبصر، ويسكن قلبه الذي ينبض.

الحسد مرض من الأمراض القلبية الفاتكة، ولكل داء دواء، ودواء الحسد أن يسلك الحاسد سبيل المحسود، ليبلغ مبلغه من تلك النعمة التي يحسده عليها، ولا أحسب أنه ينفق من وقته ومجهوده في هذه السبيل أكثر مما ينفق من ذلك الغض من شأن محسوده، والنيل منه، فإن كان يحسده على المال، فلينظر أي طريق سلك إليه فيسلكه، وإن كان يحسده على العلم فليتعلم أو الأدب فليتأدب، فإن بلغ من ذلك مأربه فذاك، وإلا فحسبه أنه ملأ فراغ حياته بشؤون لولاها لقضاها بين الغيظ الفاتك، والكمد القاتل.

(النظرات، الجزاء الثاني)

Share via
تابعونا على الفايس بوك