في عالم التفسير
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (الكهف: 55-60).

المفردات:

السنة أي السيرة، الطريقة.

ليدحضوا مشتقة من دحض. يقال دحضت حجته أو ادعاءه أو استدلاله أي كان أو أصبح باطلاً لاغيًا. فالاصطلاح القرآني “ليدحضوا به الحق” يعني ليصبحوا قادرين على رد الحق.

موئلاً أي ملجأ أو مرجعًا هي مشتقة من وال، يقال وال فلانًا يعني جعل فلانًا كملجأ له، وال منه أي بحث عن ملجأ منه، وال إليه أي سعى للجوء إليه، وال إلى الله أي رجع إليه، موئلاً هو ما يلجأ إليه.

التفسير:

لقوله تعالى وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا مفهومان: الأول أن الإنسان أكثرُ شيءٍ يتأتى منه الجدلُ، أي مهما حاولتَ شرح الأمر لـه فإنه يجد فيه طريقًا للخصومة، ولا يريد أن يطمئن. والمفهوم الثاني هو: جدلُ الإنسان أكثرُ مِن جدلِ كلِّ مجادِلٍ (روح المعاني).. أي أن الله تعالى وهب لـه العقل لكي يحرز الرقي الروحاني وينال معرفته ‍ ، ولكنه يتخذ من هذه القوة -التي تميّزه عن سائر الحيوانات- سببًا للمفخرة، ويصبح أحطَّ درجةً من الحيوانات بدلاً من أن يكون بعمله أشرفَ المخلوقات.

علمًا أن كلمة “الناس” في هذه الآية تعني أبناء آدم كلهم، بينما تعني كلمة “الإنسان” النوعَ الخاص منهم الذي مرّ ذكره، والمراد أن الله تعالى قد بين في القرآن الكريم جميع المسائل أيما بيان وبأساليب شتى حتى ينتفع بها البشر، ولكن ذلك النوع الخاص من البشر الذي مر ذكره يتخذ من هذا البيان ذريعة للجدال والنقاش، ويطعن في هذه الأساليب البيانية القرآنية.

وإن في ذلك إيماءة إلى أن المسيحيين سيعتبرون تفاصيل الشرع هذه لعنةً وذلك تنصلاً من العمل بالشرع، مع أنها إنما تستهدف إنقاذ البشر من الهلاك.. وقولـه تعالى لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ يعني أن الكافرين يخاصمون ويمارون بالباطل كي يمحقوا به الحقَّ ويزيلوه من العالم.

والمراد من قوله تعالى وَاتخَّذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا أننا نُري الآيات فعلاً ولكنهم يستهزئون بها. وهذا هو دأب الأوروبيين في العصر الحاضر، حيث لا يولون للآيات الإلهية أدنى اهتمام، بل يعدّونها ضربًا من أوهام الحمقى. يهتمّون بالتدابير العقلية،  أما آيات الله فيحتقرونها احتقارًا.

وفي الآية 58 أي مَن أظلم ممن إذا قُرئت عليه آيات الله تعالى احتقرها معرضًا عنها، ولم يفكّر أن أعماله -التي قام بها معتمدًا على عقله- قد أسفرت عن المزيد من الفساد والفتن والحروب. وبالرغم من أنه قد جرب أنه قد فشل في توطيد السلام بناء على عقله فشلاً ذريعًا، إلا إنه لا يلتفت إلى المعونة الإلهية والهداية السماوية؛ وهذا يدل على أنه يرفض ما جرّبه بنفسه. فكم هي شنيعةٌ جريمةُ وغفلةُ تلك الأمة التي تدّعي أنها تؤسس أعمالَها على التجارب، إذ تولي اهتمامًا شديدًا للتجارب الجزئية، ولكنها لا تنتفع من نتائج الخبرة التي هي خبرة القوم كلهم. إذًا فليس مآل ذلك إلا أن يحرمهم الله من الفهم السليم إذ قد رفضوا عمليًّا أن يستعينوا بالفهم السليم، وأن يتركهم وشأنهم لأنهم لن ينتفعوا من نصح ناصح مهما قدّم لهم مِن نُصحٍ.

تشير الآية 59 إلى أن الله سبحانه لا يهلك قوماً على خطأهم في الفور. فهذا ضد سنته تعالى. إنه يمهلهم أولاً ثم ينذرهم بالعقاب بواسطة نبي يبعثه فيهم يدعوهم إلى الحق وينهاهم عن المعاصي. فالعقاب المهلك ينزل بهم فقط عندما يتمادون ويصرون على ظلمهم حيث لا مناص ولا مفر.

يعلن الله تعالى إنه لو عاقبهم على جرائمهم لأهلكهم من زمان، ولكنه تعالى لا يهلك قومًا بدون إنذار، لذلك سوف يحذّرهم أولاً، وسيؤاخذهم بعد إقامة الحجة عليهم بواسطة المأمور الذي يرسله في ذلك الوقت. وقولـه تعالى بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا يعني أنه تعالى قد حدد لهم موعدًا، ولن يجدوا للنجاة منه ملاذًا سوى الله تعالى.

وفي الآية 60 يقول تعالى: أي قد خلت قبلهم كثير من الأمم التي لما ظلمتْ، أي لم تصحح موقفها رغم الإنذار السماوي، دمّرها الله تعالى حسبما أنبأ عن هلاكهم سلفًا. إذًا فينبغي لهؤلاء أيضًا أن يفكّروا أنهم مهما أحرزوا من رقي وتقدم فإنهم بشر على كل حال، فأنى لهم أن ينجوا من الهلاك جراء إعراضهم عن الله تعالى وقد هلك البشر قبلهم للسبب ذاته.

واليوم أيضًا يرى 99 % من الناس أن أوروبا لن تُدمَّر بعد الآن. ولكن الله تعالى ينبئ هنا أنه ظن خاطئ يدل على جهل أصحابه. فمن ذا الذي كان يتصور أن الإمبراطوريات السابقة ستدمَّر في يوم من الأيام. ومن ذا الذي كان يتصور أن إمبراطوريات المسلمين أو الرومان أو الفرس ستزول في يوم من الأيام؟ ولكنها كلها هلكت وبادت. فاستغراب الناس من زوال ملك هؤلاء القوم ينافي العقل..

Share via
تابعونا على الفايس بوك