الحقيقة كما أراها الحلقة الثانية

الحقيقة كما أراها الحلقة الثانية

حسين القزق

بقلم: حسين القزق

رفع عيسى عليه السلام

أما فيما يخص رفع عيسى ، يستند الأحمديون إلى الآية الكريمة:

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (آل عمران: 55-56)

يرى الأحمديون أنه من أجل أن يتم فهم معنى هذه الآيات، لا بد وأن يلم بالحدث الذي من أجله نزلت هذه الآية. إن اليهود في زمن المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام قد مكروا مكرًا عظيمًا وسعوا سعيًا حثيثا لكي يقتلوا المسيح ابن مريم أو يصلبوه، ولكن الله القدير وهو خير الماكرين أنجاه من الموت على الصليب حسب وعده: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ ، يعني توفاه الله تعالى، فكان المسيح مرفوعًا ومقربًا عند الله تعالى، وما قتله اليهود يقينًا، فلم يكن ملعونًا ومردودًا من حضرة الله، لأنه مكتوب في التوراة:

“وَإِذَا كَانَ عَلَى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا الْمَوْتُ، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ”. (اَلتَّثْنِيَة 21: 22-23).

كما جاء أعلاه من تفسير لمعنى النزول، لا بد وأن نأتي على معنى الصعود بالصورة التي يراها الأحمديون من واقع القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، والمقتطفات من التوراة والإنجيل:

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (النساء: 158-159).

يذهب بعض المفسرين بأن رجلاً آخر شُبه بالمسيح وحُول إلى صورته، وقتله اليهود على الصليب.

يقول الأحمديون أن هذا التفسير مخالف للتاريخ وترد عليه اعتراضات شتى:

الأول- إن واقعة الصليب وقعت قبل الإسلام بستمائة سنة تقريبًا ولم يشهده إلا اليهود والنصارى. وهم متفقون على أن المعلق على الصليب كان المسيح ابن مريم بذاته لا غير، فكيف يمكن للنصارى أن يقبلوا قولاً مخالفًا لما وصل إليهم بالتواتر ويخالف كتبهم المقدسة؟ فهل يمكن أن يرد تواتر الأمتين بدون برهان قوي؟

الثاني- من أخبر المفسرين بأن المعلق على الصليب كان غير المسيح؟ هل أخبرهم اليهود أو النصارى؟ كلا بل إنهم اخترعوا هذه العقيدة من عند أنفسهم.

الثالث- قد اختلف المفسرون في من ألقي عليه الشبه اختلافًا كثيرًا. راجع الجلالين وابن جرير وروح المعاني.

الرابع- هل خاف الله من اليهود من أن يصعدوا إلى السماء فيقبضوا على المسيح؟ فلذا ألقى الشبه على رجل آخر بعد أن رفعه حيًّا إلى السماء حسب اعتقاد البعض.

الخامس- لماذا أهان الله تعالى صورة محبوبه برسم صورته على عدوه؟ وإذا أراد الله أن يعذب ذلك العدو فكان من الأولى أن يمسخه ويجعله قردًا أو خنزيرًا.

السادس- إذا سلمنا بأن اليهود أماتوا على الصليب الرجل الذي شبه بالمسيح ولم يثبت انكاره عن كونه مسيحًا، فلا شك أن اليهود يكونون على حق عند الله في تكذيب المسيح نفسه طبق زعمهم! إذ أنهم لم يروه ذاهبًا إلى السماء، والذي صلبوه كان المسيح نفسه طبق زعمهم، واعتقدوا بكونه ملعونًا حسبما هو مذكور في كتبهم المقدسة:

” وَإِذَا كَانَ عَلَى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا الْمَوْتُ، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ”. (اَلتَّثْنِيَة 21: 22-23).

السابع- قال الإمام ابن حيان الأندلسي في المحيط عن إلقاء شبه المسيح على رجل آخر: أما أن يلقى شبهه على أحد فلم يصح ذلك عن رسول الله ، وكذلك قال الإمام الرازي في تفسيره الكبير.

يرى الأحمديون أن الخطأ وقع فيه المفسرون أنهم أخذوا عن أهل الكتاب المسيحيين واليهود الفكرة القائلة أن هناك أنبياء صعدت إلى السماء، وإنها ستنزل، ومن ضمنها عيسى ابن مريم . ومرد هذا المفهوم عندهم أنهم لم يحاولوا الربط بين أحاديث الرسول المصطفى محمد ، مثلاً قال الرسول :

“وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا”.

ثم قال

“كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ”. (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء).

لفظ “يضع الجزية” يشير إلى عدم شن الحروب الدينية بتاتًا في زمنه، ولفظ “فيكم وإمامكم منكم” معناه لا يأتي ابن مريم هذا من خارج أمة محمد ، بل يكون من أمته.

إن سيدنا محمدًا لما طالبه الكفار بصعوده إلى السماء قائلين:

أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ .

رد على مطالبتهم قائلاً: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا . فكيف نقبل أن المسيح إذا عُرض للأذى رفعه الله إلى السماء، ومع أن الرقي محظور على بني الإنسان في قضية سيدنا ومولانا محمد، لكن الله رفع المسيح بلا داع. ألا يدفعنا ذلك للقول -والعياذ بالله- أن المسيح لم يكن بشرًا، بل كان إلهًا، أو كان أفضل من محمد رسول الله أفضل الأنبياء أجمعين. فإذا كيف للعقل أن يقنع بأن يرفع المسيح إلى السماء ويبقى ما يقرب من ألفي سنة، ويتوفى محمد في الأرض ويظل مدفونًا فيها؟

ثم إن هذه القضية لا تتصل بالغيرة فقط، بل ترتبط بصدقه إذ يقول: ” لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اِتِّبَاعِي، فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا يَنْزِل مُقَرِّرًا لِهَذِهِ الشَّرِيعَة وَمُجَدِّدًا لَهَا” (عون المعبود شرح سنن أبي داود، كتاب الملاحم).

فلو كان عيسى حيًا لكان قوله باطلاً، لأنه يؤكد بوفاة كل النبيين “لو كان”.

فمن من الأمة المسلمة يجرؤ أن يقول بعد شهادة رسول الله أن المسيح حي، فإن كان المسيح حيًا تعرض صدق رسول الله للاعتراض أنه يصرح بوفاته.

جاء في صحيفة ملاخي “هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ، فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ”. (مَلاَخِي 4: 5-6). وإن إيليا النبي قد صعد إلى السماء حسبما نقرأ في الملوك الثاني: عن (إيليا واليشع)

“وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ”. (اَلْمُلُوكِ الثَّانِي 2: 11).

لأجله كان اليهود ينتظرون مجيء مسيحهم الموعود بعد أن ينزل إيليا من السماء ولا زالوا ينتظرون. ولكن إيليا لم ينزل من السماء وظهر المسيح فسأله تلاميذه قائلين: “فَلِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:

«إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَلكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذلِكَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ». حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلاَمِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ”. (إِنْجِيلُ مَتَّى 17 : 10-13)

ثم قال:

“لأَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا تَنَبَّأُوا. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ”. (إِنْجِيلُ مَتَّى 11: 13-15).

من الملاحظ أن أهل التوراة وعلماءهم لم يؤمنوا بعيسى بن مريم مسيحهم الموعود، واستمروا ينتظرون نزول إيليا “صعد في العاصفة إلى السماء”. فإذا كانت حجة اليهود أن لفظ “السماء” قد ورد في التوراة بالرغم من أنهم لم يفهموا معناها، ولكن أي حجة بقيت للمسلمين الذين لم يرد في قرآنهم لفظ “السماء” عند ذكر عيسى ولا في قول النبي .

جاء في سورة المائدة:

وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ،

هذه الكلمات الحقة تثبت أن المسيح بن مريم كان شهيدًا أو مراقبًا على أتباعه ما دام فيهم، ولكن عندما فارق قومه بالوفاة “فلما توفيتني” لا يمكنه بعد ذلك أن يكون عليهم شهيدًا. أليس هذا بدليل قاطع على أنه فارق أتباعه بالوفاة، حيث رُفع إلى الله ودخل في عباده المقربين. ولو كان الرفع بالجسد عند مفارقة أمته لكانت الإجابة “فلما رفعتني إلى السماء” وما قال “فلما توفيتني”، وهذه شهادة قوية وصادقة من قبل المسيح بوفاته.

إذاً الرفع هنا لا يعني الرفع إلى السماء، لأن الرفع، إذا كان الرافع هو الله والمرفوع أحدًا من بني آدم، لا يكون معناه سوى التقرب ورفع الدرجات.

ومعلوم أن اليهود لم ينكروا رفع عيسى إلا بالروح، وما كان قصدهم من قتله وصلبه إلا إثبات أنه لم يكن مرفوعًا إلى الله تعالى من حيث الروحانية، أي ليس له علاقة بالله، فرد الله تعالى عليهم بأنه كان مقربًا لله ولم يكن مطرودًا من رحمته كما يظن.

إذًا فإن ذكر الله وفاة عيسى ورفعه كان الغرض منه الرد على اليهود الذين ادعوا أنهم قتلوه ليثبتوا بذلك كذبه في دعوى النبوة وأنه -والعياذ بالله- كان ملعونًا ومطرودًا من رحمة الله، وأن روحه لم ترفع إلى الله تعالى مثل رفع باقي أنبياء الله الكرام. كما أن اليهود لم يعترضوا على صعوده إلى السماء بجسده العنصري حتى نقول إن الله كذّبهم ورد عليهم أنه أصعده بجسده العنصري إلى السماء.

وإن آية وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ليست في الحقيقة إلا تفسير لطيف لآية

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ .

ففي مقابلة “مكروا” ذكر الله قولهم “إنا قتلنا المسيح بن مريم”. وفي مقابلة “ومكر الله والله خير الماكرين” ذكر الله “وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم”. وفي مقابلة “إني متوفيك” ذكر “وما قتلوه يقينًا” وفي مقابلة “رافعك إلي” ذكر “وما قتلوه يقينًا”. وفي مقابلة “رافعك إلي” ذكر “بل رفعه الله إليه”.

وكان رد الله تعالى عليهم بأنهم قتلوه، إنني توفيته حسب وعدي إياه “إني متوفيك”، وأن قتلهم له معناه أنه ملعون -والعياذ بالله- فرد الله عليهم بقوله تعالى: “بل رفعه الله إليه” أي إنه مقرب من الله تعالى وأن الله رفع روحه بعد وفاته تمامًا كرفع أرواح المقربين الصالحين.

إن لفظ “ورافعك إلي” لا يدل أنه قد رفع إلى السماء، بل إن الرفع هنا، إذا كان الرافع الله تعالى والمرفوع أحدًا من الناس لا يكون سوى التقرب ورفع الدرجات كما يقول صاحب لسان العرب ما نصه: “الرفع ضد الوضع. وفي أسماء الله تعالى الرافع الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد وأولياؤه بالتقريب.” وقد ورد في القرآن المجيد لفظ الرفع غير مرة في هذا المعنى حيث يقول الله تعالى:

“ويرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.” وقال النبي : “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين.”

قبل أن نختتم كلمتنا بشأن وفاة ورفع ونزول عيسى نود التأكيد بأن علماء مكة الكرام قد أقروا وفاة عيسى بن مريم . وهنا يتفق العلماء المسلمون مع المسلمين الأحمديين في هذه النقطة، وقد يكون الأحمديون هم السابقون في الزمن الحاضر في تفسير هذه الآيات، إلا أنه من المؤكد أن علماء كثيرين سبق ظهورهم الأحمدية، قد أقروا بذلك أيضًا.

سبب تسمية مهدي آخر الزمان بعيسى بن مريم

يعزو المسلمون الأحمديون تسمية مهدي آخر الزمان إلى شخص آخر غير عيسى بن مريم الناصري، ويذهبون في قولهم إلى أن المعترضين على المسلمين الأحمديين قد لا يفكرون بأنه أصبح من عادة الناس أن يستعملوا كلمة عيسى لغير المسيح، ومع ذلك لا يحسون أن هنالك مدعاة للاعتراض، ولكنهم يستغربون إذا سمى الله أحدًا بعيسى. إنهم كل يوم يصفون الكريم بحاتم الطائي وذا المواهب العلمية بالطوسي وصاحب قوة الاستخراج غير العادية بالفخر الرازي، لكنهم يظنون بكلمة ابن مريم ظنونًا. فلماذا إذا لا نقصد التعيين بحاتم الطائي والطوسي والرازي، فإذا لم يرد بهذه الكلمات أن الشخص المسمى بها هو نفس الطائي أو هو ذات العلامة الطوسي، فلماذا يعني استعمال كلمة ابن مريم أن الشخص المبعوث في هذا الزمن سيكون نفس الذي بعث قبل تسعة عشر قرنًا. وإن الطائي والطوسي والرازي ليست بالكلمات التي تستعمل عادة للمجاز، لكن اختص الله كلمة ابن مريم باستعمالها في القرآن للدلالة على وضع خاص من أوضاع المؤمنين كما يقول :

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ .

فإذا كان الله قد سمى وضعًا خاصًا من أوضاع المؤمنين بمريم، ولقب حالة المؤمن هذه بمريم، كان لقب ابن مريم الذي اختص بمعهود هذا العصر راجعًا إلى أنه سيرقى تدريجيًا من حالته المريمية إلى حالته العيسوية. إن أول حياته يكون نزيها كعيسى، مؤيدًا بروح القدس وسيبذله في العمل على إصلاح الناس وتثبيت الحق في قلوبهم.

وخلاصة القول: إن استخدام المجاز أو الاستعارات أو التشابه من أجل إضفاء البلاغة على الأسلوب. وبالتالي فإنه ليس بالضرورة أن ينزل عيسى بن مريم نفسه، بل هو شبيه له ، في خلقه وأفعاله وصفاته، ومجازًا يطلق على مهدي آخر الزمان عيسى بن مريم. ويعزز هذا القول، ما جاء ذكره في كتاب سراج الدين أبو خوص عمر بن الوردي “فريدة العجائب وفريدة الغرائب” قال:

“قالت فرقة: نزول عيسى خروج رجل يشبه عيسى في الفضل كما يقال للرجل الخير ملك وللشرير شيطان تشبيهًا بهما ولا يراد بهما الأعيان.”

يستند المسلمون الأحمديون في إثبات أن المسيح بن مريم الناصري هو غير ذلك المهدي الذي سينزل في آخر الزمان على أحاديث رسول الله بأن المهدي سيكون من أمته.

يقول الرسول :

“وَلَا مَهْدِيّ إِلَّا عِيسَى” وأيضًا “كَيْفَ بِكُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ”

إذا أمعنا النظر في كلا الحديثين، يتبين لنا جليًا أنه لا يوجد مهدي في عصر المسيح الموعود غير نفسه، فهو إمام هذه الأمة وهو من أفرادها ولا يكون أجنبيًا عنها. فإن الظن بأن المسيح والمهدي وجودان متغايران باطل ومخالف لحديث لا مهدي إلا عيسى. فإن على المؤمنين أن يتدبروا في أقوال رسول الله ، وإذا بدا لهم تناقض فعليهم تدبره لاستحالة تضارب أقوال الرسول ، وخصوصًا أن هذه الأحاديث مشهود في صحتها. وإذا كان رسول الله قد صرح مرة بأن المهدي سيظهر ثم ينزل عيسى ويصلي وراءه ثم قال “لا مهدي إلا عيسى”، أفليس علينا عندئذ أن لا نرفض أحد القولين، بل نفكر في كليهما ونسعى للجمع بينهما. وطبقًا لذلك، إذا ألقينا نظرة عابرة على كلا الحديثين وجدنا أن هناك وجهًا يمكن به الجمع بين الحديثين وهو أن رسول الله أخبر بنزول المسيح بكلمات تدفع القارئ إلى الاعتقاد أن المهدي والمسيح وجودان متغايران، فأزال هذا الاشتباه بقوله: “لا مهدي إلا عيسى” ودل بذلك على أن الحديث يتضمن استعارة، وتلك الاستعارة لا تعني إلا أن الموعود من هذه الأمة، ويدعى أولاً لإصلاح الناس ولا يكون نبيًا، لكن بعد ذلك يتحقق في شخصه نبأ نزول المسيح بن مريم، فيدعي أنه هو المسيح عيسى الذي وعد بنزوله. فكأن هذين الحديثين يدلان على ظهوره بمظهرين مظهر التجديد والإصلاح ومظهر المسيحية التي تستدعي النبوة.

وإن هذا الأسلوب المجازي يعم جميع الأنبياء، بل لو لم يكن ذلك لاستحال فهمهما. ولو لم نأخذ هذين الحديثين بالمأخذ الذي ذكرناه لاضطررنا إلى قبول أحد الأمرين؛ أما أن نقول أن حديث (لا مهدي إلا عيسى) باطل من أساسه أو نؤوله بأن عيسى هو الشخص الجدير بالذكر، أما المهدي إزاءه فليس بشيء يذكر، كما يقولون لا عالم إلا فلان، فليس المراد هنا نفي مطلق العلم، بل معناه أنه بلغ من العلم ما لم يبلغه أحد. وكلا المعنيين يؤدي إلى نتائج خطيرة، لأن إبطال الحديث بغير ما سبب أمر خطير جدًا، وخاصة الأحاديث التي تشهد بصحتها الشواهد، وكذلك القول بأن المهدي ليس بشيء بالنسبة إلى المسيح يعارض الأحاديث التي تقول بأن المسيح سيقتدي بالمهدي، والمهدي يكون إمامًا. فإذن يمكن الآن اعتبار الحديث بأنه يخبر بشخص سيدعي أولاً بإصلاح الناس ثم تتطور دعواه إلى المسيحية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك