الحقيقة كما أراها

الحقيقة كما أراها

حسين القزق

تخوض الصحافة بين الفينة والأخرى غمار موضوع شائك ينم مظهره عن بساطة في مكنونه، ولكنه في الواقع يحمل في جنباته قلبًا يعج بسر من أسرار الدنيا، ويرقى هذا السر إلى درجة عالية من الخطورة لكونه يمس نهجًا من مناهج ديننا الإسلامي العظيم. فتراه يلفح تارة وجه أمة الإسلام بدفء من الإيمان حين يصيب صاحبه الهدف وتارة أخرى نرى لهيب ناره يحرق خضرة هذا الدين، حين يغالي صاحبه في الأمر، معتقدًا أن ما يكتبه لا يدانيه في صحته أحدًا.

لقد ركب هذه الموجة هواة ومحترفون علماء ودارسون، كل يدلو دلوه، إما ليصيب به شهرة دنيوية يراد منها إرضاء شريحة أو جماعة من الناس، وإما ليكون هاجسه حب دينه والرغبة في الدفاع عنه، والذود عن حياضه.

الموضوع الذي نحن بصدده يتعلق بجماعة من الناس، أقامت الدنيا ولم تقعدها، فانبرى لها رهط من العلماء. وسار في ركبهم كوكبة من الناس متسلحون بآيات القرآن والأحاديث الشريفة على أمل أن تكون الغلبة لهم. هذه الجماعة تدعى بالجماعة الإسلامية الأحمدية أو كما يحلو للبعض الإصرار على تسميتها بالقاديانية.

بعد التوكل على الله، شمرتُ ساعد الهمة وأردتُ الخوض مع من خاض هذا المعترك متخذًا دربًا جديدًا أبتعدُ فيه عن العصبية والتعصب، أملاً أن أنجح في إلقاء الضوء على جانب هام منه لكونه أمرًا لا يمكن إغفاله بسبب خطورته.

فمن يدري؟ إن ترك هذا الأمر بالصورة التي هو عليه تتقاذفه أمواج السطحية، فقد يؤدي بنا إلى واد سحيق من وديان التهلكة، بسبب إصرار البعض قذف الناس بالكفر ووصمهم بعار الارتداد لكون رأيهم مخالفًا لهم، وهذا التكفير إن لم يكن مستندًا على أساس صحيح يؤمن لصاحبه الحق في اتهام الناس، فإنه قد يؤدي بصاحبه إلى التهلكة، حيث نلاحظ في نفس الوقت إحجام البعض عن رد مثل هذه التهم أو منع مسببيها من قذف الناس، بالرغم مما فيها من انتهاك لروح الإسلام، ناهيك عما يصاحب ذلك من جور واستخفاف بالتعاليم السماوية التي جاءت نبراسًا ونورًا للعالم على يد سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد .

أخشى ما أخشاه أن ينسحب قول الرسول على بعض من جيلنا حين قال:

“إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ”. (صحيح البخاري، كتاب الفتن). ثم قال : “إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ”. (صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة).

المتابع للمقالات الصحفية يرى أن الكثير، إن لم يكن الجميع، ممن يناوئون الأحمديين يتخذون من مصادر بعض العلماء مراجعًا يستندون إليها، ويسردون محتوياتها، وكأنها أصح من آيات القرآن الكريم أو أحاديث المصطفى محمد .

من هم الأحمديون؟ ولماذا ظهروا في هذا القرن؟ وهل كان ينقص الأمة الإسلامية فئة أو جماعة أخرى زيادة على ما هي عليه من تعدد طوائف وجماعات وأحزاب؟ ولكي يكون كلامي ميسرًا بعيدًا عن روح التعصب فقد آليت أن أنقل ما دوّن في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة محكما لها، تاركًا لمن حباه الله بنور البصيرة الحكم عليها، وداعيا علماءنا الأفاضل التقدم بما احتوى فكره من آراء بديلة ودلائل قد تساعد على فهم هذه المعضلات التي سيأتي ذكرها: تعالوا معنا نحكّم العقل ونحتكم إلى القرآن والسنة، عندما نتناول قضية مثل هذه القضية الحساسة التي تمس جوهر الدين. ولا شك أن الجماعة الأحمدية ظاهرة جديرة بأن يلقي العلماء الأفاضل الضوء عليها ليكشفوا حقيقتها إن كانت كاذبة او صادقة. مع العلم أن أفراد هذه الجماعة قد حملوا لواء الإسلام في العصر الحديث، فبايع الكثيرون من أهل الغرب ودخلوا الإسلام على أيديهم. كما تجدر الإشارة إلى ذكر بعض أقطابها اللامعين مثل السيد محمد ظفر الله خان الذي تبوّء مناصب عالمية مرموقة، حيث عمل كوزير خارجية لباكستان، ثم أصبح فيما بعد رئيس محكمة لاهاي الدولية، وأيضًا السيد عبد السلام الحائز على مثل هذه الجائزة وأول من يقرأ القرآن على منصتها، ويعلن للملأ أن نظريته قد تحققت من خلال قراءته المستمرة للقرآن ومن الآيات الواردة فيه.

كما هو معلوم أن رسول الله عقد لأسامة بن زيد على جيش فوجد رجلاً من الكفار وهاجمه، فشهد بشهادة الإسلام، فقتله أسامة، فلما بلغ ذلك رسول الله قال له:

“أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنْ السِّلَاحِ. قَالَ: “أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ”. (صحيح مسلم، كتاب الإيمان).

قصارى القول أن الفتوى لا تصح إلا على ما يتكلم به الناس، وليس ما يخطر بقلوبهم من أفكار، لأن الله وحده يحكم على القلوب، فالأحمديون يؤمنون بأن وجود الله حق وأن الإيمان به اعتراق وإقرار بكبرى الحقائق جميعًا، وليس مجرد اتباع الأوهام والظنون. ويؤمنون بأن الله واحد لا شريك له في الأرض ولا في السماء، وما عداه مخلوق ليس إلا، وليس لمخلوق إلا أن يمد يد الاستعانة إلى الله . ويؤمنون بأنه تعالى قدوس منزه من كل عيب، كما يؤمنون بأن الملائكة مخلوقون ويحققون ما يأمرهم به الله حسب قوله : وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ . ويؤمنون كذلك بأن العالم عندما يسوده الظلام وينصرف أهله إلى الفسق والفجور واستحال تخليصهم من مخالب الشيطان إلا بيد سماوية، عندئذ وبداعي الرحمة والشفقة يبعث الله من عباده الصالحين الطاهرين من يرشدهم ويهديهم كما يقول :

وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ .

والأحمديون كتابهم القرآن العظيم ونبيهم سيد المرسلين محمد المصطفى . إذا كان الأحمديون هكذا، لماذا إذا كل هذه الضجة التي تثار حولهم؟

الجواب يكمن في الاجتهاد الذي قاموا به حول نقاط أساسية هامة تشكل محورًا رئيسيًّا لبعض المفاهيم الإسلامية. وتتلخص هذه الاجتهادات في الآتي:

وفاة عيسى ابن مريم

يؤمن الأحمديون بوفاة عيسى بن مريم مثله مثل جميع الأنبياء الذين سبقوه أو أتوا بعده. ويرتكزون في تعليلهم هذا على آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. يقول الله :

وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (المائدة: 118) .

يعترف المسيح بن مريم في هذه الآية بأن الفساد تطرق إلى النصارى عقب وفاته، أنا أثناء حياته، فكانوا مؤمنين، وهذه دلالة على وفاته. وأيضًا قوله تعالى:

يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (آل عمران: 56).

يشدد الأحمديون على تفسير هذه الآية بالقول إن رفع المسيح حصل بعد وفاته، فكيف نزعم والعياذ بالله – أننا أفصح من الله، وأن الله قدم متوفيك مع أنه متأخر، وكان يحب أن يقدم رافعك على متوفيك.

وفي حديث روي عن رسول الله أنه قال لفاطمة أثناء مرضه الذي توفي به: “إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين وأخبرني أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف الذي قبله، وأخبرني أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة سنة ولا أراني إلا ذاهبًا على رأس الستين) المواهب اللدنية، إمام قسطلاني، مجلد أول، ص 42.

إن موضوع هذا الحديث وحي لأنه روى ذلك عن جبريل ولم يحدث عن نفسه شيئًا. عندما توفي الرسول الكريم قال أبو بكر : “أما بعد فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت” ثم تلا قوله تعالى:

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (آل عمران: 145).

وتحقق من هذا النص ثلاثة أمور:

  • إجماع الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة الرسول أن جميع الأنبياء قبل رسول الله قد توفوا.
  • أن اعتقادهم بوفاة الأنبياء السابقين يدل على أن عيسى ليس حيًّا في السماء.
  • أن أهل البيت اتفقوا أيضًا على وفاة عيسى كما ورد في المجلد الثالث من طبقات ابن سعد برواية الحسن في وفاة أبيه علي كرم الله وجهه يقول: “أيها الناس قد قبض الليلة رجل لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، قد كان رسول الله يبعث المبعث، فيكتنفه جبريل من يمينه وميكائيل من شماله، فلا ينثني حتى يفتح الله له. وما ترك إلا سبعمائة درهم، أراد أن يشتري بها خادما، ولقد قبض في الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم ليلة سبع وعشرين من رمضان”.

يتبين من هذه الرواية أن أهل بيت النبي أيضًا كانوا يعتقدون بوفاة المسيح، ولو لم يكن ذلك لما صرح الحسن بقوله “لقد قبض في الليلة التي عرج فيها بروح عيسى بن مريم”.

إن العلماء بعد الصحابة y وأهل بيت النبي لا بد أن يكونوا معتقدين بوفاة المسيح ، لأنهم كانوا مشغوفين بكلام النبي وكذلك صحابته y وأهل بيته أجمعين، لكن بما أنهم لم يقيموا لهذه المسألة وزنًا لذلك لم يحفظ فيها أقوالهم.

كما تجدر الإشارة إلى أن علماء كثيرين، منذ عشرات السنين قد أقروا بوفاة عيسى . وفي عصرنا الحالي منهم فضيلة الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد الله النوري رحمهما الله.

عندما توفي الرسول قال حسان بن ثابت في مرثيته:

كنت السواد لناظري فعمي عليك الناظرمن شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر

وكذلك قال عمر لما رأى الخنساء باكية ترثي إخوتها:

“لو خلد أحد لخلد رسول الله”.

كما أن رسول الله قال:

“لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي” (ابن كثير الجزء 2، ص 245).

آية أخرى:

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (المائدة: 76)،

أي أن الرسل جميعًا قد ماتت وقوله تعالى: “وكانا يأكلان الطعام” ينبئ عن فعل قد حدث في الماضي، ولماذا صيغت هكذا؟ لأنهما لم يعودا يأكلان الطعام في الحاضر بسبب موتهما. إذا افترضنا جدلاً أن الله قد احتفظ بعيسى في السماء ولا يأكل الطعام لعدم حاجته له، فترد الآية في سورة النساء على هذا التساؤل:

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (الأنبياء: 8-9)،

“وما كانوا خالدين” أي أن الصفات الحياتية تنسحب عليهم كما تنسحب على البشر كافة، وإنهم لا يقدرون العيش لدرجة الخلود.

وفي مواضع شتى من القرآن الكريم، يسوق الله الآية تلو الآية معززة هذا المعنى:

فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (الأَعراف: 26)، مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (الأنبياء: 35).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد: “أما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة، فهذا لا يعرف له أثر – حديث متصل يجب المصير إليه” مجلد ص 19.

وفي مجلد 2 ص 49 كتب الإمام: “فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم –هناك في السماء– بعد مفارقة الأبدان”. ففي سورة مريم: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا .

أوصى الله المسيح بن مريم بالصلاة والزكاة ما دام حيا. وهذه الأعمال الثلاثة لا يمكن للمسيح أن يقوم بها في السماء، لأن الزكاة تحتاج إلى الفقراء والمساكين وذوي الحوائج، وهذه الأنواع من البشر توجد على الأرض فقط وليس في السماء أصلاً. ثم حسب عقيدة المسلمين إن أم المسيح مريم الصديقة لم ترفع إلى السماء مع المسيح، فكيف يمكن للمسيح أن يكون برا بوالدته ما دام حيا وهو قد رفع إلى السماء وهي تعيش على الأرض؟

فعدم وجود الفقراء والمساكين ومريم في السماء مع المسيح دليل قاطع على عدم رفع المسيح إلى السماء، ويفيد ذلك بوجوده على الأرض، وأن وجوده عليها يفيد بوفاته. يقول الله في يوم القيامة حين يسأل المسيح بن مريم:

أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (المائدة: 117-118).

أي أن عيسى يقول: إنه لما كنت أحيا بينهم أعلم ما قلته، ولم أقل سوى اعبدوا الله ربي وربكم، ولكن عندما مت لم أعرف ما قالوه من بعدي، ولم أعلم ما صنعوه بعد وفاتي، حيث كنت أنت الرقيب عليهم.

يسترسل المسيح في قوله

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

ورد الله بقوله: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ . ومعنى هذا أن الحوار سيدور يوم القيامة وأن المسيح لم يعرف ما حدث من قومه حتى يوم القيامة، أي أن معرفته قد توقفت عند وفاته.

قد يخطر في بال أحد بأنه يسلم بموت الأنبياء جميعًا وبينهم عيسى ، ولكن الله سيحيي عيسى مرة أخرى وينزله إلى الأرض.

لم يغفل القرآن هذه النقطة والرد عليها بالقول أن من يموت لن يرجع إلى الدنيا ثانية:

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (الزمر: 43).

يمسك التي قضى عليها الموت (أي الذي يموت لن يرجع إلى الدنيا ثانية).

يقول العلامة الزمخشري في تفسيره الكشاف “متوفيك أي مستوفي أجلك وقابضك من أن يقتلك الكفار ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم”.  وقال ابن عباس : “متوفيك مميتك” البخارري كتاب التفسير.

نزول عيسى بن مريم

أما قضية نزول عيسى بن مريم ، فللأحمديين اجتهادًا يختلفون فيه مع بعض العلماء، ورغم هذا التباين، إلا أن جمهرة غير قليلة من علماء أفاضل أيدوا ما جاء به الأحمديون.

المطلع على ما كتبه الأحمديون في هذا المضمار، يرى بشكل يدعو إلى التعجب وسبب هذا التعجب أنهم يسوقون الأدلة الواحدة تلو الأخرى اعتمادا على ما جاء به القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، محاولين بشكل موضوعي ينم عن اطلاع واسع في فقه اللغة العربية وإلمام شديد في تفسير معاني القرآن، مع القدرة على الربط بين آيات القرآن الكريم وخصوصًا تلك التي يتراءى للقارئ العادي أنها متناقضة بالرغم من عدم وجود مثل هذا التناقض.

يرى الأحمديون أن المشكلة أساسًا تكمن في أن عامة الناس قد انخدعوا بكلمة النزول، واعتبروا أن النزول هو نزول عيسى بن مريم ، مع العلم أن معنى النزول كلفظ في اللغة العربية يدل على إحداث شيء نافع للناس، أو على تطور يؤدي إلى ظهور جلال الله، كما يقول الله :

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ (التوبة: 26) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا (آل عمران: 155) وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ (الزمر: 7) قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ (الأَعراف: 27)

قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (الطَّلَاق: 11-12)

بالرغم من أنه قد ورد في القرآن الكريم أكثر من مائتي مرة لكلمة النزول مما يؤكد أن الأشياء التي يذكرها القرآن بالنزول أو مشتقاته لم تنزل من السماء، بل استخرجها الله من الأرض، وعلى ذلك فإن كلمة النزول التي استعملها الرسول للمسيح لا تهدف إلا إلى مجرد الإجلال وتفخيم الشأن، وهي لا تمت إلى النزول من السماء بصلة كما استعملت في القرآن للرسول ، وبحق نفسه ولم يرد بها المفسرون إلا تشريفه .

ولا يعني النزول أيضًا الانتقال من مكان عال إلى مكان منخفض فحسب، بل يعني أيضًا الانتقال من مكان إلى آخر.. مثلاً، عندما يحل ضيف على آخر يقول: جئتَ أهلاً ونزلت سهلاً، ونزول الضيف لا يعني بالضرورة نزوله من مكان عال إلى مكان منخفض. وهكذا فإن استخدام كلمة النزول للدلالة على النعمة التي أنعم بها الله على الناس.

Share via
تابعونا على الفايس بوك