تميز الإسلام عن سائر الأديان
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(220)

شرح الكلمات:

الخمر:– اسم كل مسكر خامَرَ العقل (الأقرب).

الميسر– اللعب بالقِداح أو النِّرد أو كل قمار؛ الجزور التي كانوا يتقامرون عليها (الأقرب).

الإثم- الأفعال المبطئة عن الخير؛ العقوبة والأذى، من قبيل إطلاق اسم الشيء على نتيجته.. لأن القاعدة أنهم يأتون بالسبب بدل المسبب أحيانا. وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون. ومن يفعل ذلك يلق أثاما) (الفرقان:69)، فـ(أثاما)هنا بمعنى العقوبة.

العفو-خيار الشيء وأجوده؛ ما يفضل عن النفقة ولا عسر على صاحبه في إعطائه؛ المال الذي يُعطى بدون سؤال. يقال: أعطيته عفوا، أو أعطيته عفو المال.. أي بغير مسألة (الأقرب).

 التفسير:

يقول الله: يسألك الناس هل شرب الخمر ولعب القمار جائز أم لا؟ فقل لهم: للخمر والميسر بعض الفوائد، وكذلك فيهما الأضرار، ولكن أضرارهما أكثر من منافعهما.

ما ألطف هذا الجواب من الله تعالى، لم يصُدَّهم فور السؤال، ولم يقل: لا تشربوا الخمر ولا تلعبوا القمار، بل قال: فيهما النفع، ولكن نفعهما أقل من ضررهما، وعليكم أن تفكروا الآن: ماذا تختارون؟

وفي هذا الجواب مبدأ هام، وهو أنكم إذا رأيتم الشيء منافعه أكثر من أضراره فاستعملوه، أما إذا وجدتم أضراره أكثر من منافعه فلا تختاروه، خاصة العمل الذي فيه إثم كبير. والإثم هو الذنب، ويعني أيضا الحرمان من الحسنات. وكأن الله قال: لا تفعلوا عملا تكونون به آثمين أو يحرمكم من الحسنات. وإن كان به في الظاهر بعض المنافع.

ثم علَّمنا الإسلام بقوله (منافع للناس) أنه مهما كان الشيء معيبا وفاسدا في ظاهره إلا أنه من واجبكم ألا ترفضوا وجود بعض المزايا والمنافع فيه. فما دامت للأشياء مثل الخمر والميسر أيضا بعض الفوائد.. فكيف يمكن أن تعتبروا الأشياء الأخرى التي تبدو ضارة في الظاهر خالية من بعض المنافع تماما؟ لا شك أن من واجبكم أن تجنِّبوا أنفسكم وأجيالكم أضراره، ولكن لا تكونوا ضعفاء البصيرة، فلا تروا في الشيء إلا جانبه المظلم فقط. بل عليكم أن تروا الجانبين، المظلم والمضيء، ولا تبخلوا بالاعتراف بالحسن والجمال في الشيء.

وقوله (يسألونك عن الخمر والميسر) يبيّن أيضا أن المسلمين كانوا يأتون النبي ويسألونه في هذا الصدد، مع أن العرب كانوا معتادين على شرب الخمر حتى أنهم كانوا يتفاخرون بذلك. يقول أحد شعرائهم:

ألا هُبِّي بِصَحْنِك فاصْبحيناولا تُبقي خمورَ الأنْدَرينا

أي انهضي أيتها الحبيبة واسقينا خمر الصباح بكأسك الكبيرة، واسقينا كثيرا، ولا تدخري الخمر الجيدة التي من بلاد الأندرين في الشام (معلقة عمرو بن كلثوم).

كذلك كانوا يشربون الخمر في أيام الحرب بصفة خاصة حتى يقاتلوا بدون مبالاة بالعواقب، ولا يفكروا في مصيرهم. وعلى الرغم من العيش في مثل هذه البيئة.. فإن الصحابة كانوا يأتون النبي ويقولون: يا رسول الله، ما حكم الخمر والميسر عند الله تعالى. وهذا يدل على أن الخمر والميسر لم يكونا قد حرما إلى ذلك الوقت، إلا أنهم كانوا بفضل صحبتهم للنبي يشعرون أن هذه الأشياء تحول دون القرب من الله؛ ويجب أن ينزل الحكم في هذا الصدد واضحا من عند الله تعالى. فهذا السؤال في حد ذاته يشكل دليلا عظيما على ما كان يتمتع به صحابة النبي من طهارة القلب وسمو الأخلاق وحسن السيرة.

لقد بُذلت جهود جبارة لصرف الناس عن تعاطي الخمر ولعب الميسر، ولكن لم يفلح في منعهم منهما دين سوى الإسلام. وقد حقق في هذا نجاحا باهرا. وقبل إبراز محاسن التعليم الإسلامي وحقيقته في صدد الخمر نذكر هنا ما ذكرته الأديان الأخرى.

ونبدأ بدين يدَّعي أنه أقدم الأديان.. دين الفيدا الهندوسي. لا حاجة لنا بالبحث الكثير لأن هذا الدين يتأسس على ما جاء في كتب الفيدا، وقد ألقت على الموضوع ضوءا كافيا. وبإلقاء نظرة عابرة على كتب الفيدا الأربعة، وخاصة (رج فيد) وهو أهمها.. نجد أن الخمر مسموح بها.. بل من الضروري استخدامها في بعض المناسبات لكسب الثواب. وكان الصلحاء عند الهندوس يعتبرون الخمر شيئا مقدسا وطاهرا. وما ورد في الفيدا من فقرات يصور لنا مشهدا كاملا للمساعي الجادة التي يبذلها العابد الهندوسي لاجتذاب نظر الإله بتقديم الخمر إليه. ولو تدبرنا لوجدنا أن الخمر كانت تلعب الدور الأكبر في عبادة المتعبد الهندوسي القديم. كان لا يشرب عصير (سوم) فحسب، بل كان يغسل به الأشياء الأخرى في عبادته، وكان يقدم هذا العصير لـ (إنْدر) وغيره من الآلهة الهندوسية لاجتذاب أنظارهم إليه.

وكذلك يتبين من الاقتباسات التي عُلموها في (أثر فيد) لعبادة الآلهة (أشوني كمار) أن العابد الهندوسي في قديم الزمان كان يرى عصير سوم مباركا لدرجة أنه كان لا يشربه فحسب، بل كان يلتمس من آلهته شُربها. فقد ورد: يا أيتها الآلهة (أشوني كمار) الشراب الذي يكون في الجبال والغابات والحشائش البرية، والذي يُعصر في مناسبة (يَكْيَه)، يجب أن يكون عصيره لي ولكم (باب9 فصل 1، الجملة 17).. هنا التمسوا من إلههم أن يشرب الخمر، ولكنهم عندما كانوا يعبدون الإله البلوري كانوا يفعلون أكثر من ذلك، إذ كانوا يغسلونه بهذا الخمر؛ وكأنهم يسقونه الخمر،كما كانوا يتوسلون إليه قائلين: يا أيها الإله المصنوع من البلور، نتوسل إليك أن تقيم في بيتنا ضيفا. سوف نقدم لك هكذا الزبد والخمر والعسل والأطعمة الحلوة. ففكّر دائما فيما هو خير لنا كما يفكر الأب في مصلحة أولاده (أثر فيد، باب10، فصل 6، سطر26).

تلقي هذه الكلمات الضوء على أن العابد الهندوسي في قديم الزمن كان يلتمس من إلهه شرب الخمر، كما كان يشربها، ويغطس فيها الإله المصنوع من البلور.

ولكن في نفس المرجع مزيد من التوضيح من أن هذه الآلهة كانت تشرب الخمر فرحا بنجاحها: إن الإله (إندر) شرب كؤوس الخمر ليستولي على أعدائه وينتصر عليهم(فصل10، سطر 10).

وفي هذه الأيام يحاول أتباع الآريا، وهي فرقة من الهندوس، أن يؤولوا عصير (سوم)[1]. هذا ليبينوا أنه ليس في الفيدا أي ذكر للخمر، وإنما المذكور هو عصير (جلو) ولكن عندما ننظر إلى عمل الأمة الهندوسية كلها، ثم نرى أنه لم يكن لها اتصال كامل لمدة طويلة مع قوم يشربون الخمر مما يُظن به أنهم قد تعودوا شرب الخمر تقليدا لهم، نجد ترددا وتأملا كبيرا في قبول هذه التأويلات من بعض الهندوس. إلا أننا عندما نقرأ ما يلي.. يصبح قبول هذه التأويلات مستحيلا تماما. فقد ورد: هذا (سوم) لذيذ وجيد الطعم جدا، فيه بعض الحلاوة وبعض الحموضة، ولا يستطيع أحد أن يقف في الحرب في وجه الإله (إندر) شاربِ عصيرِ سوم “(نفس المرجع، باب18، فصل1، سطر 48).

نتوصل من هذه الفقرات إلى أن الدين الهندوسي يسمح تماما بتعاطي الخمر، بل أنه يرى من الضروري استخدامها في بعض العبادات، وأن الحضارة الهندوسية تصدق ذلك، وتاريخهم شاهد على صحة النتيجة التي توصلنا إليها.

وثاني الأديان القديمة هو دين الفرس المجوس. إن الشعب الفارسي له تاريخ متواصل طويل، بل تدل البحوث الجديدة أنه لا غرابة أن تكون الحضارة الفارسية أقدم من الحضارة الهندوسية. ويتبين من ديانتهم الجديدة والقديمة أن تعاطي الخمر جائز لديهم. ويعرف المطلعون على الديانة الزردشتية أن زردشت لم يكن مؤسس ديانة جديدة، وإنما أحيا الديانة الفارسية القديمة التي تطرق إليها الفساد بمرور الزمن. ولمعرفة فتواهم الدينية عن الشراب لا بد لنا من إلقاء نظرة على فترة ما قبل زردشت وفترة ما بعده. صحيح أن التاريخ يبين أن الفرس كانوا يشربون الخمر بكثرة، ولكن ما هي نظرة دينهم إلى الخمر.. فهذا لا نعرفه إلا من كتب زردشت.

ورد في الكتب الفارسية البهلوية في صدد ولادة زردشت أن ملاكا قدم كأسا من الخمر لوالد زردشت يوروشاسب، وبعد شربه هذا الخمر بفترة قصيرة حملت زوجته دوغدو، وولدت طفلا قدِّر له أن يحدث انقلابا عظيما في تاريخ الشرق. وفي سياق ولادة إنسان مقدس كزردشت فإن تقديم الملاك كأسا من الخمر لوالد زردشت لَحادث يدل أن تعاطي الخمر قبل ولادته لم يكن جائزا دينيا فحسب، بل كان مستحسنا.

كما تلعب الخمر دورا في طقس ترديد الأدعية المسمى بأدعية “أفر نجن “وهي الخاصة بعلماء الزردشتيين. فالدستور [كبير علمائهم]يجلس على سجاد مفروش على الأرض عند ترديد هذه الأدعية. وأمامه صحن من معدن أو ورقة من شجرة.. يوضع عليها الفواكه الجيدة والأزهار الموجودة في ذلك الموسم، إلى جانب الحليب الطازج والخمر والماء والمشروبات الأخرى في بعض الأواني.

فتعاطي الخمر في الديانة الفارسية عمل مستحسن ومستحب. فكانوا يرون من الضروري استخدام الخمر في بعض الطقوس الدينية، أو على الأقل وضعها بجانبهم.

وثالثة الديانات القديمة هي اليهودية التي تدعي كالزردشتية والهندوسية أن بدايتها كانت منذ بداية الكون. إن هذا الدين.. وإن كان مؤسسة سيدنا موسى.. إلا أنه يربط نفسه عن طريق سلسلة من التاريخ مع أبي البشر سيدنا آدم-عليهما السلام. وبدراسة كتب تاريخ هذا الدين أيضا يتبين أن استخدام الخمر جار منذ بداية الكون. فلم يكن استخدام الخمر أمرا منكرا في حين من الأحيان، بل كان أنبياؤهم يتعاطونها. وقد ورد في التوراة: “وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما، وشرب من الخمر وتعرى داخل خبائه.. وستر عورة أبيهما “(تكوين20:9). هذا ما ورد عن نوح وهو النبي الأول الذي تاريخه محفوظ لحد ما والذي يأخذ التاريخ بعده مزيدا من التفصيل.

وبعد نوح يأتي دور إبراهيم، ونقرأ عنه في التوراة أن الملك صادق ملِك شاليم قدّم لإبراهيم في الوليمة خبزا وخمرا (تكوين 18:14).

كذلك ورد عن سيدنا لوط أن بناته سقينه خمرا (تكوين33:9).. مما يبين أن الخمر لم يكن إلى زمنه ممنوعا، بل كان أيضا يعتبر من أساسيات الحياة، ذلك لأن هذا الحادث كان بعد واقعة العذاب السماوي.. عندما خرج لوط مع بنتيه إلى الغابة ولجئوا إلى مغارة. فوجود الخمر معهم هناك يدل –كما تحكي التوراة –على ضرورة أن يأخذوا معهم الخمر بحسب متطلبات حياتهم مع ما أخذوا من أشياء أخرى عند خروجهم من قريتهم التي دمِّرت.

وقد لعبت الخمر دورا كبيرا في انتقال النبوة داخل بني إسرائيل، فكما تقول التوراة.. في البداية كان الميراث يؤول إلى الابن الأكبر، ومن نسله تعرف شجرة النسب. وطبقا لهذه العادة أراد إسحاق أن يبارك ابنه الأكبر عيسو، ولكن زوج إسحاق صنعت الطعام اللذيذ وأرسلته مع ابنها يعقوب، فأطعم أباه وسقاه الخمر متظاهرا أنه عيسو، وهكذا دعا له إسحاق وباركه، ومن ثم انتقلت النبوة من أسرة عيسو إلى أسرة يعقوب [وهو إسرائيل]. ومن هنا فإن بني إسرائيل مدينون إلى حد كبير للخمر فيما يتعلق برقيهم الروحاني (تكوين 25:27).

فكما تروي التوراة أن إسحاق شرب الخمر، ثم دعا لابنه يعقوب –ظنا منه أنه عيسو-بالبركة في غلاله وخمره (تكوين 28:27).

وهكذا فرض إسحاق على بني إسرائيل تعاطي الخمر للأبد، لأنهم لو تركوا شرب الخمر لبطل دعاء إسحاق هذا.

ولقد ساند يعقوب دعاء أبيه عند وفاته إذ دعا وأخبر عن ابنه يهوذا وأولاده أن عيونهم ستبقى محمرَّة بشرب الخمر (تكوين12:49).

وبعد ذلك فإن زمن موسى هو أكبر وأهم عهد في تاريخ بني إسرائيل، فهو مؤسس الديانة اليهودية والناسخ للشريعة السابقة له. لقد قام بإلغاء الكثير من القوانين والعادات التي كانت موجودة من قبل في بني إسرائيل، إلا أنه لم يبدل الحكم الخاص بالخمر، بل اعتبر الخمر من القرابين التي تقدم لوجه الله، وبذلك اعتبرها شيئا مقدسا. ويبدو من التوراة أن الله تعالى قد وعد هارون وأولاده -الذين كان فيهم منصب الكهانة- بأحسن خمر، وفرض على بني إسرائيل أن يقدموا للمعبد باسم الرب أفضل ما عندهم من الخمور ليستخدمها الكهنة (عدد12:18).

هذه الوعود وإن كانت خاصة لبني هارون والمعابد، ولكن سائر بني إسرائيل لم يحرموا منها، بل إن الله وعد موسى أنهم إذا عملوا بحسب أمره واتبعوا شرعه سيكافئهم بما يلي (يحبك ويباركك ويكثرك ويبارك ثمرة بطنك وثمرة أرضك قمحك وخمرك وزيتك ونتاج بقرك وإناث غنمك على الأرض) (تثنية13:7).

ووُعد بنو إسرائيل في أماكن أخرى من التوراة أيضا بكثرة الخمر. وعموما نجد ذكر الخمر في تاريخ جميع الأنبياء والحكام الإسرائيليين حتى زمن المسيح عليه السلام، فقد كثُر استخدامه في تاريخ كل هؤلاء.

وبعد موسى إلى زمن نبينا محمد لم تأت شخصية عظيمة أحدثت انقلابا عظيما في عالم الأديان إلا سيدنا عيسى عليهم السلام. ففي زمننا هذا يتمتع أتباعه بمكانة وعزة دنيوية على وجه الخصوص. ويظهرون تعليمه للناس كأنه تعليم كامل مكتمل. ولكن الفتوى التي أصدرها المسيح في الإنجيل عن الخمر كانت عن تقديسها. فالثابت من الإنجيل ن المسيح لم يكن يستقبح الخمر، بل كان يتعاطاها، بل يصنعها ويسقيها الناس كمعجزة. أما تعاطيه الخمر بنفسه فثابت مما يلي: (وأَخَذَ الكأس وشكر، وأعطاهم قائلا: اشربوا منه كلكم… وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي) (متى: 26-27).

أما صنعه الخمر وتقديمها للناس فثابت هكذا: (وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك. ودعي أيضا يسوع وتلاميذه إلى العرس. ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر… قال لهم يسوع: املئوا الأجران ماءً، فملئوها إلى فوق، ثم قال لهم: استقوا الآن وقدِّموا إلى رئيس المتّكأ، فقدَّموا. فلما ذاق رئيس المتّكأ الماء المتحول خمرا –ولم يكن يعلم من أين هي- لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا، دعا رئيسُ المتكأ العريسَ وقال له: كل إنسان إنما يصنع الخمر الجيدة أولا، ومتى سكروا فحينئذ الدُّون، أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن. هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده، فآمن به تلاميذه) (يوحنا 2: 1-10)

كل هذا يدل على أنه حتى زمن بعث سيدنا محمد كانت الديانات تبيح شرب الخمر؛ بل فرضت تناولها في بعض الطقوس الدينية، واعتبرتها مباركة ومفيدة. وبُعث نبينا محمد وهذه الديانات موجودة على الأرض، ولكنه علَّم أتباعه أمرا إلهيا مخالفا لتعليم تلك الأديان، وقال:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمّ كَبِيرّ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).

وفي موضع آخر من القرآن الكريم هناك نهْي قطعي عن الخمر بكلمات أشد:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجْسّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( * )إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ( * )وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (المائدة: 91-93).

سبق أن ذكرتُ أن الإسلام قد نهى عن شرب الخمر في وقت لم تكن تُستقبح في أي من الديانات السابقة. بل كانت عموما تحبذ استخدامها، وكانت طقوس بعضها توجب استخدامها. ونَهْيُ الإسلام عن تعاطي الخمر في مثل هذه الأحوال لم يكن حدثًا هيّنا. ولم يكن العالم جاهزا بعدُ لفهم ما في هذا النهي من مصالح وفوائد. بل إن الطب في ذلك العصر كان يعتبر الخمر غذاء مقويا جدا ونافعا للصحة. ورغم كل هذا نهى الإسلام عن تعاطي الخمر نهيا قاطعا. ولم ينه اعتباطا بدون مبرر، وإنما قدم الأدلة على مضارها. ولم يكن في أدلته متعصبا، وإنما ذكر ما في الخمر من بعض المزايا. من الممكن أن يكون بعض الفلاسفة قد كرهوا استخدام الخمر في بعض الأحوال، ولكن لم يجد أحدّ حلاً لهذه المسالة العويصة كما حلّها الإسلام. فمثلا، هناك (الجينية) –علما بأنها ليست دينا في الحقيقة، وإنما هي فلسفة-نجد فيها بعض الآثار للنهي عن شرب الخمر، ولكن على أي أساس؟ لا يقوم هذا النهي على أي دليل من المنطق والعلم، وإنما يقوم على أنه في عملية تجهيز الخمر يموت عدد كبير من الديدان! وما دام إهلاك أي نفسٍ مخالفًا لمبادئ الجينية، لذلك كان أتباعها الكاملون لا يتعاطون الخمر. ولم يكن هذا النهي كليًا، كما لم يكن يتأسس على التدبر في منافع الخمر ومضارها، وما له من تأثير على من يتعاطونها.

فالإسلام وحده يتميز بين الأديان والفلسفات.. في مجال النهي عن تعاطي الخمر، وتقديم الأدلة والحِكم.. في وقت لم يكن الناس قادرين على فهم المصالح والحكم وراء هذا النهي.

فعلى الرغم من أن القرآن قد بيّن بكل صراحة أن مضار الخمر أكثر من منافعها.. إلا أن الأطباء المسلمين لم ينفكّوا يكتبون في مصنفاتهم عن مزايا الخمر ومحاسنها بطريقة يتحير منها الإنسان. وأقتبس هنا عبارة مختصرة من كتاب الموجز، وهو كتاب يُدرّس في بعض المدارس، يتحدث فيه كاتبه المسلم عن الخمر هكذا:

يجب أن تكون المناظر في مجلس الخمر خلابة، فتوضع فيه الزهور والعطور، وتعزف الموسيقى المطربة، وينبغي أن يُستبعد من المكان كل ما يثير الحزن أو الضيق أو الغضب. ويجب مراعاة النظافة فلا تكون هناك رائحة غير مستحبة من العرق أو اللباس الوسخ البالي. ويجب شرب الخمر بعد الاستحمام وارتداء الملابس الجيدة، وترجيل الشعر وتقليم الأظافر. ويكون المكان فسيحا غير مغلق على شاطئ نهر جارٍ، في صحبة أصدقاء يحكون الطرائف، لأن الخمر تحرك القوى النفسانية وتستثير الشهوات، وعندما لا تجد هذه القوى ما تريده تتألم النفس وتنقبض ولا تميل إلى تعاطي الخمر بشهية وشوق، ولا ينتفع شاربها كما ينبغي، وإنما تضره في بعض الأحيان.

هذا الرأي عن الخمر أبداه كاتب مسلم مصري في القرن السابع الهجري، ومن ذلك يمكن أن يعرف المرء أن المسلمين-رغم ما حققه العلم من تقدم في سبعة قرون- كانوا عاجزين عن إدراك ما في الخمر من مضار، وكتبوا متأثرين بما تم تحت ذلك الوقت من بحوث أن نفع الخمر أكثر من ضررها، مع أن القرآن قد صرح تماما أن ضررها أكثر من نفعها. فالتعليم الذي قدّمه القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا عن الخمر، وبالطريقة التي قدمها، خلافا لما كان الحال عليه في الأديان الأخرى.. لم يكن العقل الإنساني بقادر على استيعابه، حتى أن الأطباء المسلمين لم يستطيعوا –رغم هذا البيان القرآني الصريح- إثبات مضارها بطريقة علمية، واضطروا للقول بأن للخمر منافع كثيرة. ومضت الأيام والقرون ولكن البحوث عن الخمر منذ آلاف السنين بقيت كما هي، وكل من جاء أكّد هذه البحوث السابقة. ولو كان لِعِلْمٍ أن يكذِب كلام الله تعالى فيمكن القول بأنه علم الطب؛ إذ لم يزل يُكذِّب عبر القرون هذا البيان القرآني وبكل جرأة!

ومع أنهم عند انتهاء عصر الطب اليوناني وظهور الطب الحديث.. ألقوا آلاف البحوث باعتبارها من سقط المتاع، ولكن فيما يتعلق بالخمر فقد ظلوا يؤكدون أكثر على محاسنها. فإذا كان الطب القديم اعتبر الخمر مفيدة للمحافظة على صحة الإنسان ولتقويته من ضعف، فإن الطب الجديد وصف البراندي (نوع من الخمر) علاجا وحيدا لأمراض خطيرة، وأكدوا على منافعه حتى أنهم لم يعتبروا المستشفى كاملة التجهيز ما لم يكن بها قوارير البراندي. واعتبروا الخمر بمثابة ماء الحياة. وقال البعض علنًا إنه ما لم يُحِلَّ الإسلامُ الخمر فلا يمكن أن يميل العالم إلى الإسلام.

ورغم هذه البحوث وهذه الشهادات الطبية.. فإن الحكم القرآني كان يتلألأ بحروف مضيئة قائلا: إن مضارّ الخمر أكثر من منافعه. ورغم الأحوال غير الملائمة لم يستطع أحد أن يغير هذا القرار، لأن القرآن الكريم كلام الله وشرعه الأخير الذي لا شرع بعده.

ومن الحقائق التي لا يحوم حولها شك أن الخمر لا تضر بالجسم فقط، بل لها تأثير شديد جدا على أخلاق الإنسان أيضا كما أشار الله تعالى إلى ذلك في سورة المائدة بقوله تعالى

(إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (الآية 92)،

ولكن قليل هم الذين يستعدون ليولوا اهتماما لما لهذه الأطعمة والأشربة من تأثير ضار على الأخلاق. ومن أكبر البلايا في هذا الزمن أن الأمة الإسلامية التي تتجنب تعاطي الخمر هي أيضا قد تدنَّت في أخلاقها كثيرا بسبب ما تطرّق إلى المدنيّة من فساد وزوال وانحطاط؛ فكيف يمكن بعد ذلك أن نقارن بين أخلاقهم وأخلاق الأمم الأخرى؟ لا يمكن توضيح القضية من خلال تقديم بضعة أمثلة من الأفراد، بل تحسم القضايا المتعلقة بالأمم بتقديم أمثلة من الأمم وليس أمثلة من أفراد. وتقديم هذه الأمثلة أصبح محالا؛ فلم يكن هناك سبيل إلا حلّ هذه المسألة على ضوء علم الطب حتى تُحسم نهائيًّا.

إن القرآن الكريم كلام الله تعالى، وكل المعاني المودعة في أي لفظ منه يُظهر الله بنفسه صدْقَها، ويجلّيها بآيات قوية. لقد أظهر الله صدق بعض هذه المعاني منذ البداية وعلى مرّ الأيام، ليكون ذلك حجة على الناس في كل زمن. ولكن الله تعالى يظهر صدق بعض هذه المعاني بالتدريج في مختلف الأزمان والعصور، ليعرفوا أن القرآن الكريم كلام الله، ولا دخل لأي إنسان في تأليفه. لأن فيه أمورا لم تصل إليها العلوم في ذلك العصر. وكل من هذين الأمرين قد تمت مراعاته في النهي عن شرب الخمر. فمضارها الأخلاقية يمكن إثباتها في أي زمن، اهتم بها الناس أم لم يهتموا، وإن كان إثباتها في بعض الأزمان أصعب منه في زمن آخر. أما عن مضارها الجثمانية فالخمر شراب، والتأثير الأول للمشروبات يكون على الجسم، والإنسان عادة لا يهتم إلا بمعرفة تأثيرها على الجسم.. لذلك لم تكن أهمية ومحاسن هذا النهي القرآني عن الخمر لتنكشف بصورة واضحة ما لم تتبين أضرارها على جسم الإنسان وضوح الشمس في رابعة النهار، وما لم يثبت أن مضارها أكثر من منافعها. فجاء أخيرا وقت انكشاف هذا الحقيقة، فمكّن الله الإنسان من اكتشافات واختراعات استطاع بها أن يعرف ما لأنواع الأغذية والأدوية والفصول والأحاسيس من تأثير على الأعصاب والألياف الرقيقة في الجسم الإنساني. وإلى جانب ما أحدثت هذه المخترعات من انقلاب عظيم في العالم، فإنها أيضا أثبتت خطأ وبطلان البحوث العلمية القديمة عن الخمر، واضطر معظم العلماء إلى الاعتراف بأن ضرر الخمر أكثر من نفعها، ويرجع الفضل في إبطال هذه الأفكار القديمة المستحكمة إلى العالم النفسي (كربلن) بالتعاون مع زملائه المتفقين معه في الرأي. لقد بذلوا جهودا وأثبتوا أن تناول جرعة ضئيلة من الخمر، ولو مرة واحدة تضر بألياف رقيقة وخلايا حساسة في المخ الإنساني. كذلك قام الأستاذ (هوج) باختبارات تتعلق بتأثير الكحول على عضلات الإنسان، وتوصل بها إلى أن تناول الخمر يضر ضررا بالغا بقوة التحمل والجلد والذكاء. كما أن الدكتور (الكسندر برايس) هو من كبار علماء الأغذية.. قدّم بحوثه في صدد الخمر فقال: لم يبق هناك أدنى شك في أن الخمر في الحقيقة سم قاتل يدمر الألياف. فهو أولا: يبدي تأثيره المسكِر، ثم يحدث ضررا بالغا بالأعصاب. والحق أن الخمر غير جديرة أبدا أن تُدرج ضمن الأدوية المقوية، لأنها في البداية تثير القوى إثارة وقتية، ثم يظل الإنسان لمدة طويلة مصابا بالضعف. لقد أجمع تقريبا كل الأطباء الأذكياء الآن على أنه في أيام الصحة لا حاجة إطلاقا لشرب الخمر، أما فيما يتعلق بعلاج الأمراض، فلو لم نعتبر نفعها مشكوكا فيه، إلا أنه أصبح من المتحقق أن من الأفضل استخدام أدوية أخرى هي أقل منها ضررا.

وكان لا بد لهذه الاكتشافات أن تترك أثرا قويا في علوم الطب. وبالفعل حدث ذلك، ومنذ سنة 1900 لم يزل مهرة الأطباء يميلون إلى التقليل من استخدام الخمر في العلاج. ففي مستشفي بـ (أيدنبرج) كان معدل ما أنفقوا على الخمر لمريض واحد 9 روبيات في سنة 1891، أما في سنة 1900 فقد انخفض هذا المعدل ¾ روبية فقط.

واجتذب نجاح هذه التجربة أنظارهم أكثر، ففي سنة 1909 قرر سير توماس –أحد كبار الأطباء- ألا يعطي مرضاه حتى جرعة واحدة من الخمر. وفي هذه الأيام تكثر مثل هذه التجارب في العديد من المشافي، فلا تستخدم الخمر إلا مع قلة من المرضى المصابين بالالتهاب الرئوي والخنّاق (الدفتيريا) والحمّى، ويرون استخدام الخمر ضارا بالأصحاء.

[1] سوم وجلو نوعان من الأعشاب.
Share via
تابعونا على الفايس بوك