أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون

أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون

تميم أبو دقة

كاتب وشاعر
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ

مخطئ من ظن أنه قد أوى إلى مأمن يعصمه من الفتنة. لا بل إنه لغافل في خضم بحر لجي تتلاطم أمواجه كالجبال، يشد المغفلين ويهوي بهم إلى قعره السحيق.

كيف يمكن لمؤمن أن يغفل عن الفتنة، والمصطفى ما غفل عنها في صلاة ولا ذكر. كيف يمكن لمؤمن أن يأمن من فتنة دون عون من الله، العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، والقلوب بين أصبعيه يقلبها كيف يشاء. كيف وقد كان أكثر ما يردد المصطفى من دعاء هو “يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك” وهو صاحب القلب الذي لم يجعل الله له عوجا. هل يأمن من فتنة دون عون الله إلا القوم الكافرون.

لا بد للمؤمن أن يتفقد أحوال المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. لا بد له أن يشخص أمراضه ويقضي عليها ويصلح فساد قلبه من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله. لا بد له أيضًا أن يتحصن ضد الأمراض التي لم تصبه بعد من قبل أن يأتي اليوم الذي تشتعل فيه الفتنة في داخله وتجد وقودها وحطبها. لا بد له من ذلك وإلا سقط صريع الإثم أو الكبرياء وكلاهما يقتات من الآخر. فالإثم يغذي الكبرياء والكبرياء يدعو الإثم ويمهد له الطريق. والكبرياء يسوِّغ الآثام ويزينها ويبررها بمعاذير تُعمي البصيرة وتضللها.

ولطالما كان الكبرياء هو داء بعض الذين آمنوا، وقد فتك بعدد منهم غير يسير بعد أن ظنوا أنهم في مأمن. لا بل كان الإثم على الدوام داءً ممكن الشفاء منه، وكان الاستكبار داءً عضالاً مستصعب الشفاء. ولطالما حصد الاستكبار بعض المقربين ففتنوا فأحلّوا أنفسهم وأهليهم دار البوار. ألا إن مثقال ذرة من الكِبر لكافية أن تُهلك صاحبها وتحجب عنه ريح الجنة كما أخبر سيدنا المصطفى ، فكيف وإن تعاظم الاستكبار حتى ظهر على الجوارح. ألا إن جرثومة الكِبر لتتسلل إلى كل قلب غافل بأدق من دبيب النملة، فيظنه صاحبه هينًا وهو عند الله عظيم. ألا إن الكِبر ليلوث زجاجة القلب ويعكر زيته فلا يبصر النور الإلهي ولا يترك له سبيلاً، فيعتم القلب ويرزح الإنسان في ظلماتٍ بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها. ألا إن الاستكبار هو قوت النفس الأمارة إن وُجد عاشت وإن تحطم وانقطع ماتت. ولقد كان الاستكبار والمستكبرين على الدوام هم عدو الأنبياء. فكان الملأ الذين استكبروا من قومهم هم أشد الناس عداوة للنبي والذين آمنوا معه. وكان الاستكبار داء المؤمنين الذي غذى الفتن وأذكى نارها ومن ثم أدى إلى اضمحلالهم وجمود دعوتهم وركودها وفسادها، ثم أتى عليهم فجعلهم أحاديث ومزقهم كل ممزق. ولقد كان في بني إسرائيل لعبرة كبرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ففتنوا أنفسهم وفسدوا وأفسدوا وأهلكوا الحرث والنسل فمسهم عذاب أليم وضُربت عليهم الذلّة والمسكنة وباءوا بغضب من الله وللكافرين عذاب مهين.

ولطالما أعمى الاستكبار قلوبًا فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. فيتخبط المتكبر ويصيح ويصرخ بعبارات شهيرة كمثل “أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين”، و “أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه”، و “كيف نكلم من كان في المهد صبيا”، والعديد العديد من العبارات التي يصرخ بها المصابون بالاستكبار. ذلك بأنهم فرحوا بما آتاهم الله ولم يكونوا بنعمة الله من المحدثين. بل كانوا يتحدثون بما يسمّن نفوسهم ويشمخ أنوفهم فيظنون أنهم هم أبناء الله وأحباؤه وغيرهم من المحرومين. وكانوا قليلاً من النهار ما يذَّكَّرون، وبالأسحار هم يتسامرون ويتناجون بالإثم والعدوان. فيغتابون إخوانهم ومنهم يسخرون. ويحتقرونهم ويرونهم في الأذلين. فعسى أن يكونوا خيرًا منهم فيصطفيهم الله ويذر هؤلاء الظالمين. فعندئذ يبسطون إليهم ألسنتهم وأيديهم حسدًا ويقاومونهم بكل ما يستطيعون. وينسون بأن الله شهيد عليهم وأنه عليم بما كانوا يفعلون.

وتراهم يتتبعون خطوات الأبرار فيقبضون قبضة ثم ينبذونها وكذلك تسول لهم أنفسهم. فيُخرجون من حليهم ومن معسول الكلام مسموم الدسم عجلاً جسدًا له خوار. فيخور العجل ويخور ثم يحرق وينسف في اليم نسفًا. ويعود المستكبرون بالخيبة والخسران ويكون في نصيبهم أن يقال لهم في الحياة الدنيا لا مساس فيبعدون من رحمة الله ومن قرب الناس.

ولطالما طوَّع الاستكبار للمستكبرين الإثمَ وسوَّغه، فتراهم أول الأمر يكذبون على الله وعلى الناس في سبيل الوصول إلى مبتغاهم. تراهم يكذبون ويسيئون الظن ويفسدون في الأرض ويقولون: لا بأس من بعض التلفيق حتى نحمي أهلينا وأنفسنا من هذا الذي هو مَهين ولا يكاد يُبين. فلولا تبوأ هذه المنزلة رجلٌ من القريتين عظيم. وينسون أن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. وينسون أن يكونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين. وينسون أن الله لا يصلح عمل المفسدين. ويغفلون أنهم يرددون ما قاله أسلافهم الظالمون المستكبرون. فيا حسرة عليهم إن لم يكونوا من التائبين الأوابين.

ولقد أوجد الله تعالى أمراض الأجساد وأمراض الأنفس والقلوب لحكمةٍ بالغةٍ وغايةٍ ساميةٍ. فالغاية ليست القضاء على الإنسان وإنما الغاية هي حياته وازدهاره ورقيه لكي ينال نعم الدار الدنيا والدار الآخرة. والتغلب على الأمراض والفتن هو الغاية من وجودها. والله جعلها لكي يفكر الإنسان ويبتكر مستعينًا بالله كي يقاوم ما يفني حياته ويفسد روحه. ولا يعدم الوسيلة من سعى مستعينًا بالله. وبهذه الوسيلة يقوى الجسد وتتطور النفس، وتصل الصحة البدنية والروحية إلى مراتب عظيمة تخلص الإنسان من أسباب الاعتلال وتجعله يهفو نحو أهداف أسمى. ولقد كان من نعمة الله تعالى أن جعل في الجسد وفي النفس قدرة عجيبة على المقاومة. كما أنه تعالى قد أوجد لكل داء دواء لكي يدرك الإنسان بأنه لن يعدم الوسيلة وأن عليه ألا ييأس في سعيه ولا يستسلم. وكذلك فقد جعل الله تعالى الترياق من السم والمصل المضاد من الجرثومة نفسها لكي يتبحر الإنسان في البحث في طبيعة المرض لكي يستخلص العلاج وبذلك فهو يحيط علمًا بالداء ومسبباته والظروف التي قد يهاجم فيها فيحتاط لذلك. فعلى صعيد الأمراض الجسدية فإن العلم بطبيعة المرض ودورة حياة الجرثومة المسببة له كجعل الإنسان قادرًا على التغلب على كثير من أمراض الجسد. ونشأ في العصور الحديثة ما يعرف بالطب الوقائي القائم على الاحتراز من أنواع الأمراض الفتاكة. واستخدمت المطاعيم والأمصال، وكانت النتيجة أن قلّت بشكل كبير نسبة الوفيات بين الأطفال وازداد متوسط عمر الإنسان. لكن أكثر الناس في غفلة عن الطب الروحي الوقائي الذي تضمنته خاتمة الرسالات لبني الانسان. فغرق العالم في موت روحي لم يشهد له مثيل. فظهر الفساد في البر والبحر وساد الظلم وأصبح الإنسان وحشًا يفترس أخاه الإنسان وينفق على قتل أخيه كنوز الأرض ويمنع عنه قوت يومه، ومع ذلك فهو يتشدق بإنسانية كاذبة منافقة ريحها منتنة تفوح منها ريح جثث الضحايا الذين تركهم في العراء لكي يتخطفهم الطير أو تأكلهم السباع. فشهد العالم مشهدًا من الوحشية لم يسبق له مثيل رافقته حملة كذب وتضليل وفحشٍ ومجونٍ فاق كل تصور. لقد غفل العالم عمّا جاء به سيدنا محمد  من شفاء للناس. لا بل قاوموه بشدة ولم يُقبلوا على ما يحيهم ويشفيهم ويقيهم من كل ما يمكن أن يفتك بهم. لقد غفلوا عن مثالٍ سجّله التاريخ لعلاج ناجع لقوم كانوا عرضة للفناء والاندراس وتفشت فيه سائر الأمراض الروحية واستشرت، فاستخلص المصطفى الدواء فأبصرت عيونهم نور الحق فسعوا إليه سراعًا. فتحول الاستكبار العظيم إلى خضوع عظيم لله وإلى تسليم لم تشهد البشرية مثيلاً له. وتحولت الوحشية إلى إنسانية صادقة، وتحول الجبروت إلى رحمة وتبدلت قلوبهم ونفوسهم فتغيروا وغيروا وجه الأرض ووضعوا اللّبِنَ الأولى في صرح التقدم الإنساني. وما زالت الدنيا تذكر ذلك الفجر الجميل الذي خرج بالحق والعدل والرفاه إلى العالم أجمع. حيث عادت الحياة وبُعث الناس من جديد وأشرقت الأرض بنور ربها. ومع أن الفتن ما لبثت أن هاجمت هؤلاء الأبرار بعد الانتصار. ومع أن الاستكبار عاد من جديد يلبس حلة الدين ليفتك بالمؤمنين، وتسلل كالثعلب في لباس الناسكين، وأصبح يقتات بما ترك محمد وآله وصحبه الطاهرين، ويلبس الحق بالباطل، ويقول إنما أنا من المصلحين، فدُقَّت رقاب وكُسِّرت حراب دافعت عن الدين. ونالت السيوف رقاب قوم كانوا من أوائل المسلمين. مع كل ذلك فقد حاول المؤمنون تلمس العلاج واستدروا رحمة الله فتدارك الله الأمة برحمته بعد ذلك وأحياهم بعد موتهم وكان الله بهم أرحم الراحمين.

ولكن الاستكبار عاد جديدًا بعد أن ظنوه رجعًا بعيدًا. وبعد أن باعدوا بينهم وبين كتابهم وغفلوا وتناسوا ونسوا ما فيه من ترياق للقلوب. فتنازع المسلمون ففشلوا وذهب ريحهم. وأصبحوا كالقصعة بين يدي أعدائهم، يتداعون عليها ويتنافسون أيهم يكون له شطر أكبر من أخيه. فذهب الجاه وضاع المال وبقي الاستكبار كي يقضي على البقية الباقية. ولكن الله لم يكن ليذر الأمة على هذه الحال، فأرسل من آل محمد طبيبًا حاذقًا خبيرًا يغب من نبع المصطفى ويتعلم من علومه ويسقي العالم كأسًا لا لغو فيه ولا تأثيم. وذلك مما تقتضيه الضرورة ويستدل عليه كل عاقل وذلك لتفاقم الحال وسوءه الشديد الذي يقتضي علاجًا قويًّا عاجلاً خاصًّا. فلقد تنبه سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود إلى هذا الوضع الخطير الذي تعيشه الأمة ويعانيه العالم فتوجه إلى الله تعالى بأكف الضراعة يستمطره غيثًا يحي الأرض بعد موتها. فدلّه الله تعالى على ينبوع اليقين وحوض خاتم النبيين. فأخرج بإذن الله من بحار القرآن الكريم العظيم لآلئ تسر الناظرين. وأرشده الله تعالى وهداه إلى سبل السلام ومنابع النور ففتح سبلها للناس وأزال الأسوار والأشواك. وبيّن معارف القرآن ما كان لقلب متكبر جبار أن يعرفها. وسقى الذين أتوه طائعين شراب كافور أبرأهم من الأسقام ثم زنجبيلاً جعلهم يصعدون جبال العلم والروحانية ويحملون نور المصطفى إلى أطراف الأرض وزواياها المظلمة. ولقد بين المسيح الموعود المهدي من الله أن القرآن الكريم قد احتوى شرحًا وافيًا لأمراض بني الإنسان الروحية التي فتكت بالأقوام السالفين وجعلتهم عرضة لعذاب الخزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب. ولقد حذر من خطورة الاستكبار تحذيرًا عظيمًا. وبيّن كيف أن أقوامًا دفعهم استكبارهم إلى تكذيب المرسلين ومحاربتهم، كما أن أقوامًا كانوا قد صدقوا المرسلين ثم أفسدهم الاستكبار فأخذوا يكذبون الرسل كما يكذب بهم من ليس لهم من الدين من نصيب مع فارق كبير هو أنهم يرون حربهم على الأنبياء حربًا مقدّسة وأنهم بذلك إنما يحمون دين الله من المارقين. فبدلوا نعمة الله كفرًا فأحلوا قومهم دار البوار. وجعلوا الدين وعاءً للاستكبار يرعاه ويباركه ويصبغه بصبغة مقدسة. فأسرفوا وارتابوا فطبع الله على قلوبهم لتكبرهم وجبروتهم. فضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله وأصابهم عذاب مهين.

ولقد خص القرآن الكريم حالة بني إسرائيل بتفصيل مطول وذلك لكي تكون عبرة للمؤمنين. لأن ذكر بني إسرائيل بهذا الحجم في القرآن الكريم إنما هو لتحقيق الغاية منه كونه”هدى للمتقين”. فبنو إسرائيل غدوا كجسد ميت داهمته الأمراض وهو مقدم للتشريح والتحليل لكي يبدع المؤمنون وسائل طب وقائي ضد الأمراض التي فتكت ببني إسرائيل وهم عرضة لها لأنهم في ظروف مشابهة. والقرآن الكريم هو علاج للناس كافة إذ إنه يخرج الناس بإذن ربهم من الكفر إلى الإيمان، كما إنه ترياق يحمي المؤمنين ويهديهم بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. وهو بذلك صالح للبشرية جمعاء، فمن الناس من ليس لهم من الدين من نصيب ومنهم من يتدينون بأديان اعتراها الصدأ، كذلك فإن الفئة المؤمنة التي آمنت بالله ورسوله ودينه هي أيضًا بحاجة إلى علاج وقائي مستمر يجدد صحتهم ويحميهم من الهجمات.

ولقد جاءت فاتحة هذا الكتاب، التي هي أمه وكل القرآن إنما هو تفصيل لها، لتحمل هذه المعاني وترشد الناس إلى ما ينجيهم. ولقد جاءت في بدايتها تقر بالحقيقة الكبرى، ألا وهي الله، وتذكره وتمتدحه بما هو أهله لكي تُسلِّم النفس وتظهر أمراضها وضعفها وتكون مستعدة للعلاج، ومن ثم نصفها الثاني هو العلاج في صيغة الدعاء لكي تمعن السورة في تأكيد أن السعي إلى العلاج والوصول إليه لا يكون إلا باستعانة بالله وبفضله الخالص وبإرادته المباشرة التي يجب على الإنسان أن يستمطرها مسلِّمًا لله خالعًا نعليه بحاشية البساط متجردًا من كل زيف دنيوي زائل. ولقد كانت هذه السورة الرائعة عرضة للانتقاد من أعداء الإسلام الذين جهلوا مغزاها. إذ قالوا كيف تقولون بأنكم على الدين القيم وأنتم تسألون الله أن يهديكم الصراط المستقيم؟!. هل برأيكم هنالك ما هو بعد الإسلام؟! فإن كان كذلك فما حاجتكم إليه؟!. إن هذا الاعتراض إنما ينم عن جهل وعمىً وغفلة عن الداء الأخطر. هذا الداء الذي هو السبب في انحسار الحضارات الإنسانية وأفولها والذي لم ينتبه إليه المعارضون وأغفلته كل النظم الدينية والاجتماعية وتفرد به هذا الكتاب المستبين. فهذه السورة تهيّء الإنسان للازدهار والمضي قدمًا لنيل كل ما ينفعه، حيث إنها لا ترضى بأن يقف الإنسان عند مرحلة ويقول أنا قد وصلت إلى كل ما أريد. فالطريق طويل وغير منته ومحفوف بخطر الهجمات الشيطانية، فطوبى لمن استعان بالعليم القدير ليقود خطواته فيه.

إن الذي لا يفهم الفاتحة ولا تلامس روحه ولا يدرك بعضًا من كنهها إنما هو محروم من فهم القرآن كله ومن الصلاة والصلة بالله. فهي سورة الصلاة التي لا تصلح الصلاة بدونها والتي يكررها المسلم ما لا يقل عن ثلاثين مرة في اليوم والليلة، فلا بد من هدف لهذا التكرار وهذا التذكير. فهي الصلاة والصلاة هي. وهي الوسيلة للحصول على المعارف الروحية والمادية. وهي الشعلة التي تجدد الإيمان في الصدور وتستدر رحمة الله على عباده المؤمنين. وهي الحصن الحصين من الفتن. وهي الدعاء الكامل الفريد الذي يضع الإنسان عند نفسه ويرفعه عند الله درجات عليا. هي الخفيفةُ على اللسان الثقيلةُ في الميزان. هي الكلمات التامّات اللواتي يقين من شر الشياطين واللامّات. وهي الزاد عند الملمات. وهي الأنيسة في الرخاء والملجئة في الضراء. فلا عجبًا أن ابتدأت بالحمد فهي سورة الحمد، وهي النعمة التي لا تحد ولا تملك معها الإنسان مقدرة على الشكر والحمد.

ولقد جعلها الله مرقاة لفهم الأسرار وأودع فيها أسرارًا جمّة لا ينالها إلا الذين أنعم الله عليهم. ذلك بأنهم فهموها وأُشربوها في قلوبهم فتفجرت ينابيع العرفان في صدورهم. أما الذين حرموا منها فهم عن بركاتها مبعَدون. وداهمهم الاستكبار وأرداهم وجفت ينابيعهم وتكدر ماؤهم فهم في غيهم سادرون. فعميت عليهم وهم يقرؤونها ويرددونها ولا تلامس قلوبهم ولا يفقهونها.

ولقد أشار الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في كتابه إعجاز المسيح، الذي ما هو إلا تفسير سورة الفاتحة الذي تحدى به سائر المشائخ المعارضين، أن الفاتحة تتضمن تاريخ الإنسان على الأرض وتاريخ الإسلام لمن كان من المتدبرين. ومن العجيب أنها مع فضائلها التي لا تحد قد أوحت بتسلسل الأحداث في تاريخ الإسلام وببعثة أعظم المجددين. ومن العجيب أن البسملة التي هي أول آية فيها وأول القرآن الكريم قد أشارت إلى هذا السر العظيم. فقد أوجد الله الإسلام بادئ الأمر من فيض رحمانيته. فهو الرحمن الذي علم القرآن وخلق الإنسان علمه البيان ليكون فيه من المتبحرين. ثم فاضت رحيمية الله تعالى ببعثة رسول من أنفس المؤمنين عزيز عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فكان المصطفى ومن بعده خادمه الأمين الإمام المهدي الذي هو مظهر الرحيمية العظيمُ. ولقد وطد المصطفى أركان الحمد فكان الحمد فيه وفي اسمه وفي أول كلمة من الفاتحة لمن كان من المتدبرين. ومن أسرارها أيضًا فيما يخص النفس الواحدة أن آياتها وكلماتها إنما هي درجات الرقي الروحي للطالبين. أولها الإقرار والتصديق ومن ثم الخضوع واستشعار الفضل والنعمة الإلهية ومن بعدها بذل المال والنفس ومجاهداتها بمعونة الله ومن ثم التسليم له ليكون المؤمن من المهتدين. وبعدها يقود الله خطواته في الصراط المستقيم وتبدأ مسيرة لا نهاية لها. فمن ذا الذي يظن أنه قد وصل إلى نهاية المطاف نبئوني بعلم إن كنتم صادقين. لذا فالحاجة إلى هذا الدعاء وهذه السورة وهذا الكتاب الذي هو تفصيل للفاتحة لا تنتهي إلى يوم الدين. اللهم اهدنا سبلك ولا تجعلنا من المحرومين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك