حقيقة استغفار الأنبياء عليهم السلام
  • وضع سيدنا ابراهيم حجر الأساس لنجاح سيدنا محمد.
  • أهمية التبتّل لديمومة إنعامات الله.
  • إ يثار حب الله على حب الأبناء.
  • ازدهار مكة تحقيقاً لدعاء سيدنا ابراهيم..

__

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ   (الآية 36)

شرح الكلمـات:

واجنُبْني: جَنَبَه جَنْباً: دَفَعه. وجَنَبَ زيداً الشيءَ: نحّاه عنه، ومنه في القرآن واجْنُبني وبَنِيَّ أن نعبدَ الأصنام أي نَحِّني وإيّاهم (الأقرب)

الأصنام: جمعُ الصنم وهو: الوَثَنُ، وهو صورةٌ أو تِمثالُ إنسانٍ أو حيوانٍ يُتَّخذ للعبادة؛ أو كلُّ ما عُبِدَ من دون الله. وهو مُعَرَّبٌ (الأقرب).

إنني لا أقبل هذا الرأي بل الكلمة عندي عربية من مادة (صنم) فيُقال: “صَنَمَت الرائحةُ: خبُثَت. وصَنَمَ العبدُ: قوِيَ. وصنَم الرجلُ: صوَّت. والصَّنَمةُ: قَصبةُ الريش كلُّها؛ الداهيةُ” (الأقرب)

التفسـير:

لقد سبق أن بيّن الله تعالى قبل آيات أن أنبياءه الأولين لم يملكوا أية أسباب ووسائل ظاهرة للنجاح، ولكنهم نجحوا بأسباب غير مرئية، كذلك سيفوز محمد بأسباب غير مرئية، قد ذُكرت بعضها في تمثيل الكلمة الطيبة. أما في هذه الآية فبيّن الله تعالى أن الأساس لنجاح محمد قد وُضع منذ آلاف السنين، وبالأخص بيد إبراهيم . وكان حقّاً علينا أن ننجي أهل مكة من ظلمات الشرك ونخصّهم بكتاب من عندنا، لأننا سبق أن قطعنا وعداً مع إبراهيم لصالحهم ونحن لا نخلف الميعاد.

يبدو من دعاء سيدنا إبراهيم هذا أنه كان يعلم بناءً على الوحي أنه سيسود الشرك في مكة في يوم من الأيام، ولذلك دعا ربه قائلا: “واجنُبْني وبَنِيَّ أن نعبد الأصنام”، وذلك عندما لم يكن للشرك أي أثر في مكة. إذ لم يكن يسكن مكَة عندئذ إلا إسماعيل أو بعض من المؤمنين به .

ونكتشف بهذا الدعاء أن التوحيد والشرك يتناوبان دائماً. فتأتي على الدنيا أيام يزدهر فيها التوحيد، ثم تليها أيام ينتشر فيها وباء الشرك ويسود، وتصبح الأمم الموحِّدة بعد فترة مشركة، وتصير الطوائف المشركة موحِّدة أيضاً. ولا يملك الإنسان أن يقول بأن الذين يصلون إلى الذروة في التوحيد قد أصبحوا في مأمن من الشرك إلى الأبد.

وهذا يشكّل دحضاً لما يزعمه علماء “مقارنة الأديان” من أن عقيدة التوحيد نشأت من عقيدة الشرك. إن القرآن يعلن أن التوحيد والشرك ظاهرتان متناوبتان، وأن التوحيد يسود أولاً على الدوام، ثم يأتي الشرك ليحل محله. وهذا يعني أن عقيدة التوحيد عقيدة سماوية إلهامية، وأن الشرك لا يعني إلا التردي والانحطاط من مقام التوحيد. ولكن علماء مقارنة الأديان يزعمون أنهُ في البداية تولدت فكرة وجود الآلهة في الإنسان نتيجة خوفه وحيرته من الظواهر الطبيعية، فتطورت هذه الفكرة لتُسفر عن الاعتقاد بوجود إله واحد.

هذا الاختلاف بين النظريتين يبدو عادياً للوهلة الأولى، ولكنه بناءً على الاختلاف نفسه يصرّح أهل الدين بأن الله هو الذي خلق الإنسان، بينما يدّعي هؤلاء العلمانيون بأن الإنسان نفسه هو الذي خلق إلههُ. أي أن الاعتقاد بوجود الإله هو وليد أفكار الإنسان وتوهماته ليس إلاّ.

وقد يتساءل الإنسان هنا قائلاً: هل كان بإمكان إبراهيم أن يقع في الشرك حتى يدعو ربه قائلاً: واجنُبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ؟

والجواب: أن قوى الإنسان وقدراته نوعان؛ منها ما يتعلق بخَلقه وبِنيته مثل الرأس وغيره، فلا يمكن أن يدعو في شأنها ويقول مثلاً: يا رب لا تَدَعْ رأسي يتحول إلى رأسين، إذ لا تبديل لمثل هذا الخلق. ولكن هناك نوعاً آخر من قدرات الإنسان المكتسبة أو الموهوبة، بمعنى أن الإنسان يمكن أن يطور قواه هذه بالجهد والتمرين، أو يعطيه الله إياها فضلاً وهبةً، ليميزه عن غيره من البشر. وبما أن مثل هذه المواهب معرّضة للانحطاط والزوال لذلك كان على الإنسان أن يستمر في الابتهال إلى الله كي يساعده في الحفاظ عليها، رغم وعد الله له بذلك، فإن ابتهاله هذا يمثّل اعترافاً منه بأن هذه النِعَم أو المواهب ليست مِلكاً له، بل هي إنعام وهبة من الله الكريم. وبناءً على هذا المبدأ نفسه لا يبرح الأنبياء في الدعاء والابتهال لكي يمنّ الله عليهم بالنعم المنوطة بالنبوة، ومثالُه هذا الدعاء من إبراهيم أو دعاء النبي : قل ربِّ زدني علماً . وانطلاقاً من المبدأ نفسه يقوم الأنبياء عليهم السلام بالاستغفار والتوبة، فينخدع الذين لا يعرفون هذا المبدأ ويظنون خطأً أن الأنبياء أيضاً يقعون في الفواحش والمعاصي فيقومون بالاستغفار والتوبة. والحق أن استغفارهم وابتهالهم إنما يعني أن يمكّنهم الله تعالى من الحفاظ على مقام الطهارة والعصمة الذي يتبوّأونه كهِبة من الله تعالى، لأن الحفاظ على هذا المقام السامي أيضاً لا يتم إلا بفضلٍ خاص من الله . ومن أجل ذلك ذكّرنا القرآن مرة بعد أخرى بقوله وعلى الله فليتوكلِ المتوكلون (إبراهيم 13). أي أنه يجب على الإنسان رغم رقيه وتفوقه على الآخرين، أن يستعين بالله تعالى دائماً، إذ لم يحرز هذا الرقي إلا بفضل الله ورحمته. وإذا فعل ذلك ضَمَنَ هدايته وهداية الآخرين.

وانطلاقاً من المبدأ نفسه يقوم الأنبياء عليهم السلام بالاستغفار والتوبة، فينخدع الذين لا يعرفون هذا المبدأ ويظنون خطأً أن الأنبياء أيضاً يقعون في الفواحش والمعاصي فيقومون بالاستغفار والتوبة. والحق أن استغفارهم وابتهالهم إنما يعني أن يمكّنهم الله تعالى من الحفاظ على مقام الطهارة والعصمة الذي يتبوّأونه كهِبة من الله تعالى…

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ   (الآية 37)

التفسـير:

ما أروعه من مشهد لحب الله تعالى. فسيدنا إبراهيم يقول عن أولاده: يا ربِّ سأعتبرهم أولادي ما داموا مُجتنبين عن الشرك وإلا فلا.

ونستنبط من هذه الآية أن حب الأولاد بطريق خاطئ يوقع الإنسان في كثير من المعاصي والآثام. إذ يعلّمنا إبراهيم هنا أنه يجب على المرء أن يحب أولاده حبّاً لا يكون سبباً لفساد سلوكهم، لأن الحب الذي يفسد الأولاد ليس حباً وإنما هو عداوة. فيجب أن يكون اهتمامنا بمصالحهم الأخلاقية والروحانية أكثر من اهتمامنا براحتهم الدنيوية. وإذا لم تصلح حالة الأولاد رغم تذكير الآباء ونصحهم لهم، يجب أن تأتي مرحلة يضطرون فيها لقطع الصلة عن الأولاد، لأنهم إذا شعروا بأن آباءهم يغضون الطرف عن تقصيراتهم انحرفوا بعيداً عن المنهج السليم، ولكنهم إذا أدركوا أن آباءهم لن يدعوهم دون تأنيب على تقصيراتهم فلا بدّ من أن يصلحوا سيرتهم. فمن واجبنا أن نؤثِرَ حبّ الله على حب الأولاد، فهذا لا يُكسبنا رضوان الله فحسب، بل سيحمي أجيالنا من الهلاك أيضاً.

ثم قال إبراهيم  ومن عصانِى فإنك غفور رحيم .. ذلك أنه أعلن من قبل: أن من يرتكب الشرك من أولادي فإنه ليس مني ولن أعتبره ولدي. ولكن أنبياء الله يكونون رحماء أيضاً. وأن يؤثِر الإنسان حبَّ الله على حب الأولاد شيء، ولكن أن يتوسل إلى ربه طالباً الرحمة لأولاده فهذا شيء آخر تماماً. ولذلك يبتهل سيدنا إبراهيم : يا ربِّ، أرجوك أن تحمي ذريتي من الشرك دائماً، أما إذا خالف أحد منهم أوامرك فإنني بريئ منه ولا أعتبره مني أبداً، ورغم ذلك فإني أتضرع إليك يا أيها الغفور الرحيم أن تغفر لهم وتصلحهم وتحقق لهم الرقي والازدهار.

لقد وضّح هنا إبراهيم أن سخط الآباء على الأولاد لا يعني أن يصبحوا قساة القلوب نحوهم، بل الطريق الأمثل هو أن يعاقبوا الأولاد في الظاهر بينما يجب أن يدعوا لهم من الصميم بالهداية، ولا يبرحوا ساعين لإصلاحهم، لا أن يتمنوا هلاكهم.

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (الآية 38)

شرح الكلمـات:

وادٍ: (راجع شرح الكلمات للآية رقم 18 من سورة الرعد)

أفئدة: جمعُ فؤاد. والفؤادُ: القلبُ لتوقُّدِه، وقيل لتحرُّكه. وقيل هو باطنُ القلبِ، وقيل غشاؤه. وقال جماعةٌ من المفسرين: يُطلقُ الفؤاد على العقل (الأقرب)

تَهوي: هَوَتِ العُقابُ: انقضَّت على صيدٍ أو غيره. وهَوَتْ يدي له: امتدّت وارتفعت. وهَوَت الريحُ: هبَّتْ. وهَوَت الناقةُ براكبها: أسرَعَتْ. وهوى الشيءُ هَوِيّاً وهُوِيّاً: سقط من عُلُوٍّ إلى أسفل (الأقرب)

الثمرات: جمعُ الثَّمرةِ، وهي حِملُ الشجرِ؛ النَّسلُ والولدُ. والثمرةُ من اللِّسانِ: طرفُهُ وعَذَبَتُه. وثمرة القلبِ: المودّةُ؛ خُلوصُ العهدِ (الأقرب). فالمراد من قوله تعالى وارزقْهم مِن الثمراتِ أي أعطِهم الرزقَ من الثمار، أو: لا تدَعْ أعمالهم التي قاموا بها بخلوص النيّة تضيع.

التفسـير:

يؤكد هنا سيدنا إبراهيم لله تعالى خلوص نيته في ترك ذريته في تلك البرية.. لكي يستدرَّ بهذا الطريق فضلَ الله ورحمته. وذلك أن الله تعالى ينظر إلى النيات ولا يضيع أي عمل قام به إنسان بخلوص النية. فيتضرع إبراهيم إلى الله بقوله: إلهي، لقد تركتُ أولادي هنا لخدمة بيتك ولعمرانه. لقد تركتهم عند بيتك المحرم ليعبدوك ويذكروك دائماً. وقد تركتهم في هذه البرية رغم علمي بأنه لا يتيسر فيها أي شيء من المـُتع المادية. فيا ربِّ، ارحمْ ضراعتي وتقبَّلْ ابتهالي، وحقِّقْ لي الهدف الذي أتركهم من أجله هنا. فاجعلْ قلوب الناس تميل إليهم شوقاً ومحبة وتستمع لنصحهم وتنصاع، وأن ينجح أولادي في إقامة عبادتك في هذه البرية. وأرجوك، يا ربِّ، أن تتولى رعايتهم من الناحية المادية أيضاً، فإني أتركهم في برية أعرف أنه لا زرع فيها ولا خضرة، ومع ذلك أتوسل إليك أن تمدهم ليس بالرزق العادي فحسب، بل بأجود أنواع الثمار، كي يدركوا أن من يضحي في سبيلك فإنك لا تضيعه أبداً بل تكفل حاجاته المادية أيضاً.

انظروا إلى التأثير العميق الواسع لدعاء سيدنا إبراهيم، كيف أن العالم الإسلامي اليوم كلَّه يقف فداء لاسم مكة المكرمة، وكيف أن القلوب تهفو إلى الكتاب الذي نزل فيها بكل إِجلال وإكرام. بل لقد أتاح الله ببعث الإمام المهدي والمسيح الموعود الآن مزيداً من الوسائل والفرص لنشر هذه التعاليم المباركة.

هذا هو الجانب الروحي من تأثير هذا الدعاء. أما الجانب المادي منه فعجيب جداً أيضاً. إِذ تجد في هذه البرية التي كانت تفتقر إلى الماء والزرع أنواعَ الفاكهة والثمرات. لقد أكلتُ في مكة عنباً ورماناً لم أذق مثلهما لا في الهند ولا في الشام ولا في إيطاليا ولا في فرنسا. تصل إلى مكة الفواكهُ من كل أنحاء العالم، لتؤكد على استجابة دعاء إبراهيم .

أما قوله تعالى فاجعلْ أفئدةً مِن الناس تهوي إليهم فقد قال بعض المفسرين بأن (مِن) هنا للتَّبعيض بمعنى اجعل بعضاً من قلوب الناس تهوي إليهم. ولكن هذا المعنى بديهي البطلان، لأن من يدعو ربه لا يطلب منه شيئاً قليلاً. فلا شكّ أن (مِن) هنا زائدة جاءت للتأكيد. واعلم أن كلمة (الناس)  جاءت مُعرّفة ب”ال” التي هي للكمال والخصوصية، ولو قرأنا الجملة بدون “مِن” أي” أفئدة الناس” فالمراد: قلوب خواص الناس وكامليهم، وإذا أُضيفت إليها (مِن) التأكيدية يكون المعنى: أن يا ربِّ، اجعلْ هؤلاء الذين يتوقون إلى مكة من أكثر الناس إخلاصاً وأطهرهم قلوباً.

وقد يكون لقوله تعالى: وارزقْهم من الثمراتِ لعلّهم يشكرون معنى آخر- إلى جانب المعنى الذي سبق ذكره- وهو أن لا تضيع عبادات أولادي ولا تضحياتهم لتقصير منهم، بل رتِّبْ عليها يا ربِّ نتائج طيبة برحمتك وفضلك.

أرى أن دعاء إبراهيم هذا يخص ببعثة النبي وإلا فإن قوله فاجعلْ أفئدة من الناس تهوي إليهم لم يتحقَّق قبل بعثة الرسول . إذ كان العرب وحدهم الذين يحجون البيت الحرام في مكة قبل ذلك، ولكن بعد بعثته بدأ الناس يأتون ساعين إلى مكة من كل أنحاء الدنيا. فلا شكّ أن سيدنا إبراهيم قد دعا بذلك ربّه أن يبعث في مكة رسولاً يحمل رسالة موجهة للعالم أجمع، حتى يجتمع الناس من كل أرجاء المعمورة للحج في مكة ملبِّين نداء هذا المبعوث، وتصبح مكة مركزاً للتوحيد، ويتم تطهيرها من الشرك والمشركين.

وأرى أن الرؤيا التي رأى فيها إبراهيم أنه يذبح ابنه إسماعيل، كان تأويلها أن يترك ابنه في وادٍ غير ذي زرع، إذ إن تركه إياه في مثل هذا المكان كان بمثابة ذبح له بلا شك.

لم يستطع سيدنا إبراهيم فهم الرؤيا بمفهومها الصحيح تأثراً بالتقليد الشائع في ذلك الزمن، إذ كان الناس يقدّمون حينئذٍ قرابين بشرية، فظنّ إبراهيم أن الله يريد منه ذبح ابنه ذبحاً مادياًّ. ولم يخبره الله تعالى بتأويل الرؤيا الصحيح لكي يلغي على يد إبراهيم تقليد الذبائح الإنسانية هذا. فلما استعد فعلاً لذبح ابنه كي يحقق الرؤيا حرفياً، أوحى الله إليه أنْ يا إبراهيم قد صدَّقتَ الرؤيا وخرجتَ ناجحاً من الاختبار، فيجب من الآن أن لا يُقتل أيُّ إنسان قرباناً لله على هذا النحو، اللهم إلا الذي يُقتل في الحرب أو في القصاص. وأعلن أنه يجب أن يأخذ القربان الإنساني من الآن طابعاً معنوياً. فلا تقدّموا لله لحومكم ودماءكم، بل ضحُّوا في سبيله بوقتكم وعلمكم ومالكم لتنالوا به قربه سبحانه وتعالى. فاذبَحْ الآن يا إبراهيم كبشاً من الأكباش دفعاً للبلاء، وجهِّزْ نفسك لتضحية ابنك بطريق آخر وهو أشق وأشد من هذا الطريق.

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى الله مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ  (الآية 39)     

التفسـير:

لقد بيّن الله تعالى هنا أن إبراهيم ترك ابنه في تلك البرية معتبراً إياه عملاً صالحاً وبنية صالحة جداً. وهكذا فإن هذه الآية تمثل ردّاً ضميناً على ما اتهمت به التوراة إبراهيم . فقد ورد فيها أن إبراهيم أخرج ابنه إسماعيل وزوجته هاجر من البيت وتركهما في تلك البرية النائية إرضاءً لزوجته سارة (التكوين 31: 8-12). ومعنى ذلك أن هذا النبي العظيم ظَلَمَ بعض الأبرياء إرضاءً لزوجته! ولكن القرآن يخطِّئ التوراة في ذلك مبرئاً ساحة إبراهيم من هذا الاتهام بلسانه ، إذ يسجل دعاءه هذا الذي يقول فيه: يا ربِّ، إنك تعلم نيتي وأنا أترك زوجتي وابني في هذه البرية. إنني لا أتركهما هنا لغرض دنيوي، وإنما أريد به كسب رضوانك فقط.

ثم قال الله تعالى وما يخفى على الله من شيء ردّاً على قول إبراهيم: إنك تعلم ما نُخفي وما نُعلن ، وكأن الله تعالى يقول: نعم يا إبراهيم، إننا على علم بنيتك الخالصة، ونعرف أنك لا تفعل ذلك إرضاءً لزوجتك، وإنما ابتغاءً لمرضاتنا فقط.

لقد وضّح هنا إبراهيم أن سخط الآباء على الأولاد لا يعني أن يصبحوا قساة القلوب نحوهم، بل الطريق الأمثل هو أن يعاقبوا الأولاد في الظاهر بينما يجب أن يدعوا لهم من الصميم بالهداية، ولا يبرحوا ساعين لإصلاحهم، لا أن يتمنوا هلاكهم.

  الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ   (الآية 40)

شرح الكلمات:

وَهَبَ: وهب له مالاً: أعطاه إياه بلا عِوَض (الأقرب).

التفسـير:

يتحدث القرآن في هذه الآيات عن أحداث الفترة التي كان إبراهيم يرفع فيها قواعد الكعبة المشرفة، لأن القرآن سجّل أدعية إبراهيم هذه عندما رفع القواعد (البقرة:125-130). وقد يسأل سائل هنا فيقول: إذن فما الداعي أن يشكر إبراهيم  ربّه بهذه المناسبة على أنه وهب له إسماعيل وإسحاق عليهم السلام.

الواقع أن سيدنا إبراهيم لم يشكر الله فرحاً على ولادة الابنين، وإنما فرح وشكر ربّه على أنه مَكَّنَهُ في حياته من وضع الأساس لعبادة الله في العالم عن طريق هذين الابنين. وهذا يعني أن إبراهيم كان قد نذر إسحاق أيضاً لله تعالى، لأن إبراهيم قد شمله في دعائه.

توضّح لنا هذه الآية قوة إيمان إبراهيم . فإنه ترك ابنه البكر في البرية التي يصعب وصول الماء والطعام إليها، وهكذا دمِّر مستقبل ابنه في نظر أهل الدنيا، ولكن يقينه بوعد الله قوي وراسخ لدرجة أنه اتجه إلى شكره تعالى إِذْ  وَهَبَ له على الكِبَر إسماعيل وإسحاق استجابة لتضرعاته  فيهما. وكأن إبراهيم ما كان يريد من الله الأولاد حتى في سن الشيخوخة إلا إذا كانوا سيضحون بأرواحهم في سبيل الله تعالى، وتوطيد دينه في العالم. والحق أنه لا يحظى بمثل هذا الإيمان والفداء والإخلاص إلا ذو حظ عظيم كإبراهيـم وأمثاله. اللهم صلِّ عليهم وارفع درجـاتهم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك