في رحاب القرآن

في عالم التفسير

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِنْ آلِ فِرعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبنَآءَكُم وَيَستَحيُونَ نِسَآءَكُم وَفي ذَلِكُم بَلآءٌ مِنْ رَبِّكُم عَظِيمٌ (البقرة: 50)

 شرح الكلمات:

آل: الآل هم الأهل والقوم (الأقرب).

وقيل: الآل مقلوب من الأهل (المفردات).

وأهلُ الرجل: عشيرتُه وذوو قرباه؛ زوجتُه. وأهلُ نبيٍّ: أمّتُه. وأهلُ بيت: ساكنوه. وأهلُ الأمر: أصحابُ الحكم والسلطان (الأقرب).

هناك فرق بين الأهل والآل، فقيل: أن الآل “خُصَّ بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات، ودون الأزمنة والأمكنة، يقال آلُ فلان، ولا يقال آل رجل ولا آل زمان كذا أو موضع كذا، ولا يقال: آل الخياط، بل يضاف إلى الأشرف الأفضل، يقال آلُ الله وآلُ السلطان.  والأهل يضاف إلى الكل، يقال: أهلُ الله وأهلُ الخياط، كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا” (المفردات).

فمعنى آل فرعون: قوم فرعون.

فرعون: لقبُ كلِّ مَن مَلَكَ مصرَ؛ وقيل: كلُّ عاتٍ متكبّرٍ متمرّدٍ، وجمعُه فراعنة.

فَرْعَنَ: كان ذا دهاء ومكرٍ. تفرعنَ فلان علينا: طغى وتجبّرَ. وتفرعنَ النبات: طال وقوي. ويقال للتمساح الفرعونُ (الأقرب).

فكأن هذا الاسم أطلق على الملوك المصريين القدامى لشدة ذكائهم وبأسهم وسلطانهم.

يسومونكم: سامَ البائعُ السلعةَ: عرَضها وذكَر ثمنها… سام فلانًا الأمرَ: كلّفه إياه. وأكثر ما يُستعمل في الشر والعذاب. سامَه خسفًا: أولاه إياه وأراده عليه (الأقرب).

والسَّوم: الذهاب في ابتغاء الشيء، فهو لفظٌ لمعنًى مركَّبٍ من الذهاب والابتغاء، وأُجْرِيَ مجرى الذهاب في قولهم: سامت الإبل فهي سائمة، ومجرى الابتغاء في قولهم: سُمْتُ كذا، قال: يَسُومُونَكُمْ سوءَ العذاب (المفردات).

وسامَه: ألزمَه وجشَّمه (التاج).

فمعنى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ أنهم كانوا يعذّبونكم عذابًا شديدًا، أو كانوا يريدون أن يعذّبوكم عذابًا شديدًا.

يذبّحون: ذبَح: شقَّ؛ خنَق؛ نحَر، وذبّح: بالغَ في الذبح (الأقرب).

الذبح: قطعُ الحلقوم (اللسان).

الذبح: الهلاك (التاج).

والمراد من الذبح في الآية القتل أو الخنق.

يستحيون: استحياه: أبقاه حيًّا، وقال اللحياني: استبقاه ولم يقتله (اللسان).

فقوله تعالى (ويستحيون نساءكم) يعني: يستبقونهن ولا يقتلونهن.

بلاء: بلوتُ الرجلَ بلاءً وبلوًا وابتليته: اختبرته… ابتلاه الله: امتحنَه… والاسم منه البَلْوى والبِلْوة والبَليّة والبلاء… والبلاء يكون في الخير والشر، يقال ابتليته بلاءً حسنًا وبلاءً سيئًا. والله تعالى يبلي العبد بلاءً حسنًا ويبليه بلاءً سيئًا… والبلاء: الإنعام (اللسان). وفي القرآن: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ .

عظيم: عظم الشيء عِظمًا وعظمةً: كبر. وعظم الأمر على فلان: شقَّ وصعب (الأقرب). فمعنى عظيم: كبير، شاقٌّ وصعب.

التفسير:

بهذه الآية بدأ الله تعالى يعدّد لبني إسرائيل النعمَ التي لم يزل ينزلها عليهم أحقابًا طويلة، وأوّل هذه النعم أنهم كانوا يعيشون في مصر تحت حكم الفراعنة عبيدًا، فأرسل الله تعالى عبده موسى ونجّاهم على يده.

لقد صوَّر كتابُهم المقدس حياة العبودية التي عاشوها كالآتي:

{ثُمَّ قَامَ مَلِكٌ جَدِيدٌ عَلَى مِصْرَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ. فقَالَ لِشَعْبِهِ: «هُوَذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ شَعْبٌ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنَّا. هَلُمَّ نَحْتَالُ لَهُمْ لِئَلاَّ يَنْمُوا، فَيَكُونَ إِذَا حَدَثَتْ حَرْبٌ أَنَّهُمْ يَنْضَمُّونَ إِلَى أَعْدَائِنَا وَيُحَارِبُونَنَا وَيَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ». فَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ تَسْخِيرٍ لِكَيْ يُذِلُّوهُمْ بِأَثْقَالِهِم… اسْتَعْبَدَ الْمِصْرِيُّونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعُنْفٍ، وَمَرَّرُوا حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ فِي الطِّينِ وَاللِّبْنِ وَفِي كُلِّ عَمَل فِي الْحَقْلِ. كُلِّ عَمَلِهِمِ الَّذِي عَمِلُوهُ بِوَاسِطَتِهِمْ عُنْفًا} (اَلْخُرُوجُ 1 : 8-14)

أما قوله تعالى: يذبحون أبناءكم ، فأقول: كان رعمسيس الثاني، الذي وُلد موسى في زمنه، شديدَ العداوة لبني إسرائيل، فأمَر بقتل أبنائهم برؤية ازدهارهم، ولكنه لم يفلح في خطته تمامًا لإشفاق القابلات على المواليد. فأمَر أخيرًا بطرح أبنائهم، دون البنات، في النهر. (الخروج 1: 22).

وتوجد في التلمود روايات بهذا المعنى.

كما ورد في الإنجيل: }فاحتال هذا على جنسنا وأساء إلى آبائنا، حتى جعلوا أطفالهم منبوذين لكي لا يعيشوا{ (أعمال الرسل 7: 19).

لقد انخدع البعض من كلمة (يُذَبِّحون) في الآية، فظنوا أن القرآن الكريم يقول أن المصريين كانوا يخنقون مواليد بني إسرائيل، مع أن التاريخ يقول بغير ذلك. وقد أوقعهم في هذا الوهم كون الخنق من معاني الذبح، فغفلوا عن معناه الآخر، وهو الهلاك كما بينّا في شرح الكلمات. فمعنى هذه الآية في الحقيقة أنهم كانوا يهلكون المواليد بأي طريقة كانت. وقد وضّح القرآن هذا المعنى في موضع آخر حيث قال: يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ (الأَعراف 142)

أما قوله تعالى: وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ فيعني أن في نجاتكم من هذا الكرب إنعامًا كبيراً من الله تعالى، إذ ترتبت على هذه النجاة سلسلة من نِعَم عظيمة أخرى.

وَإِذ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحرَ فَأنجينَاكم وأَغرقنآ آلَ فِرعَونَ وَأَنتُم تَنظُرُون (البقرة:51)

 شرح الكلمات:

فرَقْنا: فرَقنا بكم البحر: أي فَلَقْناه (الأقرب).

تنظرون: نظَره ونظَر إليه: أبصرَه وتأمّلَه بعينه. نظَره: مَدَّ طرفه إليه، رآه أو لم يره. نظر في الأمر نظرًا: تدبَّرَه وتفكّرَ فيه يقدّره ويقيسه. نظر بين الناس: حَكَمَ وفصل دعاواهم. ونظر للقوم: رثى لهم وأعانهم. نظر الشيءَ: انتظره. يقال داري تنظر إلى دار فلان، أي تقابلها (الأقرب).

فمعنى وأنتم تنظرون :

  1. كنتم تشاهدون آل فرعون وهم يغرقون.
  2. كنتم تحكمون عند غرق آل فرعون أنهم على الباطل وأنكم على الحق.
  3. كنتم تشفقون على آل فرعون عند غرقهم وتقولون في أنفسكم ليتهم لم يرتكبوا الشر ولم يلقوا هذا المصير.
  4. كنتم تنتظرون هلاكهم.
  5. كنتم إزاء آل فرعون عند غرقهم.

التفسير:

قوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ يعني حرفيًّا: عندما شققنا البحر بواسطتكم، وبسبب هذا المعنى للباء في (بكم) انخدع معظم المفسرين ففسروا الآية أن بني إسرائيل كانوا ذريعة لفلق البحر. لقد أُمروا بخوض البحر، فكلما تقدّموا في البحر تراجع الماء على جانبيهم.

ولكن هذا المعنى باطل لقوله تعالى في موضع آخر: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (الشعراء 64). لقد تبين من هنا أن بني إسرائيل لم يكونوا سببًا في انفلاق البحر، وإنما كانت العصا هي السبب الظاهري فيما جرى.

أما ماذا تفيد “الباء” هنا إذًا؟ فالجواب أن الباء تفيد أيضًا التعليل والسببية، وعليه فالمعنى: أننا فرّقنا لأجلكم البحرَ، أي لنجاتكم، وبعبارة أخرى: فرقنا لكم البحر. (البحر المحيط، والكشاف)

قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ… إشارةٌ إلى معجزة أظهرها الله لموسى عند خروجه ببني إسرائيل من مصر إلى الشام، فطاردهم فرعون مع جنوده لإعادتهم. ورد في التوراة:

{فمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ. فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ. وَتَبِعَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ وَدَخَلُوا وَرَاءَهُمْ. جَمِيعُ خَيْلِ فِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ إِلَى وَسَطِ الْبَحْرِ. وَكَانَ فِي هَزِيعِ الصُّبْحِ أَنَّ الرَّبَّ أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ فِي عَمُودِ النَّارِ وَالسَّحَابِ، وَأَزْعَجَ عَسْكَرَ الْمِصْرِيِّينَ، وَخَلَعَ بَكَرَ مَرْكَبَاتِهِمْ حَتَّى سَاقُوهَا بِثَقْلَةٍ. فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: «نَهْرُبُ مِنْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّ الرَّبَّ يُقَاتِلُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُمْ». فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مُدَّ يَدَكَ عَلَى الْبَحْرِ لِيَرْجعَ الْمَاءُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ، عَلَى مَرْكَبَاتِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ». فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَرَجَعَ الْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إِلَى حَالِهِ الدَّائِمَةِ، وَالْمِصْرِيُّونَ هَارِبُونَ إِلَى لِقَائِهِ. فَدَفَعَ الرَّبُّ الْمِصْرِيِّينَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ. فَرَجَعَ الْمَاءُ وَغَطَّى مَرْكَبَاتِ وَفُرْسَانَ جَمِيعِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ الَّذِي دَخَلَ وَرَاءَهُمْ فِي الْبَحْرِ. لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ وَلاَ وَاحِدٌ. وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمَشَوْا عَلَى الْيَابِسَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ. فَخَلَّصَ الرَّبُّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِسْرَائِيلَ مِنْ يَدِ الْمِصْرِيِّينَ. وَنَظَرَ إِسْرَائِيلُ الْمِصْرِيِّينَ أَمْوَاتًا عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَرَأَى إِسْرَائِيلُ الْفِعْلَ الْعَظِيمَ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ بِالْمِصْرِيِّينَ، فَخَافَ الشَّعْبُ الرَّبَّ وَآمَنُوا بِالرَّبِّ وَبِعَبْدِهِ مُوسَى.} (الخروج 14: 21-31)

وقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم في مواضع أخرى أيضًا، حيث قال الله تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (الشعراء 64)، وقال الله تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (طه 78-80).

بالجمع بين هذه الآيات القرآنية كلها تتضح تفاصيل الحادثة كما يلي: خرج بنو إسرائيل قاصدين الأرض المقدسة، حتى لحق بهم فرعون بجيشه، فأصابهم الهلع وظنوا أنهم مدرَكون. ولكن الله تعالى طمأنهم بواسطة موسى حيث أوحى إليه أن يضرب بعصاه البحرَ، ففعل، فتراجع الماء على الجانبين وظهر لهم طريق في البحر فتقدموا فيه. وكان الماء يمتد على الجانبين، فيتراءى لهم مرتفعًا كالتلال. وتبعهم فرعون وجنوده يطاردونهم. ولما وصل بنو إسرائيل إلى الشاطئ الآخر سالمين ارتدَّ الماء كما كان وأُغرقَ المصريون.

ولاستيعاب هذا الحادث يجب أن نتذكر أن القرآن الكريم يعلِّمنا أن كلّ المعجزات تكون من عند الله تعالى، ولا دخل ولا تصرف للإنسان فيها، وعليه فما كان رفعُ موسى العصى وضَرْبُه البحرَ بها إلا بمثابة علامة فقط، وليس معناه أنه كان لموسى أو لعصاه أي دخل في تراجُع ماء البحر.

كما يجب أن نتذكر أيضًا أنه لا يثبت أبدًا من ألفاظ القرآن الكريم أن البحر انشقَّ جزءين منفصلين وأن موسى مرّ بينهما. لقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الحادث بكلمتين: “فرَقنا” و”انفلق”، ومعنى الفرق والفلق هو الانفصال. فكأن ماء البحر انفصل متراجعًا عن الشاطئ عند مرور بني إسرائيل، فظهرت اليابسة، فمرّوا عليها. وتحدُث هذه الظاهرة على شواطئ البحر عادة. فقد ورد في كتاب “حياة نابليون” أنه في أثناء غزوه لمصر مرّ بجنوده على شاطئ البحر الأحمر وقت الجَزْر، وبينما هو يعبر هذا المكان حان وقت المـَدّ وارتفع الماء، فنجا هو وجنوده بصعوبة بالغة.

فالمعجزة في هذا الحادث هي أن الله تعالى أتى ببني إسرائيل إزاء البحر وقتَ الجَزْر، وما إنْ رفع موسى يده بالعصا لضرب البحر حتى بدأ الجَزْر وتراجعَ الماء، وعندما دخل فرعون مع جنوده البحر وقعت لهم من العوائق غير العادية أثناء العبور ما أبطأ سرعتهم كثيرًا، فأدركهم المـَدّ ولا يزالون في وسط البحر، فغرقوا. وهذا ما يؤيده الوصف القرآني للحادث حيث قال الله تعالى: فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ، أي عندما تراجع ماء البحر كان كل جزء منه كالتل الرملي المرتفع. فلو كان القرآن الكريم يريد القول أن البحر قد انشق جزءين لما استخدم كلمة “كل” التي تدخل على النكرة المفردة. فلفظ “كل” يبين أن البحر لم ينشق إلى قسمين، وإنما تراجع الماء عن أماكنه، كما يحدث في البحار التي توجد على جوانبها حفر ومنخفضات، فتبقى ممتلئة بالماء وقت الجَزْر، وهذا ما حدث في هذا الحادث. كان البحرُ على جانبٍ من بني إسرائيل، وكانت على جانبهم الآخر بحيراتٌ صغيرة وحفر مائية، وهذه المساحات المائية تبدو لمن يمرّ بينها كأنها تلال من الماء، وهي ظاهرة طبيعية. ويتبين من خريطة خليج السويس أنه توجد على شواطئه العديد من البحيرات التي كانت في الماضي أكثرَ عددًا كما تدل الخرائط القديمة.

بعد ذكر معنى هذه الآية القرآنية من وجهة نظري، أرى من المناسب ذكر آراء المفسرين السابقين أيضا. إنهم يرون أن موسى عبر نهر النيل، وأن النهر انشق من اثني عشر موضعًا. ويستدلون على هذا بقول الله تعالى: فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ، ويرون أن النهر انشق هكذا لكي تعبر كل قبيلة من قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرةَ منفردةً وحدها. وقد بالغوا في هذه القصة حتى قالوا أنه كان هناك حاجز مائي يفصل بين كل قبيلة وأخرى، إذ رفضت القبائل العبورَ ما لم تر كل واحدة منها الأخرى، فدعا موسى ربّه، فأمره أن يدخل عصاه في الجدار المائي، ففعل، فكانت ثقوب في الحاجز، حتى سمع ورأى منها بعضهم بعضًا (الكشاف).

وكأن الماء تجمّد بحيث بقيت الثقوب على حالها، وكأن عصا موسى طالت حتى شقّتْ بضربة واحدة كلَّ الحواجز الاثني عشر التي مرت بينها قبائل بني إسرائيل!!

ولكن لم يُلق أحد من المفسرين الضوءَ على أنه إذا كان بنو إسرائيل على هذا الحب الشديد الذي جعلهم لا يرتاحون إلا برؤية بعضهم البعض، ولم يطمئنوا للعبور إلا على هذا النحو رغم وجود موسى بينهم، فلماذا لم يعبروا كلهم عبر طريق واحد، ولماذا جُعل لكل قبيلة منهم طريقٌ منفصل؟!

الحق أن المفسرين قد وقعوا في خطأ خطير حين ظنوا أن الماء الذي عبره موسى مع قومه هو ماء النيل، إذ الأحداث لا تثبت ذلك، لأن سكان العاصمة في زمن موسى ، وإلى زمننا هذا، كانوا يقيمون على الجانب الشرقي من النيل لا الغربي منه، كما يتبين ذلك من التاريخ والآثار القديمة (انظر الخريطة).

يتبين من هذه الخريطة بوضوح أن أرض كنعان التي قصدها موسى وقومُه تقع في جهة الشمال الشرقي من النيل. وكانت عاصمة الفراعنة في منطقة “أرض جاسان” (التكوين 47)، وتسمى أيضًا “وادي توميلات” (موسوعة الكتاب المقدس، تحت كلمة رمسيس). وهذا الوادي يقع في الشرق من النيل، وكل مَن يسافر إلى كنعان من هنالك لا يعبر النيل أصلاً، لأن النيل يكون في الجهة الغربية من هذا المسافر. فثبت أن هذه الآية لا تتحدث عن عبورهم النيلَ بل تتحدث عن عبورهم ماء آخر. وبما أنه لا يقع أي نهر بين عاصمة مصر القديمة وبين قادش التي وصل إليها موسى مع بني إسرائيل، فلا بد أن يكون المكان الذي عبره مع قومه بحرًا، أو جزءًا كبيرًا منه.

فالقول بأن ماء النهر الجاري توقف عن الجريان بضرب موسى إياه بعصاه، وصار جزءٌ من الماء على جانب وجزؤه الآخر على الجانب الآخر، وكأن الماء تجمّدَ، وأن موسى جعل الثقوب في هذا الماء، أقول: كل ذلك ليس إلا قصصًا فارغة عابثة لا يصدقها القرآن الكريم. لقد استعمل القرآن الكريم كلمة البحر واليم، وكلمة (اليَمّ) تطلق على النهر أيضًا، لكنها أكثر استعمالاً للبحر أو للبحيرة المالحة، ولا يقع بين موطن بني إسرائيل في مصر وبين أرض كنعان إلاَّ البحر أو البحيرات المتفرعة منه، وليس هناك نهرٌ جارٍ. فالمكان الذي عبره موسى إما هو بحر أو شَرْم وخليج منه.

لقد ذكرت من قبل وقوع ظاهرة المد والجزر في البحر، حيث ينسحب الماء بعيدا عن الشاطئ مرة، ويعود إليه أخرى، وحادث انفلاق البحر ذو صلة بظاهرة المد والجزر هذه. لقد وصل موسى إلى البحر وقت الجزر حين كان الماء قد تراجع، ووصل فرعون هنالك بعد ذلك، وحيث إنه خرج مطاردًا بني إسرائيل بعد خروج موسى بهم مِن مساكنهم بيومٍ على الأقل، وكان موسى قد قطع معظم الطريق المنكشف في البحر نتيجة تراجع الماء، فلما وصل فرعون البحر اندفع وراء بني إسرائيل بجيشه ومركباته مستعجلاً، وتسببت الأرض الرملية الرخوة في تأخير مسيرة فرعون، إذ غاصت فيها المركبات وتعطلت، واستغرقت محاولته للعبور وقتًا طويلاً، حتى حان وقت المدّ وبدأ الماء يرتفع، مما زاد في ارتباك فرعون، فلم يستطع أن يتقدم أو يتأخر، حتى فاجأه الماء وأحاط به، وأغرقه ومعظم جيشه، ولأن الوقت كان وقت المد، فإن الماء المندفع إلى الشاطئ قد ألقى بجثثهم على الساحل فيما بعد.

وقد سبق أن رددت على من يسأل: إذا كان موسى قد استفاد من ظاهرة المد والجزر، فأين المعجزة؟ وقلتُ إن المعجزة هي أن الله تعالى قد أتى بموسى إلى الساحل في وقتِ بدء الجَزْر.

وهنا ينشأ سؤال: لماذا لم يطاردهم فرعون سالكًا طريق البر اليابس بدلاً من الدخول وراءهم في هذا الطريق الذي ظهر داخل الساحة المائية؟

والجواب أن البحر في ذلك المكان قريب من مدينة السويس على الأغلب -وتبلغ سعة البحر ثلثيْ ميل فقط (موسوعة الكتاب المقدس)- وتكثر بها البحيرات والمستنقعاتُ ذات الطبيعة الرخوة. وكان موسى قد توجه ناحية الشمال أول الأمر، لكنه لما رأى البحيرات والمستنقعات ووجد الطريق مسدودا أمامه، عاد إلى المكان الذي عبر منه البحر كما يقول الكتاب المقدس، حيث ورد:

{أَنَّ اللهَ لَمْ يَهْدِهِمْ فِي طَرِيقِ أَرْضِ الْفَلَسْطِينِيِّينَ مَعَ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ، لأَنَّ اللهَ قَالَ: «لِئَلاَّ يَنْدَمَ الشَّعْبُ إِذَا رَأَوْا حَرْبًا وَيَرْجِعُوا إِلَى مِصْرَ». فَأَدَارَ اللهُ الشَّعْبَ فِي طَرِيقِ بَرِّيَّةِ بَحْرِ سُوفٍ} (الخروج: 13: 17-18).

 فلو أن فرعون اتجه إلى طريق البر لكان عليه أن يلفّ حول البحيرات شمالاً، وفي تلك الأثناء يكون موسى قد خرج بعيدًا عن فرعون بمسافة بعيدة وخرج من مملكته. ولذلك لم ير فرعون سبيلاً للحاق بموسى ومن معه إلا أن يتّبع خطاهم في طريق البحر المنكشف نتيجة تراجع الماء، ولكن الله تعالى ألقى الرعب في الثيران التي كانت تجر مركبات فرعون وعرقل سير المركبات، فصارت سرعة فرعون وجنوده بطيئة جدا حتى فاجأهم المدّ.

(راجع سفر الخروج 13 و14، لتجد صورة إجمالية لخروج بني إسرائيل من مصر، وإن كان فيه كثير من الأخطاء والمبالغات).

هناك نقاش بين الباحثين المعاصرين بأنه إذا كان بنو إسرائيل قد عبروا البحر فعلاً، فمِن أين عبروا؟ فيرى بعضهم، اعتمادًا على ورود ذكر نهر في التوراة، أن موسى عبر بالقرب من بحيرة التمساح التي كانت في رأيهم متصلة بالبحر عبر قناة في الماضي. هذا ما يراه دوبائي آمي وستيكل وكنوبل. (موسوعة الكتاب المقدس، الخروج).

ويرى البعض الآخر أن بني إسرائيل لم يمرّوا بالقرب من بحر القلزم، بل مروا بالقرب من مدينة “صوعن” قريبًا من البحر المتوسط. هذا رأي شلائيدون وبرغش (المرجع السابق).

ويرى آخرون أن بني إسرائيل لم يكونوا يعيشون في مصر الأفريقية، وإنما عاشوا في “مُصر” الواقعة في شمال الجزيرة العربية، وأن بني إسرائيل أخطأوا وكتبوا في التوراة “مِصر” (المرجع السابق). وبحسب هذه النظرية، فلو أنهم عبروا البحر بالفعل لكانوا قد ذهبوا من الشرق إلى الغرب لا العكس، ولم يعبُروا خليج السويس وإنما عبروا خليج العقبة قريبا من مدينة العقبة. أما إذا اعتبرنا موقع “مُصر” التي في الجزيرة العربية أبعدَ إلى الشمال، فلم يعبروا أي بحر، وتكون قصة العبور كلها مُختلقة.

ويتأكد من بحث الآثار والتواريخ القديمة تماما أنه كانت ثمة مناطق عديدة تسمى “مصر” وكانت تقع في شمال إفريقيا وجنوب الشام وشمال الجزيرة العربية، بل كانت هناك أماكن أخرى تسمى مصر أو مصران أو مصرام أو مصرايم أو مُصرى. ومن أجل ذلك لما وجد هؤلاء الباحثون المعاصرون بعض التفاصيل الواردة في التوراة بشأن حادثة الخروج لا ينطبق على مِصر الإفريقية، قالوا أن حادثة الخروج هذه قد وقعت في مُصر الواقعة في الجزيرة العربية، وحجتهم على رأيهم سفر موسى إلى مدين، لأن مدين تقع قرب حدود مُصر الواقعة في الجزيرة العربية.

وإطلاق اسم مِصر على عدة مناطق قد يُعَدّ عجيبًا لدى الكتّاب الغربيين، ولكنه ليس كذلك عند علماء اللغة العربية، لأن كلمة “مِصر” تعني في اللغة بلدًا أو مدينة. ويعرف من عاش في المدن الكبيرة أو زارها أن الذين يعيشون حول مدينة بمسافة عشرة أو عشرين ميلا، لا يذكرون اسمها، بل يشيرون إليها بلفظ المدينة فقط. فمثلاً إن أهل الريف عندنا إذا أرادوا أن يقولوا أن فلانًا ذهب إلى مدينة لاهور، قالوا إنه ذهب إلى المدينة. بل يتضح من الكتب الإنجليزية أن أهل إنجلترا يعنون بكلمة (city) أي (مدينة) مدينةَ لندن. فلا عجب إذا أطلق العرب أو مَن كانت لغتهم مشابهة للغة العربية اسمَ “مصر” على منطقة فيها مدن كبيرة، سواء كانت في الشام أو في الجزيرة العربية أو في أفريقيا، وذلك في زمن لم توجد فيه مدن كبيرة. وما كان مرادهم من كلمة مُصرى أو مصرام أو مصران أو مصرائيم إلا أنها منطقة فيها مدن. كان العيش في المدن ليس أقل من أعجوبة عند قومٍ بدوٍ كالعرب، وكان وجود مناطق تكثر فيها المدن أمرًا محيرًا لهم، فكان طبيعيا أن يطلقوا عليها اسم مصر أو أمصار أو ما شابه ذلك. فلا يصحّ الاحتجاج بكلمة “مصر” وحدها بأن أحداث خروج بني إسرائيل لم تقع في مصر الأفريقية، بل في مصر من هذه الأمصار الأخرى.

إذًا، فبسبب الاختلاف في جزئيات الطريق الذي مرَّ منه بنو إسرائيل لا يمكن صرف النظر عن المسألة الأساسية، وهي اتفاق الكتاب المقدس والقرآن الكريم على أن ملوك مصر التي خرج منها بنو إسرائيل كانوا يسمَّون فراعنة، وأن أهل مصر تلك كانوا يحنّطون جثث موتاهم. والحق أن إنكار هذه الحقيقة الناصعة يماثل التشكيكَ في معرفة إنسان بحجة أن ملامحه واسمه واسم أبيه مطابقةٌ بحسب العلامات المذكورة عنه، إلا أنّ لون منديله مختلف عما هو مذكور في العلامات.

الواقع أن تاريخ الأزمنة القديمة ليس محفوظًا بحيث نعرف تفاصيله معرفة صحيحة مائة بالمائة. لذا ينبغي أن نبني الأمر على الاتفاق الذي بلغ من الصحة سبعين بالمائة مثلاً، ونترك الاختلاف الذي ينحصر في الثلاثين بالمائة المتبقية، ولا نرتكب حماقة فعل العكس.

ومن الناس من يحاول مِن خلال شهادة التاريخ السلبية أو الإيجابية أن يثبت أن بني إسرائيل لم يدخلوا مصر ولم يعيشوا فيها أصلاً. ويبني هؤلاء استدلالهم على الأمور التالية:

1-عدمُ ذكر بني إسرائيل في الآثار المصرية القديمة. (إسرائيل، بقلم: أدولف لودز ص 167)

2- قد ورد في أثر قديم يعود زمنه إلى عهد الملك منفتاح -الذي يقال أن في عهده خرج موسى ببني إسرائيل من مصر- أن بعض قبائل بني إسرائيل كانت تعيش في كنعان في العام الخامس من عهده، بينما يقول الكتاب المقدس أن بني إسرائيل خرجوا من مصر في عهد هذا الملِك ودخلوا كنعان بعد ذلك بحوالي خمسين سنة!

3-صحيح أن الآثار المصرية تذكر مجيء بعض القبائل الآسيوية إلى مصر، ولكننا إذا طبّقنا هذه الأحداث على بني إسرائيل تطابقت الأحداث ولم تتوافق التواريخ، وإذا توافقت التواريخ لم تطابق الأحداث؛ فثبت أن كل القصة مُختلقة.

ولما كان القرآن الكريم يذكر دخول بني إسرائيل إلى مصر وخروجهم منها، فلا بد لنا من الرد على هذا الاعتراض، فنقول:

أولاً: ليس ضروريا أن يُعرَف كل شيء من خلال الآثار القديمة. فمثلاً لو مُحي تاريخ بلد متحضر في عصر الحضارة هذا، فهل يمكن معرفة تفاصيل تاريخه الكامل من خلال آثاره. هل يمكن بدراسة آثار مدينةٍ أو مدينتينِ من إنجلترا أو الولايات المتحدة أو ألمانيا أو فرنسا مثلاً أن نعرف تاريخها الكامل معرفة صحيحة تامة، أعني عدد كل شعوبها وكل سكانها وكل عاداتهم وعلومهم وفنونهم ودياناتهم ومذاهبهم وما إلى ذلك؟ فإذا كان هذا محالا، فما أسخفَ الظنَّ أنه يمكننا معرفة أحوال أمة مضت منذ آلاف السنين مع تفاصيلها الدقيقة الكاملة من خلال الحفر والتنقيب في مدينة أو مدينتين يرجع تاريخهما إلى بضعة آلاف سنة! الحق أنه أمر مناف للعقل، ولو بنينا عليه علمًا لكان ذلك سخرية بالعلم نفسه. لا شك أن الشهادة الأثرية الإيجابية ذات قيمة، وإن كان فيها احتمال كبير للخطأ، أما القول أن قومًا لم يعيشوا في مكان ما لأننا لم نعثر بعد على آثار لهم فهو قولٌ خاطئ وخلاف العقل تمامًا، وكان من واجب هؤلاء الكتّاب تجنُّبَ ذكر ذلك في كتبهم العلمية.

أيُّ وزن كان لبني إسرائيل في مصر يا ترى؟ كانوا يعيشون فيها عبيدًا، ولم تُعهَد إليهم مسئوليات ذات قيمة حتى يُذكَروا في الآثار التاريخية. ولعلّ أبرزَ ما كان يميّزهم هو دينهم المختلف عن دين المصريين، أو أن حكام مصر عندها لم يكونوا مصريين خالصين، فكانوا يخشون تآمُرَ بني إسرائيل مع أعدائهم. ولم يكن هناك داعٍ -والحال هذه- أن يُذكَر اسم بني إسرائيل في الآثار التاريخية، وحتى ولو كان هناك ذكر لهم في الآثار فإنها لا تعطي إلا نتفًا من التاريخ وليس كل التاريخ كما أسلفتُ. فسكوت الآثار عن ذكر بني إسرائيل ليس دليلاً على عدم إقامتهم في مصر.

ثانيًا: أما القول أن هناك أثرا فرعونيا من زمن منفتاح أو ملِكٍ قبله يدلّ على أن بني إسرائيل وقتها كانوا يعيشون في كنعان، فهو قول لا وزن له أيضًا. ذلك أن هذا الأثر الذي لم يتعين تاريخه، إذا كان من زمن ما بعد يوسف وما قبل خروج موسى ، فإنه يعني فقط أن بعض بني إسرائيل كانوا قد هاجروا إلى كنعان قبل خروج موسى من مصر، وأما إذا كان هذا الأثر من زمن ما قبل يوسف أو ما بعد خروج موسى ، فهذا لا يشكّل أي دليل خلاف ما نقول.

ثالثًا: أما القول أن بعض الشعوب الآسيوية ورد ذكرهم في تاريخ مصر بلا شك، ولكن ليس هناك دليل على أنهم بنو إسرائيل أنفسهم، فهو دليلٌ سلبيٌّ محضٌ، والدليل السلبي القائم على آثار ناقصة ليس دليلاً، وإنما مثله كمثل مَن يدّعي بعدم وجود موضوع ما في كتاب ضاع منه نصف صفحاته، فربما كان الموضوع مذكورًا في الصفحات الضائعة.

والآن أقدم أدلة قياسية على عيش بني إسرائيل في مصر:

أولاً: يعترف هؤلاء المنكرون أنفسهم بأن اسم موسى موجود في اللغة المصرية القديمة. فيرون أن أصل كلمة “مُوسي” هو “مَوْسِي” ومعناه الابن (موسى والتوحيد، لسيجموند فرويد ص 13). وإذا كانت هذه الدعوى صحيحة فقد ثبت أن بني إسرائيل عاشوا في مصر الأفريقية، وطال عيشهم هناك حتى تَسمَّوا بالأسماء المصرية.

ويدّعي هؤلاء المنكرون أيضًا أن أسماءَ بعض أصحاب موسى التي وردت في الكتاب المقدس مثل اسم “حور” وغيره أسماءٌ مصرية؛ ولو صحَّ هذا لكان دليلاً أيضًا على عيش بني إسرائيل في مصر ثم خروجهم منها.

ثانيًا: لا يقول الكتاب المقدس أن آباء الإسرائيليين كانوا ملوكًا وحكامًا في مصر حتى يقال أنهم اختلقوا هذه القصة تعظيمًا لشأنهم، وإنما يذكر الكتاب المقدس أنهم عاشوا فيها عبيدًا مضطهدين، فلا نجد سببًا لتلفيقهم قصة كهذه.

ثالثًا: تفاصيل هذا الحادث الواردة في الكتاب المقدس تَصدُق كلها على مصر الأفريقية، منها ذكرُ الفراعنة، وأسماءُ بعض ملوكهم التي أكَّدها التاريخ، وأسماءُ بعض المدن والأماكن المصرية التي كانت آثارها مندثرة بصفة عامة، وقد اكتشفتها الحفريات الحديثة. والتفاصيل المذكورة في الكتاب المقدس عن قوانين الفراعنة وآدابهم قد أكدتها الاكتشافات الأثرية، ومنها مثلا مخازن الغلال التي قد أكدت الآثار وجودها. (ولنذكر ضمنًا أن القرآن الكريم قد ألقى الضوء على عقيدة المصريين باتصاف ملوكهم بصفات الإله، وقد تأكد هذا الأمر أيضًا باكتشافات الآثار المصرية القديمة). كذلك فإن المعلومات التي يذكرها الكتاب المقدس عن جغرافية مصر صحيحة إلى حد كبير. فكل هذه التفاصيل -الصحيحة في معظمها عن شتى الأمور التي اندرست لطول الزمن، واكتشفت الآن بالاكتشافات الأثرية- تؤكد وجودَ علاقة عميقة بين إسرائيل ومصر في ذلك الزمن. وأما ما يثار اليوم من شبهات فسببها أن القائلين بها يريدون أن تنطبق كل هذه التفصيلات تمامًا على ما وجدوه من معلومات من الاكتشافات الأثرية الناقصة، أو من المصادر التاريخية الناقصة. وهذه مطالبة مخالفة للعقل.

رابعًا: يتضح من التاريخ اليوناني القديم أن المصريين كانوا يقرّون بخروج بني إسرائيل من مصر. لا شك أن هذه الروايات اليونانية مشوهة، فمثلا قد ورد فيها أن بني إسرائيل كانوا أولاد المصريين المصابين بالجذام، وأنهم أُجبروا على العيش معزولين عن سائر الناس بسبب مرضهم هذا، وكانوا ينكرون آلهة المصريين، فثاروا على المصريين، ولذلك طردهم المصريون. وقد ذكر هذه الروايات أيضا المؤرخ اليوناني هكتيوس (HECATAEUS) الذي هو من مدينة أبدیرة (ميليتوس)، والمعاصر للإسكندر المقدوني، وأيضا المؤرخُ مانيتو (MANETO) من هيلوبوليس. (إسرائيل، لأدولف لودز ص 167)، ولا جرم أن هذه الروايات تخالف تمامًا ما جاء في الكتاب المقدس، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا نسجها المصريون إنْ كان بنو إسرائيل لم يذهبوا إلى مصر ولم يعيشوا فيها ولم يخرجوا منها أصلاً؟ ويمكن للمرء أن يفهم أن سبب الاختلاف بين هذه الروايات وما ورد في الكتاب المقدس هو أن المصريين كانوا أعداء للإسرائيليين، وكان مَلِكُهم قد هلك مقهورًا ذليلاً أمام موسى ، ولذلك قالوا: كان بنو إسرائيل مصابين بالجذام، فطردناهم من بلادنا، ولكن إذا كان بنو إسرائيل لم يذهبوا إلى مصر ولم يخرجوا منها بتاتًا، فما الداعي لأن ينسج المصريون قصصًا بأن بني إسرائيل جاؤوا إلى بلادنا وأننا طردناهم من بيننا، ثم يعترف بنو إسرائيل أيضا بأننا كنا ذهبنا إلى مصر وأن المصريين طردونا من بلادهم. فثبت أن ما يقوله هؤلاء الكتّاب الغربيون يتنافى مع العقل تماما، وأن بيان الكتاب المقدس والقرآن الكريم بأن بني إسرائيل كانوا قد ذهبوا إلى مصر وخرجوا منها بعون الله تعالى، هو الحق تماما.

وبعد أن تبين أن المراد بكلمة “مصر” هي مصر الأفريقية المعروفة فقد ثبت أن بني إسرائيل خرجوا من مصر قاصدين كنعان. أما السؤال: هل خرجوا من ناحية الجنوب أو الوسط أو الشمال؟ فهذا لا يحمل أهمية كبيرة من وجهة النظر الدينية. ولكن نظرًا إلى البحوث المتوافرة وظاهرة المـَدِّ والجَزْر المذكورة في القرآن والكتاب المقدس، فالأقرب إلى القياس أنهم خرجوا من عاصمة فرعون موسى وقتها -وكانت تقع عند تل أبي سفيان- متجهين أولاً إلى الوسط، أي إلى بحيرة التمساح الأقرب إلى كنعان، ولما اعترضت البحيرات طريقهم اتجهوا ناحية الجنوب وعبروا البحر وقتَ الجَزْر بالقرب من موقع السويس، ومن ثم اتجهوا إلى قادش.

ويتبين من قوله تعالى وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أن البحر كان قليل الاتساع جدًا في المكان الذي عبر منه بنو إسرائيل، ولولا ذلك ما تمكنوا من مشاهدة غرق آل فرعون في البحر من شاطئه الآخر. وقد سبق أن بيّنتُ أن عرض خليج السويس في أقصى شماله يبلغ حوالي ثلثي ميل. وإذا اعتبرنا أن آل فرعون غرقوا في منتصف هذه المسافة مثلاً، فمعنى ذلك أن الإسرائيليين شاهدوا منظر غرقهم واقفين على بعد 600 أو 700 متر.

ويبدو أن فرعون وبعض حاشيته ما كانوا يعرفون السباحة، أو أن الوقت كان مساءً وخيّم الظلام بسرعة، فضلّوا الطريق متخبطين في المياه، ودخلوا المياه العميقة فغرقوا. وحدث نفس الشيء مع نابليون في الواقعة المشار إليها من قبل، حيث دخل هو وأصحابه قبيل المساء في الطريق اليابس في البحر الذي كشفه تراجُع الماء وقت الجَزْر، فجاءهم المدّ وهم لا يزالون يسيرون فيه، ولما كانت هناك بِرَكٌ صغيرة كثيرة في الأرض اليابسة، فاتصل ماء البحر بماء البرك والبحيرات، فلم يستطيعوا تحديد الجهة المقصودة، فخافوا أن يتجهوا إلى المياه العميقة بدلاً من الشاطئ فيغرقوا. فأمر نابليون زملاءه أن يتقدّموا في الاتجاهات الأربعة على شكل علامة +، ففعلوا، وكانوا إذا صادف فريق منهم الماءَ العميق حذّر رفاقه وارتدّوا في الاتجاه الآخر، وهكذا تلمّسوا طريقهم حتى وصلوا إلى الشاطئ. ولما وصل نابليون إلى بر الأمان استلقى على الرمال وقال بصورة عفوية: لو غرقتُ اليوم لأثار العالم المسيحي كله ضجة قائلا: ها قد غرق فرعون آخر في البحر.

Share via
تابعونا على الفايس بوك