الخلافة في الإسلام

الخلافة في الإسلام

أبو خالد

يتبيّن من دراسة القرآن الكريم والتاريخ أنَّ الغرض من بعث الأنبياء والرسل لا يقتصر على مجرَّد مجيئهم إلى هذا العالم وتركهم إيّاه بعد تبليغ رسالتهم، بل يظهر أنَّ الغاية من بعثهم إحداث انقلابٍ روحانيّ في العالم. وتحقيق هذه الغاية يتطلَّب جهادًا متواصلاً وتنظيمًا مُحكمًا. ولمّا كانت حياة الإنسان على هذه الأرض محدودة فقد جرت سُنّة الله أن يقوم هؤلاء الأنبياء والرسل بغرس البذور ثم بعد وفاتهم يُقيم الله سبحانه أُناسًا يرعون ذلك الغرس حتى ينمو ويُثمر ويكونون جديرين بحمل تلك الرسالات والعمل على توطيدها وتثبيتها. هؤلاء حسب المفهوم الإسلامي هم الخلفاء.

ومنذ القديم نرى بأنّه قام بعد كل نبيّ خليفة أو أكثر حسب مقتضى الحال، فكان يوشع بن نون خليفة سيدنا موسى ، وكان بطرس خليفة سيدنا عيسى وهلمَّ جرًّا. لكن الخلافة لم تستمر في أحد من هؤلاء الأنبياء لأنّهم بُعثوا لأُمم خاصة ولأزمنة خاصة. ثم جاءت بعثة سيدنا محمد ، فكان أبو بكر أول خليفةٍ له، وتوالى بعده الخلفاء حتى أصبحت الخلافة الإسلامية الراشدة مؤسسة عظيمة وبناءً راسخًا لم يعهد مثلها من قبل.

ولمــّا كان الإسلام دينًا عالميًّا وشريعته خاتمة الشرائع السماوية كان لا بدَّ أن تستمر فيه الخلافة بعد النبي بشكل متواصل في العالم الإسلامي. ثم كان هناك حاجة أخرى لقيام الخلافة بعد النبي، تلك هي إعانة الأتباع لتحمُّل الصدمة العنيفة التي تواجههم عادةً عند وفاة النبي وتكاد تُزعزع إيمانهم وتزلزل بُنيان عقيدتهم. فكلنا يعلم تلك النكسة التي حلّت بالمسلمين بعد وفاة النبي وكادت تصدع وحدتهم وتقضي على الدعوة. فوقف أبو بكر تلك الوقفة التاريخيّة الحاسمة وبشكل خارق للعادة أنقذ الإسلام والمسلمين من التدهور، تلك المواقف التي كانت مظهرًا من مظاهر قدرته تعالى وعنايته جاءت فشدَّت ذلك البناء الذي أسَّسه النبي وأكدت من جديد وحدة أتباعه وتضامنهم.

ولقد حصل ما يشبه ذلك أيضًا بعد وفاة سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، فتعرَّضت جماعته لهزَّاتٍ عنيفة وقامت محاولات للنيل من وحدة الجماعة حتى أنَّ أعداءها أعلنوا بأنَّ هذه الجماعة ستضمحلُّ وتموت لا محالة. فتجلَّت رحمة الله في الخلافة، والخلافة فقط التي أنقذت الجماعة من التدهور. وتجلَّت فعلاً بمواقف الخليفتين الأول والثاني قدرةٌ ربَّانية وتأييدٌ سماوي. هذه النواحي شرحها على أحسن وجه حضرة المهدي والمسيح الموعود في كتابه الوصية حيث قال:

  “فالحاصل أنه تعالى يُري نوعين من القدرة. (الأولى) تتجلَّى بأيدي أنبيائه، و(الثانية) تتجلَّى في الوقت الذي تكون فيه المشاكل بعد وفاة النبي، والأعداء يثورون ويحسبون أنَّ بُنيانه قد انهار، ويعتقدون بأنَّ جماعته تتلاشى الآن، وأفراد الجماعة أيضًا يقعون في حيصَ بيص وتنتقض ظهورهم، وكثيرٌ من الأشقياء يسلكون مسالك الارتداد. فتتجلَّى قدرته العظيمة مرةً ثانية وتأخذ بيد الجماعة التي كادت أن تنهار. فمن يصبر إلى الأخير يرى هذه المعجزة الإلهية كما كان في عهد أبي بكر …» (الوصية ص 9 إلى 11).

تنَصْيبُ الخليفة

إنَّ تنصيبَ خليفةٍ للمسلمين أمرٌ يوجبه القرآن والسُنّة، وأجمع عليه الصحابة والتابعون، ويُقرُّه كذلك المنطق. فقد أمرنا الله في كتابه العزيز بقوله:

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ .

وليس القصد من كلمة (أمة) جميع المسلمين، بل تعني جماعةً خاصة من بينهم تتولّى صلاحهم والمحافظة على تنفيذ أوامر الشريعة ونواهيها. وهذه الفئة يجب أن تكون منظّمة وتعمل تحت قيادة هي الخلافة. كذلك أوصى النبي المسلمين بأن يتحرَّوا دائمًا عن الإمام ويتبعوه بقوله: «مَنْ ماتَ ولمْ يَعرِف إِمامَ زمانِهِ فقدْ ماتَ مِيْتَةً جاهليَّة». أو بنصٍّ آخر: «مَنْ ماتَ ولمْ تكُنْ في عُنُقِهِ بيعةٌ ماتَ مِيْتَةً جاهِليّة» (صحيح مسلم: كتاب الإمارة).

أما عن كيفية تعيين الخليفة فيعلّمنا الإسلام أنَّ منصب الخليفة ليس وراثيًا. بل هو أمانة مقدَّسة يحملها المؤمنون لمن هو أهلٌ بحملها من أبناء الأمة بواسطة الانتخاب الحرِّ الأمين المجرَّد من الدعاية.. لقوله تعالى:

أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (سورة النساء: 59)..

ولأنَّ هذا المنصب هو أمانةٌ للناس يحملونها لمن شاءوا، فلا يحقُّ ولا يصحُّ لأيِّ شخصٍ أن يطلبها لنفسه أو ينافس غيره عليها.. أي بالمعنى الحديث يُرشِّح نفسه لها، ولا أن يُورِّثها لأحدٍ بعده فهي مِلكُ الأمة تمنحها لمن تشاء ولا تؤخذ منها أو تُكتسب.

لقد تُوفِّيَ النبي ولم يوصِ لأحدٍ أن يخلفه، بل ترك الأمر للمؤمنين يختارون الأجدر من بينهم مسترشدين بقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ (سورة الشورى: 39)، وبما وصَّاهم به في خُطبة الوداع حيث قال: «إنَّ أكرَمَكُم عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم».

وبهذا الصدد بيَّن حضرة الخليفة الثاني لسيدنا المهدي والمسيح الموعود هذه الناحية بصورةٍ واضحة جليّة إذ يقول: «الخليفة في الاصطلاح الإسلامي هو ذلك الفرد الذي ينتخبه الشعب ليُمثِّلهم ويقوم بحمايتهم والدفاع عن حقوقهم سواء كانت هذه الحقوق فرديّة أو جماعية، ولا يعترف الإسلام بأي نوعٍ من الحكومة لا تقوم على أساس التمثيل والانتخاب الحر. وقد استُعملت كلمة (الأمانة) في القرآن المجيد للدلالة على المسؤولية الملقاة على كاهل الحكومة الإسلاميّة تجاه شعبها، وبعبارةٍ أخرى فإنَّ الخليفة يمارس سُلطته وصلاحياته ضمن هذه (الأمانة) والثقة التي يُوليها إيّاها الشعب. وليست سلطته ما يكسبه هو بنفسه أو ما يناله عن طريق الوراثة، فالقرآن لا يتكلم عن سلطةٍ تأتي من الخليفة إلى الرعية، بل إنَّ السلطة الشرعية هي تلك التي تأخذ مجراها من الرعية إلى الخليفة».

أما عن طريق الانتخاب فلم يضع الإسلام لها أسلوبًا معينًا واحدًا، بل ترك هذا الأمر لظروف الناس وأحوالهم. إذَنْ فيمكن القول إنَّ طريقة الانتخاب الإسلاميّة هي أفضل إذا لا يجوز فيها الترشيح ولا تجوز الدعاية لصالح مرشح أو ضد آخر، وهذا ما يمنع التفاخر بين الفئات المتنافسة.

صِبغة الخلافة الروحيّة

ويتبيَّن من نصوص القرآن الكريم أنَّ الخلافة تحمل صِبغة روحيّة خاصة، فبينما يتم تعيين الخليفة بواسطة المنتخبين من ناحية ظاهريّة يتفق هذا التعيين مع إرادة الله من ناحيةٍ خفيّة. فالقلوب بيد الله يُقلِّبها كيف يشاء، وهو الذي يسوق الناس لانتخاب من هو أصلح ليتولّى شؤون دينه ويقوم مقام نبيّه. ولهذا ينسب الله الخلافة لنفسه إذ يقول: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة: 31). ويقول أيضًا:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ (النور: 45).

  وبديهي أن يكون للخلافة هذه الصِبغة الروحية وهي النيابة عن النبي كما قال ابن خلدون: “هي الخلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا” (المقدمة).

ولقد أخذ المسلمون بهذه العقيدة منذ الخلافة الراشدة وجرى على ألسنتهم عبارات مثل “خليفة الله” و”خليفة النبي” و”ظل الله على الأرض”، وكذلك قولهم: “إنَّ إرادة الشعب من إرادة الله”.

لقد طرأ على الخلافة الإسلاميّة بعد الراشدة تطورٌ هام لا بد من ذكره بهذا الصدد، وهو أنَّ الخلافة ابتداءً من العصر الأموي قامت على أساس وراثي خلافًا لأصول الدين، وانحرفت عن المبادئ التي يجب أن تقوم عليها الخلافة الإسلامية. فمالَ الخلفاء إلى الدنيا وأخذوا يُهملون الناحية الروحيّة حتى صاروا أشبه بملوك الدنيا. وقد أنبأ عن هذا التطور النبي . كما وصف ابن خلدون هذا التطور بمقدمته إذ قال: “الخلافة الخالصة كانت حتى آخر عهد علي، ثم انقلبت إلى مُلكٍ”. أضف إلى ذلك تلك الفكرة الخاطئة التي تطرَّقت فيما بعد إلى المسلمين من أنَّ الوحي أي المكالمة الإلهيّة بين الله والعبد قد انقطعت بوفاة النبي ، وحتى الخليفة مجرَّد من ذلك الامتياز الروحي فيبقى رئيسًا إداريًا يشرف على شؤون الدولة الدنيوية ويُحافظ على الأرض والنظام!!

إلا أنَّ الله لم يُهمل الأمة الإسلاميّة من الزعامة الروحيّة كما وعد في كتابه العزيز بقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ، كما أكّد هذا رسوله الكريم بقوله: “إنَّ الله يبعثْ لهذهِ الأُمة على رأس كل مئة سنة من يُجدِّد لها دِينها”. (أبو داود). وبالفعل جاء هؤلاء المجدِّدون ولو بدون سلطة دنيوية واستمرت هذه الزعامة بمجيئهم بشكليها الديني والدنيوي حتى ظهور سيدنا أحمد المسيح الموعود والمهدي المعهود. فأقام الخلافة الإسلامية من جديد بصورتها الخالصة على غرار الخلافة الراشدة. وها هي أسماء المجدِّدين الذين ظهروا خلال الفترة ما بين الخلفاء الراشدين وظهور سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود والذين يمكن اعتبارهم خلفاء روحيين:

  • عمر بن عبد العزيز
  • أحمد بن حنبل
  • الأشعري
  • أبو عبيدة النيسابوري
  • الغزالي
  • عبد القادر الجيلاني
  • ابن تيمية
  • الحافظ ابن حجر العسقلاني
  • جلال الدين السيوطي
  • محمد ظاهر الهندي
  • أحمد السرهندي
  • شاه ولي الله الهندي
  • السيد أحمد البريلوي، رحمهم الله جميعًا.

الخليفة هو أعلى سلطة في الإسلام بعد النبي، له حق القيام على الدين، يُقيم حدوده ويُنفذ شرائعه. وله حقّ القيام على شؤون الدنيا، ولأنه نائب رسول الله فيجب أن يُحْبَى بالكرامة كلّها. فبعد حصوله على ثقة الناخبين له مُطلق الحرية يتصرَّف كما يشاء ويقرِّر ما يشاء في مجال الأمور العامة. وهذا معنى الثقة التي أولاه إيّاها الناس بصفته أجدَرَهم لحمل أعباء الخلافة. وإذا أخطأ في تصرُّفاته العامة فلا يحقُّ لأحدٍ ان يُحاكمه أو يُعاقبه بل يترك أمره إلى الله» (كنز العمّال مجلد 3).

أما في مجال الشؤون الفردية فالخليفة كأي فردٍ آخر يُحاسب ويُحاكم. وقد حدث أنْ مَثُلَ الخليفة عمر أمام القضاء لما ادَّعى عليه (أبي كعب). وللدلالة على مسؤولية الخليفة وحرصه على صالح المؤمنين يكفينا أن نذكر تلك الواقعة التي حدثت مع سيدنا عمر بن الخطاب عندما خرج يتفقد أحوال المسلمين. وعندما وصل إلى قرية السرار التي تبعد عن العاصمة (المدينة) حوالي ثلاثة أميال سمع بكاء أطفال في أحد البيوت. ولما اقترب من المكان ألفى أم الأطفال قد وضعت على النار قِدرًا خاليةً من الطعام لتطمئن أولادها الجائعين. فلما رأى عمر ذلك هرول مع من يرافقه إلى المدينة وملأ كيسًا من الأطعمة وطلب أن يرفع الكيس إلى ظهره، فعرض رفيقه ألا يحمل الخليفة الكيس وطلب أن يحمله هو. فأبى عمر وقال: “حقًا يمكنك أن تحمله عني الآن لكن من الذي سيحمله عني يوم القيامة!”

هذا هو حرص النبي الذي نوَّه عنه القرآن الكريم بقوله:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ .

ولقد كان عمر نائب ذلك النبي وخليفته.

بإزاء هذا يفرض الإسلام على المؤمنين طاعة الخليفة فيما يأمر وينهى. وقد أمرنا الله تعالى بعباراتٍ صريحة:

أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (النساء: 6).

والطاعة هنا لها ناحيتان، الأولى تتعلق بالأمور الإدارية، وفي هذا المجال الطاعة واجبة دون استئناف حتى لسلطة غير إسلاميّة شريطة أن تكون سلطة شرعية. والناحية الثانية تتعلَّق بالأمور الدينية والاجتماعية وهنا واجبٌ على الخليفة والمؤمنين معًا أن ينقادوا لما تنصُّ عليه الشريعة، وإذا نشأ الخلاف بين الخليفة والمؤمنين يجب الرجوع إلى القرآن والسُنّة. فإذا كانت هذه المراجع صامتة حول الموضوع يُردُّ الأمر إلى الخليفة ليقُرِّر فيه القرار النهائي، وواجبٌ على المؤمنين الطاعة حتى لو كان ذلك القرار خلاف رأيهم ورغبتهم، إذ أنَّ الطاعة بمعناها الحقيقي أن ينصاع الإنسان لأُولي الأمر ولو كان على خلاف رأيه، وإلا فلا معنى للطاعة إذا افترضنا أن تتفق آراء المؤمنين مع رأي الخليفة بل يكون اتفاق في الرأي ولا مكان للطاعة. وبهذا المعنى أمرنا النبي بقوله: السمعُ والطاعة حقٌّ على المرء فيما أحبَّ وكَرِه ما لم يُؤمَر بمعصية. فإذا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة.

هذا ولا يمكن أن تستقر أمور جماعة أو يتم نظام إلا إذا كان هناك سلطةٌ عُليا لها حقُّ الفصل النهائي في الأمور، وهذا الحق أُعطِيَ للخليفة بعد الله والرسول.

الخليفة والاستشارة

لا يظُنَّنَ أحدٌ أنَّ الخليفة مستبدٌّ في رأيه ولا يعبأ برأي غيره بل إنّه، بجانب الطاعة الواجبة له ملزَمٌ بدوره أن يستشير المؤمنين في كل أمرٍ ذي أهمية. وهذا هو المجال الذي يفسح فيه للمؤمنين أن يُبدوا آراءهم ويُعبّروا عن ضمائِرهم. وقد جعله الله تعالى حقًا لهم على الخليفة وواجبٌ للخليفة القيام به لقوله تعالى:

شَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه (آل عمران: 26).

كذلك يوصينا الله تعالى بقوله:

وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ (الشورى: 39).

  ومما يجب توضيحه في هذا المجال هو أنَّ المشورة في الإسلام ليست كالبرلمان في الغرب، ولا يتم القرار فيها عن طريق أخذ الأصوات إذ عندها لا تبقى استشارة وإنّما القصد من الاستشارة مساعدة الخليفة للقيام بمهامه في نواحٍ شتّى منها:

أولاً: كي يستقرَّ عنده الرأي الصحيح في أي أمر فَيَصِلَ إلى القرار الصائب.

ثانيًا: كي يُشرك الناس في إبداء آرائهم في الشؤون العامة ويُشجِّعهم على ذلك.

ثالثًا: ليطَّلع الخليفة على مقدرة أتباعه فيضع الرجل المناسب في مكانه المناسب.

رابعًا: ليقف الخليفة على أفكار الناس وحالاتهم الأخلاقيّة والروحيّة فيعلم حيث يجب أن يوجّه اهتمامه وحيث يتطلّب الأمر عملاً وإصلاحًا.

خامسًا: ليستميل إليه قلوب الناس ويطيّب نفوسهم.

سادسًا: ليكون أُسوةً للمؤمنين يقتدون بها لتكون شؤونهم شورى بينهم، وما أحوج الخليفة المسلم إلى هذه المشاورة.

لقد كان النبي يشاور حتى المنافقين في شؤون الأمة العامة. لقد استشار في يوم بدر وأُحد والأحزاب وحتى في قضية الإفك على عائشة. يقول أبو هريرة: إنَّ النبي كان كثير الاستشارة. كذلك كان عمر أكثر الخلفاء الراشدين استشارة. فقد كان يدعو للصلاة الجامعة لأجل استشارة الناس بعد أن يستشير مجلسه الخاص وهو القائل: لا خلافة إلا بالمشورة.

ومع أنَّ الخليفة مكلّف بمشاورة المؤمنين إلا أنه لا يكون مُلزمًا بقبول آرائِهم قلَّت نسبتها أم كثُرت. ومع أنه يقبل رأي مستشاريه في غالب الأحيان إلاّ أنّ له الحق أن يردَّ آراءهم حتى لو كان هناك إجماعٌ من الناس. والسبب في ذلك هو منصبه الروحاني الذي يفرض عليه أن يكون قبل كل شيء متكلاً على الله تعالى. وإلى هذا الامتياز تُشير الآية: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه . فالقرآن ينصُّ على وجوب اتِّكال الخليفة على الله في الحالة التي يعزم فيها بنفسه.. أي أنَّ القرآن يُرشد الخليفة أنَّ عليه كخطوة أولى أن يستشير، ولكن إذا رأى في حالةٍ ما حاجةً لاتخاذ القرار النهائي بنفسه فإنَّ الله يمنحه هذا الحق وعليه عندئذٍ أن يعزم ويتكل على الله دون خوف أو تردّد. أما إذا اعتبرنا الخليفة ملزمًا بقبول رأي الناس في كل مناسبة فيسقط عندها معنى التوكُّل والاعتماد على الله ولا يبقى له محلٌّ قط. كذلك لا يبقى للفظ “عزمتَ” أي معنى أو أهمية، لأنَّ الخليفة إذا عمل دائمًا برأي الأكثرية أو الكل فإنّه يقوم بدور المنفِّذ لرأي غيره ولا حاجة له ان يعزم أو يتوكَّل على الله.

لقد خالف النبي رأي أكثرية أصحابه بل رأيهم جميعًا أحيانًا. ففي أسرى بدر قبِلَ رأيَ أبي بكر وردَّ رأي عمر بن الخطاب وعبد الله بن رواحة وسعد بن مُعاذ. وفي الحديبيّة وقَّع المعاهدة مع قريش بعكس رأي أصحابه جميعا. كذلك فإنَّ أبا بكر ردَّ رأي الأكثرية ومنهم عمر عندما أصرَّ على إرسال الحملة إلى الشام تحت إمرة أسامة بن زيد. ولكن من ناحيةٍ أخرى كان النبي يُهمل رأيه أحيانًا ويقبل رأي أصحابه كما حدث يوم أُحد وخرج من المدينة للقاء العدو.

أما طُرق الاستشارة فلم يُعيِّن لها الإسلام نهجًا معينًا بل تركها للمسلمين يضعون لها طرقًا وأساليب حسب مقتضى أحوالهم وأزمنتهم وتطوّر الفطرة الإنسانيّة.

يقول حضرة المصلح الموعود مرزا محمود أحمد الخليفة الثاني للمسيح الموعود في كتابه الأحمدية.. أي الإسلام الصحيح: «مِنْ واجبات الخليفة أن يطَّلع على آراء رعيَّته عن طريق مجلس الشورى، ويسمع في مناسبات خاصة رأي الشعب ليطَّلع بنفسه على أيّة اختلافات في الرأي بين الممثلين في مجلس الشورى، وعليه أيضًا أن يحترم رأي الأكثرية من نوَّاب المجلس، ولكن لكونه بعيدًا عن التحزُّبات السياسيّة ولعد سعيه وراء منافع شخصية (مثلا لا يحقُّ له تعيين مُرتَّبه) ولأنه الممثل الأمين للأمة والموعود بتأييدات سماوية.. فله الحقُّ في أحوال خاصة وأمور ذات أهمية ألا يأخذ برأي الأكثرية بل وحتى الجميع من مجلس الشورى. إلا أنه من ناحيةٍ إجمالية عليه الأخذ بنصيحة شعبه فهو من جهة منتخب من قبل الشعب وهو ممثله الأول.

الخليفة لا يُخلع

ذكرنا آنفًا أنَّ الخليفة يتم انتخابه بتوجيه من القدرة الإلهيّة وحسب إرادة الله وحيث أنَّ الخليفة يتمتع بمنصب النائب للنبي، والنبي بدوره يُعيَّن ويُرسل من قبل الله وليس من حقِّ العباد بل ولا بمقدورهم إبطال رسالته كذلك الحال مع الخليفة، فلأنّه نائب الرسول وأقرَّت القدرة الإلهيّة تعيينه فليس هو إذًا خليفة عن زيد أو عمر أو نائبًا عن أي مجموعة من البشر، ولذلك فليس من حقّ الناس إلغاء أمر تم بمشيئة الله. فتسقط إذًا من الأساس فكرةُ تجريد الخليفة من منصبه وسلطانه. ولو راجعنا التاريخ الإسلامي منذ نشأة الخلافة إلى يومنا هذا لرأينا أنَّ جميع الخلفاء للمسلمين قد شغلوا هذا المنصب مدة حياتهم. كما ويعلّمنا التاريخ أنّ سيدنا عثمان بن عفّان الخليفة الثالث للنبي ضحَّى بحياته في سبيل هذا المبدأ. فوقف في وجه الثائرين على خلافته وخطبهم بقوله: “إنّي لن أخلعَ ثوبًا أَلْبَسَنِه الله تعالى”. وكان النبي قد أشار أمام عثمان بل ووصَّاه بأنَّ سيُلبسه ثوبًا فإذا حاول الناس أن ينزعوه فلا يقبلنَّ ذلك. وهكذا كان، فقد فضَّل عثمان الموت على أن ينصاع لأولئك الثائرين عليه ولم يتخلَّ عن الخلافة حتى لا يصبح ذلك منه سابقة لمن بعده بحيث يقدر الناس على خلع الخليفة متى أبغضوه. كذلك فإنَّ سيدنا عليّ بن أبي طالب أيضًا رفض قرار الشورى في الخلاف الذي نشأ بينه وبين معاوية ولم يتخلَّ عن الخلافة.

ولقد اتخذ الخليفة الأول لسيدنا المهدي والمسيح الموعود نفس الموقف عندما حاول بعض المعارضين إلغاء منصب الخلافة، وقاوم تلك المحاولة بشدّة وإصرار، ومما قاله بهذا الصدد للمعارضين:

  “يمكنكم أن تعزو إليَّ ألف تهمة، ولكن هذه التُّهم لن تكون موجَّهةً ضدي بل ضدَّ الله سبحانه الذي عيَّنني خليفةً. إنَّ هؤلاء الناس هم أشبه بالشيعة الذين ذرُّوا الرمال في وجه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وليعلموا أنَّ محاولاتهم لن تُثمر ولن يختارهم أحدٌ للخلافة، بل ولا يمكن لأحد أن يصبح خليفةً ما دمتُ على قيد الحياة. لكن بعد وفاتي سيعهد الله بالخلافة لرجلٍ يختاره هو ولن تستطيع قوةٌ أرضية أن تمنع ذلك”. (مجلة بدر، تموز سنة 1912)

  هذه الحقيقة أكَّدها أيضًا حضرة الخليفة الثاني لسيدنا المهدي والمسيح الموعود حيث قال: “من انتُخِبَ لمنصب الخليفة عليه أن يُكرِّس حياته كلّها لترقية شعبه وإسعاد أمّته. ولا تكون خلافته محدودة كرؤساء الجمهوريات الغربيّة. بل تكون لمدى حياته، ولا يمكن لأحد عزله عن منصبه سوى خالقه وذلك عن طريق الوفاة”. (الأحمدية.. أي الإسلام الصحيح).

ليست الخلافة دكتاتورية أو ديمقراطية بالمفهوم العصري

إنَّ نظام الخلافة نظامٌ فريد من نوعه لا يُضاهيه أي نظام في العالم، ولأنه يقوم على أُسسٍ روحية دقيقة فليس من السهل على الناس إدراك كنهه. وهو في الاصطلاح التشريعي الحديث يختلف عن الدكتاتورية وكذلك الديمقراطية الدستورية، وقد يكون أقرب ما يوصف به أنه يقع بين هذين النظامين.

ليست الخلافة ديمقراطية بالمعنى المتعارف اليوم، لأن الرئيس الديمقراطي يتقلد الحكم لمدة معينة محدودة، لكن الخليفة ينتخب لمدة حياته.

ثم الرئيس الديمقراطي ملزم بالأخذ برأي أكثرية المواطنين أو نوّاب الشعب، ثم إنه مقيّد بالدستور إن كان هناك دستور. لكن الخليفة ملزم بالاستشارة فقط، وله الحق أن يقرِّر بنفسه حتى لو كان قراره خلاف رأي الأكثرية من النوّاب أو الشعب.

كما أنّ الخليفة يختلف عن الدكتاتور، لأن الدكتاتور يمارس الحكم لمدة غير محدودة وقد يطول حكمه سنين عديدة وقد يقتصر على أيامٍ معدود. ثم إنَّ الدكتاتور يُمارس جميع السلطات في الدولة ولا يتقيّد بمشورة ولا دستور ولا قرار الأكثرية، بل ويمكنه أن يُلغي قوانين قائمة ويستبدلها بأخرى حسبما يرى. لكن الخليفة سلطته محدودة ضمن قوانين الشرع وتعاليم النبي أو بعبارةٍ أخرى: مقيّد بالدستور ولا يحقُّ له أن يُبطِل شيئا من الدستور ولا أن يُضيف إليه شيئا.

وباختصار فالخلافة مؤسَّسةٌ فريدة ذات شأنٍ عظيم، وهي من حيث فحواها أقرب إلى الديمقراطيّة الحديثة، ولكن من حيث ظاهرها تبدو قريبةً إلى الدكتاتوريّة. إلا أنَّ الشيء الوحيد الذي يُميّزها عن غيرها من نُظم الحكم في العالم هو صبغتها الروحيّة. فالخليفة ليس مجرّد رئيس إداري بل إنّه يتمتّع أيضًا بمركز روحاني خاص، وهو لذلك يُراعي المصالح الدينيّة والروحيّة أيضا للأمة، ويعتبر القدوة الحسنة للشعب في حياتهم.

الخليفة حاكم فرد

التوحيد هو أهم الأُسس التي يقوم عليها الدين الإسلامي. وقد علَّمنا الله تعالى أنه وحده خالق الكون ويُديره ويُشرف عليه كما قال في كتابه العزيز:

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَ (سورة الأنبياء: 23).

وهذه الحقيقة يُقرَّها حتى الدهريُّون الملحدون، لأنَّ العلم أثبت أنَّ للعالم خالقًا واحدًا، وأقرَّ بأنَّ كل شيء في هذا الكون يسير بموجب قانونٍ واحد. كذلك من يتأمل في نظام العائلة أو المجتمعات البسيطة يرى أن لا مناص من وجودٍ فردٍ واحد يتولّى المسئوليّة وله الكلمة الأخيرة. حتى أنَّ هذه الظاهرة لتُرى في حياة الحيوان أيضًا.

ولقد أوصانا النبي أن نُنمّي في أنفسنا صفات الله ومن أهمها الوحدانيّة. فعليه إذا أقمنا على رأس الأمة مجموعة من القادة فإننا بذلك لا بدَّ وأن نُنافي مبدأ التوحيد ونواميس الطبيعة ونقترب نحو الشرك.

ثم إنَّ المسئوليّة لا تتمُّ ولا تصحُّ بمعناها الكامل إذا تفرَّقت بين عددٍ من الأشخاص فحكم المجموعة يلزم توزيع المسئولية بالتساوي مع أنَّ القرار لا يُصدرونه دائما عن اتفاقٍ بين وجهاتِ نظر لكل منهم أي لا يكون دائما بالإجماع. ولذا يقرّر في الأمور العامة بموجب رأي الأكثرية. ولأجل التغطية على اختلاف آراء هذه المجموعة الحاكمة اتفقت بعض الدول الحديثة على اصطلاح “المسؤولية المشتركة” بينما الواقع أنّه لا يمكن أن تكون مشتركة بالمعنى الصحيح.

ثم إذا نظرنا إلى المسألة من ناحية الناس وعلاقتهم بهذه المجموعة من الرؤساء نرى أنَّ علاقة الأفراد لا يمكن أن تأخذ صورة واحدة حيال رئيسين، فكيف الحال إذا كان أكثر من ذلك. إذًا لا بدَّ من تفضيل واحدٍ على آخر أو حبُّ واحدٍ فوق الآخر قليلاً أو كثيرا. ولهذا المعنى أيضا ترمز الآية الكريمة المذكورة آنفًا.

وإذا تأمّلنا في أنظمة الحكم وتطوّرها في العالم اليوم نرى أنه حتى الآن يحكم معظم دول العالم رئيس واحد وأنَّ الدول الديمقراطيّة هي الأقل. كذلك فإنَّ النزعة الملموسة اليوم هي نحو حُكم الفرد كما يقول أستاذ القانون التشريعي البرفسور أكستين: إنَّ الاتجاه في العالم اليوم يسير نحو نظام الحكم الرئاسي كما في الولايات المتحدة وتركيز الصلاحيات بيد حاكمٍ واحد وليس نحو الحكم البرلماني. (محاضرات عن أنظمة الحكم 1964). وإنّ ما جرى في فرنسا في الحقبة الأخيرة فيه الدلالة إذ أنَّ الاستقرار الذي تمتَّعت به فرنسا في عهد ديغول لم تعهده منذ أجيال. أما إذا نظرنا إلى تطوّر الحكم في بريطانيا باعتبارها أم الدول الديمقراطيّة الغربيّة نرى النزعة نحو حكم الفرد من الظواهر البارزة.

الواقع أنّ الإنتاج في الدول التي تشجّع المصالح الفرديّة يفوق مستوى الإنتاج في الدول التي يُشرف عليها عدد من المسؤولين. فالمصنع الذي يملكه ويديره شخصٌ واحد أنجح بكثير من المصنع الذي تملكه وتديره جماعة أو هيئة من الناس حيث تتفرَّع المسؤولية ويظهر التواكل، وفي هذا المجال أثبتت الاشتراكيّة فشلها.

ولن يكون في غير محله أن نختتم هذه المقالة بذلك التعريف القيّم للخلافة الإسلاميّة الراشدة الأحمدية الذي قدَّمه لنا حضرة الخليفة الثاني لسيدنا المهدي والمسيح إذ يقول:

“حيث أنّ سيدنا المهدي والمسيح الموعود كان خليفةً روحانيًا للنبي كذلك سيظل خلفاؤه بعده بقدر ما يمكن روحانيين أيضا خارج مجال السياسة وفوقها حتى لو انضمَّ إلى الحركة الإسلاميّة الأحمدية ملوك ودول، وسيقومون بدور عصبة الأمم الحقيقية للمسلمين. فينظِّمون العلاقات الدوليّة بواسطة ممثلين عن مختلف البلاد. وستكون مهمتهم الأساسيّة رعاية مصالح الناس الروحيّة والأخلاقيّة والاجتماعية والفكرية حتى لا تغلب السياسة على أفكار الخلفاء، فيُهملون الناحية الروحية والأخلاقيّة كما حدث في الماضي. قلتُ: إنَّ عليهم أن يظلَّوا بعيدين عن السياسة مترفِّعين عنها قدر المستطاع، وقصدتُ بهذا التحفُّظ أن نتمكن من مواجهة الحالات النادرة فيما لو يطلب شعب أو سكان بلد ما مساعدة الخليفة، وقد يصبح عندها لزامًا على الخليفة أن يضع ترتيبات وقتيّة لحكومة تلك البلاد، ولكن مثل هذه الترتيبات تكون لأقصر مدة ممكنة في كل حال. (الأحمدية أي الإسلام الصحيح ص 179)

Share via
تابعونا على الفايس بوك