أهلاً رمضان

أهلاً رمضان

أبو خالد

 

هذا المقال كُتب لإحدى الجرائد العربية التي تصدر في كندا، وكان ذلك منذ سنتين حينما كانت الأحداث التي يذكرها المقال أحداثًا ساخنة. وقد أرسل الكاتب المقال إلى الأستاذ المرحوم الحاج محمد حلمي الشافعي، مدير التحرير السابق لمجلة التقوى، غير أنه لم يتمكن من نشره بسبب مرضه الذي فاجأه قبيل شهر رمضان، ثم كان أن انتقل إلى جوار ربه خلال ذلك الشهر. وها نحن بعد مرور عامين ننشر المقال لما فيه من لمحات أدبية جميلة.

أهلاً بك يا رمضان.. أهلا بشهر الجود والخير والإحسان، أهلا بشهر التوبة والعبادة والإيمان، أهلا بالشهر الذي أنزل فيه القرآن. لقد عدت إلينا وعادت أيامك، وأضاء بعد طول غياب هلالك. وانتظرناك انتظار المشتاق، فجئت إلينا بعد غيبة وفراق. فالحمد لمن بارك فيك الأوقات، والشكر لمن خصك باليمن والبركات. هو الله الذي جعلك للتقوى سبيلا قويما، وأرادك للعابد رفيقا حميما، وفتح بك للتائب بابا رحيما.

أنت الذي تزدحم فيك الشوارع بالليل والنهار، إلا من ساعة عندما يحين موعد الإفطار، فيجتمع الناس حول الموائد في انتظار، حتى تدق المدافع فيبدأ الإفطار، يأكلون ما لذ وطاب من لحوم الأطيار، وأصناف وأنواع من أرز وخضار، وسَلَطة وطماطم وخس وخيار، ثم كنافة وقطايف وفاكهة وثمار، وبعدها مرح وفرح وفوازير وهذار، ومناقشات ومجادلات وتساؤل واستفسار، ومساجلات ومواضيع وتمتزج الأفكار، يحلون الفوازير ويحللون الأخبار، ثم نوم بعد الفجر أو عند الأسحار، ثم صحو في الظهر أو بأطراف النهار، وهكذا يمضي يوم تلو يوم لا يسأم الناس تكرار فلله درُّك يا شهر الصوم والإفطار.

أنت الذي تلمع فيك الأنوار، وتزدان الشوارع وكباري الأنهار، وتضيء المآذن كأنها منار، وتتلألأ كعروس بغير خمار، والحدائق بهجة بالورد والأزهار، والزينات تعلو المنازل والأشجار، فأنوار هنا.. وهناك أنوار، ولمعات تخطف من حسنها الأبصار، وفتارين ببضائع تجذب الأنظار، وبيع وشراء وارتفاع الأسعار، والناس يفرحون ويمرح الصغار، ويخرجون بفوانيسهم من دار لدار، ينشدون أغنية على صوت مزمار، يغنون لك يا شهر الأنوار، ففله درُّك يا شهر الأنوار.

في العاشر من رمضان كان لنا فيك انتصار، بعد أن نجحنا في العبور وفك الحصار، وحطمنا المواقع وهدمنا الأسوار، وفاجأنا العدو بغير إنذار، فكسرنا كبره بغير استكبار، وأذقناه ذلا بغير احتقار، وعصفنا به بقوة الإعصار، وصببنا عليه من حميم ونار، ودمرنا حصونه كل دمار، وتبرنا ما علو كل تبار، فلم يكن له غير الفرار، ولم يجد بُدًا من الإنكسار، واضطر إلى التراجع والانحسار، ثم ولّى بعد ذلك الإدبار، وهو ينهق وينعق بصوت الحمار، فسمع صراخه فريق من الكفار، وأسرع لنجدته عصابة الأشرار، فأمدّوه بالعتاد وأسلحة الدمار، فأحدث ثغرة في جيشنا الجرار وأرادوها هزيمة وأردنا الانتصار، فلله درُّك يا شهر الانتصار.

أنت الذي يجتمع فيك الأطهار، وتمتلئ المساجد بصلوات وأذكار، يعبدون ربهم بخشوع وانكسار، ويسدلون على ذنوبهم حُجُب الأستار، يظهرون ولاءهم كل إظهار، يجتنبون المعاصي وفعل الخسار، يطلبون الستر من رب ستار، ويسألون العفو من رب غفار، يخافون بطش العزيز الجبار، ويعبدون الله الواحد القهار، وفي العشر الأواخر من شهر الأنوار، في ليلة القدر أم الأقدار، ينادي الله عباده الأطهار، وتتنزل عليهم الملائكة الأخيار، ببشرى من الله لعباده الأبرار، فلله درّك يا شهر الأذكار.

أنت شهر الهدى.. يتبتل الناس فيك تبتيلا، وأنت شهر الذكر.. أنزله الله فيك تنزيلا، وأنت شهر القرآن.. يرتله العباد فيك ترتيلا. يارب إني أحمدك حمدا جزيلا، وأثني عليك ثناءً جميلا، أريد أن أحكي لك همًّا ثقيلا، وأشكو لك خطبا جليلا، وأريد يارب أن أدعوك دعاء طويلا طويلا، فلا أدري بغير الدعاء لرحمتك سبيلا، فاسمع من عبدك الملهوف كَلِمًا وقيلا، واستجب يارب لمن كنت عنه وكيلا، ولا تردّ من جاء يسعى لبابك ذليلا، يرجو رحمة منك ويخشى عذابا وبيلا.

يا رب إنهم يدمرون الشيشان، يحرقون المدن ويهدمون البنيان، يهدون المساكن على رؤوس السكان، وبالأمس العبوس..قتلوا النفوس..في أفغانستان، وأضرموا النيران..في كل مكان..من إيران. واليوم يريد المتطرفون من أهل الأديان، أن يحرقوا الجزائر..ومصر وباكستان، يا رب هل هذا الظلم من تعاليم الأديان؟ أم أن هذا من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان؟

يا رب إنهم يقتلون أطفال العراق، ويفرضون على الشعب المقهور أن يعيش في إملاق، منعوا التجارة فغاب الدواء والطعام من الأسواق، وأحكموا الحصار وعطلوا الأرزاق، وجيرانهم المسلمون يملأون بطعامهم الأطباق، ويعبّون خمر الظلم من كؤوس دهاق، ولا يخشون يوما فيه إلى الله مساق. يزرعون بين العرب بذور الشقاق، ويكيدون للمسلمين على أوسع نطاق، فدبّروا أمرًا فيه اختلاق، ونادوا على أصحابهم بصوت كالنهاق، فلبوا نداءهم بسرعة البراق. جاءوا بسلاح وجيوش تملأ الآفاق، ودنسوا الأرض الطاهرة. فجعلوها أرض النفاق ودقوا طبول الحرب ونفخوا الأبواق، وامتشقوا سيف الظلم أقوى امتشاق، وأمطروا عليهم من حميم وغساق، فحرقوا الحقول كل إحراق، وخربوا البيوت وضربوا الأعناق، وحاق بالشعب المسكين ما حاق، هذا ما جلبه المسلمون على المسلمين الرفاق، فإلى متى يحكمونا هؤلاء الفسّاق؟ إلى متى يعيش المسلمون في شحناء بغير وفاق؟ إلى متى يكونون في خلاف بغير اتفاق؟ إلى متى يتشرذمون بغير ارتفاق؟ إلى متى يكونون شعلة يطفؤها بصاق؟ هل لهذه الغفوة الطويلة من فواق؟ هل ليوم الخلاص من إشراق؟ هل يكون للعدل من إحقاق؟ هل لِبَاب الظلم من انغلاق؟ هل لهم من ذل الإثم انعتاق؟ هل لهم من قيود الجهل انطلاق؟ هل لهم من عودة إلى الأخلاق؟ هل لهم من قيام بعد السقوط إلى الأعماق؟ يارب ألطف بهم فأنت اللطيف الغفور العفو الخلاق.

يارب إنهم في البوسنة يغتصبون النساء، ويمنعون الناس من طعام وسقاء، يقتلون الرجال ويغتالون السجناء، ويطردون العوائل ويشرّدون الأبناء. انقضّ الأعداء وسفكوا الدماء، عذّبوا النفوس وقطّعوا الأشلاء، هتكوا الأعراض بغير حياء، ودفنوا الموتى بغير عزاء. المعتدون يأتيهم العون من جميع الأنحاء، ولكن يحجبون العون عن الضعفاء، قد ضجّت الأرض من شرب دماء الأبرياء، ولم يعد فيها مكان لقبور الشهداء. ثم جاء الرب بكل دهاء، فأقاموا سلاما لمصلحة الأعداء، وقسموا البلاد وأملوا الإملاء، وفرضوا شروطهم بكل استعلاء، فما كان للبوسنة من حَوْل ورجاء، ولم يعد في العيون من دمع وبكاء، والمسلمون في الدنيا يرون الإيذاء، يسمعون صراخ المظلومين ولا يُلبون النداء، كأن عيونهم قد صارت عمياء، وألسنتهم قد أصبحت خرساء، ومن جُبنهم كانت أفئدتهم هواء. حُكامهم يعيشون في بحبوحة ورخاء، ويبتغون من الدنيا طول بقاء، ونسوا يوما لهم فيه مع الله لقاء. يستخرجون البترول من رمال الصحراء، ويضاعفون ثرواتهم بغير عناء، يكنزون الأموال بلا أعباء، ويعطونها للغرب بغير مراء. يقبضون أيديهم عن الفقراء، ويدفعون للغرب بكل سخاء. لفقراء الشرق كره وبغضاء، ولأغنياء الغرب بذل وعطاء. لشعوبهم في الشرق هم صلف وكبرياء، ولأسيادهم في الغرب يلعقون الحذاء. يا رب .. لقد ادلهمَّ ظلام هذه الليلة الليلاء، فإلى متى تطول هذه الليلة الظلماء؟ أليسوا عبادك أم صاروا أهل رياء؟ لماذا هبطوا إلى الحضيض بعد أن كانوا في علاء؟ لماذا صاروا في جهالة بعد أن كانوا علماء؟ لماذا أصابهم الذل بعد عزة وهناء؟ لماذا أصبحوا أمواتًا في دنيا الأحياء؟ هل مازالوا عبادك أم صاروا من الأعداء؟ هل غاب عنهم الأبرار ومات الصُلحاء؟ يا رب من منهم المسؤول عن هذه الغمّاء؟ أم هم جميعا في الجرم شركاء؟ يا رب أنت القدير ذو الآلاء، فارحم أهل البوسنة الضعفاء، يا رب أسمعهم صوت مناد السماء، ليتبعوا داعي الحق كالعقلاء، وألّف بين قلوبهم بمحبة وإخاء، وارحمهم يا رب فأنت خير الرحماء. يا رب استجب لعبدك هذا الدعاء، من أجل نبيك خاتم الأنبياء.

يا رب لقد طال الليل على أمة الإسلام، وبات المسلمون في فُرقة وخصام، يكيدون لبعضهم كيد اللئام، ويسعون لعدوهم برايات السلام. هم مع شعوبهم في شقاق وخصم، ويسجدون للغرب بحب ووئام، يا رب هؤلاء هم ورثة النبي الهمام، فلماذا فقدوا الميراث وباتوا في الظلام؟ لماذا ضاع الدين وكثرت الأسقام؟ لماذا جعلتهم في انحطاط بعد أعلى مقام؟ لماذ        ا صاروا بين الخلق أرذل الأقوام؟ لماذا يظلمون شعوبهم ويقطعون الأرحام؟ لماذا على أنفسهم يمتشقون الحسام؟ لماذا إلى قلوبهم يطلقون السهام؟ لماذا ودّعوا المجد وعاشوا في الأوهام؟ لماذا لا يفيقون من سبات ومنام؟ لماذا هجروا الطيب وأكلوا الحرام؟ لماذا كان لهم الظلم أحلى طعام؟ لماذا يمشون إلى الوراء ولا يخطون إلى الأمام؟ لماذا لا يسمعون نداء المهدي الإمام ؟ فينالوا من ربهم العزة والإكرام؟ يا رب.. أليس لهذه الجروح من التئام؟ أليس لهذه المصائب من اختتام؟ أليس من شفاء لهذه الأسقام؟ أليس من نهاية لهذه الآثام؟ أليس بعد السقوط من قيام؟.

Share via
تابعونا على الفايس بوك