وقفة تأمل!!

بحثت طويلا ونحن على عتبة سنة جديدة، عن حكمة تنفعنا وتذكرنا بقيمة حياتنا، ربما نأخذ منها العظة، ونُقبل على الحياة بجدّية وتفاؤل وأمل أكثر من ذي قبل. وقد وجدت أن عافية المرء من الأسقام أمر يتجاهله الكثير من الناس، ولا يُولونه حق اهتمامه، فربما كثرة الانشغال بمشاكل الحياة المتشبعة أنستنا هذه الهبة الربانية الغالية.

قبل بضعة أيام قرأت في إحدى الجرائد عن أحد الأثرياء الذي كان يفيض نشاطا وحيويةً، وكيف تراجعت أحلامه الكبيرة .. كلها.. بدءًا بالسفر إلى أقاصي العالم .. ومرورا بالحصول على المسرات النادرة.. فالرجل طريح الفراش منذ ثلاثة أشهر في غرفة بإحدى المستشفيات.. يتنفس صناعيا، ولا يحرك من جسده كله إلا الرموش..

خلال إحدى زيارات ابنه البكر، أحس أن والده كباقي الناس.. يحتاج إلى أن يحك جبينه أو يفرك عينه.. فقرر أن يفعل له ذلك نيابة عنه، وما أن فعل ذلك حتى شعر أن جسد والده قد انتعش.. وكادت الحياة تدب في أطرافه المعطله. تصوروا أن الإنسان.. ولفترة زمنية لا تزيد عن بضع ثوان.. قد يُصاب في الدماغ، فتصبح جميع أعضائه عاطلة، فيتراجع وينسى جميع أحلامه، فلا يريد سفرا، ولا مالاً، ولا انتصارات كتلك التي يصبوا إليها أصحاء الأجساد. بل إن حلمه الذي حققه له ابنه البكر -صاحب الخيال الواسع- كان فرك عين أو حك جبين، وهذه الأمور قد تبدو تافهة وعابرة في حياتنا اليومية، ولكنها كانت أكبر حلم لطريح الفراش هذا!!

فالجفاف الروحاني وحالة البعد عن الحضرة الإلهية التي يعيشها الكثير في مجتمعاتنا الإسلامية، لا تجد لنفسها نصيبا من العلاج أو الدواء في وسائل الإعلام.. وكيف يحصل هذا والصحف والمجلات مملوءة بأخبار نجوم الفن والطرَب ولاعبي كرة القدم!!

والإنسان العادي الذي يمشي في الأسواق… ويشتبك مع جيرانه على شيء تافه.. ويظن أن له كرامة في موقف عادي لا يستحق البطولة.. فيفقد رشده، ليس مريضا عاديا فحسب، بل هو يشكو من أسقام عديدة ومتشبعة. وعلماء النفس قد يشخصون انقسامات ومركبات نقص مختلفة في شخصيته، وقد يشخص الطبيب ارتفاعا في ضغط دمه، أو قرحا في معدته، أو التهابا في الجهاز التنفسي، ومن الصعب أن يخرج الكثير منا عن حالات مشابهة. والصورة الأخيرة التي تظهر أمام الجميع هي أن مجتمعاتنا الإنسانية أصبحت بمثابة كُتلات من أمراض متحركة.. فالفرد في مجتمع اليوم أصبح كأنه كتلة من الأمراض المادية والنفسية، له أحلام وغايات يصبو لتحقيقها مهما كان الثمن، ويبذل في سبيل نوالها كل جهد وعناء. ومع ذلك فهو لا يبالي بالأمراض الروحانية.. فالجفاف الروحاني وحالة البعد عن الحضرة الإلهية التي يعيشها الكثير في مجتمعاتنا الإسلامية، لا تجد لنفسها نصيبا من العلاج أو الدواء في وسائل الإعلام.. وكيف يحصل هذا والصحف والمجلات مملوءة بأخبار نجوم الفن والطرَب ولاعبي كرة القدم!!

إن المرء بمجرد أن يحس بانزعاج أو ضعف في جسده قد يهرع إلى أحسن طبيب.. وقد يسرع إلى أخصائي في علم النفس إذا كثرت مشاكله وهمومه، أو إذا قل نومه للخسارات المتوالية في تجارته أو لانفصال زوجته عنه. ولكن من يُبالي بتلك الروح التي تُقيم في جسد الإنسان خلال الحياة الدنيا؟.. من يهتم بحاجاتها؟ من يجس نبضها ليعلم إن كانت لا تزال على قيد الحياة أم أنها في حالة من البيات الشتوي المستمر؟ وفي الحقيقة نجدها في معظم الأحيان تحتاج إلى فرك عينها أو حك جبينها حتى تنتعش فيها الحياة.. ولكن أين ذلك الابن البكر ذو الخيال الواسع؟

وإذا كان هو الحال.. فما العمل؟ إنه اليسير إيقاظ النائمين فهل من سبيل إلى إيقاظ المستيقظين؟! ألم يأن الأوان إلى أن تقف حشود المسلمين وقفة تأمل وتسأل نفسها: كل سنة جديدة من المفروض أن تحمل شعارات نصر وتفاؤل لنا نحن المسلمين، ولكن الحقائق أثبتت أن كل سنة جديدة حملت لنا في طياتها لكمات وإهانات ومصائب. فهل هذا هو مصير خير أمة أخرجت للناس؟ لا .. والله على ذلك من الشاهدين!!

إن الأمة الإسلامية اليوم هي مثل ذلك الرجل الثري طريح الفراش.. تشتهي نفسُها أن تفرك عينها أو تحك جبينها، أو تقوم بعمل ما بإرادتها وعزيمتها، دون أن يفرضه عليها أولئك الذين يتحكمون فيها وفي مصيرها. ولكن قواها خائرة وجسمها لا يُلبي النداء، إذ أنه فقد القدرة على الحراك، والعمل. أمتنا الإسلامية الغالية كتب الله لها العز والنصر، ولكن الواقع المـُر يختلف تماما كما وُعدنا .. فقد جعل سبحانه نصر المؤمنين حقا على ذاته :

وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ .

ووعْد الله هذا سيتحقق حتما عندما يُوجد من بين المسلمين محطات استقبال أنوار الله على الأرض. فسبحانه لم يقرن نصره بالساسة ولا برجال الدين، بل خصصه للموْمنين.. فالمؤمن ليس من آمن بمبادئ الإسلام فحسب، ولكن من آمن الناس أذاه ومخاطره، والمؤمن من ذاق وجرّب لذه ونعيم القرب من الحضرة الأحدية.

فلتسأل الأمة الإسلامية نفسها، ولتكن صريحة مع ضميرها.. هل تتحقق لها اليوم وعود الله تعالى التي تضمنها قولة تعالى:

وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا منْكُمْ وَعَملُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فيِ الأَرْض ِكَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَ لَهُمْ دِيَنُهُم الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدَّلَنَّهُمْ مِّنْ بَعْد خَوْفِهِمْ أَمْنًا ، ووعده تعالى:

وَلَنْ يَجْعَل الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المـُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ،

ووعده تعالى:

كَذَلكَ حَقًّا عَليْنَاَ نُنْجِ الْمُؤْمِنينَ ،

ووعده تعالى:

يَآ أَيُهَا الذِيْنَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ،

أم أن جميع هذه الوعود وغيرها كانت للزمن الماضي فقط؟ وهل يتحقق لأفراد الأمة اليوم ماذكره الله في كتابه العزيز:

إنَّ الَّذينَ قَالُوا رَبٌّنَا الله ثُمَّ استْقَاَمُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ المـَلاَئكَةُ ألاَّ تَخَافُوا ولاَ تَحْزنُوا.. ؟

هل حقا تتنزل عليهم ملائكة الرحمن أم أن الأمة بسبب تنازعها وتشتتها وعدم التفافها حول قيادة واحدة قد استحقت نزول ملائكة العذاب؟ وهل كلامي هذا يصل إلى الأذهان أم الأجدر بي أن أستاجر بعض المستمعين!!!

Share via
تابعونا على الفايس بوك