لم الفزع من "العولمة"؟!

لم الفزع من “العولمة”؟!

التحرير

  • إلام ترجع البدايات التاريخية لفكرة العولمة؟
  • لماذا ارتبط مفهوم العولمة في مخيلتنا بالممارسات الغربية المعاصرة؟
  • فكرة العولمة، أو “الكوكبية” هي نبوءة قرآنية!

___

ينبغي قبل الخوض في الحديث عن العولمة أن ندرك بدايةً أنها ليست بالأمر الجديد على الساحة الفكرية، السياسية والاقتصادية العالمية، لا سيما وأن بعض المفكرين أرجعوا ظهورها إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، فكان من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين من اعتبر العولمة بضاعة قديمة معبأة في صناديق جديدة، بمعنى أنها كمنظومة قيمة لم تأت بجديد سوى المصطلح الذي يُعد كغلاف خارجي للفكرة. إلا أنه ينبغي الإشارة إلى أن مضمون العولمة ضارب في القِدم، فالبعض يُرجعه إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي كما أسلفنا، بل إن بعض الفلاسفة والمؤرخين يبالغون في القول بقدم مفهوم العولمة، فيقولون بأن قِدَمه يتجاوز كُلًّا من حقبتي التاريخ الحديث والوسيط إلى التاريخ القديم. إذن فالعولمة من ناحية كونها نبيذًا قديمة معبأة في جرار جديدة، هي كذلك بالفعل، أما تحديد عمر هذا النبيذ بأواخر القرن التاسع عشر الميلادي أو ما قبل ذلك أو بعده، فهذه المسألة فيها بعض النظر، وهو ما سيتضح من خلال ما يلي من سطور افتتاحية هذا الشهر.

أما مصطلح العولمة Globalization بشكله المعهود لنا الآن، فتعود بدايات استعماله إلى كتابين نُشِرا عام 1970، الأول بعنوان «حرب وسلام في القرية الكونية» لـ»مارشال ماك كوهان»، والثاني بعنوان «أمريكا والعصر التكنتروني» ل «زبيغنيو بريجنسكي»، ومنذ السبعينيات شاع استعمال  مصطلح العولمة مع التطور المتسارع في تقنيات الاتصال وصوًلا إلى أن بات اليوم على كل شفة ولسان.

والعالم الإسلامي ليس بعيدًا عن خضم هذه الأحداث والتغيرات العالمية، لا سيما وأنه يكون المستهدف الأول في أغلب الأحيان، وقد ترتب على التطورات الدولية المعاصرة تحديات إضافية تواجه الإسلام والمسلمين، وتستلزم إعادة النظر في طبيعة علاقاتهم فيما بينهم، وعلاقاتهم بالعالم من حولهم، بعد أن ثبت عدم جدوى المناداة بالمصلحة القومية.

والسؤال المطروح هاهنا هو: إذا كانت العولمة مفهومًا قديًما كما يُقال، فلماذا يُنظَر إليها بوصفها إحدى تبعات النظام العالمي الجديد وبلاياه؟!

لقد شاع استخدام مصطلح العولمة في السنوات الأخيرة في الأوساط السياسية أولًا ومن ثم المنتديات الاقتصادية، وخاصة عقب تفكك الاتحاد السوفيتي. ومن ميداني السياسة والاقتصاد تفرعت أذرع العولمة لتطال مجالات الثقافة والتكنولوجيا والاتصال وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج والصناعات وانتشار أسواق التمويل، دون اعتداد بالحدود السياسية للدول ذات السيادة.

وقد ارتبط مفهوم العولمة بنظرة أمريكا الاقتصادية والثقافية والسياسية إلى الوضع العالمي، لا سيما بعد خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب للشعب الأمريكي بمناسبة إرسال قواته إلى منطقة الخليج العربي في أغسطس 1990 فيما عرف بحرب الخليج الثانية. وفي معرض حديث بوش الأب عن هذا القرار ترددت في خطابه عبارات من قبيل: عصر جديد، وحقبة للحرية، وزمن السلام لكافة الشعوب. ثم بعد ذلك الخطاب بأقل من شهر أشار بوش الأب إلى إقامة ما أسماه «نظامًا عالميًا جديدًا» يكون بمأمن من الإرهاب وأكثر سلامًا، في عصر تستطيع فيه كل أمم العالم أن تنعم بالرخاء وتعيش في تناغم..

فارتباط فكرة العولمة بفكرة النظام العالمي الجديد راجع إلى أن السياسة الأمريكية هي التي نادت بها أكثر من غيرها خصوصًا بعد حرب الخليج الثانية. ومما ساعد على ترويج هذه النظرة بسرعة وقوة انهيار الاتحاد السوفيتي وخلو الساحة إلى فترة طويلة نسبيًا من القطب المعاكس الذي يوازن الأمور، ويتبنى جملة من المبادئ لها نظرياتها الاقتصادية والسياسية والفكرية المستقلة عن المبدأ الرأسمالي الذي تتبناه أمريكا.

نخلص مما سبق إلى أن فكرة العولمة هي النتيجة الطبيعية لاتصال أكناف الكوكب وجنباته، الأمر الذي لا يُستغرب معه من اكتساب العولمة اسمًا دالًّا آخر، وهو «الكوكبية» والدعوة إلى قيم العولمة المتمثلة بشكل عام في محو الفوارق أيًّا كان نوعها، هي دعوة لها أسبابها المنطقية غالبًا، حيث إن المجتمعات على اختلافها ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، سرعان ما تميل إلى التجانس فور حدوث اتصال ما فيما بينها، فتنتقل القيم والعادات والمنتجات والبضائع والثقافات من هنا إلى هناك بين المجتمعات المختلفة وبعضها البعض، ويحدث شيء في الواقع الاجتماعي هو أشبه ما يكون بظاهرة الأواني المستطرقة في العالم الفيزيائي.

يبدو أن المؤسسات المالية الدولية التي يهيمن عليها الغرب أدركت متأخرة أن العولمة جعلت العالم مثل الأواني المستطرقة، فصعود المناسيب أو انخفاضها مترابط بشكل حتمي. والسلام مرتبط بالاستقرار، والصراعات والفقر والمجاعة نتيجة لأوضاع سياسية واقتصادية يتأثر فيها الداخلي بالخارجي.

إذا كانت الدول الغربية حريصة على الديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان، ولا تبالي أن تضغط ليمثل مجرمو الحرب ومرتكبو الجرائم ضد الإنسانية، أيًّا كانوا وأينما كانوا، أمام المحكمة الجنائية الدولية، فمن باب أولى أن يتسع قفص الاتهام حتى تمثل الشركات العابرة للقارات، التي تخلق النزاعات والحروب وتمولها حتى يسهل عليها نهب النفط واليورانيوم والماس والمواد الخام المعدنية والزراعية، أمام القضاء الدولي.

وعلى الصعيد الإسلامي، لا تبدو فكرة العولمة كارثية كما يروج، للأسف، تقليديو المسلمين، الذين ما فتئوا يتحدثون عنها كما لو كانت بعض حبائل الشيطان، وذلك على الرغم من أن القارئ الممعن في التاريخ الإنساني عمومًا والإسلامي خصوصًا يصل بقراءته إلى نتيجة مفادها أن كل القوى والحضارات القديمة والحديثة، ومنها الإسلامية، سعت بكل ما أوتيت من مقدرات إلى ربط أطراف العالم المعروف حينها، بل إن فكرة ثورة الاتصالات والمعلومات التي تتميز بها العولمة هي في واقع الأمر نبوءة قرآنية عظيمة، لقوله تعالى:

وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ([1])،

فتزويج النفوس، أي اتصالها واجتماعها على تباعد المسافات، هو تحقق للنبوءة السابعة من سلسلة نبوءات سورة التكوير الخمس عشرة. أما منتقدو العولمة من المسلمين ففاتهم إدراك أنها كسكين ليس محمودًا في ذاته أو مذمومًا في ذاته، وإنما نفعه وضرره مرهون بممسكه.

وعلى ذكر العولمة، يدلي فريق تحرير التقوى بدلوه، ارتكازًا على خطبة لحضرة خليفة الوقت، سيدنا مرزا مسرور أحمد (أيده الله تعالى بنصره العزيز)، وقد أسهب فيه عارضًا سيرة حضرة عمر بن الخطاب ، ويُلمح بين ثنايا هذه الخطبة الثرية بالدقائق الروحية والتاريخية الكثير من الملامح «العولميَّة» والتي تبدت في انمحاء الفوارق بين الشعوب التي فتحها المسلمون في القرن الأول الهجري الموافق للقرن السابع الميلادي، فإن أصر البعض على عزو مظاهر العولمة إلى الحضارة الغربية، فعليهم الإقرار بأن أساس الفكرة إنما انتقل إلى الغرب عبر جسر الحضارة الإسلامية، والذي لا زال ممتدًّا.

ولأن لكل شيء نفعه وضرره، بما تحدده طريقة استعماله، فنسأل الله تعالى أن يمتعنا بمزايا العولمة ويحمينا من مساوئها، هو المطلع على الأحوال، والعالم بعواقب الأعمال، آمين.

[1] (التكوير: 8)

Share via
تابعونا على الفايس بوك