الحقيقة المجهولة

الحقيقة المجهولة

التحرير

حياة كل إنسان مملوءة بألغاز محيرة وأسرار كثيرة متشعبة لا يعلم بوجودها إلا هو، وقد يُطلع عليها صديقه الحميم أو أحد المقربين إليه الذين يأتمنهم على أسراره وبعض أموره الخاصة.

لو حاول أحد منا بكل إخلاص وصدق أن يصارح صديقه ويخبره بأخطائه وزلاته اليومية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من شخصيته، ثم يقدم له النصيحة والوسيلة للتخلص منها أو تعديلها، فغالبا ما تحدث في مثل هذه الظروف ردة فعل عنيفة أو عدم إصغاء لتلك النصائح وعدم تقديرها حق قدرها بالرغم من أنها في مصلحته أساسا. بل إنه يُصر على ارتكاب نفس الأخطاء ويواظب عليها، ويبدو جلياً من تصرفاته هذه أنه لا يستطيع استيعاب أي أفكار أخرى سوى ما تمليه عليه نفسه، ولا نراهُ يُبالي بأهمية العقل في تسيير مجرى حياته اليومية وتحسين نمط عيشه ورفع مستواه الثقافي والاجتماعي والديني. إن هذه الفئة من الناس قد حكمت على نفسها بالسجن مدى الحياة داخل زنزانة نفسها.. إنها تعيش في دوامة ميولات قلوبها التي لا هم لها إلا تحقيق أحلامها ولا تستطيع رفض أوامرها أو أن تتحرر من قيودها ويصبح لها كيان منفصل يقرر مصيره بعقله لا بقلبه. وغالباً ما يتناسون أن القلب (أي العواطف) لا يمثل العنصر الأساسي للتمييز في ما يجري على مسرح الأحداث.. فالقلب ليس أداة لتحديد المصير للفرد والمجموعة، بل هو أداة إحساس إنساني له أهمية في مجالات خاصة به ودائرة فعاليته محدودة. وليس من الحكمة في شيء أن نعتمد على مشاعر وأحاسيس قلوبنا لتحريك عجلة الاقتصاد.

فالعقل هو الميزان الحقيقي والعامل الأكثر فاعلية لتحديد مجرى حياة الإنسان اليومية ويلعب دورا هاما في تحديد مصير الفرد والشعوب.. أما الإصرار والتمسك برأي اختاره القلب بدون قبول المناقشة أو التعديل فهذا يُعد عاملا هداماً سيؤدي إلى تدمير حياة الفرد بطريقة عمياء.. بل وتتضاعف خطورة وحدَّة الموقف يوما تلو آخر إلى أن تصل إلى مرحلة العجز التام فيُصبح الشخص معاقاً لا يستطيع أخذ أي قرار أو حتى مواجهة واقعه.. وفي هذه الظروف يتدخل العقل بكل شموخ مهما حاول المرء تجاهله وتراه يدق جرس الإنذار داخل الأعماق فتكلل مساعيه بالنجاح مع بعض الناس في حين يفشل مع البعض الآخر ممن يهنأون بأحلام وردية يعيشون سكارى من خمر أفكار عقولهم المتحجرة وآرائهم المتعصبة دون إتاحة الفرصة حتى للمقربين لهم للمساهمة ولو بمجرد الرأي.

بعد المرور بهذه التجارب المؤلمة وبعد أن انتهل المرء وشرب من رغباته يتبين له أن أفكاره وتمسكه برأيه دون الاستعانة برأي الآخرين كان خطأ كبيراً دفع قيمته الآن بل منذ أن استقر على رأيه على أن لا يشاور أحداً.. وفي محاولة يائسة لتعديل مسار حياته يبدأ في ترتيب أوراقه من جديد فيفاجأ بضيق الوقت المُتبقي. فيتعلل بالظروف والزمن اللذين في الحقيقة لا دخل لهما في هذه القضايا سوى أننا نمضي خلف تيار الرغبة لا ندرك فحواها ولا منتهاها ونقضي جل عمرنا ندفع مخالفات الأخطاء التي لا تعد ولا تحصى. وليتنا نتوقف، بل يظل بعضنا يترقب ما تحمله الأيام المقبلة من أحلام غريبة واهية لا يملكون لأنفسهم قدرة سوى الخضوع لما تمليه عليهم. ويصل بهم الأمر إلى الدخول في زنزانة ولا يعلمون طريق النجاة منها ولا حتى سراديب الخلاص.

إن المراقب لما يجري على مسرح الأحداث يتطلع لوجود صراع فكري، ديني وثقافي بين الجماعات الأصولية المتعصبة وبين أصحاب الإيديولوجيات العقلانية. ويستحيل على الطرفين في هذا النزاع الوصول إلى نتيجة سلمية تُرضي الجميع. وكيف يحدث هذا وليس بينهم قاعدة فكرية مشتركة أو حتى نقاط تشابه يمكن أن تُرسي بينهم وسيلة حوار. إن الحقيقة التي يجهلها هؤلاء هي أن مجهودات القلب بمفردها لا تستطيع أن تحسن نوعية حياتنا أو حل مشاكلنا الاقتصادية فهذه المجالات تنتمي إلى مساحة فعالية العقل وحده الذي يعجز بدوره في التعبير عن المشاعر الصادقة وتحسين علاقتنا بالأقربين وبأفراد مجتمعنا، فهذه هي دائرة فعالية القلب وحده.. إن الذي يغيب عن أذهان الكثير هو أننا نحتاج دعائم ثلاث خلال حياتنا على وجه الأرض.. فللعقل والقلب فعاليتهما ودوائر مخصصة لهما ولا نستطيع أن نكتفي بواحد منهما دون الآخر فمزجهما يصنع لنا قاعدة فكرية وعقائدية نستطيع من أعلاها التخطيط لمستقبل زاهر ومعاينة بذور ازدهارنا.. ولكن الحقيقة المجهولة لدى الكثير أن وحدة القلب والعقل مهما أعطتنا من نتائج إيجابية وأرباح خيالية إلا أنها تبقى محدودة تجهل ما يخفيه لها المستقبل القريب والبعيد. وحوادث إفلاس شركات كبيرة الذي جد مؤخر في أكبر دول العالم تقدما لأحسن دليل على ما نقول.. إن الإنسان مهما تقدم في مجالات الحياة يكون دائما بحاجة أو عبداً لمساعدة الله. فتخطيطاته هي نتائج مجهوداته العقلية والقلبية ولكن هل هناك مؤشرات النجاح، وهل عمله هذا حصل على موافقة من تعرف قراراته إلى الفوز المبين .. إن القرآن الكريم أكد على ضرورة تدخل نور من الله كي نتمكن من أخذ القرارات الصحيحة. وأكد لنا أن العمل طبقا لتعاليم الإسلام هي الوسيلة الوحيدة للاستقطاب هذا النور. وبارك الله في الكثير من سعداء الأمة حيث كان لهم حظا وافر من مكالمات وأنوار الحضرة الإلهية. ومن لم يجعل الله له نرواً فما له من نور.

فعالمنا هو بمثابة غرفة مظلمة لا نتطلع من خلاله على حقيقة و ماهية الأمور إلا لما يدخلها نور الشمس من إحدى نوافذها.. فالعقل والقلب هما بمثابة هذه الغرفة المظلمة ونور الله وحده القادر تماماً على إنارتهما.. تلك هي باختصار شديد الحقيقة المجهولة!!

Share via
تابعونا على الفايس بوك