تعددت الممارسات والرق واحد

تعددت الممارسات والرق واحد

أحمد وائل

كاتب
  • ما هو واقع الحريات في الغرب؟
  • في أية صورة عاد شبح الاستعباد إلى الظهور من جديد في هذا العصر؟

__

تصنف أنماط العبودية الحديثة إلى عدة أصناف منها أعمال السُّخرة، أي الذين لا يتقاضون مقابلاً ماديًّا عن عملهم، حيث تقدر الإحصائيات أعداد العاملين بها،  بحوالي تسعة عشر مليون إنسان منهم خمسة ملايين مسخَّرون في أعمال الدعارة، ويشكل الأطفال دون سن الثامنة عشرة مجالاً خصبًا للإتجار بالبشر وتتنوع أنماط العبودية بينهم فمنها العمل بالسخرة ومنها المشاركة القسرية في الحروب حيث يقدر عدد الأطفال المحاربين في العالم بقرابة ثلاثمائة ألف طفل ومنها الزواج المبكر الذي تباع فيه الفتيات إلى أزواج يكبرونهن بعشرات السنين وغالبًا ما يكون ذلك تسديدًا لديون الأبوين، كما نشأت حديثاً تجارة الأطفال حيث تتعمد بعض الأمهات تحت وطأة الفاقة إلى بيع أطفالهن حديثي الولادة على افتراض أن هؤلاء الأطفال يمكن أن يحظوا بحياة أفضل عند أسر تتبناهم ولكن واقع الأمر هو أنهم يؤخذون إلى عصابات التسول والإجرام ثم يستخدمون كمزارع للأعضاء البشرية.

ومن بين من يتعرضون لصور عصرية من العبودية خدم المنازل الذين يبلغ عددهم في العالم حوالي مائة وثمانية وستين مليونًا، يقدر أن عشرة إلى خمسة عشر بالمائة منهم يتعرضون لأنماط من المعاملة يمكن أن توصف بالعبودية مثل العمل على مدار الساعة ومصادرة وثائق هوياتهم وعدم السماح لهم بالخروج وأحيانًا الضرب والتعذيب وحرمانهم من حقوقهم المادية.

كما لا ننسى أن الرق بشكله التقليدي الصريح أخذ يطل برأسه بعد أن تم إلغاؤه رسميًّا باتفاقية دولية، إذ تمارس عصابات الإرهاب التي تنسب نفسها إلى الدين، مثل «داعش» و«بوكو حرام»، أنماطًا من الاستعباد ينتحلون لها المبررات الدينية الزائفة وهي في واقع الأمر إما وسيلة لجني الأموال أو لإرضاء نزوات أعضاء هذه العصابات وإغرائهم بجوائز بشرية لدفعهم إلى الإمعان في جرائمهم وأعمالهم الوحشية.

ماذا عن تلاشي الحريات؟!

لا شك أن الغرب الإمبريالي منع، نظريًّا، العبودية في مظهرها التقليدي الفردي، غير أنه فتح سوق نخاسة أكبر وأخطر، إذ أسس لعبودية الشعوب المستضعفة، بحيث صارت ترزح تحت وطأة المؤسسات الغربية التي تستنزف ثرواتها وتغرقها في الديون الربوية الدائمة وفق شروط تكرس التبعية لها كي لا تقوم للأجيال القادمة قائمة.

ثم ما فتئ الغرب أن أباح العبودية الفردية وجعل لها مهرجانات سنوية تحرسها السلطات ومسيرات تجوب الشوارع تحت مرأى الأطفال والمراهقين حتى يُطبعوا معها، وأقام لها مؤسسات ونواد خاصة.

واقع الحريات في الغرب وعودة شبح الاستعباد

في 25 مايو 2020، قُتل «جورج فلويد»، وهو أمريكي من أصل أفريقي على يد ضابط شرطة أبيض. وأثناء الاعتقال، وضع ضابط الشرطة «ديريك شوفين» ركبته على رقبة جورج فلويد لمدة سبع دقائق وست وأربعين ثانية. وكشفت كاميرات الشرطة أن «جورج فلويد» اشتكى أكثر من 20 مرة أنه لا يستطيع التنفس، ولكن الضابط استمر في الضغط على رقبته.

لم يكن هذا حادثًا فريدًا للمظالم المرتكبة ضد الأمريكيين الأفارقة. فأسماء ضحايا العنصرية مثل «بريونا تايلور» و«أحمد أربري» و«دِيْون جونسون» تخطر فورًا على الذهن.

لا شك أن الغرب الإمبريالي منع، نظريًّا، العبودية في مظهرها التقليدي الفردي، غير أنه فتح سوق نخاسة أكبر وأخطر، إذ أسس لعبودية الشعوب المستضعفة، بحيث صارت ترزح تحت وطأة المؤسسات الغربية التي تستنزف ثرواتها وتغرقها في الديون الربوية الدائمة وفق شروط تكرس التبعية لها كي لا تقوم للأجيال القادمة قائمة.

أثار مقتل «جورج فلويد» موجات من الاحتجاجات داخل الولايات المتحدة وحول العالم مع اكتساب حركة «قضية حياة السود» زخماً أكبر. والآن بعد أن هدأت هذه النيران، فإن لدينا فرصة للتفكير في السبب الجذري لهذه المشكلة ولتقييم الحلول طويلة الأجل. فلو كان هناك شيء نتعلمه من التاريخ فهو أن الاحتجاجات والمسيرات قد تفيد في رفع مستوى الوعي خلال اللحظات اللاحقة لها، ولكنها ليست حلاً طويل الأجل. وإلا لماذا لا تزال مثل تلك الأحداث ترتكب اليوم ضد الأميركيين الأفارقة بعد 150 عامًا على إلغاء العبودية في الدستور الأمريكي؟ لماذا احتجنا إلى حركات الحقوق المدنية بعد مرور 100 عام على إعلان تحرير العبيد؟ وعلاوة على ذلك، لماذا يبدو أن الوضع لم يتغير كثيرًا رغم وجود حركات الحقوق المدنية تلك؟

في حقيقة الأمر، عندما يكون شعب مستهدفًا بشكل منهجي لمئات السنين، جيلًا بعد جيل، ويُنظر إليهم من خلال عدسة تفوق البيض على أنهم «دون البشر» أو «متخلفين وغير متطورين»، فإن مجرد اقتراح مشروع قانون لا يمثل حلًا للمشكلة على المدى الطويل.  بل ينبغي حل المسألة من جذرها. ولا شك أن جزءًا كبيرًا من المشكلة راجع إلى تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. إذ اختطف ما يقرب من 12.5 مليون أفريقي، واقتلعوا من سلام وراحة وطنهم وأحبائهم ونقلوا قسرًا إلى العالم الجديد في ظروف غير إنسانية. لم تكن هذه الواقعة المثال الوحيد للوحشية التي شوهدت على شواطئ أمريكا. بل إن الإبادة الجماعية للأميركيين الأصليين فصل مؤلم آخر من التاريخ الأميركي. منذ أن هبط الأوروبيون على الأراضي الأمريكية، «سمحت الحكومة الأمريكية بـ 1500 حربًا وهجومًا وغارة على قبائل السكان الأصليين، ويفوق هذا عدد حروب أي بلد في العالم ضد سكانها الأصليين».  فبعد أن كان عدد هؤلاء السكان الأصليين في أمريكا الشمالية 12 مليون في 1500، أصبح 237 ألفاً فقط في عام 1900. هناك عدّة أسباب لهذه الإبادة الجماعيّة، أحدها كسب أرض غنية بالموارد الطبيعيّة، وسببٌ آخر هو أن السكان الأصليين كانوا ببساطة مختلفين جدًّا من منظور البيض: فبشرتهم كانت داكنة ولغاتهم أجنبية وكانت وجهات نظرهم حول العالم ومعتقداتهم الروحية أبعد ما يمكن عن فهم معظم الرجال البيض».

وقد استخدم سرد مماثل أثناء تجارة الرقيق ويمكن رؤية تداعياته إلى اليوم. إن تجارة الرقيق ليست مجرد حدث وقع في الماضي، بل بررها المعنيون وغيرهم بحماس. فعلى سبيل المثال، يشير «إدوارد لونغ» في كتابه «تاريخ جامايكا» إلى الأفارقة على أنهم «بلا شك أدنى من البشر وربما غير بشر حتى». أصبحت هذه الفكرة تعرف باسم «التصارع على أفريقيا». وهكذا ورّد الأوروبيون حسب زعمهم ومن خلال استعمار أفريقيا حضارتهم إلى قارة اعتبروها «متخلفة» و«غير متطورة».

حاول بعض التجار، مثل «مايكل رينويك سيرجنت» من مدينة ليفربول البريطانية، تبرير العبودية من خلال التأكيد على أنهم كانوا «يساعدون» العبيد الأفارقة لإنقاذهم من الحكومات المستبدة. وكتب «زفانيا كينغسلي»، وهو مالك لعبيد من ولاية فلوريدا الأمريكية، أطروحة كاملة دفاعًا عن العبودية وكيفية استخدامها «بفعالية ولمصلحة الأسياد البيض».

عندما يكون شعب مستهدفًا بشكل منهجي لمئات السنين، جيلًا بعد جيل، ويُنظر إليهم من خلال عدسة تفوق البيض على أنهم «دون البشر» أو «متخلفين وغير متطورين»، فإن مجرد اقتراح مشروع قانون لا يمثل حلًا للمشكلة على المدى الطويل.  بل ينبغي حل المسألة من جذرها. ولا شك أن جزءًا كبيرًا من المشكلة راجع إلى تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي

ولم تنته القصة عند هذا الحد بل تفاقمت وازدادت سوءًا.   ففي الآونة الأخيرة، اعتذرت حديقة حيوانات «برونكس» لعرضها رجلاً أفريقيًّا، أوتا بينغا، في قفص القردة في عام 1906. يمكن أن نقول أنّ ذلك حصل في الماضي البعيد وأن الأمور تغيرت كثيراً منذ ذلك الوقت. ولكن في عام 1958 نجد أن في بلجيكا تم تنظيم «معرض عالمي» لمدة 200 يوم للاحتفال بنجاح ما بعد الحرب. قد يظن المرء أن المناسبة تستحق الاحتفال، إلا أن المعرض المعروف بـ «إكسبو 58» كان يحتوي على حديقة بشرية. حيث سُيجت ثلاث هكتارات من الحدائق الاستوائية عند سفح الأتوميوم (وهو نصب تذكاري في بروكسل) بالخيزران وعُرض فيها رجال ونساء وأطفال كونغوليين، وكانوا مشهد تسلية للمتفرجين. ولا عجب في أن فريقًا من علماء النفس في جامعة «ستانفورد» وجامعة ولاية «بنسلفانيا» وجامعة كاليفورنيا- «بيركلي» قدموا آنذاك ورقة بحثية أظهرت أن العديد من الأميركيين يربطون السود لا شعوريًا بالقردة.

لم ير هذا التحيز اللاواعي فقط في الولايات المتحدة، بل شوهدت آثاره في أماكن أخرى أيضًا. فلقد أظهر مسح حديث أجرته شركة «RunRepeat» الدنماركية التي تجري بحثًا بالاشتراك مع رابطة لاعبي كرة القدم المحترفين (PFA) تحيزًا كبيرًا من المعلقين الرياضيين على أساس لون بشرة اللاعبين. حيث حللت 80 لعبة متلفزة من أربع رابطات أوروبية من بينها الرابطة الأولى في إنكلترا والسييرة الإيطالية ورابطة فرنسا الأولى والرابطة الإسبانية. فأظهرت الأبحاث أن اللاعبين ذوي البشرة الفاتحة كانوا يحمدون في كثير من الأحيان على ذكائهم وأخلاقياتهم في العمل. وعلى النقيض من ذلك، كان اللاعبون من ذوي البشرة الداكنة «يُحصرون (يقيدون) أكثر بكثير بخصائصهم البدنية أو قدراتهم الرياضية، مثل سرعتهم وقوتهم».  من الظلم القول بأن هؤلاء المعلقين كانوا عنصريين. لكن ذلك يسلط الضوء على العواقب الخطيرة لهذا التجريد المستمر من الإنسانية على مر السنين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك