تخاذل اليهود والنصارى في مؤازرة نبييهم

إلام يشار بالفتى في قصة لقاء موسى بالعبد الصالح.

كيف أن مشهد قتل العبد الصالح للغلام أمام مرأى موسى فيه رد مسبق على ما قد يثيره يهود المدينة من اعتراض على قتل كعب بن الأشرف!

• إلام يشار بالغلامين اليتيمين بالمدينة ومن أبوهما الصالح؟

__

قالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (الكهف 79)

 التفسير:

لما رأى هذا العبد الصالح أن صاحبه لا يمتنع عن الاعتراض قال لـه: الآن لا بد لنا من الفراق.

وكان هذا إشارة إلى أن أهل الكتاب حين يرفضون دعوة الاتحاد على التوحيد ولا يمتنعون عن الإشراك بالله، سيقطع محمد رسول الله علاقته بهم، لتبدأ المواجهة بينه وبينهم.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (80)

التفسير:

تحتوي هذه الآية على التأويل الذي فسّر به العبد الصالح الأحداثَ السالفة الذكر.

واعلموا أن الرائي قد يعبّر في الرؤيا نفسِها الأحداثَ التي يراها فيها، وقد يكون ذلك التعبير واضحًا تمامًا، وقد ينكشف تأويلها جزئيًّا بحيث تحتاج إلى تعبير آخر في اليقظة كما هو الحال في هذا المقام. مما لا شك فيه أن التأويل الذي ذكره العبد الصالح للأحداث يكشف الحقيقة لحد ما، ولكنه ليس بتأويل واضح، بل لا تزال الأحداث بحاجة إلى تأويل آخر طبقًا لمبادئ عالم اليقظة.

قبل كل شيء قام العبد الصالح بتأويل حادث السفينة فقال أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا .

لقد سبق أن ذكرتُ تأويلَ جميع الأحداث ما عدا المساكينَ والمَلِكَ. فاعلم أن المراد من المساكين هنا أناس منكسرة متواضعة قلوبهم، لا تمنعهم أموالهم ولا منجزاتهم المادية عن مواساة الفقراء والعطف عليهم والتعايش معهم. أما الملِك فتأويله حب الدنيا، لأن الملوك الماديين مظهر من مظاهر الدنيا. وبما أن الآية تذكر هنا أن الملك كان يأخذ السفينة غصبًا فالمعنى أن الأغنياء الذين ليس لديهم حب الدين ولا ينفقون جزءًا كافيًا من أموالهم على الفقراء والأعمال الخيرية الأخرى، تستولي عليهم محبة الدنيا وتصير أموالهم تحت تصرف الشيطان. لذلك أوصى النبي أُمّتَه، بأمر الله تعالى، أن يخرقوا سفينتهم، أي أن ينفقوا أموالهم في سبيل الدين وخدمة الإنسانية، كيلا يطغى حبُّ الدنيا على قلوبهم، ولكيلا تصير أموالهم للدنيا الدنيّة، بدل أن تكون لله تعالى وحده.

وجدير بالذكر هنا أن الدنيا ظهرتْ لرسول الله في الإسراء على شكل عجوز، بينما ظهرت لموسى في إسرائه على صورة ملِك غاشم. وهذا، في رأيي، إشارة إلى أن هجوم الدنيا على الأمة المحمدية يكون ضعيفًا جدًّا حيث كانت صولتها على المسلمين بقوة امرأة عجوز، ولكن صولتها على أمة موسى تكون على أشدها حيث رآها على صورة ملِكٍ غاصب.

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (81)

التفسير:

لقد ذكرت سابقًا أن رؤية الغلام في المنام تأويلها الحركة والقوّة وغلبة الجهل، والتفسير الذي بيّنه هذا العبد الصالح في هذا المقام يوافق هذا التعبير تمامًا؛ حيث قال عن قتل الغلام: كان أبواه مؤمنَين فخشِينا أن يُرهقهما طغيانًا وكفرًا.. أي قتلتُه مخافة أن يتسبب في طغيانهما وكفرهما.

ولقد بيّنتُ من قبل أن قتل الأولاد غير المنقادين الذين لم يرتكبوا جنايةً حرامٌ من دون شك. فلا ريب أن هذا المنظر أيضًا بحاجة إلى التعبير. وما دام الغلام يؤوَّل بالحركة والقوة وغلبة الجهل – وهي أشياء معنوية غير مادية – فلا بد أن يُعتبَر أبواه أيضًا من الأشياء المعنوية. ومعلوم أن منشأ الحركة والقوة والجهل هو الروح والجسد، حيث أودعَ اللهُ تعالى الروحَ والجسد – وهما بمنـزلة الزوجين- ميزة خاصة وهي أن اجتماعهما يولّد في الإنسان الحركةَ والقوة وكذلك الجهالة التي معناها العمل دون مبالاة بالعواقب. غير أن هذه الأشياء الثلاثة، التي لا بد للإنسان منها لفلاحه ونجاحه، يجب ضبطُها حتى لا تتعدى حدودها اللازمة، لأنها إذا أُُطلِق لها العنان دفعتْ بروح الإنسان وجسده إلى هوة الكفر والطغيان.

علمًا أن كسر حدّة الشيء يعبَّر بالقتل في اللغة العربية، يقال: قتَل الشرابَ: مزَجه بالماء، وقتَل الجوعَ والبردَ ونحو ذلك: كسَر شدّتَه. وقتَل غليلَه: سقاه فزالَ غليلُه بالريِّ (الأقرب). إذًا فلفظ القتل لا يُستعمل بمعنى القضاء على حياة الحيوان فحسب، بل يعني أيضًا كسرَ شدة العواطف والأحاسيس. فالمراد من التأويل الذي ذكره هذا العبد الصالح أن والدَي الحركةِ والقوة والجهالة – أي الجسدَ والروحَ – مؤمنان.. بمعنى أنهما قد أُودِعَا خاصيةَ الإيمانِ بأوامر الله تعالى، ومُنحا الكفاءة العالية للقيام بأحسن الأعمال وأفضلها؛ ولاستخدام هذه الكفاءات زوّدهما بخواص ثلاث: الحركة والقوة والجهالة.. بمعنى (أولاً) أن في روح الإنسان ودماغه نـزوعًا شديدًا للتحرك إلى الأمام أي للتقدم، و(ثانيًا) أن فيهما كفاءة عالية للقيام بأعظم الأعمال، و(ثالثًا) أنهما مزوَّدان بقوة الصمود أمام أشد الخطوب والأخطار. وباستخدام هذه القوى أو الخواص الثلاث المتولدة من تفاعل البدن والروح يمكن للإنسان أن يحقق الغاية من حياته. ولكنه إذا لم يكبح جماح هذه القوى وأطلق لها العِنان دفعت بروحه وجسده إلى هوة العصيان والكفر والطغيان فيهلك. فلم يشأ الله تعالى أن يترك الروح والجسد – هذين الشيئين النافعين جدًّا – ليقعا في الكفر والطغيان. فقتَل حدة هذه القوى الثلاث بواسطة الجلوة المحمدية، أي كبَح جماح هذه القوى بواسطة الشريعة التي أنزلها على محمد وجعَلها على حد الاعتدال حتى لا تعمل إلا في حدود الخير.

ولكن الأمة الموسوية – كما ذكرتُ من قبل – لم تستوعب هذا الأمر، بل انغمست في اللهو والملذات والخلاعة والمجون، ولأجل ذلك نشاهد في أعمالهم سرعةً، وفي قواهم حِدّةً، و في سلوكهم تجاسرًا؛ ومن جانب آخر تزيدهم هذه القوى طغيانًا وكفرًا، وتنحرف بهم عن الخير والتقوى، ولا تميل طبائعهم إلى قبول ما يمليه الدينُ والعقل اللذان يمثِّلان الروحَ والجسدَ.

فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (82)

التفسير:

أي جاء الإسلام بهذه التشريعات والقيود كي يُخضع الإنسان رغباته كليةً لمقتضى الأخلاق الفاضلة بدلاً من أن تعمل رغباته من دون رقابة سليمة، وكأنه أريد بقتل الرغبات المطلَقة أن يُمنحا – أي روحُ الإنسان وجسده – ولدًا صالـحًا يطيع الإنسانَ، ويجعله موردًا لرحمة الله تعالى، بدل أن يتسبب في سقوطه في هوة الكفر والطغيان.

وقولـه تعالى خيرًا منه زكاةً وأقربَ رُحمًا فاعلم أن الزكاة تعني الطهارة والنماء، وأن الرُّحم هو الرِّقّة والتلطف (الأقرب). فالآية تعني أن الولد الجديد سيكون برًّا بهما ومطيعًا لهما وسببًا لرقيهما وطهارتهما. بمعنى أن القوى الإنسانيةَ غير المكبوحة إذا قُتلتْ بحُسام الشرع وكُبِّلتْ حُرّيتُها الهمجية بقيود الأحكام الإلهية، استجابت لأوامر الجسم والروح وساعدت على تطورهما وطهارتهما.

ولكن الأمة الموسوية – كما ذكرتُ من قبل – لم تستوعب هذا الأمر، بل انغمست في اللهو والملذات والخلاعة والمجون، ولأجل ذلك نشاهد في أعمالهم سرعةً، وفي قواهم حِدّةً، و في سلوكهم تجاسرًا؛ ومن جانب آخر تزيدهم هذه القوى طغيانًا وكفرًا، وتنحرف بهم عن الخير والتقوى، ولا تميل طبائعهم إلى قبول ما يمليه الدينُ والعقل اللذان يمثِّلان الروحَ والجسدَ.

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرً (الكهف 38)

 شرح الكلمات:

كنـزٌ: الكنـزُ: المالُ المدفون في الأرض؛ وقيل: اسمٌ للمال إذا أُحْرِزَ في وِعاء؛ الذهبُ؛ الفضّةُ (الأقرب).

تأويل: التأويل: الظنُّ بالمراد؛ بيانُ أحدِ محتمَلاتِ اللفظِ؛ العاقبةُ. وأوّلَ الشيءَ: رجّعه. وأوَّلَ الكلامَ: دبَّره وقدَّره وفسَّره. وأوَّلَ الرؤيا: عبَّرها (الأقرب).

التفسير:

قال هذا العبد الصالح لموسى: بَقِيَ الآن أن أُجيبَ على أمر اختلفنا فيه. أنت لا تفهم لماذا أصلحتُ الجدار الذي كان يريد أن ينقض من دون أن آخذ عليه أجرًا؟ فاعلم أنني أصلحت الجدار لأنه كان يحفظ تحته كنـزًا لغلامَين يتيمَين في المدينة كان أبوهما صالحًا.

لقد ذكرتُ سابقًا أن الجدار معناه هنا الصالحون من أجداد اليهود والنصارى، والمراد منهم في هذا المقام موسى وعيسى وأبوهما سيدنا إبراهيم الذي قال الله تعالى عنه في القرآن المجيد: وإنه في الآخرة لمن الصالحين (النحل: 123). أما الكنـز فهو الكنـز العلمي الروحاني الذي حفِظه تعليمُ موسى وعيسى، ولكن نفوذهما الروحاني الذي كان يحمي ذلك الكنـز بعد موتهما كان قد ضعُف ووهَن جراءَ تغافُلِ اليهود والنصارى عن الدين وابتعادهم عنه. فجاء محمد وأصلحَ ذلك الجدار من جديد، أي حفِظ من خلال شريعته الجديدة تلك الحقائقَ التي كانت تُوجد في شرع موسى وعيسى. ولا سيما تلك الأنباءَ الغيبية التي كانت تخبر عن ظهور الإسلام وبعثة محمد رسول الله قد حُفظت بين دفتي القرآن الكريم كي يمكن لليهود والنصارى – عندما يعودون إلى صوابهم – أن يهتدوا للإيمان بمحمد رسول الله ويصلحوا حالهم بالاطلاع على نبوءات صلحائهم.

قوله تعالى رحمةً من ربك .. أي قد تم هذا بمحض رحمة الله تعالى الذي لم يُرد أن يخذل اليهود والنصارى رغم كثرة طغيانهم، فجمَع في القرآن الكريم كل ما كان يليق بالحفظ من هذه الكنوز العلمية الروحانية كي ينتفع منها اليهود والنصارى عند توجههم إليها.

وأما قوله وما فعلتُه عن أمري فهو إشارة إلى أن الجدار الجديد هو الجدار القرآني، حيث جُمع ذلك الكنـزُ في القرآن الكريم، الذي هو أمرُ الله الخالصُ، ولا دَخْلَ فيه لمحمد ، كما قال الله تعالى وما ينطِق عن الهوى (النجم: 4).

ثم قال العبد الصالح ذلك تأويلُ ما لم تَسطِعْ عليه صبرً .. أي يا موسى هذه هي الحقيقة التي لم تستطع عليها صبرًا.

اعلَمْ أن هذا الجزء الأخير من كشف موسى يشبه الجزءَ الأخير من إسراء نبينا عليهما السلام. كان الجزء الأخير من إسراء النبي أن إبراهيم وموسى وعيسى أهدَوا لـه السلامَ – عليهم الصلاة والسلام جميعًا. وهذا يعني أنه لما انكشفت على هؤلاء الأنبياء حقيقة المساعدة التي قدّمها رسول الله لأولاد إبراهيم وأتباع موسى وعيسى عليهم السلام – والتي أشيرَ إليها في الجزء الأخير من كشف موسى – تقدموا إلى النبي يشكرونه لما شرّف بقدومه بيتَ المقدس. لا جَرَمَ أن موسى لم يستوعب حقيقة هذا الأمر تمامًا أثناء إسرائه وبدأ يعترض عليه، ولكن الله تعالى لما كشف عليه الحقيقة فلم يتقدم موسى وحده للقاء محمد ، بل جاءه أيضًا إبراهيم وعيسى عليهم السلام جميعًا معرِبين لـه عن امتنانهم وشكرهم. أما إبراهيم فلأن النبي سعى لنجاة أولاد ابنيه إسماعيل وإسحاق عليهم السلام أجمعين، حيث هاجرَ بنفسه إلى المدينة لنجاة نسل أحد الابنين، بينما تقدَّمَ قومه إلى بيت المقدس فعلاً لنجاة نسل الابن الآخر.

وأما موسى فلما علِم أن الجدار الذي اعترض على إقامته لم يكن يعني إلا نفسه هو، وأن الكنـز الموجود تحت الجدار لم يكن إلا تعليمه الذي صانه الرسول من الضياع.. جاء لاستقباله كفّارةً عن اعتراضه، آخذًا معه فتاه عيسى الذي لم يكن أقلَّ منه امتنانًا لمحمد . وكأنهما أرادا بذلك أن يقولا للنبي : لقد حملنا خدمتك على محمل غير حسن، ولكن الله قد كشف علينا الحقيقة الآن. فالسلام عليك يا محمد . تعال وبارِكْ لنا بيوتنا، واعملْ على نجاة أممنا.

انظروا كم هو رائع وهام هذا المفهوم الذي يدل عليه علم تعبير الرؤيا، مما جعل رسولَ الله يتمنى: ليت موسى سكت حتى عِلمنا من إسرائه مزيدًا من التفصيل عن أعمالي وأعمال أمتي (البخاري: التفسير، قوله تعالى: وإذ قال موسى لفتاه…). ولكن مَن مِن العقلاء يمكنه أن يتصور أن الرسول إنما تمنى في هذا المقام أن يطول هذا الفيلم السينمائي أكثر لكي يرى مناظر أخرى من خرق السفن وقتل الشبان وإقامة الجدران وغيرها؟ نعوذ بالله من ذلك. والحمد لله الذي وهَب لي من لدنه علمًا. رَبِّ زِدْني علمًا وإسلامًا. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك