في عالم التفسير
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ  (البقرة: 15)

شرح الكلمات:

خلَوا: خلا بالشيء: انفرد به ولم يخلط به غيره. وخلا بفلان وإليه ومعه: سأله أن يجتمع به في خلوة ففعَل. وفي القرآن وإذا خلوا إلى شياطينهم ، وقيل أن إلى ههنا بمعنى “مع”، كما في قوله مَن أنصاري إلى الله . ويقال: خلاك ذمٌّ: أي لا يلحقك (الأقرب).

شياطينهم: الشياطين جمعُ الشيطان، وهو مشتق إما مِن “شطَن” أو “شاطَ”. فإن كان مِن شطن فهو على وزن “فيعال”، يقال: شطَن عنه: أَبْعَدَه، وشطنت الدارُ: بعدتْ. والشطنُ: الحبل الطويل. وشَطَن صاحبَه: خالفَه عن نيّته ووِجْهته (الأقرب).

فالشيطان من هذا الاشتقاق هو النائي عن الحق، والساعي لإبعاد غيره عنه، والذي يفكر دائمًا في الشر كأنه احتكر مخالفة الحق.

أما شاطَ الشيءُ فيعني احترق. واستشاط غضبًا: إذا احتدَّ في غضبه والْتَهَب. وشاطَ فلان: هلكَ. فالشيطان من هذا الاشتقاق صيغة المبالغة على وزن “فعلان”، وهو غير منصرف، أما إذا كان على وزن “فيعال” فهو منصرف.

ومن معاني “الشيطان” الواردة في القواميس: روحٌ شرير، وكلُّ عاتٍ متمرد؛ الحيّة (وتسمى الحيّة شيطانًا لأنها تهلك الناس، ولا تسمّى الحيّةُ شيطانًا إلا إذا كانت صغيرة). والشيطان: الهالك، ومنه في الحديث: “الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة رَكْبٌ” (مسند أحمد، مسند عبد الله بن عمرو، حديث رقم 6709). وقد سُمي الراكب والراكبان بالشيطان لأنهما أكثر عرضة للهلاك على يد السارقين وقطاع الطرق في تلك الأيام، أما إذا كانوا ثلاثة فهناك أمل كبير بأنهم سيعودون بسلام.

وورد في القاموس أيضًا: الشيطان معروف؛ وكلُّ عاتٍ متمردٍ مِن إنسٍ أو جنٍّ أو دابّة (القاموس المحيط).

مستهزئون: استهزأ بمعنى هزَأ. وهزَأ به ومنه: سخِر منه (الأقرب).

وأهزأه البردُ: قتَله (لسان العرب).

فالمستهزئون هم المستخِفّون الساخرون.

التفسير:

لقد ذكَرنا في شرح الكلمات أن الشيطان يعني كل بعيد عن الحق، وكل من يحترق بغضًا وحقدًا، وكل متمرد عاتٍ باغٍ.

والواضح من مضمون هذه الآية أن لفظ الشياطين قد ورد حتمًا في القرآن الكريم بمعنى الناس أيضًا. والمراد من الشياطين في هذه الآية رؤساء الكفار والمنافقين الذين كانوا قد ابتعدوا عن دين الله كبرًا وصلافة، وكرهوا الحضور عند رسول الله ، ولم يدَعوا أتباعَهم ليتوجهوا إلى الصراط المستقيم، كما أخبرنا الله تعالى أن الكفار سيقولون يوم القيامة: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (الأحزاب: 68). هؤلاء هم الذين كانوا يحرّضون المنافقين وكانوا يحترقون كمدًا برؤية ازدهار المسلمين وكانوا بعيدين عن الحق، وكانوا يخاصمون المسلمين وظلوا يقومون بأعمال أدت إلى هلاكهم. فلا يصحّ أن يراد بالشيطان هنا إبليس، كما أنّ كلمة شياطينهم ليست سبًّا لزعماء اليهود والمسيحيين، ذلك لأن النبي قال لأصحابه: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركبٌ»، أي أن الذي يخرج في السفر وحده يعرّض نفسه للهلاك نظراً إلى مصاعب السفر، وكذلك حال الاثنين، أما إذا كانوا ثلاثة فيمكن أن ينجوا من المصائب.

على المعترضين المسيحيين أن يقرأوا في أناجيلهم ما يلي: }فالتفتَ وأبصرَ تلاميذَه، فانتهرَ بطرسَ قائلا: اذهبْ عني يا شيطانُ{ (مرقس 8: 33).

كذلك قال المسيح للفقهاء والفريسيين المعارضين له: }أيها الحيّاتُ أولادُ الأفاعي، كيف تهربون مِن دينونةِ جهنم{ (متى 23: 33).

وورد أيضا: }فلما رأى كثيرين من الفَريسيين والصَّدوقِيّين يأتون إلى معموديته قال لهم: يا أولاد الأفاعي، مَن أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟{ (متى 3: 7)

إنه لمما يثير العجب العجاب أن الكتَّاب المسيحيين يعترضون -رغم ورود هذه العبارات في أناجيلهم- على ورود كلمة شياطينهم في القرآن الكريم التي ليست شتيمة، بل هي إظهار للواقع بحسب الأسلوب العربي.

وهذا المعنى الذي بينتُه لكلمة الشيطان واستعمالها ثابت عن الصحابة وكبار العلماء أيضًا، فقد نقل ابن جرير عن ابن عباس : “إذا خلوا إلى شياطينهم من اليهود الذين يأمرونهم بالتكذيب.”

ونقل ابن جرير أيضًا عن قتادة أن المراد بقوله إذا خَلَوا إلى شياطينِهم إخوانهم من المشركين.

ونقل ابن جرير عن مجاهد قوله: “هم أصحابهم من المنافقين والمشركين.”

ونقل عن عبد الله بن مسعود: “أنهم رؤوسهم في الكفر” (تفسير بن جرير).

أما قوله تعالى: إنما نحن مستهزئون فالمستهزئون اسم الفاعل الذي يدل على دوام الاستهزاء، فكأن المنافقين كانوا يريدون أن يقولوا لشياطينهم إننا لا نلقى المسلمين إلا للاستهزاء بهم.

  اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) البقرة: 16)

  شرح الكلمات:

يمدُّهم: مَدَّهُ في غيِّه: أمهله وطوَّل له. (الأقرب)

ويقال مَدَّه في الغيّ والضلال: أملى له وتَرَكَه. (تاج العروس)

طغيان: طغى يطغى وطغى يطغي طغيانا: جاوز القدرَ والحدَّ. وطغى الكافر: غلا في الكفر. وطغى فلان: أسرف في المعاصي والظلم. وطغى الماء: ارتفع. (الأقرب)، أي صار فيضانًا وسيلاً.

يعمَهون: عَمَهَ الرجل: تردّدَ في الضلال وتحيَّرَ في منازعة أو طريق. وقيل العَمَهُ أن لا يعرف الحجّةَ. فهو عامِهٌ، والجمع عُمَّهٌ. والعَمِهُ مبالغةٌ، وجمعُه عمِهون.

ولفظ الأعمى الوارد في القرآن الكريم يعني أيضًا مَن لا يبصر، ولكن الزمخشري قال: “العَمَهُ كالعَمَى، غير أن العمى عام في البصر والبصيرة، والعمه خاص بالبصيرة، فلا يقال أعمَهُ العينِ.” (الأقرب)

فمعنى يعمَهون أنهم يتخبطون في تصرفاتهم الظالمة، ولا تعمل عقولهم ولن تعمل.

التفسير:

لقد زعم بعض المعترضين أن قوله تعالى الله يستهزئ بهم يعني أن إله المسلمين يستهزئ بالناس -والعياذ بالله. وهذا زعم باطل، وإنما عبّر عن عقاب الجريمة بذكرها هي. وهو أسلوب عربي شائع، وقد كثُر في القرآن الكريم، والمراد أن الله تعالى سوف يُعاقبهم على استهزائهم. (راجع للمزيد تفسير قول الله تعالى: ومما رزقناهم ينفقون، وقوله تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا… إلخ).

إن تعاليم القرآن الكريم واضحة بهذا الصدد، وتُبيّنُ أن الله تعالى أسمى من الاستهزاء والسخرية، حيث قال الله تعالى في هذه السورة نفسها إن موسى لما أمر قومه بذبح بقرة معينة ليمنعهم من الشرك قالوا له أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (البقرة:68)، أي أن الاستهزاء دأبُ الجاهلين، وأما أنا فأسأل الله تعالى ألا أكون من الجاهلين، فكيف يمكن أن أستهزئ بكم. فالله الذي بعونه يتجنب عبادُه الاستهزاءَ، كيف يمكن أن يُعزَى إليه الاستهزاءُ بحسب تعليم القرآن الكريم؟

كما أن الاستهزاء يعني الكذب، إذ يعني الاستهزاء قول المرء شيئًا وهو يكنُّ في قلبه خلافهُ إهانةً للخصم، بينما يقول الله تعالى في القرآن الكريم: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (النساء: 123).

ثم إن الـمُستهزئ يتكلم بلغو الكلام، بينما يقول القرآن الكريم إن اللهَ تعالى حكيم، أي أن كل كلام الله مليءٌ بالحكمة.

وعليه فليس المراد من قوله والله يستهزئ بهم إلا أنه يعاقب المنافقين على استهزائهم.

وفضلاً عن ذلك فإن صفةً أو كلمةً ما إذا أُسندتْ إلى الله تعالى، فلا يراد بها ما يراد عند إسنادها إلى الإنسان. فمثلًا إذا قلنا إن الله يتكلم، فلا يراد بذلك أبدًا أن الله تعالى يتكلم كالإنسان بلسان وشفتين، وإنما المراد بذلك نتيجة الكلام، أي ظهور ألفاظ مسموعة للإنسان بقدرة الله تعالى. وقد قال الله تعالى عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى: 12).

وعليه فيكون معنى قوله الله يستهزئ بهم أنه تعالى يأتي بنتيجة الاستهزاء في حقهم، أي يخزيهم بين أيدي الناس، ويجعلهم أضحوكة.

وجدير بالانتباه أن المنافقين قالوا للمؤمنين: إنما نحن مصلحون ، بينما قالوا للكفار: إنما نحن مستهزئون ، وهذه شهادة فطرة المنافقين عن حال المؤمنين وحال الكافرين، فكانوا يدركون أن المؤمنين لن يقبلوا منهم عذرًا بأنهم كانوا يستهزئون بالكفار، وإنما يستاءون من هذا القول، أما الكفار فكان المنافقون يعلمون أن قلوبهم خالية من تقوى الله فلن يستاءوا من قولهم: إنما نحن مستهزئون ، بل إنهم بسبب عداوتهم للمؤمنين سيفرحون بهذا الجواب الساخر، ويبتهجون بأن أشياعهم هؤلاء قد سفَّهوا المسلمين جيدًا. فقول المنافقين هذا يصلُح أن يكون شهادةً تلقائية مؤثرة على ما تحلى به المسلمون من مكارم الأخلاق، وعلى خلوّ الكفار من التقوى.

و يمدّهم في قوله تعالى: ويمدّهم في طغيانهم يعني يُمهِلهم (تاج العروس، والقاموس المحيط). وهذا هو المعنى الذي ذكره صاحب “روح المعاني” والزجَّاج وابن كيسان، وهو المروي عن عبد الله بن عباس أيضا. وقول الله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (الأنعام: 111) أيضا يؤيد معنى الإمهال. وعليه فالمراد أن الله تعالى يمهِلهم رغم شرورهم لكي يرتدعوا ويتوبوا، ولكنهم يزدادون طغيانًا.

وليس المراد من هذه الجملة أن الله تعالى يزيد الكافرين طغيانًا. وقد ذكر الله تعالى هذا الأمر في سورة فاطر مبينًا أنهم لا يُعطَون هذه المهلة ليزدادوا ضلالا، إنما ليتوب من أراد منهم أن يتوب في فترة هذا الإمهال، حيث قال الله عز وجل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ (فاطر: 38)، أي أولم نعطكم عُمرًا يتّعظ فيه من أراد التذكر، وقد جاءكم المنذرون ولكنكم لم تغتنموا هذه المهلة ولم تنتفعوا من النُذر. فهذه الآية قد أكدت أن المهلة التي ينالها الكفار ليست لإضلالهم بل لهدايتهم.

وأما قوله تعالى يعمَهون ، فاعلم أن العَمَه هو عدمُ وجود أمارات وأعلام في الطريق (الأقرب)، وله ثلاثة معانٍ 1-أن يصبح الإنسان حيرانا، 2- أن لا يبصر، 3-أن يمشي مطرق الرأس لا يرى شيئًا. فالمراد من يعمهون أن المنافقين غارقون في شرورهم ويتمادون فيها بدون بصيرة وعقل.

Share via
تابعونا على الفايس بوك