الجهاد في الإسلام وموقف الأحمدية

(القسط الأول)

كان الدكتاتور الباكستاني الراحل ضياء الحق قد أصدر في 26/4/1984 حكمًا عسكريًا غاشمًا يحرم المسلمين الأحمديين في باكستان حقهم في إعلان دينهم الإسلام الذي يدينون به من الأعماق، أو النطق بالشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، أو إلقاء تحية الإسلام، أو الصلاة على النبي ، أو رفع الأذان للصلاة، أو قراءة القرآن الكريم، أو كتابة أو حيازة آياته، أو تسمية أنفسهم مسلمين، إشارة أو صراحة، شفويًا أو كتابيًا، أو تسمية مساجدهم مساجد!!

وبعدها نشرت حكومته كتيبًا باسم “القاديانية.. خطر شديد على الإسلام” لتبرير ما قام به هذا الدكتاتور من إجراءات جائرة منافية لتعاليم الإسلام السمحاء وسنة نبي الرحمة ، وسمته “البيان الأبيض”. وكان الأجدر أن يطلق عليه “البيان الأسود”، لما فيه من أعذار سخيفة لتبرير هذا القرار الفرعوني الغاشم، تسود وتشوه وجه الإسلام الأغر.

ولقد قام إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية سيدنا مرزا طاهر أحمد أيده الله بنصره العزيز، بالرد على هذا “البيان الأسود”، محللاً ومفندًا بعون الله كل أعذارهم السخيفة عذرًا عذرًا، في سلسلة طويلة من خطب الجمعة (ثماني عشرة خطبة)، في أوائل سنة 1985. وبدأت “التقوى” نشر هذه الخطب القيمة والهامة جدًا في عدد يناير 1990، ولقد تم نشر خطبتين أوليين حتى عدد مارس 1990. ولكن انقطع نشرها بعد ذلك للأسف الشديد لأسباب قاهرة. وقد شاء القدر أن تعيد “التقوى” نشرها من جديد من عدد يناير 1991، وقد استجدت على الساحة العالمية وخاصة العربية أحداث جسام، ليعرف الجميع من الذي يوالي الاستعمار، والاستعمار يواليه ويعمل له، حفاظًا على مصالحه، ونهبًا لثروات المسلمين، ونيلاً من الإسلام وأهله. والحمد لله الذي هتك أسرار هؤلاء القابضين على ثروات المسلمين وأعرى هؤلاء المتاجرين بالدين والمحاربين بعباءة الإسلام وبأموال البترول جماعتنا الشريفة المسالمة التي راهنت نفسها ونفيسها لرفع راية الإسلام في كل العالم. فكان هؤلاء يغدقون الملايين من أموال البترول على مشائخ “رابطة العالم الإسلامي” وبعض مشائخ الهند وباكستان، لينشروا دعايتهم المسمومة المشوهة ضدنا في العالم، وليقولوا له بأن هؤلاء عملاء الإنجليز والاستعمار. وكنا نستنكر ونفند بكل شدة دعايتهم المغرضة، ولكن بسبب وسائلنا المحدودة كانت أموال البترول تحول دون صوتنا ودون العرب الشرفاء الذين كانت آذانهم لا تسمع إلا من طرف واحد. ولما تجاوزوا كل الحدود وبلغ السيل الزبى، وجه إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية في 1988 دعوة للمباهلة إلى هؤلاء المتاجرين بالدين “خادمي الاستعمارين الأمريكي والأوروبي” وإلى غيرهم من أعداء الحق، وسأل المولى أن يميز بين الصادقين والكاذبين. فقبل تضرعاته وابتهالاته، وها قد هتك أسرارهم وعلماءهم المستأجرين. فالحمد لله أولاً وآخرًا. وهذه الخطبة ألقيت بيوم 15 فبراير 1985 بمسجد “الفضل” لندن. (المحرر)

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 40-41)

من بين ما اتهمت به الحكومة الباكستانية في نشرتها “البيان الأبيض” سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، أنه والعياذ بالله غراس الإنجليز وأن جماعته ليست في الحقيقة إلا من صنع الإنجليز.

لقد سبق أن تحدثت في خطبتي الماضية عن بعض نواحي هذه التهمة المنكرة، وأود اليوم أيضًا الحديث عن نواحيها الأخرى.

إنهم ربطوا بين هذه التهمة وتهمة أخرى بأنه نسخ الجهاد وقالوا: بما أن الإنجليز هم الذين أقاموا لحماية مصالحهم بالهند، وكان لا بد لتحقيق هذا الغرض من نسخ نظرية الجهاد عند المسلمين، وما دام قد أقر حضرته بنفسه مرارًا بأنه ينسخ الجهاد، وذلك حسب ما ورد في نشرتهم، فثبت أنه كان عميل الإنجليز ومن صنعهم ليحمي مصالحهم.

التهمة المزيفة المنكرة

إن “حجتهم” هذه تحتاج لدراسة عميقة من عدة نواح، فأولاً: إذا كان حضرته قد نسخ الجهاد في زعمهم حماية لمصالح الإنجليز فما هي تلك المصالح يا ترى، وكيف تحققت بواسطته ، وثانيًا ما هي الظروف التي أعلن فيها حضرته عن نسخ الجهاد، كما يزعمون، وما هي الأخطار التي في الواقع كانت محدقة بالإنجليز من قبل المسلمين، ثم ما هي الخلفية السياسية لهذا الإعلان. فهناك أمور كثيرة في ذهني سوف ألقي عليها الضوء الكافي في خطبتي، إن شاء الله.

فأقول: إذا كان الإنجليز يريدون نسخ نظرية الجهاد بفتوى من سيدنا الإمام المهدي ، ليمتنع المسلمون عن القيام به ضدهم فكان من المستحيل أن يأمروا حضرته بنسخه، ثم يسألوه مع ذلك ليدعي دعاوي تؤجج عليه سخط وعداوة الأمة الإسلامية كلها. لقد كان حضرته قبل دعواه محط أنظار مسلمي الهند حتى أن العلماء كانوا لا يملون من الثناء عليه لدرجة قال أحدهم: إنه لم يولد بعد المصطفى إلى يومنا هذا بطل إسلامي بدرجته، ولكن بعد هذه الدعاوي تغير الوضع تمامًا حتى تحول الأصدقاء إلى أعداء وصار الأقارب متعطشين لدمائه. فبسبب دعوى واحدة تغير الوضع في ليلة وضحاها حتى لم يعد له صديق واحد في العالم كله.

فهل يعقل أن يأمر الإنجليز بإعلان يجلب عليه سخط الأقارب قبل الأجانب، ومع ذلك يتوقعوا من الناس أن يصدقوه ويؤمنوا بفتواه القائلة بنسخ الجهاد؟! إن فكرة رديئة كهذه يمكن أن تقبلها عقول هؤلاء المتسابقين في عداء الأحمدية، أما غيرهم من الناس فلن يقبلها كل ذي عقل سليم منهم، أعني أن يأمر الإنجليز بإعلان أن إلههم (عيسى ابن مريم ) ميت، وأنه جاء كنبي تابع لسيدنا المصطفى ، مما أسخط جميع المسلمين وجعلهم أعداء له ألداء، كما يعلن أن بابا جورو نانك كان وليًا مسلمًا، فهيج بذلك ملّة السيخ القاطنين حوله في ولاية بنجاب، كما يأمره باصطدام الفرق الهندوسية “الآرية” و”سناتن دهرم” فيجعلهم أيضًا أعداء، كما يعلن للبوذيين أنه مبعوث إليهم أيضًا، فيثير غضبهم عليه، ويعلن عن الزردشتيين بما لا يرضون، وباختصار يتحدى جميع الملل والنحل ويقول لهم ما يثقل على أسماعهم ويؤذي قلوبهم!!

لم ير أحد من الدنيا مدعيًا مثله يدعوهم إلى ما تمقته آذانهم وتنفر منه طبائعهم، ومع ذلك ينتظر منهم أن يتبعوه ويصدقوه نابذين أفكارهم المتوارثة. الحق أننا لا نجد مثيلاً لمدع هذا شأنه إلا في أنبياء الله الكرام. اقرأوا القرآن وتصفحوا تاريخ الملل المذكور فيه فلن تجدوا مثل هذا الحادث إلا في تاريخ الأنبياء.. أن يقوم رجل منهم يدعوهم لاتّباعه فيما يرفضونه بتاتًا. الواقع أن أشد الأقوال مرارة، وفي أي عصر، هو دعوى رجل: إني مرسل من الله، مما يحول الأصدقاء أعداء والأقارب عطاشى للدماء.

فالغريب أن الإنجليز يأمرون حضرته بادعاء أمر غير جائز مطلقًا، بحسب زعم أعداء الأحمدية، ومع ذلك يتوقعون أن هذا المدعي بمجرد أن يفتي بنسخ الجهاد سوف ينفض المسلمون على الفور فكرة الجهاد من رؤوسهم. وبالتالي يتخلص الإنجليز من الأخطار المحدقة بهم من قبل أهل الإسلام، وسوف تحل كل القضايا وتنتهي المشاكل جميعًا. ما أسخفها من فكرة لا يقبلها أي عاقل إلا هؤلاء الحمقى.

الموقف السياسي بالهند عند استيلاء الإنجليز عليها

الآن نرى الظروف السياسية وقت استيلاء الإنجليز على الحكم بالهند، كما نرى الأحوال التي كان المسلمون يعيشونها حينذاك، وأيضًا ننظر إلى القوى المسلمة التي كان الإنجليز يخافونها. يقول المولوي مسعود عالم الندوي:

“كانت ولاية بنجاب حينذاك تحت الحكم السيخي الغاشم. كان السيخ ينتهكون أعراض المسلمات بلا رحمة ويبيحون دماء المسلمين. حرموا عليهم ذبح البقر، وحولوا مساجدهم إلى حظائر للخيل. فكان هناك سيل عارم من المظالم يجرف بالسكان المسلمين من منطقة الأنهر الخمسة (بنجاب). أما المسلمون الآخرون فكانوا ينظرون إلى هذه المظالم بدون أن تكون لهم قدرة على صدها”. (الحركة الأولى بالهند، ص 45)

كانت كل الهند من شمالها إلى جنوبها مكتظة بالسكان المسلمين، ولكن كانت قواهم عاطلة لدرجة لم يكونوا قادرين على تحريك ساكن تجاه هذه المظالم المنصبة على إخوتهم، وما كانت بهم قوة لأن يرفعوا الصوت ضدها ويعلنوا للظالمين بأن دماء إخواننا حرام عليكم. فلم يعلنوا أي جهاد ضد أولئك الغاشمين الذين أحلوا دماء إخوانهم وحرموا دماء البقر. ولقد استباحوا أعراض المسلمات ولكن المسلمين لم ترتفع منهم يد لحماية أعراض هؤلاء الأمهات والأخوات والبنات من أهل الإسلام.

فمن ذا الذي نجاهم من براثن هذه المظالم؟ ألم تكن الحكومة الإنجليزية هي التي نجتهم. من ينكر أنه عند قدوم الإنجليز أمن المسلمون من الاضطهاد السيخي. أيتوقع من مسلمين كهؤلاء أن يشكلوا خطرًا على الإنجليز الذين انتزعت شركة من شركاتهم الحكم من أيديهم واستولوا على عاصمتهم دلهي وأقاموا بها احتفالات النصر؟ أو كان الإنجليز يخافون من أولئك المسلمين الذين استرد الهندوس ولاياتهم من قبضتهم واستقلوا بالحكم فيها؟ أو من أولئك المسلمين الذين كان الهندوس يصولون عليهم كالذئاب المفترسة من كل صوب بدون أن يتعرضوا لأدنى مقاومة؟؟ أقول: هل كان الإنجليز يخافون هؤلاء المسلمين بأنهم سوف يجتثون جذورهم ويقضون عليهم؟؟!

ثم فكروا أي منطق وعقل في جهاد كهذا! يأتي الإنجليز وينقذون أهل الإسلام من مظالم السيخ، كما ينجونهم من استبداد الهندوس والبراهمة، فيقوم المسلمون فجأة في وجه الإنجليز قائلين: طيب، أنتم الذين أنقذتمونا من هؤلاء الظالمين، سوف نكافئكم ونلقنكم درسًا كيف تنقذون المظلومين؟؟

أليس هذا هو تصور جهادهم؟ راجعوا عقولكم فكروا في موقفكم ودعواكم. بأي وجه تقابلون العالم. هل تقولون: كنا نريد الجهاد ضد الإنجليز الذين أنقذونا من مظالم السيخ، ولكنهم (أي الإنجليز) أعلنوا عن طريق عميل لهم بنسخ الجهاد فلم نحاربهم!! من ذا الذي يقبل هذا الهذيان؟؟

تصحيح الصورة المشوهة للجهاد الإسلامي

والناحية الثالثة من الموضوع هي: أي الجهاد اعتبره سيدنا المهدي والمسيح الموعود حرامًا؟ إن الجهاد أنواع: جهاد بالسيف وجهاد بالنفس وجهاد بتضحية الوقت لخدمة الدين ونشر الإسلام وغيرها من أنواع الجهاد. وموضوع الجهاد واسع ويجب أن يتفحص: أيُّ الجهاد حرمه حضرته . هل حرم النظرية الإسلامية الأصلية للجهاد، أم أنه حرم النظرية المشوهة للجهاد لدى الناس. يجب أن يسمعوا هذا من لسان القائل ويفكروا في قوله ويروا ماذا يحلل وماذا يحرم. إنني أود أن أقرأ عليكم قولاً من أقواله في هذا الشأن، ولكن قبل قراءته أبين لكم الخلفية.

إن القساوسة في زمنه ، وبالخصوص أولئك الذين تنصروا من المسلمين، كانوا يتهجمون على الإسلام بضراوة شديدة. كانوا من ناحية ينشرون بين الناس أن الإسلام يأمر بالجهاد بالسيف، ومن ناحية أخرى كانوا يثيرون الحكومة الإنجليزية ضد المسلمين ويحرضونها على تدمير قوتهم حتى لا يقدروا على النهوض من جديد، مشيرين إلى عقيدة الجهاد عندهم، حسدًا من عند أنفسهم بالإسلام. وبالرغم من أن المسلمين ما كانت بهم قوة ليثوروا على الإنجليز بذكر الجهاد بعد هزيمتهم أمامهم، وإنما كانوا يتوسلون إليهم بسبب ضعفهم البالغ بألا يسيئوا بهم الظن، ومع ذلك كان القساوسة ينالون منهم من طرف واحد لإضعاف قوتهم وتدميرهم. كما كانوا يقومون بتقوية أيدي الهندوس. وإن الهندوس أيضًا كانوا يهمسون في آذان الحكومة أن الخطر الحقيقي المهدد لحكمهم هو من قبل المسلمين، فدمِّروا ما تبقى من قوتهم واقضوا عليها نهائيًا حتى لا يفكروا في النهوض مرة أخرى.

وردًا على مثل هذه التهم التي أثارها القسيس عماد الدين الإمام الخطيب بمسجد آغرا سابقًا، ضد أهل الإسلام يقول سيدنا المهدي والمسيح الموعود :

“وأما ما ذكر هذا الواشي قصةَ جهاد الإسلام، وتظنّى أن القرآن يحثّ على الجهاد مطلقا من غير شرط من الشرائط، فأيُّ زور وافتراء أكبرُ من ذلك إن كان أحد من المتدبرين؟ فليعلم أن القرآن لا يأمر بحرب أحد إلا بالذين يمنعون عباد الله أن يؤمنوا به ويدخلوا في دينه ويطيعوه في جميع أحكامه ويعبدوه كما أُمروا. والذين يقاتلون بغير الحق ويُخرجون المؤمنين من ديارهم وأوطانهم ويُدخلون الخَلق في دينهم جبرًا وقهرًا، ويريدون أن يطفئوا نور الإسلام ويصدّون الناس من أن يُسلِموا، أولئك الذين غضب الله عليهم ووجب على المؤمنين أن يحاربوهم إن لم ينتهوا.”. (نور الحق، الجزء الأول ص 45، الخزائن الروحانية ج 8).
Share via
تابعونا على الفايس بوك