خطاب أستراليا

“ترجمة الخطاب الذي ألقاه حضرة ميرزا طاهر أحمد الخليفة الرابع للمسيح الموعود في الاحتفال الجليل بإرساء حجر الأساس لأول مسجد أحمدي في سيدني بأستراليا.

“ترجم الخطاب إلى اللغة العربية السيد مصطفى ثابت”

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران: 97-98)

لقد اجتمعنا هنا اليوم لإرساء حجر الأساس لأول مسجد تبنيه الجماعة الإسلامية في القارة الأسترالية، ولهذا فإن هذا اليوم يعتبر شاهدا جديدا في تاريخ الجماعة الأحمدية. إن قلوبنا لتفيض بالحمد والثناء لله ، ويغشاها الفرح والابتهاج فتغنى تسبيحا بفضله وإحسانه.

ومما لا شك فيه أن هذا اليوم يعتبر أيضا شاهدا جديدا في تاريخ استراليا. إن الجماعة التي ما قامت إلا من أجل تمجيد الإله الواحد الذي لا إله غيره، قد سنحت لها الفرصة أن تبني للمرة الأولى في هذه القارة العظيمة بيتا لعبادة ذلك الإله الواحد الذي لا إله غيره. إن هذه هو الحجر الأول الذي يبنى في أساس البيت الذي يقام خصيصا لعبادته سبحانه، ولكن هذا الحجر لن يكون الأخير، ولن يكون هذا البيت هو آخر بيت يبنى لهذا الغرض، فهذه البداية المتواضعة ما هي إلا مقدمة لسلسلة لا تنتهي لإقامة مثل هذه المساجد.

إن هذا الأساس الذي أرسيه اليوم ليبدو من حيث الظاهر بناء متواضعا ولكن سوف يشيد على هذا الأساس بناء يتعلق بعنان السماء رغم أنه يتصل بالأرض. إن النداء الذي يعلن وحدانية الله ويؤكد نبوة محمد سوف ينطلق عاليا من مآذنه خمس مرات كل يوم. هذه المآذن سوف تنبه الناس جميعا رجالا ونساء خمس مرات في كل يوم من أيام هذا العصر المادي أن السمو والارتقاء الحق لا يتحقق عن طريق التقدم المادي وإنما عن طريق التفاضل الروحي.

إننا وقد اجتمعنا اليوم هنا للبناء فعلينا ألا ننسى الفناء. إن الفناء يبدأ حيث ينتهي البناء. لا يمكن لأي شيء ولا أي إنسان أن يقاوم يد الزمن التي لا تعرف الهوادة، كذلك لا يمكن لأحد أن يفلت من زمام غايته.

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (الرحمن: 27-28)

ولكن الأشد هولاً من الفناء المادي هو ما يقتل ويفني حياة وروح الإنسان في أي عصر، إن الأدلة الوحيدة بين أيدينا على وجود الحضارات الكبرى هي آثارها المادية وحطام بقاياها، أما أفكارها وفلسفاتها فقد اندثرت بلا أثر. خذ مثلا أهرامات الفراعنة. بعضها دفن تحت التراب، وبعضها تحول إلى أنقاض، والقليل منها ما زال قائما. ولكن هل يمكن أن يقال نفس الشيء عن أفكارهم وفلسفاتهم؟ هل يوجد اليوم حتى مجرد فرد واحد يتبع المبادئ الفرعونية؟ كلا. إن فناء تلك المبادئ كان قاطعا وكاملا، لم تنج منه ولا قيد أنملة.

وعلى النقيض التام لهذه الآثار المصرية الشامخة، نجد قصة إقامة بناء بسيط من بعض الأحجار الخشنة. إنني أشير إلى ذلك البيت القديم الذي بني منذ أكثر من ستة آلاف من السنين من أجل عبادة الإله الواحد الذي لا إله غيره. يقول القرآن المجيد عن هذه الواقعة الفريدة:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا

إن ذلك البيت قد بدأ بداية تختلف كثيرا عن الآثار العظمى في العالم. لم يضع تصميمه أي مهندس، ولم يشرف الخبراء على إنشائه، ولم تسخر جماعات العبيد في العمل لبنائه. إن بداية ذلك البيت الأول لله كانت فعلا متواضعة حتى إن تلك الواقعة لا يوجد لها أثر في أي من تواريخ العالم المدونة ولا يذكرها سوى القرآن المجيد فقط. ولقد أنشب الفناء مخالبه أيضا في ذلك البيت وتداعى هو الآخر، ولكن المشيئة الإلهية تدخلت وقضت بتعيين نبي عظيم هو ابراهيم ليعيد بناءه على قواعده الأصلية.

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (البقرة: 128)

وهكذا قضى الله ألا يبقى البيت الأول الذي أقيم لعبادته حطاما. لقد جاء الوقت لكي يعاد بناؤه على نفس قواعده القديمة. لم يكن لدى البنائين والعمال الذين اختارهم الله لهذا العمل أدنى صلة بفن العمارة والبناء. إذ لم يكن البنّاء سوى نبي الله ، ولم يكن العامل سوى ابنه الصبي إسماعيل الذي لو طبقنا عليه مقاييس عصرنا اليوم لما كان يصلح لصغر سنه أن يشتغل عاملا في البناء. ومع ذلك فقد كان المشروع الذي اشترك الاثنان في تنفيذه هو إعادة بناء البيت الذي قُدِّر له أن يكون أرفع وأعظم بناء في العالم أجمع، حتى أن ساكنيه قد قدر لهم أن يتشرفوا بحديث الله.

إن ذلك البيت يتضمن دعوة عالمية للجميع. إنه يعلن للملأ: يا طالبي المقامات السامية ويا متسلقي القمم الروحانية! إذا اردتم أن تصلوا إلى تلك الدرجات العلى وتتشرفوا بالحديث مع ملك السماوات والأرض فوجهوا خطواتكم الحثيثة نحو هذا البيت، فهنا سوف تجدون المصعد الرباني الذي يقودكم إلى مولاكم.

إننا حين نتدبر تلك الواقعة من هذه الزاوية تتضح لنا الحكمة البالغة في اختيار نبي عظيم وابنه لإعادة بناء الكعبة، فعملية البناء الفعلي لبيت الله كانت في واقع الأمر رمزا لعملية روحية عظيمة لم يكن الغرض منها مجرد البناء المادي وإنما كان الغرض الحقيقي هو تشييد صرح روحي عظيم. وعلى ذلك فإن الله بحكمته التي لا يحده حد قد قضى بأن يستخدم إبراهيم وابنه لهذا الغرض، وهو اختيار يتناسب تماما مع الغرض الذي من أجله شيد ذلك البناء. حقا، ما كان من الممكن اختيار بنائين أفضل ممن وقع عليهم الاختيار فعلا لبناء بيت الله.

إن ذلك البيت المتواضع الذي أعاد بناءه رجلان فقط هما إبراهيم وابنه إسماعيل، يقف اليوم شامخا في شرف عظيم بينما الأهرامات الجبارة تقف خربة مهجورة. إن ذلك البيت بنفسه هو اليوم المركز العزيز لدى مئات الملايين الذين يعبدون الله الواحد.

ما الذي يمكن أن نتعلمه من هذين البنائين المختلفين؟ ما الذي أضفى الحياة على البيت المتواضع بينما عم الخراب الآثار الجبارة؟ لماذا ظلت إحدى الفلسفات باقية تموج بالحياة بينما انمحى كل أثر للأخرى؟ كيف أمكن لواحدة أن تتغلب على عوامل الفناء بينما دفنت الأخرى في غياهب النسيان؟

وحيث إننا نتكلم في موضوع البنايات المختلفة فإني أود أن أذكر مثالا لبناء آخر. إن امبراطورا عظيما قد أمر ببناء ذلك البناء الآخر ليتحدى به الله ويحاول أن يتغلب عليه وعلى أولئك الذين آمنوا به. يقول القرآن عن ذلك البناء:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (القصص: 39).

إن هذا الآية من القرآن الكريم لا تتعلق فحسب بالواقعة التي حدثت منذ ثلاثة آلاف وثلاث مائة من السنين، ولكنها تصور موقف الإنسان المادي الذي يتصور بعجرفته أنه لم يعد يخضع لحدود إنسانيته، بل يظن أن علمه قد صار يشمل كل ما يرى بالعين وكل ما هو وراء ذلك. إن مثل هذه العجرفة قد تجلت أيضا في زمننا هذا عن طريق أحد رواد الفضاء لدولة عظمى أسكره زهو رحلة عادية في الفضاء، فانطلق يتباهى بأنه جاب الفضاء ولكنه لم يجد أي أثر لله. إن صواريخ اليوم لتشبه من هذه الزاوية بنايات الأمس الضخمة، وتؤدي بالإنسان إلى السقوط في وهدة الشعور الزائف بالعظمة. ولكن هذا الزهو والكبر اليوم ما هو إلا أمرا لحظيا وزائفا كما كان في أيام الذين خلوا من قبل. إن القرآن المجيد حين يشير إلى تلك البنايات العظيمة إنما يريد في حقيقة الأمر أن يكشف عن العقلية المادية التي كانت تعارض الدين دائما، وتصر على قياس الدين بالمقاييس المادية. ولكن تاريخ الأديان يعلمنا أيضا الحقيقة الأزلية، إن الفشل والهزيمة كانتا دائما هما مصيرا للقوى المادية.

إن أي فلسفة مادية لا يمكن أن تفسر انتصار موسى الضعيف الأعزل على فرعون مصر الأعظم الذي لم يكن يعرف إلها سوى نفسه. كيف أمكن لهذا الرجل موسى الذي ولد من أبوين متواضعين أن يتوقع هزيمة فرعون الجبار؟ إن ذلك البرج الذي بناء فرعون (منفتاح) بغرض الاطلاع على إله موسى لم يعد لأي ذرة منه وجود اليوم، ومن الغريب أن بناءات شيدت من خمسة عشر قرنا قبل منفتاح ما زالت قائمة، ولكن ذلك البناء الذي بناه بصلافة ليطلع إلى إله السماوات لم يعد له أي أثر يدل على وجوده وإنما قد اندثر في التراب حتى وكأنه لم يبن قط.

ولكن بغض النظر عن متى وأين بنى ذلك البناء وكم بلغ علوه ومتى تم تدميره، فإن هناك حقيقة لا شك فيها وهي أن ملكا قويا بكل ما أوتي من سلطان وقوى مادية قد هزمة هزيمة مخزية على يد رجل متواضع من رجال الله. لقد انمحت المدنية التي كان يمثلها، وانقرضت ثقافته، وأصيبت عجرفته بضربة قاتلة وانهارت تماما دعواه بالألوهية، حتى أنه لا يوجد اليوم ولا فرد واحد في العالم أجمع يقول أنه من أتباعه دعك عن الاعتراف بألوهيته. وأما عبد الله موسى فهو حي حتى اليوم. لقد كان عبدا متواضعا ولكنه بلغ مكانا عاليا لم يكن ليخطر على بال فرعون. إن الأديان الثلاثة العظمى في العالم اليوم تعترف بالدعوى الموسوية، وتذكر موسى بكل الاحترام والتبجيل، ولن يضمحل شأنه مع مرور الزمن، بل على العكس سوف يزداد دائما علوا ورفعة.

لقد لفت القرآن المجيد أنظارنا إلى النتيجة التي نصل إليها في ضوء هذه الحقائق التاريخية عند مقارنة القيم المادية بالقيم الروحية، وهي أن الأولى قيم زائفة وزائلة وما هي في حقيقة الأمر سوى خيالات خالية من أي روح أو جوهر.

والآن فلنعد مرة أخرى للحديث عن البيت الأول الذي أقيم لعبادة الله. إن ذلك البناء العادي والمتواضع قد عانى أيضا من آثار  الزمن تماما مثل أي بناء آخر يقام لخدمة أي غرض دنيوي، وكذلك فقد أعيد بناء آخر يقام لخدمة أي غرض دنيوي، وكذلك فقد أعيد بناء ذلك البيت من بين الأنقاض. ولكن هناك فرق عظيم وجلي بين نوعية البنائين، إذ لا يوجد من بين الأبنية التي أنشئت لأغراض دنيوية أي بناء يقف اليوم تملؤه الحياة بالنظر إلى الغرض الذي أنشئ من أجله وباعتبار علو شأنه. فالأهرامات اليوم تشابه الجيفة التي لا حياة بها، إذ قد انسلت منها روح العصر. لقد صارت الأهرام بلا حياة مثل المومياء. إنها أشبه بالعش الذي هجره بانيه وطار بعيدا. كذلك فإن مبادئ وأهداف الفراعنة التي تتعلق بالأهرامات قد ماتت هي الأخرى وانمحت. من ذا الذي يود اليوم أن يوصف بأنه من أتباع الفراعنة؟ أين ذلك الذي يرضى اليوم بأن يضحي بحياته في سبيل مبادئهم؟

ولكن انظروا إلى إبراهيم الذي أعاد بناء الكعبة. إن البناء المادي الذي أقامه بيديه الشريفتين ما زال قائما ومحفوظا. لا، بل إنه قد تعاظم سعة وحجما وشأنا. إنه يموج بالحياة أكثر مما كان عليه في الماضي، كذلك فإن المبادئ والأهداف التي دعت إلى بنائه ما زالت قائمة تملؤها الحياة. إن أتباع موسى اليوم هم أيضا أتباع ابراهيم، وأتباع المسيح عيسى بن مريم يقولون كذلك إنهم ينتمون إليه، والأكثر من هؤلاء فإن أتباع الرسول الأكرم محمد يتفاخرون ويتشرفون بأن يعدوا من بين هؤلاء الذين ينتمون إلى ابراهيم . إن أعدادا هائلة من البشر في ازدياد مطرد تتوجه خمس مرات كل يوم إلى الكعبة لإقامة الصلاة. إن ذلك النداء الذي ينطلق من مآذنه والذي كان لا يصل في الماضي إلا إلى القاطنين في جواره يدوي عاليا بصدى يرتفع إلى عنان السماء في أيام الحج ليصل إلى أنحاء المعمورة، وتسمعه القرى والكفور النائية، حتى إنه ليعم العالم أجمع فيصيغ السمع ملايين من عباد الله ومن كل أطراف الأرض يلبون النداء قائلين:

“لبيك اللهم لبيك – لا شريك لك لبيك – إن الحمد والنعمة لك والملك – لا شريك لك”

لذا فليس من المبالغ فيه أن نقول إننا قد اجتمعنا هنا اليوم لإرساء حجر الأساس لبيت يسمو في علو منزلته عن أي بناء شيده إنسان لخدمة غرض دنيوي. إن أعلى بناء أقيم لأجل أي غرض دنيوي لا يمكن أن يصل في الرفعة إلى مستوى أرض بيت الله هذا. إن قمم جبال الهملايا لتقف بالمقارنة إليه كالقزم القصير. إن هذا الكلام ليس مجرد مبالغة جوفاء وإنما يتضمن في حقيقة الأمر مغزى روحيا عميقا. إنه ليس محض افتراض أو وهم خيال ولا هو أسطورة تعبر عن أحلام الهوى، وإنما هو قول ثابت مبني على الحقائق السرمدية والوقائع التاريخية.

لقد ذكرت أمرا عند بداية حديثي قد يبدو غريبا في آذان المواطنين الاستراليين، إذ قد ذكرت أن هذا اليوم ليس هاما فقط في تاريخ الجماعة الأحمدية، وإنما هو أيضا يوم عظيم الشأن في تاريخ أستراليا. إن المستمع العادي قد يسقط هذه الجملة من اعتباره على أنها لا تمثل أي أهمية بالنسبة له، وذلك لأن هذا المسجد بكل تأكيد ليس هو أول مسجد يبنى في أستراليا، وكذلك فإن المواطنين الأستراليين لا يعلقون أي أهمية بإنشاء المساجد كبيرة كانت أم صغيرة، إنهم ما كانوا ليهتموا بمثل هذه الأمور العادية، ولا يبدو أنهم سيهتمون بها في المستقبل القريب. فما هو إذن الشأن الخاص لهذا المسجد؟ ولماذا ينفرد هذا المسجد باعتباره شاهدا هاما في تاريخ أستراليا؟

إن لديكم كل الحق أن تطلبوا إجابة شافية لهذه الأسئلة، ومن واجبي تقديم الجواب. ولكن قبل أن أبدأ بالإجابة سوف أذكر لكم أمرا قد يزيد من دهشتكم. إنكم قد لا تعلمون أن الجماعة الأحمدية التي أخذت على عاتقها إقامة هذا المسجد هي جماعة لا تعترف الفرق الإسلامية الأخرى بانتمائها إلى الإسلام. حتى في الباكستان التي يوجد بها المركز الرئيسي للجماعة، لا يعترف بأنها جماعة إسلامية، وذلك منذ عام 1974. ألا يبدو، بعد كشف هذه الأمور أن بناء هذا المسجد أمر يبدو أقل أهمية وأضأل شأنا؟ وكما أن بناء كوخ صغير بواسطة فقير معدوم نكرة بين القوم هو أمر ليس له أي أهمية في عالم الأفراد، كذلك فإن بناء مسجد بواسطة جماعة لفظتها وقاطعتها الجماعات الدينية الأخرى يبدو في ظاهر الأمر وكأنه منعدم الأهمية في نظر الأمم. نعم إنها الجماعة التي حرمت من حقها  الأساسي في تسمية الدين الذي تؤمن به، ومع هذا فإن غرابة الأمر تبدو جلية عندما نشاهد أن هذه الجماعة التي تبغي التضحية بالنفس والنفيس وتبذل كل شرف وكرامة من أجل نصرة الإسلام وإعادة مجده على النطاق العالمي. إنها هي نفسها الجماعة التي أدانتها ولفظتها الأغلبية العظمى من المسلمين اليوم، ومع ذلك فإن رئيس هذه الجماعة يعتقد أنه من المناسب أن يعلن على الملأ أن إرساء حجر الأساس لبناء هذا المسجد اليوم يعتبر فاتحة عهد جديد في تاريخ القارة الاسترالية. كيف يكون هذا ولماذا؟ لحل هذا اللغز أجد أنه لزام علي أن أذكر لكم مقدمة يسيرة عن الجماعة وأخبركم عن الغرض الذي من أجله قد أنشئت.

إن الجماعة الأحمدية من بين كل الفرق التي تنتمي إلى الإسلام هي الجماعة الوحيدة التي يعلن مؤسسها أن الله بنفسه قد اختاره داعيا ونذيرا في هذا العصر. لقد أعلن أنه هو المسيح والمهدي الذي تنبأ بمجيئه مؤسس الإسلام الأعظم. إن رسول الله قد ذكر في النبوءات أن هذا المهدي سيظهر في آخر الزمان ليقيل المسلمين من عثرتهم المخزية، وأنه سوف يجدد العقائد التي داخلها الفساد ويعيد إحياء الإسلام ببعث جديد ومجد عظيم. كذلك فإنه سوف يبدأ بالوسائل السلمية جهادا روحيا على نطاق عالمي، أي أنه سيبدأ حركة عالمية من أجل تحقيق انتصار الإسلام الحاسم وإظهاره على الأديان كلها. لقد أعلن مؤسس الجماعة الأحمدية ميرزا غلام أحمد القادياني أن هذه النبوءة رمزية، وأوضح أن لفظتي المهدي والمسيح هما اسمان لشخص واحد، وأنهما لن يظهرا في شخصيتين مختلفتين. كذلك فإنه أعلن أن عيسى بن مريم لم يكن ابن الله بالمعنى الحرفي للكلمة، وأن التعبير ابن الله لا يعني سوى التعبير عن حب الله لعيسى ، وأن عيسى لم يكن سوى رجل من الرجال ولكنه أيضا كان على مقام كريم وكان نبيا ذا شأن عظيم. لقد تجلى الله عليه بآيات تأييدًا لدعواه ونبوته، وأنقذه من الموت على الصليب الذي أنزل من عليه، وهو فاقد الوعي، ولكنه بعد أن استعاد قوته بسرعة، هاجر نحو الشرق من فلسطين بحثا عن خراف بيت إسرائيل الضالة، وكأي بشر لم يكن له من الموت مهرب فمات موتة طبيعية مثل بقية الأنبياء، وذلك بعد أن أتم رسالته.

إن مؤسس الجماعة الأحمدية قد أشار إلى أن النبوءة المذكورة عن المجيء الثاني للمسيح ما هي إلا كناية. فالمجدد الموعود قد كني باسم المسيح تماما مثل ما كُنِّي يوحنا المعمدان باسم إيليا النبي، ولذلك فقد أعلن حضرته أنه هو ذلك المهدي والمسيح المنتظر ظهوره في آخر الزمان من أجل إحياء الإسلام وتحقيق نصره.

وكما ذكرت فيما سبق أن أغلبية المسلمين قد رفضوا قبول دعوته، حتى أن أتباعه وصموا في بعض الدول الإسلامية بأنهم غير مسلمين، ولكن بغض النظر عمن هو المسلم الحقيقي عند الله ومن هو المسلم اسما، فلا إنكار للواقع أن جماعتنا هي الجماعة الوحيدة من بين المسلمين اليوم التي تعلن أن قيامها كان بأمر سماوي. لقد تحملت كل الابتلاءات والاضطهادات، ومع ذلك فقد انبرت لتكون أكبر وأوسع حركة تبشيرية ذات أثر فعال خلال شبكة واسعة من مراكز التبشير تنتشر في جميع أنحاء العالم.

وعلى النقيض من هذا فإن الفرق الأخرى التي تدعى بالإسلام ما زالت تنتظر ذلك اليوم السعيد الذي ما زال ملتحفا في ضاب الغد البعيد، عندما ينزل من السماء مسيح عجوز هرم قد بلغ من العمر عتيا بجسده العنصري، واضعا يديه على كتفي ملكين، ليبدأ بعد ذلك كل من المسيح والمهدي النضال سويا من أجل سيطرة الإسلام على العالم كله، ثم يعطى المسلمين مفاتيح خزائن الممالك كلها في طبق من الفضة. ولكن هذه الأحلام أقل ما توصف به هو أنها ليست سوى آمال بعيدة المنال وما هي إلا خيالات وأوهام.

وأما فيما يتعلق بوقائع الأمور الحادثة في حاضرنا هذا فإن الحقيقة التي تظل شامخة هي أنه في كل هذا العالم الواسع الأرجاء لا يوجد سوى جماعتنا وحدها التي تعلن بأنها هي التي قدر الله أن يتحقق انتصار الإسلام على يديها، كما هو مذكور في نبوءات الكتب المقدسة. إنها تعلن أن ساعة الانتصار الروحي للإسلام قد حانت وأن الحركة التي كان مقدرا لها أن تحقق ثورة عالمية قد بدأت بالفعل. فإذا كنا صادقين في دعوتنا هذه، وإذا كان الله قد اختار فعلا هذه الجماعة المتواضعة التي لا سند لها من بين البشر لتحقيق هذه الثورة الكبرى، إذا كنا نحن فعلا الذين اختارهم الله للجهاد في سبيل تحقيق الانتصار الكامل للإسلام البغيضة، ولزرع روح التواضع والتضحية في نفس الإنسان ولخلق ونشر المحبة بين الإنسان والإنسان وبين المخلوق والخالق، إذا كان كل ذلك حقيقيا فعلا، فإنه حتما ينبغي على ذلك أنه متى وحيثما أرست هذه الجماعة أقدامها لأول مرة سواء كان هذا في قارة أو في قرية أو في جزيرة صغيرة، فإنه مما لا شك فيه أن ذلك اليوم يعتبر يوما على جانب عظيم من الأهمية في تاريخ تلك المنطقة. إنه يشكل شاهدا فريدا، ورغم أنه قد لا يكون ملحوظا من عين الجيل الحاضر، إلا أنه سيبدو عظيما وجليا وثابتا لرجال المستقبل. إن مرور الزمن لن ينقص من شأنه، بل يزيد من مجده وعظمته. إن هذا هو الفرق الحاسم بين تاريخي عالم الدين وعالم الدنيا، إنه بمضي الزمن تبدأ الانتصارات الدنيوية في الزوال وتشحب أضواؤها، إنها تتضاءل وتضمحل مع مرور الزمن الذي لا يحده حد، ولكن حال الانتصارات الروحية للأمم يختلف عن ذلك تمام الاختلاف. إن واقعة ما قد تبدو عادية أو منعدمة الشأن من حيث الظاهر، حتى أنها لتمر دون أن تلحظها عين مؤرخي العصر، ولكنها ما تلبث أن تتعاظم بمرور الأجيال. إن الزمن لا ينقص من أهميتها، بل على العكس يزيدها أهمية. إنها تستمر في النمو والازدهار حتى إنها لتعلو وتحيط بكل حادثة أخرى، كل الأضواء الأخرى تبدو باهتة بالمقارنة بضوئها إلى أن يأتي الوقت الذي يسطع فيه نورها بجلاء فلا يرى بجوارها أي ضوء آخر.

إن بداية المسيحية هي مثال يؤيد ذلك. فعندما بدأت المسيحية كان نصف العالم تحت سيطرة الامبراطورية الرومانية الجبارة. إن حادثة صلب المسيح بالمقارنة بأحداث العالم في ذلك الوقت كانت تبدو حادثة عادية لا شأن لها البتة حتى أنه -ودع جانبا مؤرخي ذلك العصر- لم تذكر أي وثيقة رومانية شيئا عنها وذلك لمدة أربعة وثلاثين عاما بعد وقوعها، ولم يذكر أي سجل آخر ولو مجرد إيماءة بسيطة إليها ولا حتى عن طريق الإشارة ضمنيا إلى ما يتعلق بها. ولكن الآن حين نجول بأنظارنا في الماضي نجد أن الامبراطورية الرومانية بأكملها من أقصى أطرافها إلى أدناها تلمع في ضوء تلك الحادثة الواحدة. إننا الآن حين نتأمل الماضي نستطيع أن نقول إن بداية المسيحية كانت في واقع الأمر أعظم وألمع الحوادث التي وقعت في ذلك العصر. فمن ناحية نجد أن الزمن، ذلك الفنان الهرم الذي لا مهرب لأحد من آثار ريشته، قد شغل نفسه خلال الألفين من السنين الماضية في إزالة كل ما وقف رمزا للقوى المادية والدنيوية في ذلك العصر، ومن ناحية أخرى نجده يعيد نقش صورة المسيحية على لوحة التاريخ في إطار أوسع وأرحب، مستخدما أنصع وألمع الألوان. وعلى ذلك، إذا كانت الجماعة الأحمدية في حقيقة الأمر هي فعلا ما تدعيه فإن افتتاح مركز التبشير الإسلامي في هذه القارة العظيمة يعد بلا شك أهم حادث في تاريخ أستراليا المعاصر. إنني أعلم أن وجود الشرط “إذا” يعتبر حائلا أمام إدراك حقيقة هذه الدعوى، غير أن الزمن وحده هو الذي سيكشف لنا عما ستؤول إليه هذه البداية المتواضعة. ولكن اسمحوا لي أن أقول أن أولئك الذين يتدبرون الأمور بالحكمة والبصيرة لا ينتظرون مرور الزمن الطويل، إنهم يستطيعون بثاقب بصيرتهم أن يروا في الحب الصغير حجم أشجار المستقبل الباسقة.

إنكم يا سكان أستراليا تستطيعون أن تفهموا وجهة نظري هذه في ضوء تاريخكم. ولذلك دعوني أشرح لكم أهمية يومنا هذا في ضوء تاريخ هذه القارة. إن هذا اليوم في رأيي هو أول يوم تكتشف فيه أستراليا من الناحية الدينية والروحية. فإذا نظرنا للأمور من زاوية معينة نستطيع القول بأننا قد أعدنا اكتشافكم لنأتي إليكم بأسمى القيم الروحية والمدنية. وعلى ذلك فإن هذا اليوم يشابه ذلك اليوم الذي أعاد في الكابتن توماس كوك اكتشاف أستراليا. فبالرغم من أن البحارة البرتغاليين والهولنديين كانوا قد اكتشفوا هذه القارة من قبل، إلا أن الكابتن توماس كوك كان الرجل الذي أعاد اكتشافها لتكون مستعمرة للتاج البريطاني. إن الجماعة الأحمدية أيضا تحاول اليوم إعادة اكتشاف هذه القارة من أجل الإسلام، ولن يهدأ لها بال حتى تكسب القارة كلها بالمحبة والإقناع والدلائل التي لا يمكن نقضها والحجج المبنية على المنطق والعقل والمستخلصة من الكتب المقدسة:

  • إنها برنامج للانتصارات الروحية والأخلاقية وليست وسيلة للسيطرة الجغرافية أو السياسية. إنها منهج جليل لكسب القلوب لا لإكراه الناس على الخضوع.
  • إنها حرب العقل والمنطق التي لا تحارب في أي مرحلة بالأسلحة المادية قديمة كانت أو حديثة.
  • إنها رسالة السلام التي تستهدف مخاطبة الفكر والضمير.
  • إنها تبغي تقديم حضارة جديدة تماما تحمل في طياتها مفاتيح حلول المشاكل التي يئن منها هذا العصر.
  • إنها نضال وجهاد لتعليم الإنسان القيم الإنسانية العليا ولرفعه مرة أخرى من المرحلة الحيوانية المنحطة إلى المستوى الإنساني السامي، الأمر الذي يتطلب من جانبنا أقصى درجات التضحية بالنفس والعمل الجبار مع الصبر والثبات.
  • إنها مخطط عظيم لتأنيس الإنسان وإنشاء علاقة حية بينه وبين خالقه.

وهنا دعوني أقول لكم أن اكتشاف منطقة ما أو دولة أو قارة بغرض تحويلها إلى الإسلام ليس بالأمر الجديد على الجماعة الأحمدية. إننا ندرك تمام الإدراك ونعلم جيدا حجم المشاكل التي تواجه هؤلاء الذين يكتشفون آفاقا جديدة بغض النظر عن غاية هذا الاكتشاف. إن التاريخ البريطاني في استعمار أستراليا مثلا ليس خفيا عن عيوننا. إنه تاريخ المعاناة والدموع والأنين، تاريخ العذاب والاضطهاد الأليم. وكذلك فإن تاريخ المستعمرات الروحية للجماعة الأحمدية حافل هو الآخر بمثل هذه المحن والمشاق. ولكن رغم هذا التشابه الظاهري فإن هناك فروقا هامة وأساسية بين الاثنين. إنهما يتشابهان ولكنها لا يتشابهان في كل شيء. ففي عام 1831 عندما احتج الفلاحون الذين أضناهم الجوع في شمال انجلترا ضد قانون الأراضي المجحف طرد الآلاف منهم شبابا وشيوخا من وطنهم عقابا لهم على جريمة المطالبة بالعدل والخبز، وتم شحنهم إلى أستراليا على عجل. في تلك الأيام صار اسما خليج بوتاني وأستراليا مسميان ذوي معنى واحد. لقد عانى الرجال المغلوبون على أمرهم أهوالا جمة ومصاعب جسيمة عند ترحليهم بالإكراه إلى خليج بوتاني. وحتى أولئك الذين تخلفوا ذاقوا نصيبهم أيضا من المعاناة المريرة. إن الأدب الإنجليزي والاسكتلندي والأغاني الشعبية مليئة بذكر تلك الأقاصيص الرهيبة.

إن فصلا من تلك المآسي يتعلق بامرأة راح ابنها الصغير بقصد اللهو والمرح يشارك أولئك الفلاحين المسالمين الذين كانوا يحتجون على أصحاب المزارع وعلى القوانين الظالمة. وكان هو واحد من الآلاف الذين تم القبض عليهم في تلك الآونة. وبعد أن قاسى هؤلاء السجناء صنوف الآلام والحبس الشرس، تم أخيرا تكديسهم في بعض المراكب التي نقلتهم إلى خليج بوتاني. لم يعلم أهلهم وذووهم عنهم شيئا، سوى أنهم رُحلوا إلى مكان يسمى خليج بوتاني، ولم يدر مصيرهم ولا كم مات منهم في الطريق. فقد كانت الرحلة في اتجاه واحد فقط. كان يبدو أن الرياح التي تهب من انجلترا إلى خليج بوتاني ما كانت تعكس اتجاهها قط، وعلى ذلك فلم يعرف شيء عن السجين الصغير ولم يدون سوى مأساة الأم فقط. لقد اختل اتزانها العقلي. كانت في كل يوم تشرف فيه شمس أو يهطل في مطر تجلس في اتجاه جنوب الشرق آملة أن يعود في نهاية الأمر ابنها الذي أبحر في ذلك الاتجاه. كانت في كل يوم تستعد وتقوم بعمل الترتيبات اللازمة لاستقباله والاحتفاء به، ولكن أحدا لم يعد. وتحولت، ساعات الانتظار إلى سنين. داهمها المرض والشيخوخة، حتى أنها أصيبت بشلل تركها كسيحة عديمة الحراك. وحتى آنذاك استمر انتظارها دون انقطاع، كانت تطلب ممن حولها أن يضعوا كرسيها في الغرفة أو في الشرفة حسب حالة الجو بحيث تجلس متجهة بأنظارها إلى خليج بوتاني في انتظار ابنها يوما بعد يوم. كان الناس يعتبرونها مجنونة، وكانت هي من ناحيتها تعتبرهم مجانين. كانت تقول: “كم سيكون ابني سعيدا حينما يعود فيجد أن أمه لم تنسه وأنها ظلت في انتظار عودته حتى اللحظة الأخيرة”.

كذلك فقد قابلتنا فصول مماثلة في تاريخ استعمار الأحمدية الروحي، غير أن هناك فرقا جوهريا وهو أنه في حالتنا لم تفرض التضحيات بالقهر والإكراه وإنما كان مبعثها روح الالتزام والرغبة الشخصية. ولذلك مثال واحد فقط أقول أن الجماعة الأحمدية أرسلت مولانا رحمت علي كأول مبشر لها في إندونيسيا وذلك في عام 1922. لم يكن في ذلك أي إكراه أو قسر. إن مولانا مدفوعا برغبته الصادقة لخدمة أهداف الدين تطوع بتقديم خدماته إلى إمام الجماعة في ذلك الوقت حضرة خليفة المسيح الثاني. في تلك الأيام كانت موارد الجماعة المالية ضيقة للغاية، وكانت الأموال تستقطع بطريق أو بآخر لإرسالة مبشر إلى الخارج، ولكن الجماعة، كانت تبذل جهدا شاقا لتتمكن من دفع نفقات عودته إلى الوطن. وكان من نتيجة هذا أن انقضى الوقت عاما من بعد عام ولم يكن من الممكن توفير المبلغ الكافي من المال لتمكين مولانا من زيارة أهله. وكبر أطفاله كالأيتام وهم محرومون من حنان الأب ووجوده بينهم. وفي يوم قال ابنه الصغير لأمه وكان حينذاك تلميذا في المدرسة: “إن التلاميذ في المدرسة أمي يتكلمون عن آبائهم. إن الآباء الذين يسافرون إلى الخارج يعودون ويحضرون لأنبائهم هدايا جميلة، فأين ذهب أبي حتى إنه لا يستطيع العودة مرة أخرى؟”. لقد حركت تلك الكلمات مشاعر الأم في أعماق نفسها وامتلأت عيناها بالدموع وأشارت بإصبعها إلى إندونيسيا وقالت: “يا بني. إن أباك قد ذهب في هذا الاتجاه ليحمل رسالة الله ورسوله محمد ، وسوف يعود حينما يشاء الله ذلك”. من المؤكد أن إجابة الأم كان يشوبها القلق ولكن دون شكوى، ربما خامرها الشعور بالعجز ولكن دون أي سمة من الاحتجاج. فقد كانت هي الأخرى مدفوعة بنفس روح التضحية. لقد ظل مولانا يعمل في أندونيسيا لمدة عشر سنين، ثم استدعي بعد ذلك لفترة قصيرة ما لبث أن أرسل بعده اإلى هناك مرة أخرى. وطال به الوقت هناك حتى أنه قضى فيما قضى ستة وعشرين عاما بعيدا عن أهله. وفي نهاية الأمر قررت الجماعة أن تستدعيه نهائيا، ولما سمعت بذلك زوجته التي داهمها المشيب التمست مقابلة إمام الجماعة وباحترام قالت: “سيدي الموقر. لقد رضيت بنصيبي في الحياة عندما كنت صغيرة السن وذلك ابتغاء وجه الله. لم ألفظ كلمة الشكوى فيما يتعلق بغياب زوجي عني، ورغم قلة حيلتي فقد تمكنت بعون الله من أن أربي أولادي بنفسي. إنني قد صرت عجوزا وصار أبنائي كبارا فما  الفائدة من إعادة زوجي الآن. لم يبق لي سوى رغبة واحدة والتماس واحد أسألك إياه وهو أن تسمح لزوجي بالاستمرار في عمله لنشر الإسلام في البلاد الأجنبية، حتى ينال الشرف بأن يموت أو يقتل في سبيله، فعلى الأقل ستكون سلوتي أنني قد ضحيت بكل متع حياتي الزوجية في سبيل ديني الإسلام”.

إن هناك تشابها غريبا بين القصتين. وهي أنك إذا وقفت في شمال البنجاب مواجها أندونيسيا فإن خليج بوتاني يقع على نفس امتداد الخط بينهما. إن كلام السيدتين بطلتي القصتين كانت تتجه في نفس الاتجاه، ولكن رغم هذا التشابه من حيث الظاهر فإن هناك بعد المشرقين بينهما من حيث الجوهر. في إحداهما كان خليج بوتاني يمثل الرمز المؤسف للقهر الاضطهاد وفي الأخرى يمثل خليج بوتاني رمزا يذيب الفؤاد للتضحية التي مبعثها الرغبة الواعية والإرادة الحرة.

والآن لكي نميط اللثام عن بعض “فضائل” الاستعمار الأخرى دعوني أذكركم بأن الاستعمار كان دائما يتمخص عن صنوف من القسوة المقيتة تصب على المواطنين الأصليين للأرض المستعمرة، ولم يستثن من ذلك استعمار الأرض الاسترالية. إن المستعمرين الأستراليين أذاقوا الأهالي الأصليين ألوانا من القسوة الفظيعة، إذ كانت العصابات المسلحة من صائدي الرؤوس تطارد السكان القدامى لقتلهم وصيدهم مثل الحيوانات المفترسة. كان تنظيم مباريات وحفلات القتل الصاخبة يعد من سمات طبيعة تلك الأيام. لم تشن هذه الفظائع اللاإنسانية ضد أناس محاربين، فإن المؤرخين ليشهدوا بأن سكان أستراليا الأصليين لم يكونوا من المحاربين أو الطغاة أو سفاكي الدماء بل كانوا ودعاء ومسالمين.

إن الفتوحات الروحية ينتج عنها أيضا مثل تلك الفظائع، مع وجود فرق جوهري وهو أن رجال الدين الحق لا يعتدون على أحد بالقتل أبدا، وإنما هم الذين يُقتلون. إن أتباع الدين القديم هم الذين يشمرون عن السواعد لصيدهم والإجهاز عليهم. عندما بدأت المسيحية في غزو الامبراطورية الرومانية كان  المسيحيون هم الذين يلقون في أقفاص الحيوانات المتوحشة لتنهشهم وتفترسهم. وكذلك في تاريخ استعمار الأحمدية أيضا نجد خيطا متصلا من الفظائع التي ارتكبت في جميع أنحاء العالم ضد الأحمديين المسالمين الذين لا حول لهم ولا قوة. فمنذ ما يقرب من خمسة وأربعين عاما حوكم مولانا غلام حسين أياز أحد مبشرينا في سنغافورة وأدين بواسطة جمع من الغوغاء أعماه التعصب، وضرب ضربا مبرحا حتى شارف على الموت ثم ألقي بعد ذلك على جانب طريق مهجور باعتباره ميتا. ولم يسترد وعيه إلا بفضل بعض الكلاب الضالة التي كانت تنبح حوله وتنهش في جروحه.

لذلك فإني أقول لكم اليوم يا سكان أستراليا أنه إذا كنا نحن فعلا هم أولئك الذين يقيمون مستعمرات روحية جديدة بإقدام وعزم وتصميم، بصبر وسلام، باستقامة وجلد، بتواضع وحلم رصين لا تشوبه شائبة. إذا كنا نحن فعلا هم الذين لا يسفكون دماء أحد، بل يبذلون حياتهم، ودماءهم رخيصة لكي يرووا بها الصحارى القاحلة ويحولوها إلى جنات مزدهرة، إذا كنا نحن فعلا هم أولئك الذين يغزون القلوب ويبعثون الحياة في الروح ويسعون لتحقيق ثورة في آفاق الفكر والعقيدة، فعليكم أن تذكروا جيدا أن هذا اليوم الذي نرسي فيه حجر الأساس للمسجد الأول والمركز الأول هو بكل تأكيد أعظم يوم في تاريخ القارة الاسترالية. إن هذا اليوم هو فعلا اليوم الذي سيزيد الزمن من لمعانه وضيائه. إن اليوم الذي وضع فيه كابتن جيمس كوك أقدامه على التربة الأسترالية سوف يشحب وينزوي أمام النور الوضاء لهذا اليوم الجديد. إن اليوم ليس ببعيد عندما يأتي المواطنون الاستراليون زرافات ووحدانا إلى هذا المسجد ليعبدوا الله ويذكروا هذا اليوم الذي أرسى فيه عبد من عباد الله حجر أساسه مشفوعا بدعوات تنبثق من أعماق قلبه ودموع تنسكب من مآقيه. سوف يقف أولئك المواطنون الاستراليون في المسجد ويبتهلون من خلال دموعهم لأجل أفراد الجماعة الأحمدية الذين بذلوا التضحيات لأجل إقامة هذا الرمز الأول لانتصار الإسلام، ويتمنون لو أنهم أيضا عاشوا في أيامنا هذه حتى ينالوا الشرف بأن يكونوا من بين هؤلاء الطلائع الذين ساهموا في تحقيق نصر الإسلام في أستراليا.

والآن فإني أختم كلمتي باقتباس كلمة من كلام حضرة ميرزا أحمد القادياني مؤسس الجماعة الأحمدية . فمنذ ما يقرب من قرن من الزمان قال:

“يا أيها الناس جميعا اسمعوا جيدا واذكروا أن هذه النبؤات هي من الله العزيز الذي خلق السماوات والأرض. إنه سيجعل هذه الجماعة التي هي جماعته سبحانه تنتشر في كل بلاد العالم، وبفضله تعالى فإن أتباعي سيكون لهم الغلبة والنصر على  الجميع بالحجة والمنطق. إن اليوم لآت، لا بل لقد كاد أن يبزغ فجر ذلك اليوم الذي يكون فيه هذا الدين هو الدين الوحيد على ظهر البسيطة الذي يتشرف الجميع بالانتماء إليه. إن الله سوف يبارك هذا الدين، دين الإسلام وسوف يبارك هذه الجماعة ببركات غير عادية، حتى لكأنها تبدو إعجازا. إنه سوف يخيب سعي أولئك الذين يبغون دمارها، وسوف يستمر انتصارها إلى نهاية الزمن، حتى يوم القيامة.. قبل أن ينقضي القرن الثالث من هذا اليوم فإن كلا من المسيحيين والمسلمين بل كل أولئك الذين ينظرون مجيء عسيى بن مريم سوف يتخلون عن هذه العقيدة الفاسدة في يأس وامتعاض، ولن يكون بعد ذلك سوى دين واحد ومرشد واحد في العالم. لقد جئت لأبذر الحب فقط وبفضل الله تعالى فقد زرع هذا الحب بيدين ولسوف ينمو ويترعرع الآن ويثمر ثمرا يانعا، ولن يوجد على وجه الأرض مهما كان من يستطيع أن يوقف نموه” (تذكرة الشهادتين)

“إن كل الفلسفات سوف تنمحي إلا فلسفة الإسلام، كل التدابير سوف تنهزم إلا التدبير السماوي للإسلام، فإنه لن يتداعى ولن يخيب وإنما سينتصر دائما ويبيد كل قوى الشر” (تبليغ الرسالة – الجزء السادس)

Share via
تابعونا على الفايس بوك