الإسلام والجهاد

الإسلام والجهاد

لم يكتف مؤسس الأحمدية في خدمته لقضية السلام العالمي بإظهار تلك المبادئ والقوانين المستمدة من القرآن المجيد التي تكفل، دون غيرها، السلام الاجتماعي والديني والدولي، بل أزال أيضا تلك الشبهات والآراء الخاطئة التي نسبت إلى بعض تعاليم الإسلام، وكانت تقف حجر عثرة في سبيل التقريب بين المسلمين وأهل الأديان الأخرى، فتحول دون إيجاد جو من التفاهم بين الطرفين في ثقة وإخلاص.

وفريضة الجهاد الإسلامي تأتي في مقدمة التعاليم التي استغلها دعاة المسيحية والمشتغلون بالمسائل الاجتماعية في دعاياتهم المغرضة ضد الإسلام بعد أن عرفوها وقدموها في صورة مشبوهة مبتورة، توحي بأن الإسلام دين يحض على الاعتداء والحرب، ولا يقوى على التسامح مع الأديان التي تنافسه. فتراهم يعرفون الجهاد بأنه “واجب ديني” يفرضه القرآن على أتباع محمد ليشهروا الحرب في وجه من يرفضون تعاليم الإسلام. ثم يخلصون من هذا إلى أن “نشر الإسلام بالسيف” فرض ديني كلّف به المسلمون عامة. ومن المؤسف حقا أن هؤلاء الدعاة استندوا في دعواهم هذه على رأي بعض المسلمين وفهمهم الخاطئ لمعنى الجهاد.

ولم يحزن حضرة أحمد لأمر أكثر من حزنه على تلك الخطة التي دبرت دون تورع لتقليب الحقائق وتقديم الإسلام في هذا الشكل المزري! إن الإسلام كان أعظم ديانة تمثل السلم، وقد وضع من القواعد والمبادئ المفضلة ما يكفل تحقيق السلام العالمي وإقامته على أسس ثابتة، وطبعت تعاليمه كلها بطابع السلم، بل إن النسبة التي اختيرت له معناها السلم؟ فكيف يمكن للمسلم المخلص أن يتحمل أو يرضى بأن ينظر إلى دينه بعد كل هذا نظرة المعتدي الذي يتوسل بحد السيف، ولا يسمح لأهل الأديان الأخرى بحرية الرأي. من أجل ذلك وجه مؤسس الأحمدية جل اهتمامه للقضاء على تلك الفرية الخبيثة وهاجمها في أحاديثه وخطبه وكتاباته، فدافع عن وجهة نظره قائلا: إن نشر العقيدة وفرضها بالقوة دعوى غريبة على الإسلام ولا تمت لروح تعاليمه السمحة بأية صلة، بل إنها تنافيها وتناقضها، ثم يؤكد بأن من أخص دواعي بعثته وأهدافها محو تلك الخرافة السخيفة والتدليل على أن الإسلام لم يكن يوما ما مدينا لسيوف أنصاره وأسنة رماحهم في نشر مبادئه وإذاعة تعاليمه.

وكان مؤسس الأحمدية يدلل على ذلك بقوله إن النجاح العظيم الذي أحرزه دعاة الإسلام. في العهود الأولى يعتبر في حد ذاته شهادة لا تنقض على بطلان تلك التهمة الواهية، إذ يستحيل على القوة أن تبدل عقائد شعوب وأقوام برمتها بمثل ذلك النجاح الرائع السريع، وتجبرهم قسرا على اعتناق عقيدة أخرى تمجها نفوسهم، بل تمقتها ضمائرهم وتقاومها بسبب مظهرها الغاشم القاسي ومغايرتها التامة لآراء مخالفيها ومذاهبهم التي يقدمونها ويحبونها.

إن حرية الفكر أغلى تراث توارثته البشرية: بل إنها أعز من الحياة ذاتها. ولما كان الإسلام يعد الإنسان أشرف المخلوقات وأفضلها، ويرفع من قيمة حياته، ويحوطه بأكبر قسط من القداسة، فلا يمكن إذن أن يقصِّر فيصون أثمن ما في حوزة الإنسان فيسلبه هذا الحق المقدس دون رعاية لحرمته. إن الإنسان هو خليفة الله في الأرض تبعا لقوله تعالى في سورة البقرة

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…

وهو الحاكم الذي أطاعته ملائكة السماء، وسخرت له الشمس والقمر والنجوم والأرض والجبال والبحار وخصصت له الكائنات الحية والجامدة، وليس الإنسان إلا صورة مصغرة للعالم يتمثل فيه كل ما في العالم بشكل أدق وألطف. فكأن الله تبارك وتعالى عندما خلق الإنسان قد جمع جميع القوى الموجودة في العالم وأودعها خزانة صغيرة، ومن ثم فإن الدين الذي يرفع الإنسان إلى ذلك المقام الممتاز لا يمكنه أن يحرمه من أخص حقوقه وألزمها له. ولهذا السبب نص القرآن المجيد على أهمية ذلك الحق الموهوب، وحرم انتقاصه أو الخروج عليه، متمشيا في ذلك مع ما يفيضه الإسلام على الإنسان من منزلة رفيعة. انظر قوله تعالى

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 30)

وقوله تعالى:

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (يونس: 109) و لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة: 257)،

وغيرها من الآيات الكثيرة التي لا تكتفي بمجرد النهي عن استعمال القوة في نشر الدين، بل تحرمه تحريما صريحا مؤكدا.

هذا ولا يمكن بأي حال أن نعثر في القرآن المجيد أو في سرية خاتم النبيين أو في تاريخ خلفائه الراشدين وصفوة صحابته على إشارة أو حادثة واحدة نلمح فيها أن الإسلام يقر -ولو عن بُعد- الرأي القائل بمشروعية العمل على اعتناقه عن طريق القوة أو الخداع. لقد مرت بخاتم النبيين ظروف كثيرة كان بإمكانه لو شاء أن يفرض عقيدته بالقوة على أناس لجأوا إليه واستظلوا بحمايته، ولكنه لم يجنح إلى هذه الطريقة قط، بل ما كان له أن يقدم عليها، وحتى لو لم يكن نبيا يحمل رسالة سماوية، وكان مجرد قائد عسكري مغامر وأتاه الحظ وأقام امبراطورية عزيزة الجانب، لما جاز له أن يجبر الناس على  اتباع مذهبه، وذلك لأنهم في هذه الحالة لن يخلصوا له، ولن يحافظوا على تحالفهم معه، بل سرعان ما ينفضون من حوله، وينقلبون عليه عند أول ظاهرة تراجع أو ضعف تبدو منه أمام العدو، ولكن الأقوام التي يدعي الكتاب المسيحيون. أنهم ادخلوا في الإسلام عنوة، قد آزروا رسول الله في الشدة والرخاء على السواء، وذاقوا كل أنواع الاضطهاد والحرمان وتحملوا جميع التجارب والأزمات معه ولأجله في فرح وسرور، حتى أننا لو قلبنا أوراق تاريخ العالم لما وجدا مثالا واحدا يضاهي إخلاص هؤلاء الصحابة وتفانيهم في خدمة رسول الله ، إن هذا الإخلاص وإنكار الذات يعتبر في حد ذاته برهانا ساطعا على كذب تلك الفرية الدنيئة التي يدَّعون فيها أن أولئك الذي يُضرب بهم المثل الأعلى للتفاني والتضحية بالنفس قد أدخلوا في الإسلام بحد السيف!! ولسنا نغالي إذا قلنا أن هذه الدعوى السخيفة هي أبعد ما يكون عن التصور.

ويضيف حضرة غلام أحمد : إن الإسلام، في الأصل، دين سلام! ترمي جميع تعاليمه ومبادئه إلى خلق جوّ من السلم والتسامح يمكن الناس من ا لتمتع بحرية الاختيار والعمل إلى أقصى حد، ويدعهم يؤيدون الدين الذي ترضاه ضمائرهم وعقولهم.

وكان يشتد في حملته على الرأي الذي ذهب إليه بعض فقهاء المسلمين في تقسيم الدنيا إلى قسمين: دار الحرب ودار السلم، فمن أقواله في هذا الصدد: إن الدنيا كلها في نظر المسلم هي “دار السلم” ما دامت البلاد الإسلامية لا تهاجم أو تحارب، وما دام المسلمون ينعمون بحرية العقيدة وحرية العبادة إن دار الحرب تكون فقط عندما يحرم المسلمون في بلد ما من الحرية الدينية الكاملة أو يواجهون فيها تدخلا في ممارسة عباداتهم! ولا يأذن الإسلام بالجهاد بالسيف إلا عندما تنكر دولة ما عن المسلمين حقهم في الحرية الدينية أو إذا شهرت الحرب على بلد إسلامي بغية القضاء على الإسلام فيه، وهذا النوع من الجهاد ينتهي بانتهاء هذه الشروط التي ذكرناها. وأما الجهاد بالقرآن فهو أعظم أنواع الجهاد في عرف القرآن ذاته لأنه جهاد يتضاءل أمامه الجهاد بالسيف، إذ يطالب المؤمنين دائما ببذل مجهودات أكبر وتضحيات أفدح مما يتطلبه الجهاد بالسيف الذي يبطل بمجرد زوال دواعيه. ولقد أذن الله تعالى بذلك الجهاد عندما شهر السيف في وجه المسلمين ثم انقضى بعد عودة السيف إلى جرابه. ويفسر المسيح الموعود هذا بقوله: إننا نعيش في عصر تختلف ظروفه اختلافا عظيما عن الظروف التي وُلد فيها الإسلام، فنحن نتمتع الآن بحرية دينية كاملة، ولا تسد في وجوهنا فرصة الدعوة إلى الدين، وعصرنا هذا عصر السياسة والدعاية، والإسلام الآن في أشد الحاجة إلى نشر رسالته وإذاعتها، وهي رسالة تحتوي في ذاتها على قوة فعالة أعظم أثرا من السيف أو المدفع. لقد نسي المسلمون حاجة دينهم الملحة إلى هذا النوع من الجهاد، فكانت النتيجة أن صارت أمنية استعادة مجد الإسلام الغابر أمرا مطويا في حجب المستقبل!

وهكذا نجد المسيح الموعود يضفي على “الجهاد” معنى أدق وأصدق وأوسع، دون أن ينسخه أو يبطله كما يزعم بعض الناس.

Share via
تابعونا على الفايس بوك