القدس الجريح

القدس الجريح

تشهد مدينة القدس وبقية المدن العربية المحتلة منذ عدة شهور انتفاضة شعبية من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لها، والذي طال أكثر من عشرين عاما، لم يستطع خلالها العالم إيجاد حل لمشكلة الفلسطينيين أو إيجاد مأوى لهم على أرضهم فلسطين.

الجدير بالذكر أن الإعلام الغربي قد اهتم هذه المرة في نقل مختلف صور القمع والإرهاب الإسرائيلي ضد المواطنين العزل، وكان نقلهم لما حصل في القدس الشريف من دخول جنود الاحتلال الإسرائيلي حرم الأقصى وضربهم كل من صادفهم من المصلين والمصليات يوم الجمعة وبلا شك قد أظهر الاحتلال الإسرائيلي على أبشع صوره. ومما لا ريب فيه أن تلك المشاهد التي نقلتها وسائل الإعلام الغربية، قد أثرت في قلوب كل من يهمه أمر الإسلام والمسلمين والشعب الفلسطيني بشكل خاص.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي جعل أمريكا وأوروبا تقف اليوم في صف الفلسطينيين ضد أساليب القمع والتهديد الإسرائيلي لهم، هل هذا مجرد شفقة على الفلسطينيين المغلوب على أمرهم أم هو استيائهم الشديد لانتهاك حرمة الأقصى الشريف؟؟ أم أن هناك سببا آخر يتفق مع سياسة أمريكا والغرب في المنطقة؟ وللجواب على السؤال الأول، أهل كان هذا مجرد شفقة على الفلسطينيين وإظهارا على استيائهم الشديد لانتهاك حرمة الأقصى، نقول إن للغرب وأمريكا موقفا موحدا تجاه القضية الفلسطينية وليست القضية الفلسطينية فحسب، بل تجاه جميع المسائل والقضايا المتعلقة بالإسلام والعالم الإسلامي ككل. ولم توجد إسرائيل إلا بدعمهم ومساندتهم. فمن الجهل حقا أن نظن ولو للحظة واحدة أن أمريكا وأوروبا معا ينظرون إلى القضية الفلسطينية أو لحرمة المسجد الأقصى وبقية الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس أو الاعتداء على المصلين يوم الجمعة بمنظار الأهمية أو الشفقة، فلو كانوا فعلا كذلك لقدموا يد العون منذ سنوات طويلة من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان، هذا وقد شهدت الأراضي المحتلة من قبل مواقف وحوادث لا تقل خطورة عن هذه، فإن كان هناك اهتمام فعلي من الدول الغربية وأمريكا بالعدل والإنصاف لكانت سعت من أجل إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية منذ أكثر من عشرين عاما. ولكانت على الأقل استعملت نفوذها في الضغط على إسرائيل من أجل إنهاء أزمة اللاجئين الفلسطينيين المشردين عن بلادهم وأوطانهم، ولكانت أوقفت إسرائيل فعلا من أبعاد أربعة رجال فلسطينيين أصدر مجلس الأمن مؤخرا قرارا يدعو فيه إسرائيل بعدم ترحيلهم من الأراضي المحتلة، فضربت إسرائيل بهذا القرار كعادتها عرض الحائط ولم تبال في رمي الرجال الأربعة داخل لبنان، والعالم ينظر إلى هذه المسرحية مكتوف الأيدي، فلم نسمع أن أمريكا أو حتى أوروبا مارسوا ضغوطا على إسرائيل من أجل عدم ترحيل الفلسطينيين الأربعة، وهنالك الكثير من الأمثلة التي لا حصر لها ولا حد، وجميعها تبين أن الغرب ومعه أمريكا متفقون على سياسة واحدة وهي دعم وتأييد إسرائيل والسعي من أجل دوام الكيان الإسرائيلي في فلسطين، وإضعاف جميع القوى المعادية لإسرائيل في المنطقة وخاصة، إضعاف الشعب الفلسطيني وشل قوته في المقاومة.

فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو السبب إذن في اهتمام وسائل الإعلام الغربي بنقل أحداث الضفة الغربية وقطاع غزة وانتهاك اليهود لحرمة الأقصى اعتدائهم البشع على المصلين يوم الجمعة؟

ومن الناس من يتعجل ويعزي ذلك إلى تطور حسن في السياسة الغربية ولكن كما بينا في الأسطر السابقة أن وسائل الإعلام هذه لم تفعل ما فعلت حبا بالفلسطينيين أو مراعاة لشعور المصلين بالأقصى، أو حرصا منهم على حل القضية الفلسطينية، إنما وهذا جواب السؤال الثاني، قد فعلت ما فعلت وفق برنامج لسياسة أجنبية في المنطقة، فالمسألة هنا ليست مسألة فلسطين فحسب، بل هي مسألة مخطط سياسي تخطط له القوى الأجنبية في الشرق الأوسط، ونخص بالذكر هنا السياسة الأجنبية حول إيران والعراق، فكما يعلم الجميع أن الحرب الدائرة رحاها منذ حوالي عشر سنوات بين هذين البلدين قد دمرت مقدرتهما في الوقوف على أقدامهما من جديد، إلا إذا توقفت الحرب وضمدت الجراح، ولن يكون ذلك بسرعة، إذ أن الخسائر التي مني بها الجهتان لا تعد ولا تحصى، هذا علاوة على ملايين القتلى والجرحى من كل جانب. ولسنا نبحث هنا في أسباب هذه الحرب ومن المسبب في إطالتها وإنما نقول بأن الأمر الذي لا يخفى على كل ذي بصيرة هو أن المستفيد الوحيد من هذه الحرب الدائرة بين دولتين إسلاميتين هم أعداء الأسلام، فبالأمس القريب كانت أموال النفط (الذهب الأسود) تنفق في المشاريع البناءة الضخمة في إيران والبلاد العربية، واليوم تنفق هذه الأموال ليحرق المسلم بها بيت أخيه المسلم وليدمر بها المنشآت وركائز الاقتصاد في بلد شقيقه. وكأن المفهوم المعاصر للجهاد أصبح تحارب الفئات المسلمة فيما بينها.

ومما لا شك فيه أن أعداء الإسلام من الكتلة الأمريكية والكتلة الروسية هم المستفيدون من هذه الحرب التي تجني لهم منافع اقتصادية وسياسية، فكل الأسلحة القديمة عديمة الجدوى والتي يجب إلقاؤها في قعر البحر، تباع إلى إيران والعراق بأسعار باهظة جدا، وهكذا يكسب أعداء الإسلام أموال المسلمين، والمسلمون يخسرون أموالهم وأرواحهم معا.

هذا إلى جانب الكراهية الشديدة التي قد تاصلت بين المسلم وأخيه المسلم لدرجة تعيد إلى الأذهان أيام الجاهلية الأولى، ويخيَّل وكأن هذا النزاع صدى ذلك  النزاع الذي دار بين الفرس والعرب قبل الإسلام. فمن جهة تدعي إيران أنها هي الإسلام وأن حربها مع العراق هو الجهاد وأن جنودها هم الغزاة وقتلاها هم الشهداء، ومن جهة أخرى يقول العراق نفس القول، وقد أظهروا الإسلام بأبشع صورة، فهذا يجاهد وذاك يجاهد، ودماء المسلمين تهدر من كل جانب.

ولنعد هنا إلى لغز اهتمام الغرب اليوم بالمسألة الفلسطينية وإدانة إسرائيل (بعض الشيء) على ممارساتها البربرية ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. ولحل هذا اللغز يجدر بنا النظر إلى الحرب الدائرة بين العراق وإيران، وذلك لأن أكثر الدول انتفاعا من هذه الحرب هي إسرائيل، حيث انشغل العرب كلهم عن عدوهم الأول (إسرائيل) بإيران والآن وقد بدأت إسرائيل تمارس الوحشية من جديد ضد الفلسطينيين، أوجس الغرب خيفة من هيجان عواطف العرب ومن احتمال أن هذه الانتفاضة قد تؤدي إلى ثورة مجددة على إسرائيل التي لا تزال تعبث بجروحهم التي ما اندملت بعد. ولكي يتدارك الغرب هذه الثورة العربية المتوقعة، ولكي يتحاشى اندلاع نيران الانتقام العربي، بدأ يتظاهر بإدانة إسرائيل، ويتعاطف مع العرب، ليوهمهم أنه يتولى بنفسه حمايتهم منها، فلا داعي للقلق.

فهلموا أيها الأخوة المسلمون! واصحوا جميعا من سباتكم. فلن تمنع جميع هذه التعليقات الصحفية والأخبار التلفزيونية الغربية إسرائيل من الاستمرار في سياستها الغاشمة ضد الفلسطينيين، كما لن يمتنع الغرب من تقديم المساعدات لإسرائيل ولن يعاقبوها بأية عقوبة تفرضها الأمم المتحدة. وانظروا إلى ما حولكم بأعين مفتوحة حذرة. أما نحن فلن نزال نؤدي واجبنا بكشف الحقائق وإنارة الطريق، وأما فيما يتعلق بترتيب السياسات وتخطيط الأمور فهذا متروك للقيادات الإسلامية.

وختاما يجدر بنا أن ندرك الآن أنه في الواقع هنالك جريحان، وليس جريحا واحدا كما جاء في العنوان. فالقدس ليس وحده الجريح بل العالم الإسلامي كله جريح، ويريد الظالمون ألا يزال هذان الجريحان يتلطخان في دمائهما وألا تندمل جروحهما بل لا تنفك تنزف دما.

فمصائبنا وجراحنا كثيرة وعديدة، وليس لنا إلا الدعاء والابتهال إلى الله تعالى ليرحم أمة سيدنا محمد ويعفو عنهم ويغفر لهم ويهديهم سبل الرشاد. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك