في عالم التفسير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تبدأ جميع سور القرآن الكريم ببسم الله الرحمن الرحيم، ما عدا سورة (براءة) التي تعتبر على الأغلب جزءًا من سورة الأنفال، يؤيد ذلك ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله كان لا يعرف انتهاء سورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. (أبو داود – كتاب الصلاة)

إن الحديث المذكور يؤكد لنا كون البسملة موحى بها من الله تعالى، وأنها من أصل القرآن بلا جدال. ويزيد هذا الأمر تأكيدا، عدد آخر من أحاديث الرسول الكريم كلها تؤيد هذا الاتجاه. فقد روى مسلم عن أنس، قال رسول الله :

“أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ” (سنن أبي داوود، كتاب الصلاة).

ووردت مثلها روايات كثيرة عن سور أخرى. إن هذه الروايات بمجموعها تشكل دليلا قاطعا على كون البسملة جزءًا لا يتجزأ من كل سورة من سور القرآن.

حكمة وضع البسملة في بداية السور

وعندي أن في وضع البسملة في أول كل سورة قرآنية، هو أمر مليء بالحكم الإلهية، حيث أكد رسول الله فضيلة البسملة في كثير من أحاديثه. قال رسول الله : “كُلّ أَمْر ذِي بَال لَا يُبْدَأ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم أَقْطَع” وقال :

“أَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا وَأَطْفِ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرِضُهُ عَلَيْهِ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَأَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ” (سنن أبي داوود، كتاب الأشربة)

وفي القرآن الكريم ورد ذكر رسالة سليمان أنها ابتدأت بالبسملة إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (النمل: 31)، كما ورد عند ذكر نوح قوله ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا (هود: 42).

إن الوجه الأول لوضع البسملة في ابتداء كل سورة هو باعتبار أن القرآن الكريم خزانة معارف لا ينال أحد ما فيها إلا بإذن الله سبحانه لقوله تعالى لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (الواقعة: 80) ولقوله تعالى أيضا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا (البقرة: 27)، وقل جعل الله تعالى الاستعاذة من الشيطان الرجيم سبيلا للوصول إلى خزائن كتاب الله فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (النحل: 99)، كما جعل لنفس الغرض في أول كل سورة قرآنية، بسم الله الرحمن الرحيم، التي هي الاستعانة برحمانية الله ورحيميته، حتى يصان المؤمن من الضلالة، وحتى يهتدي بهداية خزائن علوم القرآن.

والوجه الثاني لافتتاح الله تعالى أول كل سورة بالبسملة، هو أنه وردت في التوراة نبوءة عن بعثة نبي يكون مثيل موسى جاء فيها: “النَّبِيُّ الَّذِي يُطْغِي، فَيَتَكَلَّمُ بِاسْمِي كَلاَمًا لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَيَمُوتُ ذلِكَ النَّبِيُّ” (اَلتَّثْنِيَة 18: 20) وقد ابتدأت كل سورة القرآن الكريم بالبسملة لتكون حجة على اليهود والنصارى خاصة، وفق هذا المعيار الذي أوردته التوراة، وحجة أيضا على العالم قاطبة، تثبت صدق نبوة محمد الذي ادعى النبوة باسم الله، ورغم ذلك فقد حفظه الله من القتل وأيده، فهذا دليل على صدق نبوته في أعين الذين يطلبون الحق. وبألفاظ أخرى فإنه سبحانه أفحم اليهود والنصارى مائة وأربع عشرة مرة، بعدد سور القرآن الكريم، وذلك بافتتاحه جميع سور القرآن بـ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ فأفحمهم الله وأقام عليهم الحجة بأن محمدا كان نبيًّا ومن الصادقين.

والوجه الرابع في تقديم البسملة، هو مراعاة لكيفيات الإنسان القلبية، فالإنسان إما أن يكون فقيرا محروما، أو يكون يائسا قانطا لكثرة ما اقترفه من ذنوب وآثام، أو يكون مغترا بما تفضل الله عليه من نعماء. فنبه الله تعالى الفقير المحروم في بسم الله الرحمن الرحيم إلى أنه سبحانه رحمان يغني دونما استحقاق. كما نبه اليائس القانط بأن الله سبحانه رحيم أي واسع المغفرة. ونبه الفَرِح المغرور بأن خزائن الله تعالى لا تنفذ ولا تحد، حثا منه سبحانه لهذا الإنسان على طلب التقدم والرقي، وبهذا الأسلوب الحكيم، وضع الله الإنسان في الطريق السليم ليغترف من علوم القرآن وخزائنه اغترافا صحيحا وحقيقيا.

والوجه الخامس لتقديم البسملة، هو جعلها مفتاحا لكل سورة من القرآن، ذلك أن جميع الأمور الدينية والروحانية تدور حول صفتي (الرحمن الرحيم)، فمن واجب القارئ عند محاولته تفسير آيات الله، أن يفسرها ضمن إطار صفتي (الرحمن الرحيم)، وإن كل فهم يتنافى وما تحمله هاتان الصفتان من معاني، فلا بد أن يكون منحرفا وخاطئا. لذلك وجب على المرء الابتداء بسم الله الرحمن الرحيم إقرارا منه واستعانة بالرحمن الرحيم في محاولته فهم معاني القرآن الحكيم.

هل وردت البسملة في الصحف الأولى؟

من بين أعداء الله من زعم أن البسملة ليست جديدة في تاريخ الأديان، بل إنها وردت في صحف الزردشتيين واليهود والعرب قبل الإسلام (عن ترجمة القرآن لرادول والقسيس ويري)

وجوابنا أننا نتحدى من بإمكانه أن يثبت مثل هذه المزاعم، وإننا لا ننكر بأن القرآن ذاته ذكر بأن رسالة سليمان ابتدأت بما يشابه معنى البسملة، كما لا ننفي أن أجزاء البسملة وردت في مختلف الأديان بشكل متفرق، لكن ليس على صورة البسملة الكاملة، حتى ولا ضمن معانيها الواسعة.

هذا وإن الجملة الفارسية (بخشائش كراوردادار) التي أشار إليها القسيس ويري، لا تحمل عشر معشار ما تحمله البسملة من معاني، في نظر العارفين باللغة الفارسية.

ثم إنه ما دام القرآن الكريم يقول وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ أي أن الله بعث الأنبياء في جميع أمم الأرض فإن هذا المنطق لا يجعلنا نستغرب ورود أجزاء البسملة منفردة في أديان هذه الأمم، ذلك لأن الأديان نزلت على أساس قانون التطور، وإن الذي أنزلها هو نفس الإله الذي أنزل القرآن الحكيم.

حكمة ورود “اسم” في البسملة

رب قائل يقول: إن الاستعانة تكون بالله وليس باسم الله، وجوابه:

  1. صحيح أن الاستعانة تكون بالله، لكن الباء تستعمل للقسم أيضا، وقد يشتبه على القارئ المعنى فيظن أنها قسم، ودفعا لهذا الاشتباه أضيف (اسم) بين الباء ولفظ الجلالة فأصبحت (باسم الله).
  2. والحكمة الثانية في إضافة (اسم) الذي يعني (الصفة)، هي في أن الله تعالى يُعرف بصفاته وليس بذاته، لأن ذاته جل شأنه في خفاء تام عن عالمنا، وزيدت صفتا (الرحمن الرحيم) لنفس السبب فأصبحت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بمعنى أستعين بالله متوسلا بصفتيه الرحمن والرحيم.
  3. والحمة الثالثة في إضافة (اسم) إلى الباء هي حثُّنا على الاهتمام بصفات الله ، لأنها صفات مباركة.
  4. والحكمة الرابعة هي أن الإنسان إذا أراد دخول بيت فإنه يستأذن أهله أو مستأجريه أو حراسه قبل دخوله، ذلك لأن للبيت حرمته. هذا وإن الشرطة إذا ما أرادت دخول بيت من البيوت أو مصادرة أموال تعلن أنها تفعل ذلك باسم الحكومة. فلما كانت لخزائن علوم القرآن حرمتها وحراستها، فقد أمر القارئ أن يستأذن ملائكة القرآن بقراءته وتدبر معانيه. وهذا الطلب هو ما احتوته ألفاظ البسملة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فمن حاد عن جادة هذا الطريق، ضاربا به عرض الحائط لشر في نفسه تسد في وجهه أبواب معارف القرآن الكريم.

(عن التفسير الكبير لحضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد )

Share via
تابعونا على الفايس بوك