من مجلس العرفان

من مجلس العرفان

“يعقد إمامنا الهمام أمير المؤمنين -أيده الله تعالى بنصره العزيز، الخليفة الرابع للمسيح الموعود – أينما يتواجد ندوات علمية تسمى (مجالس العرفان)، يتوجه فيها الأخوة والأخوات إلى حضرته بأسئلة دينية وعلمية متنوعة ويتفضل حضرته بالرد عليه. في أحد هذه المجالس توجه أخ غير أحمدي إلى سيدنا بسؤال هام جدا، وإليكم السؤال مع الجواب”

  • السؤال: ما هي أسباب الخلافات بين المسلمين؟ وهل من سبيل إلى التفاهم بينهم للقضاء على التفرق والتشتت، وكيف؟

الجواب: لقد أثرت مسألة حيوية وهامة، ولو حلت هذه المسألة لقضي على سائر الخلافات والفتن بين المسلمين. ولكي نعرف أسباب هذه الخلافات والفتن، لا بد لنا من الرجوع إلى الأيام الأولى من التاريخ الإسلامي. لقد كان الإسلام في يوم من الأيام شيئا واحدا.. إسما وحقيقة. نعم لقد كان هناك اختلافات أيضا، ولكنها كانت ضمنية ثانوية، وهي التي قد أشار إليها الرسول قائلا: (اختلاف أمتي رحمة) وكان ذلك عندما كان الرسول حيا بين المسلمين. وامتدت هذه الفترة إلى أيام الخلافة الراشدة، فلو حصل في هذه الفترة أي اختلاف لكان ذلك عن حسن نية وتقوى من الله. كما كان لكل اختلاف أساس من القرآن والسنة. وكانوا كلما يختلفون في أمر من الأمور يردونه إلى أولي العلم منهم الذين كانوا أكثرهم بصيرة عند الله أيضا. فكانوا في حياة الرسول يستفتونه في أمور الدين، ويقبلون ما يقوله قائلين: آمنا وصدقنا. ولم يكن ثمة أدنى احتمال لتفاقم الاختلافات. وبعد وفاته سلك الصحابة نفس الطريق مع خلفائه الراشدين -رضي الله عنهم أجميعن- في كل فترة خلافتهم. فكان الصحابة يختلفون في المسائل، ولكنهم كانوا ينهون الاختلاف بما يفتي به الخليفة الراشد، ويطمئنون، بدون أن يعترضوا عليه بأن فتواك متعارضة مع فتوى الخليفة الفلاني، لذلك لا نقبلها. إلا أنه لو رأى أحدهم أن حكم الخليفة يعارض حكم النبي أخبر الخليفة بأن حكمك ليس صائبا في رأيي، لأن عندي رواية تفيد بأن الرسول قد حكم بغير ما حكمت. فإما أن يجيب الخليفة الراشد بأن الرواية التي تذكرها مجروحة لسبب كذا، ولكن الرواية الفلانية تؤكد أن النبي أيضا حكم كما حكمت، فكان الرجل ينتهي من النقاش، ويطمئن لحكم الخليفة، أو بصورة أخرى كان الخليفة الراشد يغير حكمه قائلا: حسنا إذا كان الأمر كما تقول، فأنا معك، إذ ليس لأحد أن يعارض حكم الرسول ، وهكذا كان الاختلاف ينتهي تلقائيا.

ولكن عندما انقطعت الخلافة الراشدة انقسمت سلطة الإفتاء، وبدأ العلماء على اختلاف نزعاتهم -يمارسون أعمال الفتوى التي كانت الخلافة الراشدة تديرها من المركز من قبل. ولا شك أن الاختلافات كانت تحسم عندئذ أيضا، ولكن على أسس جزئية وبلا مركزية. فالاختلافات التي ظهرت في منطقة الإمام الشافعي حلت بأقوال الشافعي، والتي ظهرت في منطق الإمام أبي حنيفة حسمت بفتاواه، وبعضها حلها الإمامان مالك وابن حنبل وغيرهما. وهكذا حلت الخلافات في أماكن مختلفة عن طريق رجال مختلفين، ولكن لم تكن هناك طريق لحل الاختلافات التي كانت بين هؤلاء الأئمة الكرام أنفسهم، أعني تلك الاختلافات التي ظهرت بين الشيعة وبين أهل السنة من جانب، والتي نشبت داخل الشيعة وداخل أهل السنة من جانب آخر. لقد كانت الاختلافات الشيعية تحسم عن طريق أئمة الشيعة، ولكنهم عندما اختلفوا في الإمامة تفرقوا. ونفس الشيء حدث واستمر بالنسبة لأهل السنة أيضا. وكان لهذه الظاهرة سببان:

أحدهما طبعي وفطري، ولا يحق لأحد أن يعترض عليه بأية صورة، أعني إذا كنت أرى أن هذا الأمر على عكس ما يراه غيري، فلا بد لي -إن كنت من أهل التقوى- أن أقول ما أراه صحيحا، بصرف النظر عما يراه غيري. لذلك كان طبيعيا أن تحصل مثل هذه الاختلافات في غياب الرأي المضمون وفقدان ذلك النظر الثاقب الناقد المتوفر للنبي ولخلفائه الراشدين.

وثانيا: كانت بعض هذه الاختلافات صادرة عن قلة التقوى، ذلك المرض الذي تسرب تلقائيا إلى المسائل الدينية تدريجيا. ثم كان للبعد الزمني عن العصر النبوي تأثيره الحتمي، ومع أن القرآن الكريم كتاب كامل، ولا شك، ولكن الاحتياج إلى النبي أمر لا يمكن إنكاره. فلولا الرسول لم نستطع فهم القرآن مطلقا، وذلك لأنه لم يكن بوسع أحد أبدا أن يفهمه كما فهمه الرسول وما كان لأحد ولا حتى لخليفة من خلفائه أن يتمتع بتلك القوة الهائلة لتزكية نفوس الآخرين. وقد ذكر الله تعالى هذه القوة الهائلة للرسول في قوله:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ… (الجمعة: 3)

فترى أن التزكية جاءت في المحل الأول، وجاء تعليم الكتاب في المحل الثاني. إني أوجه نظرك إلى عامل قلة التقوى الذي له صلة وثيقة بتزكية النفوس. فعندما تقع الاختلافات تتسرب الأنانية تلقائيا، فيصيب الغرور الإنسان، فيقول: إن رأيي هو الأصوب، ويجب أن يقبل، وفي عدم قبوله إهانتي وهزيمتي.

ثم انتشر نطاق الاختلافات لدرجة أن الاختلافات التي كانت في البداية طبيعية، أخذت فيما بعد -لونا كلون مصارعة الديكة. فبدأ الناس يتفرجون على المشائخ المتعاركين، وهذا لم يحدث فجأة، بل إن نيران الإعجاب والأنانية نشبت وتأججت بالتدريج، حتى إنك تشاهد في تاريخ الإسلام مشاهد مروعة تقشعر منها الجلود، فالخليفة العباسي مأمون الرشيد لما اقتنع بنظرية خلق القرآن أمر بالتعذيب والقتل العام لمن لا يؤمن بخلق القرآن. وفي جَعْلِه حُكْمَه كحكم إلهي وتوليه معاقبة الآخرين لدليل واضح على قلة التقوى. فعامل قلة التقوى لم يتوقف عند التأثير على الاختلافات فقط، بل جعلهم يتجاوزون حدودهم، فزعموا لأنفسهم تلك السلطة التي هي من حق الله وحده.

إن هذه الفترة تمثل أحلك دور من أدوار التاريخ الإسلامي. لا شك أن من حق العالم أن يعارض عقيدة ما، ويقول: إنها ليست في رأيي صائبة. هذا حق أساسي لكل إنسان، ولكن ليس له على الإطلاق أن يقول: بما أني أرى هذه النظرية غير صائبة، فلذا لا بد من معاقبة صاحبها. وساءت الأحوال لدرجة أن الاختلافات على مسألة واحدة في الأمة الإسلامية كانت تأخذ شكلا كريها ورهيبا للغاية، وذلك باسم الإسلام، حتى إنهم كانوا في المساجد يقطعون الأصابع التي كان أصحابها يرفعونها وقت التشهد في الصلاة، بينما قطعت في مساجد أخرى تلك الأصابع التي كانت لا ترتفع أثناء التشهد، كما قطعوا في مساجد أخرى ألسنة أولئك الذين كانوا يقولون (آمين) بالجهر، وفي بعض المساجد الأخرى قطعت ألسنة أولئك الذين كانوا لا يجهرون بآمين..

إن الاختلاف في الرأي في حد ذاته ليس إثما، لأنه أمر طبيعي، ولكن لا بد من التقوى في ذلك. إلا أن الطرق التي سلكوها بسبب الاختلاف في الرأي كانت كلها إثما، تناسين أن الله تعالى قد منح الإنسان حق الاختلاف في الرأي، ولكن مع شرط التواضع والأمانة في إبداء الرأي وإقناع الغير بالحكمة والموعظة الحسنة بأن هذا هو الصواب عندي، فهل لك يا أخي أن تفكر وتتدبر رأيي.. ربما أنت أيضا سوف ترى كما أرى ويجب ألا يفوته قول الله تعالى:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (الغاشية: 22-25).

مما يعني أن المعاقبة على الاختلافات متروك لله وحده ، أما الأمور التي يتولى الناس فيها معاقبة الآخرين فهي قليلة وهي التي تسمى حدودا، حيث لا يوجد أي مجال للاختلاف. ولكن لم يمنح أي إنسان الحق في أن يتجاوز ذلك والصورة الرهيبة التي نلاحظها اليوم ليست إلا نتيجة للتجاوز عن هذا الحد والتدخل فيما ليس للإنسان أن يتدخل فيه. فهؤلاء تدخلوا في أمور العباد لدرجة لم تفرق الأمة فحسب، بل فرّقتها بشكل فظيع ومخيف جدا. فكل شيخ صار إلها بدون أن يعلن عن ألوهيته، ولكنه استولى على نفس السلطة التي لا تليق إلا بالله تعالى. واتسع نطاق سلطتهم وساءت الأحوال لدرجة أن من تدخل فيها استحق القتل على الفور في رأيهم. لذلك لا يجرؤ أحد اليوم على رفع الصوت ضدهم. ولا سبيل لحل هذه المشكلة إلا أن ينتزع الله هذه السلطة من أيديهم ويتولاها بنفسه، ويقيم من جديد تلك الخلافة التي انقطعت صلتها عنا. أما نحن فنرى أن هذا هو الغرض من بعثة الإمام المهدي والمسيح الموعود. لقد كان الله تعالى يصلح أمور الأمة بإرسال المجددين، ولكن لما تفاقمت الأزمة أخذ أمر الإمامية بيده، تماما كما أخبر الصادق المصدوق بأن الله في هذه الحالة سيتولى الأمر بنفسه حيث قال:

“يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِمَامًا مَهْدِيًّا وَحَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا” (مسند أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين)

كان المراد من قوله : (إماما مهديا) أنه يقيم إماما يتلقى الهدي من الله مباشرة، فيحكم بينهم ويحسم خلافاتهم، ومن أجل ذلك سماه النبي (حكما عدلا).

فإن كنت لا تقبل هذا الحل الذي تقدمه الجماعة الإسلامية الأحمدية، ولك الخيار ألا تقبله، فلن تجد أي سبيل تقترحه لحل هذه الخلافات التي ورثناها. إنها لن تحسم بأي طريق آخر أبدا، بل لن تزال تزداد وتتفاقم بصورة مروعة، ذلك لأن علماءهم -كما أسلفت- قد سيطروا على تلك السلطة التي لا تليق إلا بالله، ولن يستطيع أحد سواه أن ينتزع هذه السلطة من أيديهم، لأن انتزاع الألوهية الكاذبة من أيدي الآلهة الكاذبين أمر لا يستطيعه إلا الله .

لقد حاولت فرقة (أهل القرآن) في هذا الزمن إيجاد حل لهذه الخلافات حيث قالوا: لا نؤمن إلا بإسلام سهل لا تعقيد فيه. خذوا القرآن واتركوا ما سواه من الحديث والسنة، فهما سبب كل هذه الخلافات. فهل قبل أحد ذلك منهم؟ كلا! بل أوجدوا فرقة جديدة عبثًا، وما زالت الخلافات كما هي. فلو كانت الخلافات الموجودة بين الأمة حاصلة من مجرد اختلاف الروايات أو متوقفة على الأحاديث النبوية لكان من الممكن أن يحلوا المشكلة إلى حد ما، ولكنك تجد أن آية قرآنية واحدة يستنبطون منها معنيين مختلفين تماما. فمن يحكم في ذلك، فما لم يرسل الله إماما من عنده لا يحق لأحد من الناس أن يحكم في ذلك، كما لن يقبل أحد حكمه.

عندما تتفرق الأمم، ويريد الله إبقاءها يأخذ سلطة الإمامة في يده، ويتولى تنفيذها بنفسه، ومن جديد تتم عملية بذر النواة التي تنمو وتزدهر شيئا فشيئًا. وكما أن الدجاجة تجمع وتحمي فراريجها تحت جناحيها، كذلك تماما يجمع الله الأمة تحت راية النبي ويربيهم بواسطة نفسه الزكية المزكية. ولكي تتم هذه التربية والتزكية تشعل نار لا يمكن التربية والتزكية بدونها، ذلك أن قلة التقوى هي التي جلبت هذا الدمار على الأمة الإسلامية -كما أسلفت، فلو لم يكن حول نبي الله سياج من نار لاجتمع حولة بسرعة من لا تقوى لديهم، ظانين أنهم كلما اقتربوا من السلطة استفادوا منها، ولكن كلما كانت هذه النار شديدة فر منه غير المتقين، ولن يقترب منه إلا ذو جرأة فائقة للاحتراق في النار في سبيل الله ولكن الله لا يدعه يحترق بها، بل ينجيه منها. فإنها سنة إبراهيمية، ويظهرها الله في حق سائر أنبيائه أيضا. إلا أن الإنسان -بلا شك- يخاف هذه النار، لأنه بسبب الإيمان بالنبي يضطر لترك الأقارب الأقربين، ويواجه السب والشتم، ويرشق بالأحجار، ويحرم من الحقوق الإنسانية الأساسية. وبسبب هذه الظروف الصعبة لا يمكن لأحد أن يحكم على مثل هذا الإنسان إلا بأحد الأمرين: فإما أن يقول: إنه مجنون، وإما إنه من الطراز الأول من المتقين الذين لا يخشون أحدا إلا الله . ليكن هذا خاطئًا في رأيه، ولكنك لا تستطيع أن تقول: إنه غير متق. إذ الكاذب دائما ما يعمل لمصلحته الدنيوية، وليس ليخسرها. لذلك من سنة الله المستمرة منذ الأزل أنه كلما يتولى أمر الإمامة بنفسه يجعل أحب أحبائه أكثر عرضة للاضطهاد والعنف ويجعل المؤمنين، الذين هم أعزاء عليه جدا، مقهورين مكروهين في أعين الناس، ليميز الله الخبيث من الطيب، كما يقول القرآن الكريم. لأن الإمامة غربال ينقى الطيب من الرديء. لقد فكرت كثيرا في جميع الحلول التي يطرحها مختلف العلماء لجمع شمل الأمة الإسلامية، إلا أنني لا أرى واحدا منها ينفع شيئا، ما عدا هذا الحل القرآني الأصيل.

Share via
تابعونا على الفايس بوك