العلوم وطموحات المستقبل في الأقطار العربية

العلوم وطموحات المستقبل في الأقطار العربية

محمد عبد السلام

“تتوقف نهضة الأمم وتطورها على مدى اهتمامها بتطور العلوم الأساسية، ونشاط مراكز البحث العلمي، ورعاية العلماء وتشجيعهم، فبدون مراكز بحث وعلماء لا أمل في نهضة عربية علمية”.

كل أمة تغفو فتكبو، ثم تصحو فتنهض، هكذا حال أمم شتى اعتراها الوهن، وأثخنت جنباتها الجراح، فما بال أمتنا قد طال سباتها، وأصبحت جسدا مسجى في غرفة الإنعاش؟ نريد سريعا (حقنة الحياة)، لنتدارك آخر قطرات الدم في الوريد قبل الجفاف، فهل نحن فاعلون؟

ليس العرب أمة ضئيلة صغيرة، فهم قد اقتربوا في تعدادهم من 200 مليون نسمة تقريبا، وهذا العدد يكاد يعادل سكان الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي، ويكاد يكون ضعف سكان اليابان.

ويقدر الدخل القومي العربي حسب الإحصاءات العالمية لعام 1983 بأكثر من 400 بليون دولار، بينما لم تتجاوز مدخولات الصين مثلا 300 بليون دولار. وبينما ينفق العرب أكثر من 50 بليون دولار سنويا على نظامهم الدفاعي، فميزانية الدفاع في الصين لا تتجاوز 25 بليون دولار. وفي مجال العلوم والحضارة كان للعرب تاريخ مشرف، وإن حاول البعض طمس هذا الدور الإنساني العظيم، وتجاهل الإنجازات العربية الإسلامية في الرياضيات، والفيزياء، والطب، والأحياء، لن يستطيعوا أن ينكروا حقيقة أن العرب هم أول من أعطى للعلوم منهجيتها الحديثة، في أساليب الملاحظة، والتجريب، والتدقيق، يقول مؤرخ العلوم الكبير “جورج سارتون” – “إن أهم الإنجازات العلمية في القرون الوسطى كانت انبعاث تلك الروح التجريبية التي يعزى الفضل فيها إلى مسلمي القرن الثاني عشر”

أسباب التخلف:

لو أخذنا في الحسبان -في عصرنا الحاضر- تلك الأعداد الضخمة من العلماء العرب، والمسلمين المهاجرين، والعاملين في الولايات المتحدة، وأوربا، وما قدموه، ويقدمونه من إنتاج لا يمكن تجاهله في مجالات الطب، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، لأدركنا اليوم مدى التأخر والتقهقر العلمي في بلادنا العربية والإسلامية، ولاكتشفنا عاملا بيئيا طارئا، يجب تصحيحه، وعلاجه.

نستطيع أن نقول إن وراء هذا التخلف ثلاثة أسباب:

أولها افتقارنا إلى خطة قومية، ملتزمة وحاسمة، تسعى إلى اكتساب المعرفة، والتوسع في مجالاتها، كما حصل في اليابان مثلا إثر استعادة الإمبراطور “ماستاشيتو” للسلطة عام 1869، وقضائه على النظام العسكري والقبلي الذي كان سائدا إبان حكم “الشوجان”. لقد كانت إحدى مبادئ الحكم الجديد الخمسة تتضمن العمل على تشجيع اكتساب المعرفة والعلوم، بشتى الطرق والوسائل، من أجل رفعة اليابان وتقدمها.

والسبب الثاني هو إبعاد العلماء عن مشاريعهم، فكافة المشاريع العلمية في بلادنا لا يديرها العلماء أنفسهم، ولا يشرفون عليها، كما أننا لم نقم بأي جهد يذكر من أجل استدعاء الباحثين العلميين الممتازين، أو الإبقاء عليهم، ليشكل تواجدهم النواة الأولى في جامعاتنا، ومعاهد أبحاثنا.

وثالث هذا الأسباب عدم وجود خطة واضحة للاعتماد على النفس في مجال التقنية، وافتقارنا إلى خطة للتطور العلمي، فليست هناك -حتى الآن- سياسة علمية واضحة في هذا المضمار.

بهذا لنستطيع القول أن الضعف الذي نعانيه علميا وتقنيا يرجع -أساسا- إلى افتقارنا إلى الالتزام القومي الشديد بالسعي وراء العلوم والتقنية. قد يكون لنا سياسة خارجية محددة، وخطة اقتصادية واضحة في التصدير والاستيراد، وقد يكون لنا سياستنا الخاصة بنا في الدفاع والتسليح، لكن للأسف -ليس لدينا- حتى الآن -خطة معلنة لاكتساب المعرفة، والتقدم العلمي.

ومن مظاهر هذا التعتيم الحضاري خلو الساحة العربية من أي جهد تمويلي مسؤول على المستويين الحكومي والخاص، فليس لدينا مؤسسات علمية عامة أو خاصة، وما زلنا نعتبر العلوم نشاطا هامشيا في حياتنا، ولم نحاول أن نجذب مثقفينا البارزين، أو نغريهم بمناصب رفيعة تليق بسمعتهم العليمة، كذلك لم نعط -ضمن خططنا المستقبلية للتقدم العلمي، حتى العسكرية منها -أية أولوية من أجل بناء جيش قوي لأمتنا.

التعامل مع العلماء:

وعن مدى أهمية هذه الخطة وخطورتها نستطيع أن نستذكر تاريخ أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفياتي ونستلهمه، تلك “الأكاديمية” التي أنشأها بطرس الأكبر قبل قيام الثورة الروسية، وأوكل إليها مسؤولية زيادة عدد أعضائها، وإغرائهم بشتى الطرق، حتى أصبحت مطمح كل البارزين في كافة العلوم داخل الاتحاد السوفياتي، وأصبحت تضم اليوم أكثر من ربع مليون عالم وباحث، يعملون في المعاهد والمؤسسات التابعة لها، ويحظى هؤلاء الأعضاء بكافة الامتيازات التشجيعية التي كفلها لهم النظام السياسي في بلدهم، تلك الامتيازات التي يحسدهم عليها الآخرون.

وكما يقول (الأكاديمي) الروسي “مالكيف”: “لقد تحقق ذلك تقريبا عام 1945، حينما انهار الاقتصاد الوطني بعد الحرب، عندئذ قرر “ستالين” ضرورة تجنيد كافة المتفوقين -من رجال ونساء- في المجالات العلمية المختلفة، متجاوزا بذلك كل العوائق (البيروقراطية) و(الروتينية)، حيث أعلن حينئذ عن زيادة أجور العلماء والباحثين العاملين في (الأكاديمية) والمعاهد التابعة لها إلى ثلاثة أضعاف، وقد جاءت تلك الزيادة للعلماء دون الأطباء والمهندسين.

وربما تكون هناك بعض المشاكل في طريق التقدم العلمي داخل الاتحاد السوفياتي، أو بلدات الكتلة الشرقية، لكن الرعاية والنفقات ليست -حتما- ضمن هذه المشاكل.

كيفية إدارة المشاريع العلمية:

إن الإنجازات العلمية تعتمد -أساسا- على النخبة المتعلمة، وعلى الأفراد المتفوقين، وما يجب أن نفعله هو أن نبحث عن هؤلاء، ونجلبهم بكافة الوسائل، والإغراءات، وبالشروط الميسرة، المقبولة من جانبهم، لكي نحتفظ بهم، ونبقيهم بين ظهرانينا. هذا ما يجب أن نوفره، وندركه، قبل أن نبحث عن عصر نهضة جديدة للعلوم في بلادنا.

إن العلماء أنفسهم يجب أن يديروا هذه المشاريع. ولو نظرنا إلى كيفية إدارة هذه المشاريع في “إسرائيل” لذكرنا قول البروفسور “ديشاليت”، مدير معهد وايزمن في القدس، أمام إحدى لجان الأمم المتحدة، حين سئل عن سياسة “إسرائيل” العلمية فأجاب قائلا: “لدينا سياسة بسيطة للتقدم العلمي، تشتمل على عنصرين اثنين، أولهما أن العالم دائما على حق، ويفضل أن يكون شابا، وثانيهما منح هذا العالم مطلق الحرية في الحركة والسفر، وحتى الهجرة في سبيل متابعة أبحاثه ودراسته، لكن نحتفظ لنا بشرط واحد عليه قبل سفره، وهو ضرورة اقترانه بفتاة يهودية، قبل مغادرته، فهي التي سترجعه إلى وطنه حتما، فضلا عن احتفاظنا له بوظيفة مفتوحة حتى عودته”.

يهذه العقلية البسيطة يؤكد “ديشاليت” عددا من القناعات، والحقائق العالمية، الضرورية، والحاسمة أيضا، من أجل تقدم العلوم في العالم.

ليس للعلم وطن:

هذا القول يؤكد ضرورة إدارة العلماء لمشاريعهم وإشرافهم عليها، واستبعاد كافة العقول المتحجرة المتزمتة عنها، كما يعني أيضًا ضرورة التواصل الحي مع الدوائر العلمية العالمية، فليس للعلم هوية واحدة أو وطن واحد، لذا يجب الخروج من عزلتنا العلمية، ووضع حد لهذا الاعتكاف المزمن، فليس معقولا أبدا أن نجد معظم أقطارنا العربية والإسلامية تقتصر عضويتها على أربعة أو خمسة اتحادات عالمية، باستثناء مصر التي تشارك في حوالي 15 اتحادا علميا عالميا، كما أنه من المخجل حقا ألا يوجد على أرضنا العربية أو الإسلامية مركز عالمي واحد للأبحاث العلمية. لقد نظمت أقطارنا بعض المؤتمرات العلمية العالمية، لكنها قليلة جدا، أما السفر والترحال من أجل المشاركة في المؤتمرات العلمية فلا يزال ينظر إليه -في وطننا العربي والإسلامي- على أنه مضيعة للمال والوقت. وليست هذه هي العزلة الوحيدة التي يعاني منها علماؤنا، بل هناك عزلة أخرى عن أخلاقيات العلوم العالمية، فالفجوة ما زالت واسعة بين الطريقة ا لتي تدار بها مشاريعنا العلمية، وطريقة التسيير الذاتي لهذه المشاريع بأيدي العلماء أنفسهم، كما يحدث مثلا في الاتحاد السوفياتي.

كذلك ما زالت أقطارنا تفتقر إلى الأنظمة المتطورة للجمعيات العلمية، والمؤسسات المستقلة، ذات المستوى الجيد، وليس لدينا منظمات علمية مستقلة، تشرف عليها جهات مستقلة فعلا وتمويلها. وكذلك هناك خطأ (أكاديمي) في جامعاتنا، فهي لا تركز على ضرورة الأبحاث، ولا تحرص عليها، كما هو الحال في الجامعات الأمريكية مثلا، ثم ليس هناك معاهد أبحاث موجودة في الحرم الجامعي، أو حتى إعطاء مثل هذه المعاهد حق الارتباط والتبعية للجامعات. وهكذا يحرم شبابنا المتعلم من فرصة التواصل العلمي مع هذه المعاهد، ومن فرصة اللقاء مع النخبة البارزة العاملة في هذه المعاهد، والاحتكاك بهم، والاستفادة منهم، فهناك حاجة ملحة إلى رابطة علمية، تضم كافة الأقطار العربية والإسلامية، حتى ولو لم يكن الجو السياسي متوفرا في الوقت الحاضر.

إن هذه الرابطة العلمية الواسعة كانت موجودة فعلا في تاريخنا القديم، وفي عصوره الذهبية الرائعة، حيث نجد علماءنا المسلمين في آسيا الوسطى كالبيروني وابن سينا يكتبون أبحاثهم باللغة العربية، وحيث نجد العالم الفيزيائي ابن الهيثم ينتقل بكل حرية من بلده (البصرة) والتي كانت تحت الحكم العباسي إلى مصر، ويلقى في البلاط الفاطمي كل حفاوة وتكريم، رغم تنافس النظامين (الفاطمي والعباسي) آنذاك، ومثل هذا ما كان يلقاه في بغداد من تقدير واحترام، فللعلم حرمة وقداسة أينما كان، وحيثما حل، بغض النظر عن الخلافات السياسية، والدينية، والطائفية التي كانت في ذلك الوقت من تاريخنا القديم أشد عنفا وحدة من نزاعاتنا، وصراعاتنا الحالية، في تاريخنا المعاصر.

إن تشكيل أية رابطة عربية للعلوم يتطلب قرارا واعيا، واعترافا صريحا بهذا المفهوم الحضاري الإنساني للعلوم، من العلماء أنفسهم قبل حكوماتهم. إن طبقة العلماء في الوطن العربي والإسلامي ما زالت تشكل فئة صغيرة متواضعة، وما زالت جهودهم ونشاطاتهم العلمية -إذا ما قورنت بالإنجازات العلمية للدول المتقدمة- قليلة، فعلى العلماء أن يعملوا معا، كيَدٍ واحدة، وإلا تفرق أثرهم وجهدهم، وأصبح الموقف حرجا. ومن أجل دعم هذا الاتجاه لا نستيطع أن نحلم فنرى حكوماتنا تصدر المراسيم الشجاعة الحاسمة من أجل حماية علمائنا، ومنحهم الحصانة الكاملة لفترة ربع قرن قادم، نرى خلالها تشكيل تلك الرابطة العلمية لكل العلماء العرب والمسلمين، ونراهم يعاملون كفئة لها حصانتها وحمايتها، بعيدا عن كل الصراعات الطائفية، والسياسية، والدينية، كما كنا قديما في عصورنا الذهبية الغابرة.

العقلية العلمية والتقنية:

أما الملاحظة الأخرى الهامة -حول هذا الموضوع- فهي تتعلق بقضية النقل العلمي المصاحب للنقل التقني، فهنالك كثير من الحكومات العربية تزعم أنها تشجع على احتواء هذه التقنية، عن طريق استيراد التصاميم، والآلات، والأجهزة الفنية، وأحيانا بعض المواد الخام، وقد ظهر فشل هذا المسعى، ومدى عبثيته حين فند البروفيسور “أولدهام” من معهد الأبحاث التابع لجامعة “ساسكس” خطأ هذا الأسلوب، أثناء حضوره لأحد المؤتمرات العلمية التابعة للأمم المتحدة، لقد كان “أولدهام” يعمل في (هونج كونج) كعالم (جيوفيزيائي)، وأثناء عودته إلى (هونج كونج) زار “إسرائيل”، وقد جعلته هذه الزيارة الخاطفة يدرك مدى اتساع الفجوة بين “إسرائيل” و”هونج كونج”، فكلاهما شعبان من المهاجرين، ويكاد يكون التشابه متقاربا من حيث عدد السكان والموارد الاقتصادية، لكن (هونج كونج) حريصة جدا على اكتساب التقنية، بينما “إسرائيل” -إضافة إلى اكتساب التقنية- حريصة على التقدم العلمي، وعلى تطوير منجزات علمية، وربما يكون (أولدهام) قد أغفل بعض العوامل الأخرى التي ساعدت “إسرائيل” في هذا المضمار العلمي، لكنه يبقى على حق حين أوضح التناقض بين العلم والتقنية.

توصيات لازمة:

نحن بحاجة إلى خطة مطلقة معلنة، تنتهج سياسة توسعية شاملة في العلوم، وإلى سياسة واضحة للاعتماد على النفس في مجال التقنية القائمة على العلم، كما يجب أن نؤكد هذه الخطة، ونلتزم بأن التحول العلمي يجب أن يكون مصاحبا -في نفس الوقت- للتحول التقني، ومن خلال خطة قومية ملتزمة كهذه يمكن توفير التدريب اللازم في المستقبل القريب، لجيل كامل من شبابنا المتحفز في حقول العمل والتقنية، وعن العدد المطلوب تأهيله علميا في بلادنا نورد هذا المثال من بريطانيا للمقارنة: يقوم مجلس الأبحاث العلمية هناك بتوفير أكثر من خمسة آلاف منحة سنويا، للحصول على الدكتوراه، بالإضافة إلى خمسة آلاف منحة أخرى تمنحها المعاهد المتخصصة (كمعهد الأبحاث الطبية ومعهد الأبحاث الزراعية)، كما أن هناك أكثر من ألف منحة للدراسات والأبحاث لما بعد الدكتوراه في بريطانيا، ذلك البلد الذي لا يزيد عدد سكانه عن ربع سكان الوطن العربي.

كذلك يجب أن نفكر -على المدى البعيد- بإنشاء معاهد أبحاث راقية، ذات كفاءة، تكون تابعة لأنظمتنا الجامعية ومرتبطة بها، كما يجب أن يمنح المدرسون الجامعيون الفرصة والتفويض الكاملين لتكريس نصف وقتهم للبحث العلمي، ذلك البحث الذي سيقرر -فيما بعد- وضعهم الجامعي والمهني، كما هو الحال في الجامعات العالمية، كما يجب أيضا أن نغير من طريقتنا الشكلية لإدارة العلوم، وكيفية الإشراف عليها، فالعلوم للعلماء المجتهدين. ونذكر بالضرورة قيام مؤسسات علمية تنفق عليها بسخاء أطراف رسمية حكومية وجهات خاصة أيضا حتى يمكن ضمان توفير العديد من المنح الدراسية، وإعطاء الفرص التعليمية لعلمائنا الشباب.

ويجب التأكد من أن كافة مشاريعنا العلمية ذات طابع عالمي، تعطي وتأخذ، مع توفير التمويل اللازم مهما بلغت النفقات، وذلك من أجل الحفاظ على تواصلنا النشط مع القنوات العلمية العالمية، وأن تكون مشاريعنا جزء مكملا للعلوم الإنسانية، بالإضافة إلى توفير حرية الحركة، والأمن، والقضاء على العوائق -مهما كانت- من أجل خلق هذه الرابطة العلمية الموحدة.

نحن مدعوون لدخول باب المعرفة، والتسلح بالعلم، فنحن أمة حباها الله بالإيمان، وحثها على طلب العلم في كثير من آياته. يجب أن نخوض بحر العلم ليس لأن العلم أصبح يعني -اليوم- القوة، والأداة الرئيسية للتقدم الاجتماعي والعسكري، بل لأننا أعضاء في هذا المجتمع الدولي الكبير، لم نقدم له جديدا كباقي الأمم، لهذا نشعر بنظرات الاحتقار تطاردنا كالسياط من أمم أخرى سبقتنا -للأسف- في المجال العلمي في العصر الحديث. وفي هذا المجال نورد قول أحد الفائزين الأوروبيين بجائزة نوبل في الفيزياء: “هل تظنون أنه حق علينا أن نبقى نقدم العون والغوث والطعام والحياة لشعوب لم تقدم للمعرفة الإنسانية شيئا يذكر؟”

وحتى لو لم يكن قد قال ذلك فإن الحرج يعترينا، ويخدش حياءنا، وكرامتنا، عند زيارتنا لأي مستشفى، وعند مشاهدة الأدوية المتقدمة، والأدوات الطبية المتطورة من أجل إنقاذ الإنسان، ونحن لم نقدم شيئا منذ اكتشاف (البنسلين) حتى يومنا هذا.

إن جميع هذه الإنجازات الطبية المعاصرة لم تشارك بصنعها -للأسف- يد عربية أو إسلامية واحدة. يجب أن تكون أهدافنا كبيرة، وطموحة، وواضحة، بحيث نجاري -على الأقل- بريطانيا مع نهاية هذا القرن. إن الله قد وعدنا بأن لا يضيع عمل عامل منا.

مناهج المدارس:

إن افتقارنا إلى البيانات والإحصاءات الدقيقة حول نسبة طلبة القسم العلمي في الوطن العربي والإسلامي يجعلنا لا نخرج بتوصيات دقيقة حول هذا الموضوع الحساس، ومع ذلك يبقى الانطباع العام بأن معدل الطلبة المسجلين في القسم العلمي لا يتجاوز الثلث أو الربع بالنسبة للمعدل العالمي في البلدان المتقدمة، ففي الصين واليابان مثلا تعتبر المناهج العلمية مادة إلزامية لكافة صفوف المرحلة الثانوية، وكذلك الحال في الاتحاد السوفياتي حيث تعتبر المادة العلمية كالفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات موادا إلزامية لجميع الطلاب حتى سن “16”، بما في ذلك طلبة المعاهد الرياضية، والموسيقية، وحتى معاهد الحياكة للفتيات. وحسب معلوماتنا فليس هناك بلد عربي أو إسلامي واحد ينهج هذا الأسلوب التربوي الصحيح. وهذا يوضح النسبة القليلة لأعداد الطلبة العلميين في بلادنا، وهنا يأتي الدور التشجيعي حكوميا وأسريا، لدفع أبنائنا للدراسات العلمية، في كافة المراحل، وعلى المستويين الثانوي والجامعي. ولعل نظرة واحدة على تجارب غيرنا من الأمم الناهضة قد يلهمنا الطريق الصحيح، من أجل الانبعاث النهضوي الشامل لأمتنا العربية والإسلامية، ولعل التجربة اليابانية خير مثال على ذلك.

دروس من التجربة اليابانية:

في عام 1869 استولى الامبراطور “ماتساشيتو” على السلطة، بعد قرون مظلمة من الصراعات والنزاعات الداخلية على يد القادة العسكريين “الشوجان”، وكانت اليابان طوال هذه الفترة المظلمة التي امتدت إلى أكثر من ثلاثة قرون تعيش في عزلة تامة عن العالم، حيث كانت السياسة اليابانية القديمة تتعمد محاربة النفوذ الأوروبي الدخيل وبخاصة الإرساليات التبشيرية، ولكن مع بداية القرن التاسع عشر بدأ النفوذ الأوروبي يتصاعد علميا، وبدأت اليابان تتأثر بذلك، فأبرمت الاتفاقات الإقتصادية مع أميركا أولا، ثم مع بعض الدول الأوروبية كبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وهولندا. وهكذا بدأت العلاقة تنمو تدريجيا، وتنسق بذلك البنية القديمة للمجتمع الياباني. وعندما وصل الامبراطور إلى السلطة كان همه الأوحد هو فك هذه العزلة القاتلة عن بلاده، ثم احتواء المعرفة العاملية، واكتسابها بشتى الطرق، والوسائل. وعندما قررت اليابان استيراد التقنية الأوروبية، والعلوم الحديثة، كان ذلك بناء على خطة مرحلية، بدأتها بمسح شامل للصناعات الهندسية في أوروبا وأمريكا، ثم خطت الخطوة الثانية باستدعاء الخبراء والعلماء الأجانب، ثم بدأت بعد ذلك بإرسال البعثات التعليمية إلى الخارج، وبعدها تم إنشاء الجامعات والكليات الصناعية بهيئات تعليمية أجنبية، ثم تلا ذلك إنشاء معاهد الأبحاث، وقد تأكد ذلك على لسان رئيس وزراء اليابان في عام 1886 حين قال: “إن الطريق الوحيد لصيانة قوتنا القومية والحفاظ على مصلحة شعبنا هو العلم، فبدونه ليس هناك ازدهار لأي أمة من الأمم”.

“ومن أجل مستقبل مزدهر، ومن أجل أن نلحق بركب الأمم المتقدمة، فليس أمامنا إلا أن نتسلح بالمعرفة، ونطور من أسلوب أبحاثنا العلمية”.

وقد بدأت التقنية الحديثة تصل إلى اليابان لتساهم في تطوير صناعة المناجم، وصناعة النسيج، وبدأ الاهتمام بالتعليم الصناعي والفني، وتم إنشاء العديد من الكليات والمعاهد الصناعية، حيث يتلقى الدارسون على أيدي مدرسيهم الأجانب بعض المواد التطبيقية، كالهندسة والزراعة والطب والجيولوجيا، جنبا إلى جنب مع المواد الأساسية، كالرياضيات والفيزياء والأحياء.

لقد تم إنشاء كلية الهندسة في عام 1873، وكان الهدف من وراء ذلك إعداد الكوادر اليابانية، لوضع التصاميم والخطط اللازمة لتنفيذ سياسة التوسع العمراني والصناعي، وتم إرسال الكثير من الخريجين إلى أوروبا لمواصلة تعليمهم، لكي يباشروا بعد ذلك تدريس الجيل الثاني من إخوتهم اليابانيين. واستطاعت اليابان خلال عقدين من الزمان عن طريق مؤسساتها العلمية ومعاهد الأبحاث أن تكون ندا لأوروبا وأميركا مع نهاية القرن التاسع عشر.

إن التقدم العلمي والتقني كان العامل الحاسم وراء ذلك الازدهار وقتئذ، وبروز اليابان كقوة عسكرية عظمى في الشرق الأقصى. لقد استطاعت اليابان عام 1895 أن تهزم الصين، وبعد ذلك بعشر سنوات في عام 1905 استطاعت أن تهزم روسيا، مسجلة بذلك أول هزيمة لدولة أوروبية على يد دولة خارج الحدود الأوروبية في  العصر الحديث، وبدأت اليابان مع نهاية القرن الماضي عصر الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب، ثم بدأت بتصنيع المركبات وبناء السفن والتوسع في صناعة المناجم، ومع بداية القرن العشرين تحولت كافة الصناعات الثقيلة لاستغلال الطاقة الكهربائية.

وتأسس معهد الأبحاث الفيزيائية والكيميائية عام 1917 على غرار المعهد الامبراطوري الألماني الذي تأسس عام 1887، وكان الخطوة الحاسم على طريق التطور الذاتي للأبحاث العلمية اليابانية.  وأخذت معظم البحوث اليابانية وقتها تتجه اتجاها مغايرا للبحوث الأوروبية، فقد تركز معظمها على التقنية العسكرية، وفي الثلاثينيات من عصرنا نمت القوة العسكرية اليابانية بشكل كبير جدا، وبسرعة قياسية هائلة، فقد استطاعت اليابان أن تضم إليها مقاطعة (منشوريا)، واستغلت نشوب الحرب الأهلية عام 1932 في الصين لتعلن الحرب عليها وتحتل معظم المدن الصينية الكبرى، بما فيها العاصمة بكين وشنغهاي ونانكين. لقد كرست اليابان كل العلوم والتقنية لأغراضها العسكرية، فقد صدر مرسوم التعبئة القومية عام 1938، وتم إنشاء التعبئة للعلوم سنة 1940، وقد استطاع العالم الياباني “يوكاوا” أن يقدم إنجازا علميا في الفيزياء في فترة الثلاثينيات، وكان أول ياباني يفوز بجائزة نوبل للعلوم، رغم أن أبحاثه في تلك الفترة العسكرية كانت تمثل الاستثناء وليس القاعدة، ثم جاء الهجوم المباغت عام 1942 على (بيرل هاربر) ليحطم الأسطول الأمريكي المتواجد هناك، ثم دخلت أميركا الحرب، وكانت الهزيمة المعروفة للعسكرية اليابانية، وفي عام 1945 كانت اليابان أمة مهزومة انحدرت قوتها الإنتاجية إلى العشر، وظهرت مخاوف من انتشار المجاعة والأوبئة لكنها استطاعت مرة ثانية أن تقف على قدميها، عن طريق تحسين النظام الزراعي وتحسين نوعية الأسمدة والحبوب و”ميكنة” الزراعة، وقد أدى ذلك -فيما بعد- إلى زيادة الطاقة الإنتاجية للبلاد، الأمر الذي أدى أيضا إلى نمو القطاع الصناعي في الستينيات.

وكما حدث في الماضي اعتمدت اليابان على استيراد التقنية الغربية مرة أخرى، لكن لاستغلالها في الصناعات المدنية، وبخلاف التجربة السابقة فقد انفردت الشركات الخاصة بتمويل المشاريع العلمية الجديدة، واكتفت الحكومة بدور الإشراف والمراقبة، مع وضع القوانين التي تحد من ملكية الأجانب للمؤسسات الوطنية اليابانية، كان التطبيق الجريء للتقنية هو المحور الأساسي للنمو الصناعي الهائل، ثم عادت الحكومة لتساهم من جديد فأنشأت مؤسسات علمية للأبحاث منها وكالة العلوم والتقنية عام 1956م، ومجلس العلوم والتقنية عام 1959، وقد تفرع عن تلك الوكالات العديد من مختبرات الأبحاث، كمعهد أبحاث الطاقة الذرية سنة 1956، والمركز القومي لعلوم الفضاء عام 1964، ورغم أن التقارير الدولية تزعم أن اليابان تعاني بعض الصعوبات في بعض مجالات التطور العلمي، إلا أن هذا لا ينفي حقيقة أن اليابان هي إحدى الدول الست المتقدمة في العالم، جنبا إلى جنب مع الاتحاد السوفياتي، وأميركا، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا الغربية. وتأتي اليابان في المركز الثالث بالنسبة لقيم المبالغ والنفقات المخصصة للبحث العلمي بعد أميركا والاتحاد السوفياتي، وكذلك بالنسب لعدد العاملين في الأبحاث العلمية.

يلاحظ المراقبون بأنه رغم هذا الزخم العلمي الهائل فإن الاختراعات اليابانية أقل مما يجب، وللتغلب على ذلك تحاول اليابان جاهدة تطوير الأبحاث المتعلقة بالطاقة النووية في المجالين الانشطاري والاندماجي معا، وتطوير الأقمار الصناعية لاستخدامها في مجالات الاتصال والأرصاد الجوية. فما الذي حول اليابان من دولة فقيرة تعاني من الانقسامات، والنزاعات الدموية الداخلية، إلى دولة عصرية متقدمة؟ وهل يمكن اعتبار اليابان أنموذجا يمكن تقليده والاستفادة منه؟ أم أن التجربة اليابانية هي محض تكريس ذاتي للشخصية اليابانية المتميزة؟

طرفة في عالم جاد:

لا شاك أن العوامل الذاتية الكامنة في صلب أمة تلعب دورا قياديا في قضية التطور الاجتماعي والحضاري، لكنها ستبقى همجية الطابع إذا لم تأخذ بمنهجية العلوم الإنسانية المتطورة. وبعد هذا السرد التاريخي الجاد عن تجربة جادة نورد هذه الطرفة: في إحدى لجان المؤتمر الإسلامي المنعقد عام 1973 تقدمت باكستان بفكرة إنشاء مؤسسة إسلامية علمية على غرار مؤسسة (فورد) حجما وتمويلا، وبرأسمال قدره “1000” مليون دولار، وبعد ثماني سنوات من التمحيص والتدقيق والدراسة جاءت البشرى بالإعلان عن مولدها، لكن بتعديل بسيط تقهقر الرقم الرقم الموعود من 1000 مليون إلى 50 مليونا!

نورد هذه الطرفة دون (رتوش)، ودون شماتة، لعل سذاجتها تدفعك أيها القارئ العربي -إذا لم تكن قد ضحكت بعد- إلى قراءة هذه الدراسة مرة أخرى وبطريقة مجهرية. (العربي 338)

Share via
تابعونا على الفايس بوك