موقف الأحمدية من الجهاد!!
التاريخ: 1985-02-15

موقف الأحمدية من الجهاد!!

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة جمعة ألقاها حضرة أمير المؤمنين مرزا طاهر أحمد نصره الله

الخليفة الرابع للإمام المهدي والمسيح الموعود

في 15 شباط/فبراير 1985م، بمسجد “الفضل” لندن

أصدر الديكتاتور الباكستاني الراحل الجنرال ضياء الحقّ في 26/4/1984 حُكماً عسكرياً غاشماً يحرم المسلمين الأحمديين في باكستان من حقَّهم في إعلان دينهم الإسلام الذي يدينون به من الأعماق، أو النطقِ بالشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، أو إلقاءِ تحية الإسلام، أو الصلاةِ على النبي ، أو رفعِ الآذان للصلاة، أو قراءةِ القرآن الكريم، أو كتابةِ آياته أو حيازتها، أو تسمية أنفسهم بأسماء المسلمين، إشارةً أو صراحةً، شفوياً أو كتابياً، أو تسمية مساجدهم مساجد!! الأمر الذي كان ولا يزال يحرَّض المشائخ المتعصّبين وأتباعهم الجهلة على قتل المسلمين الأحمديين المسالمين، وعلى تدمير بيوتهم وهدم مساجدهم، كما يبشّرهم هذا القرار بتغاضي الحكومة عن جرائمهم.

وبعدها نشرت حكومته كُتيّباً باسم «القاديانية.. خطرٌ شديدٌ على الإسلام» لتبرير ما قام به هذا الدكتاتور من إجراءاتٍ مُنافية لتعاليم الإسلام السمحاء وسُنّة نبيّ الرحمة ، وسمّت الحكومة هذا الكتيّب «البيان الأبيض»، وكان من الأجدر أن يُطلق عليه «البيان الأسود»، لما فيه من أعذار سخيفة لتبرير هذا القرار الفرعوني الغاشم، تسوِّد وتشوّه وجه الإسلام الأغرّ. ولقد قام إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية سيدنا مرزا طاهر أحمد – أيَّده الله تعالى بنصره العزيز – بالردِّ على هذا «البيان الأسود» مُحلِّلاً ومُفنِّداً بعون الله كل أعذارهم السخيفة عذراً عذراً، في سلسلةٍ طويلة من خُطب الجمعة (ثماني عشرة خطبة)، في أوائل سنة 1985م. ننشرها مترجمة من اللغة الأُردية لفائدة القرّاء المنصفين، وهذه هي الخطبة الرابعة منها.

لقد تشرَّف بترجمة هذه الخطبة عبد المؤمن ظاهر وراجعَها  الأستاذ عبد الله أسعد عودة.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.  بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ * (آمين)

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (سورة الحج: 40 و 41)

إنَّ من أهمَّ التُّهم الموجّهة إلى سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في كُتيّب نشرته حكومة باكستان أنّه – والعياذ بالله – غراس الإنجليز. وكأنَّ الأحمدية جماعةٌ أقامها الإنجليز. ولقد سبق لي أن شرحتُ لأبناء الجماعة إحدى نواحي هذه التُّهمة في الخطبة الماضية وألقيت عليها الضوء من مختلف الزوايا. أما الآن فسأتحدَّث عن بعض الجوانب الأخرى للتهمة نفسها.

إنّهم ربطوا بن هذه التُّهمة وتهمة أخرى، “نسخ الجهاد” وقالوا عن المسيح الموعود بأنّه نسخ الجهاد. وحجّتهم في ذلك هي: بما أنَّ الإنجليز هم الذين أقاموه لتحقيق أهدافهم، فكان من أهم تلك الأهداف هدف نسخ الجهاد، وبما أنَّ حضرته أقرَّ بنفسه أكثر من مرة في كتبه بأنّه قد نسخ الجهاد – حسب ما ورد في نشرتهم – فثبت بكل وضوح أنّه كان قد قام عميلاً للإنجليز  لتحقيق أهدافهم.

 اتهامُ بَطَلِ الإسلام بنسخ الجهاد

لو درسنا حجّتهم هذه بعمق لوجدنا أنَّ لها جوانب عدّة يجب الاهتمام بها عند الردّ عليها. فأولاً: إذا كان حضرته قد نسخ الجهاد حسب زعمهم لتحقيق مصالح الإنجليز، فما هي تلك المصالح يا تُرى؟ وكيف تحقّقت بواسطته؟ وثانياً في أيّة ظروف أعلن حضرتُه عن نسخ الجهاد، كما يزعمون؟ وما هي الأخطار الحقيقية التي كانت محدقة بالإنجليز من قِبل المسلمين؟ ثم ما هي الخلفيّة السياسيّة لهذا الإعلان؟ هناك أمورٌ كثيرةٌ أخرى أيضاً في ذهني في هذا الصدد سوف أُلقي عليها الضوء في خطبتي بإذن الله.

فالأمر الأول الذي يجدر بالانتباه إليه في هذا الشأن هو أنّه لو كان الإنجليز يريدون نسخ نظرية الجهاد بفتوى من سيدنا الإمام المهدي ، ليمتنع المسلمون عن القيام به، كان من المستحيل أن يسألوه إلى جانب ذلك أن يقوم بإعلانات تسبب له عداوة الأمة كلها. كانت هناك أيام حين كان العلماء يُشيدون به ويقولون: لم يُولد بعد المصطفى إلى يومنا هذا بطلٌ عظيمٌ مثله في الإسلام. ولكن بعد هذه الدعاوي تغيّر الوضع رأساً على عقب إذ تحوَّل الأقارب إلى الأعداء ناهيك عن الأغيار، وصار ذوو الأرحام متعطّشين لدمه. فبسبب إعلانٍ واحد تغيّر الوضع في ليلةٍ وضحاها حتى لم يبقَ له ولا صديقٌ واحد في العالم كله.

فهل يُعقل أن يطلب منه الإنجليز أن يقوم بإعلان يصبح بسببه العالم كلُّه عدوَّاً له، ثم مع ذلك يتوقعوا من الناس أن يُصدِّقوه ويؤمنوا بفتواه القائلة بنسخ الجهاد؟ كيف يمكن أن يُقيموه من ناحية لنسخ الجهاد ومن ناحية ثانية يطلبوا منه أن يقوم بإعلان يجعل الأصدقاء عطاشى لدمه. إنَّ فكرةً رديئةً كهذه يمكن أن تقبلها عقول هؤلاء البارزين في عداوة الأحمدية وأمثالهم، ولكن لا يمكن أن يقبلها أحدٌ من ذوي عقلٍ سليم في العالم كله؛ أعني أن يأمره الإنجليز بإعلان أن إلههم الافتراضي (عيسى ابن مريم ) ميت، وانّه أي سيدنا أحمد قد جاء كنبي تابع لسيدنا المصطفى ، مما أسخط جميع المسلمين وجعلهم أعداء ألدّاء له. ثم جعل جميع السيخ القاطنين في فنجاب أعداء له بإعلانه عن “جورو نانك”. ثم أمروه بالاصطدام مع الفِرق الهندوسية “الآرية” و”ستاتن دهرم” فيجعلهم أيضاً أعداء. ثم قام بالنسبة إلى البوذيين أيضاً بإعلان لم يكونوا ليقبلوه، والحال نفسه بالنسبة إلى الزردشتيين. ثم أمروه أن يتحدّى جميع الأمم المنتمية إلى أي دين ويقوم بإعلان يُثير غضبهم عليه. لم ترَ الدنيا مدَّعياً يقوم بإعلاناتٍ مريرة كهذه تؤذي الجميع، ومع ذلك يريد أن يتبعه الناس وأن يغيّر مجرى أفكارهم. الحق أننا لا نجد مثيلاً لمدَّعٍ هذا شأنه إلا أنبياء الله الكرام. اِقرأوا التاريخ المذكور في القرآن الكريم لن تجدوا حادثاً مثله إلا في تاريخ الأنبياء.. أن يقوم رجلٌ منهم يدعوهم بل العالم كله لاتّباعه ولكنه لا يدَّعي بما لا يقبله أحدٌ في العالم. الواقع أنَّ أشدَّ دعاويه مرارةً يكون دعواه: “أنَّ الله أرسلني”، حتى يخذله الأقارب أيضاً ناهيك عن غيرهم. فالغريب أن يأمر الإنجليزُ سيدنا أحمد  بادِّعاءٍ لا يراه أعداؤنا أيضاً مناسباً، ومع ذلك توقّعوا أنَّ المسلمين كلهم سوف يتنحون على الفور عن فكرة الجهاد بمجرّد قوله هذا، وبالتالي يتخلّص الإنجليز من جميع المشاكل والمصائب، وسوف تنحلُّ القضايا كلها بمجرّد فتوى حضرته ضد الجهاد. هذه الفكرة يمكن أن يقبلها هؤلاء الناس فحسب ولكن لن يقبلها أحد من ذوي العقول بشكلٍ من الأشكال.

احتلال الإنجليز الهندَ وخلفيّته السياسية

ثم ماهي الظروف التي كان الإنجليز يخافونها؟ تعالوا نستعرض خلفيّتها السياسيّة. ماذا كانت تلك الظروف التي كان المسلمون يمرّون بها حين دخل الإنجليز الهندَ وأخذوا زمام الحُكم فيها؟ وأي نوعٍ من القوة كانت سائدة آنذاك التي كان الإنجليز يخافونها؟

يقول المولوي مسعود عالم الندوي في هذا الصدد:

“كانت ولاية بنجاب حينذاك تحت الحكم المسيحي الغاشم. إنَّ أعراض المسلمات لم تكن مصونة، وقد أُبيح دم المسلمين، وحُرِّم ذبح البقر، وكانت المساجدُ تُستخدَم كحظائر الخيل. وكان هناك سيلٌ عارمٌ من المظالم يجرف بالسكان المسلمين من منطقة الأنهر الخمسة (بنجاب). كانت أعينهم تنظر كل شيء ولكن قُواهم للعمل كانت قد شُلّتْ”. (الحركة الأولى بالهند، ص 45)

كانت الهند كلها من شمالها إلى جنوبها مكتظّة بالسكان المسلمين، ولكن قُواهم للعمل كانت قد شُلَّتْ لدرجة لم يكونوا قادرين على أن يُعلنوا بحرمة دماء إخوانهم ويُعلنوا الجهاد ضد هؤلاء الذين كانوا يستبيحونها. كانوا يُحرِّمون دم البقر ويُحلّون دم المسلمين، واستباحوا أعراض المسلمات. فلم ترتفع يدٌ لحماية أعراض هؤلاء الأمّهات والأخوات والبنات المسلمات. فمن ذا الذي نجّاهم من براثن هذه المظالم؟ الحكومة الإنجليزية هي التي نجّتهم. لقد حَظِيَ المسلمون بالأمن والسلام بمجيء حكومة الإنجليز.

فهل كان الإنجليز يخافون هؤلاء المسلمين الذين كانوا راضين بحكومتهم المنحصرة في “دلهي” فحسب؟ والذين تحرّرت منهم الولايات الهندوسيّة كلها، والذين كانوا قد صاروا عُرضةً للظلم والاضطهاد من كل حدبٍ وصوب، والذين ما كانوا يملكون قدرة على الدفاع عن أنفسهم، والذين انتزعت شركة[1]  واحدة الحكمَ من أيديهم. فهل كان الإنجليز يخافونهم أنهم سوف يُدمِّرونهم ويُبيدونهم؟ وهل كان ممكناً لهؤلاء المسلمين أن يقوموا بالجهاد؟ ثم فكِّروا أي منطق وحكمة في جهادٍ كهذا! يأتي الإنجليز ويُنقذون أهل الإسلام من مظالم السيخ، كما يُنجّونهم من استبداد الأمراء الهندوس والمراهتة (طائفة عرقيّة في الهند)، فيقوم المسلمون فجأةً في وجه الإنجليز قائلين: طيب، أنتم الذين أنقذتمونا من هؤلاء الظالمين، والآن سوف نُكافيكم ونُلقّنكم درساً كيف يُنقذ المظلومون؟ أهذا هو تصوُّركم للجهاد؟ يجب أن تستخدموا العقل والمنطق وتفكّروا في موقفكم ودعواكم. بأي وجهٍ تقابلون العالم؟ هل تقولون: كنا نريد الجهاد ضد الإنجليز الذين أنقذونا من مظالم السيخ، ولكنهم (أي الإنجليز) أعلنوا بنسخ الجهاد عن طريق شخص كان عدواً لنا وعميلاً لهم فلم نُحاربهم!! من ذا الذي يقبل هذه الدعاوي غير المعقولة؟

صوت ضد الفكرة المشوّهة للجهاد

والناحية الثالثة من الموضوع هي: أي نوعٍ من الجهاد اعتبره سيدنا المهدي والمسيح الموعود حراماً؟ إنَّ الجهاد أنواع: كالجهاد بالسيف، والجهاد بتضحية الوقت لخدمة الدين، والجهاد لتبليغ الإسلام وهكذا دواليك. إنَّ موضوعا الجهاد واسعٌ جداً ويجب أن ننظر: أيُّ جهادٍ حرَّمه سيدنا الإمام المهدي ؟ هل حرَّم فكرة الجهاد الحقيقي للإسلام أم أنه حرَّم الفكرة المشوّهة للجهاد لدى الناس. يجب أن تسمعوا هذا من لسانه هو، وتُفكِّروا في قوله، وتروا ماذا يُحلُّ وماذا يُحرِّم. إنني أودُّ  أن أقرأ عليكم قولاً من أقواله ع في هذا الشأن، ولكن قبل قراءته أُبيّن لكم خلفيّة القسّ الذي ورد ذكره فيه.

كان القساوسة في زمنه – وخاصةً أولئك الذين تنصَّروا بعد إسلامهم – يتهجَّمون على الإسلام بضراوةٍ شديدة. كانوا من ناحية ينشرون بين الناس أنَّ الإسلام يأمر بالجهاد في السيف، ومن ناحية أخرى كانوا يُثيرون الحكومة الإنجليزية على تدمير المسلمين وقوّتهم حتى لا يقدروا على النهوض من جديد. ففي هذه الفترة كان القساوسة المسيحيون يُحرِّضون الإنجليز بشدة متناهية ضد المسلمين بناءً على فكرة الجهاد، على الرغم من أنَّ المسلمين المساكين لم يكن فيهم أي حماس ليثوروا على الإنجليز بسبب غلبة الإنجليز عليهم.

سوف أقصُّ عليكم أخبار المسلمين آنذاك وسوف تندهشون عندما تطَّلعون على أفكارهم وعلى أنهم كيف كانوا يتوسلون إلى الإنجليز. فإنَّ القساوسة الظالمين كانوا يهجمون عليهم من طرف واحد لعداوتهم للإسلام. وكانوا يريدون أن يسحقوا المسلمين في الهند بهذه الطريقة ويُقوّوا ساعد الهندوس. وكان الهندوس أيضاً يهمسون في آذان الحكومة بأنَّ الخطر الحقيقي المحدق بحكمهم من جانب المسلمين، فدمِّروا ما تبقّى من قوّتهم واقضوا عليهم نهائياً وأَخْرِجوا من أذهانهم فكرة النهوض مرةً أخرى.

وردَّاً على مثل هذه التُّهم التي أثارها القسُّ عماد الدين والذي كان من قبل إماماً وخطيباً بمسجد آغرا،.. يقول سيدنا المهدي والمسيح الموعود :

“وأما ما ذكر هذا الواشي قصة جهاد الإسلام وتظنَّى أنَّ القرآن يحثُّ على الجهاد مطلقاً من غير شرطٍ من الشرائط، فأيُّ زورٍ وافتراءٍ أكبرُ من ذلك إن كان أحد من المتدبّرين. فليعلم أنَّ القرآن لا يأمر بحرب أحدٍ إلا بالذين يمنعون عباد الله أن يؤمنوا به ويدخلوا في دينه ويُطيعوه في جميع أحكامه، ويعبدوه كما أُمِروا. والذين يقاتلون بغير الحق، ويُخرجون المؤمنين من ديارهم وأوطانهم، ويُدخلون الخلق في دينهم جبراً وقهراً، ويريدون أن يُطفئوا نور الإسلام، ويصدّون الناس من أن يُسلموا، أولئك الذين غضب الله عليهم ووجب على المؤمنين أن يُحاربوهم إن لم ينتهوا.” (نور الحق، الجزء الأول ص 45، الخزائن الروحانية ج8)

الأفكار الخاطئة عن الجهاد خطرٌ على الإسلام

هذا هي فتواه عن “نسخ الجهاد”! اسمعوا أيضاً عمّا حرّمه حضرته وضد أية أفكار رفع علم الجهاد؟ فليتّضح أنه رفع صوته ضد أفكار خاطئة لبعض المشائخ الجهَّال والقساوسة، تلك النظريات الخاطئة  التي ما كانت لتنفع الإسلام والمسلمين أبداً، لأنَّهم ما كانوا قادرين على قتال أحد، وإنّما كان من شأنها أن تجلب عليهم أخطارٍ شديدة من كل حدبٍ وصوب. يقول سيدنا المهدي والمسيح ما تعريبه:

  “سبحان الله، كم كانوا أتقياء ويحظَون بروح الأنبياء أولئك القوم الذين إذا أمرهم الله في مكة بألا يواجهوا الشرَّ بالشر ولو مُزِّقوا إرباً، فإنّهم فورَ تلقِّهم هذا الأمرَ تواضعوا وضعفوا وكأنّهم أطفالٌ رُضَّع وكأنّهم ما بأيديهم ولا في أرجلهم من قوة. فقُتلَ بعضهم بحيث رُبطت بقوةٍ إحدى رجلي المرء ببعير ورجله الأخرى ببعيرٍ آخر، ثم ركضوا البعيرين في اتجاهين مخالفين، فقُطعَ جزئين في لمح البصر كما تُقطع الخضار مثل الجزر وغيره. ولكن للأسف أنَّ المسلمين، ولاسيما المشائخ منهم، صرفوا أنظارهم عن كل هذه الأحداث، فيزعمون أنّ أهل الدنيا كلهم صيدٌ لهم، وكما أنَّ الصيّاد عندما يطَّلع على وجود الغزال في الفلاة يتسلَّل إليه في الخفاء ويتحيَّن الفرصة فيُطلق عليه الرصاص، كذلك هو حال معظم المشائخ. إنَّهم لم يقرؤوا حرفاً واحداً من دروس الرفق والعطف على بني الإنسان، بل يرون أنَّ إطلاق الرصاص على شخصٍ بريء في حين غفلته هو الإسلام فقط… أين الذين يمكن لهم أن يصبروا بعد أن يُضرَبوا كالصحابة رضوان الله عليهم؟ هل أمرنا الله تعالى أن نُفاجئ رجلاً لا نعرفه ولا يعرفنا على حين غفلةٍ منه، بدون أي سببٍ أو أية جريمةٍ ارتكبها، فنقطّعه بالسكين إرباً أو ننهي حياته بالرصاص؟ هل يعقل أن يكون من الله تعالى دينٌ يقول أنِ اقتُلوا عباد الله الأبرياء دون أن يرتكبوا جريمة وبدون أن يتم تبشيرهم، تدخلوا الجنة. من المؤسف بل من المخزي أن نُصادف إنساناً – ليس بيننا وبينه عداوةٌ أو معرفة سابقة – وهو يشتري بعض الحاجيات لأولاده في إحدى المحلات أو كان مشغولاً في بعض أعماله الشرعية الأخرى، فنطلق عليه النار بدون سبب أو مبرّر، فنجعل زوجته أرملة وأولاده أيتاماً وبيته مأتماً. في أية آية من القرآن الكريم أو حديث من أحاديث النبي  ورد مثل هذا الأمر؟ هل من المشائخ احد يستطيع أن يُجيب على هذا؟ الواقع أنّ هؤلاء الجهّال سمعوا اسم الجهاد، فأرادوا أن يتخذوه ذريعة لتحقيق أغراضهم النفسانية”. (الحكومة الإنجليزية والجهاد، الخزائن الروحانية ج17 ص 11-12)

شروط الجهاد بالسيف مفقودة

فهذا هو التصوّر الخاطئ للجهاد الذي ألغاه المهدي والمسيح الموعود . هل من شيخ يستطيع أن يُفتي اليوم أيضاً بجواز جهادٍ كهذا؟ فلا غروَ أنهم يتهمون حضرته كذباً وزوراً. إنَّ ما حرّمه حضرته إنما هي تلك النظريات الخاطئة للجهاد التي اختلقها معارضوه من عند أنفسهم. أما اليوم فقد ظهرت أفكارهم الخاطئة هذه على السطح، ولكنهم كانوا يخفونها حينذاك. أما فيما يتعلق بحكومة الإنجليز فكانوا يقولون لهم نفس ما أفتى به سيدنا المهدي والمسيح الموعود عن الجهاد. سوف أقرا عليكم بعض المقتبسات حول هذا الموضوع، عندها سوف تُدركون مدى الخبث الذي انطوت عليه طبائع أعدائه . إنَّ الله عز وجل لا يصطفي عباده ولا يحبهم بدون سبب، وإنما يبتليهم بأنواع من المصائب والأذى والابتلاءات، فيواجهون معارضين أشد الخلق ظلماً، ولكنهم يصبرون على أذاهم، فيُكتَبون عند الله من عباده الأطهار والأخيار ويُعَدُّون من الذين يحبُّهم الله.

يستمر حضرته ويقول ما تعريبه:

“فرُفِعت هذه السُنّة برفع أسبابها في هذه الأيام، وأُمرنا أن نُعِدَّ للكافرين كما يُعِدُّون لنا، وألا نرفع الحسام قبل أن نُقتَل بالحسام”. (حقيقة المهدي، الخزائن الروحانية ج14 ص28)

ويقول أيضاً ما تعريبه:

“إنَّ الجهاد في هذه الأيام قد اتخذ صِبغةً روحانية. فالجهاد في زمننا هذا إنما هو بذل المساعي لإعلاء كلمة الإسلام”. (مكتوبات سيدنا المهدي ، مكتوب إلى حضرة مير ناصر نواب. نقلاً عن نشرة “درود شريف” بقلم المولوي محمد إسماعيل ص67، وجريدة “بدر” قاديان، عدد 14 آب/أغسطس 1903م)

إذاً فلم ينسخ حضرته إلا ذلك التصوُّر الخاطئ للجهاد الذي ابتدعته المشائخ من عندهم. ومما لا شكَّ فيه أنَّ الجهاد بالسيف ممنوع ما لم تتوفر شروطه، وهو أحد أنواع الجهاد المتنوعة والذي لا يجوز القيام به لعدم وجود الشروط فقط.

مجال إعلاء كلمة الإسلام مفتوح

أما فيما يتعلق بموضوع الجهاد الواسع فلا يمكن أن يُنسَخ أو يُلغَى أبداً، بل يبقى جارياً على الدوام. ويمكن للمؤمن أن يقوم به بشكل من الأشكال دوماً. يقول سيدنا المهدي ما تعريبه:

“اِسعوا لإعلاء كلمة الإسلام، ورُدُّوا على تُهم المعارضين، وانشروا محاسن الدين المتين، وبيّنوا صدق سيدنا محمد المصطفى للعالم. هذا هو الجهاد إلى أن يُحدث الله تعالى أمراً آخر في الدنيا”. (المرجع السابق)

مما يعني أنَّ هذا الشكل للجهاد ليس له صفة أبدية، والمراد من “أمر آخر” هو أنه كما يلجأ أعداء الإسلام إلى استخدام الجبر والعنف ضد الدين يُسمح لكم أيضاً أيها المسلمون، ولكن ما لم يحدث هذا فهناك أشكالٌ أخرى للجهاد أمامكم.

ويستمر حضرته في توضيح موقفه قائلاً ما تعريبه: “إنَّ الجهاد بالسيف منسوخٌ الآن”. وليس كل نوع من الجهاد. لماذا؟ فقد بيّن حضرته سبباً لذلك سابقاً.

“…. غير أنَّ الجهاد لتطهير أنفسكم فلا يزال جارياً. وهذا لم أقله من عندي، وإنّما هذه مشيئة الله وإرادته. فكّروا في الحديث الوارد في البخاري حيث جاء عن المسيح الموعود: “ويضع الحرب”.. أي أنَّ المسيح الموعود حين يجيء سوف يُلغي الحروب الدينية”. (الحكومة الإنجليزية والجهاد، الخزائن الروحانية ج 17 ص 14-15)

أفكارهم عن الجهاد تعارض تعليم القرآن

إذاً هذا ما قاله سيدنا المصطفى . ثم يوضّح سيدنا أحمد الموقف أكثر فيقول في كتابه “تحفة قيصرية” ما تعريبه:

“والأصل الثاني الذي بُعثتُ من أجله هو إصلاح تلك النظرة الخاطئة للجهاد التي اشتهرت بين بعض المسلمين الجهّال. فقد فهّمني الله سبحانه وتعالى أنَّ الأساليب التي تُعتبر اليوم جهاداً تتعارض كليّةً مع التعاليم القرآنية. لا شكَّ أنَّ القرآن الكريم قد ورد فيه أمرٌ بالحرب، وكان أكثر منطقاً وحكمةً من حروب سيدنا موسى وحروب يوشع بن نون، لأنَّ هذه الحرب مبنية على مبدأ أنَّ الذين حملوا السيوف لقتال المسلمين بدون مبرر، وسفكوا الدماء بغير حق، وأوصلوا الظلم إلى منتهاه، فليُقتَلوا هم الآخرون بالسيوف”. (تحفة قيصرية ص 10)

هذا ملخص ما ورد عن الجهاد في الآية التي استهللتُ بها خطبتي. هل من أحدٍ من علماء الدين يستطيع أن يثبت خطأ موقفنا هذا ويشير إلى مجال للطعن فيه؟ الحق أنهم يفترون على سيدنا المهدي والمسيح الموعود كذباً وزوراً وهم يعلمون، لأنهم قد طالعوا كتبه. يُبدون منها قليلاً ويُخفون كثيراً، ويُظهرون أنَّ حضرته أقامه الإنجليز لنسخ الجهاد، ولو لم يُقيموه لُقضيَ عليهم ولكان من شأن المسلمين أن يُدمّروا الحكومة الإنجليزية إن لم يمنعهم حضرته من الجهاد.

فتاوي المشائخ تُدين محاربة الإنجليز

تعالوا نقرأ الآن بعضاً من فتاوي المشائخ الذين يتسابقون في اتهامنا. لا شكَّ أنهم حينذاك كانوا يُروِّجون في الخفاء نفس الوقت النظريات الخاطئة بين المسلمين، ولكن أمام الحكومة الإنجليزية فكانوا يُظهرون موقفهم بعكس ذلك تماماً.

الشيخ محمد حسين البطالوي كان من أكبر معارضي سيدنا أحمد وأشدّهم طعناً فيه بسبب موقفه عن الجهاد. كانت فتوى هذا الشيخ عن الثورة التي قام بها بعض المسلمين الهنود ضد الحكومة الإنجليزية سنة 1857م كالآتي:

“إنَّ المسلمين الذين اشتركوا في ثورة 1857م جدُّ آثمين، وكانوا مفسدين وبُغاة وفاسقين بحسب حكم القرآن. إنَّ محاربة هذه الحكومة أو تقديم أي نوع من المساعدة للثائرين عليها – ولو كان من إخواننا المسلمين – حرامٌ وخيانةٌ شنيعة”. (مجلة إشاعة السنّة ج9، العدد العاشر، ص 308)

كما قال في أحد كتبه:

“فثبت جليّاً بهذه الأدلة أن بلاد الهند هي دار الإسلام، رغم كونها تحت حكم دولةٍ نصرانية. فلا يجوز مطلقاً لأي حاكم مسلم سواء كان من العرب أو العجم، وسواء كان المهدي السوداني أو ملك إيران أو أمير خُراسان، أن يعتدي أو يشنّ حرباً دينية على الحكومة الإنجليزية”. (الاقتصاد في مسائل الجهاد، ص 16)

فالشيخ البطالوي لا يُفتي بوجوب طاعة المسلمين الهنود للحكومة الإنجليزية فحسب، بل يعلن لمسلمي القاطنين في البلاد الأخرى أنه حرامٌ عليهم أن يُحاربوا الحكومة الإنجليزية!؟

ويمضي قائلاً:

“حرامٌ على أهل الإسلام مناوئة أو محاربة الحكومة الإنجليزية بالهند”. (مجلة “إشاعة السُنّة”، ج7، العدد 10، ص 187)

ويوضّح موقفه قائلاً:

“لا مبرّر شرعياً للجهاد في هذا الزمن، لأن المسلمين ليس لهم إمام ٌ تتوفر فيه صفات الإمامة وشروطها، كما ليس لديهم شوكة جماعة يمكن لهم أن يأملوا بواسطتها التغلّب على الأعداء”. (الاقتصاد في مسائل الجهاد، ص 42)

أقول: من أين أتاهم اليوم هذا الإمام المزعوم؟ هل يتوقف ظهور مثل هذا الإمامة المتحلّية بهذه الصفات على وجود حكومة عسكرية؟ وهل بالحصول على حكومة عسكرية تتوفر في الإنسان صفات الإمامة؟ ومتى أقام الله الإمامة الدينية عن طريق حكوماتٍ عسكرية؟

هناك زعيمٌ آخر، السير سيد أحمد خان، وهو من كبار علماء الهند، يقول عن الذين اشتركوا في مفسدة ضد الإنجليز عام 1857م:

“إنَّ هؤلاء قد ارتكبوا خيانةً كبرى، ولا علاقة لهم بالإسلام”. (ثورة الهند، للسير سيد أحمد خان، ص104)

ومن أراد الاطّلاع على تفاصيل أكثر فليرجع إلى المرجع المذكور.

وكانت فتاوى زعيم الفرقة البريلوية الشيخ سيد أحمد رضا خان البريلوي كالتالي:

“الهند دار الإسلام، ولا يصحُّ إطلاقاً تسميتها بدار الحرب”. (نُصرة الأبرار، طبعة لاهور، ص 129)

العذر الشرعي لعدم محاربة الإنجليز

كان حضرة سيد أحمد الشهيد البريلوي الذي حارب السيخَ واتجه إلى إقليم “سرحد” (قرب الحدود الأفغانية) لمحاربتهم وحاربهم بالفعل، كان يحمل بين جنبيه قلباً طاهراً يغار على الإسلام والمسلمين.

أما فيما يتعلق بموقفه تجاه الإنجليز فيقول كاتب سيرته، السيد محمد جعفر التهانيسري:

“سأله سائل: تسافر هذه المسافة البعيدة لمحاربة السيخ، ولم لا تحارب هنا الإنجليزَ الحاكمين لهذه البلاد والمنكرين للإسلام، فتنزع منهم البلاد؟ فقال حضرته: لا شكَّ أنَّ الحكومة الإنجليزية كافرة بالإسلام، ولكنها لا تظلم المسلمين ولا تمنعهم من أداء عبادتهم، وواجباتهم الدينية. نقوم تحت حكمهم بواجب التذكير وترويج الدين علناً، وإنها لا تتصدّى لنا ولا تمنعنا أبداً. وإنَّ واجبنا الحقيقي إنما هو نشر التوحيد الإلهي وإحياء سُنن سيد المرسلين . ونؤدّي هذا الواجب في هذه البلاد بدون أي مانع. فلأي سبب نُحارب الحكومة الإنجليزية، ونسفك الدماء من الجانبَينِ مُخالِفين بذلك أحكام الإسلام؟ وعند سماع هذا الجواب الصائب سكت السائل وفهم حقيقة الحكمة الحقيقية للجهاد”. (سوانح أحمدي كلانْ، ص71)

ولكن المشائخ الذين يتشدَّقون ضد جماعتنا اليوم لم يفهموا حكمة الجهاد الحقيقية إلى الآن!!

ويقول العلّامة شبلي النعماني:

“منذ العصر الذهبي النبوي وإلى يومنا هذا لم تزل ميّزة المسلمين الطاعةُ والوفاء لكل حكومة يعيشون في ظلها. وهذا لم يكن شعارهم فحسب، وإنّما هو تعليم الإسلام الوارد في القرآن الكريم والحديث النبوي وكُتب الفقه كنتيةً وصراحةً”. (مقالات شبلي، المجلد الأول، ص 171،مطبعة المعارف، أعظم غره بالهند، 1954م)

وقال الخواجه حسن النظامي:

“إنَّ مسألة الجهاد يعرفها كل مسلم حتى الأطفال”.

مما يعني أنه حتى زمن الحكم الإنجليزي كان كل طفل مسلم يعلم مسألة الجهاد تماماً كما بيّنها سيدنا المهدي والمسيح الموعود . ولكن بزوال حكمهم أخذت المسألة عند هؤلاء المشائخ شكلاً مختلفاً، فبدؤوا يلقّنون الصغار غير ما عرفته الأجيال السالفة. أما ما عرفه كل طفل فهو ما يبيّنه السيد الخواجه قائلاً:

“فهم يعرفون أنّه إذا منع الكفارُ المسلمين من أداء واجباتهم الدينية، وأصدر الإمام العادل – الذي تتوفر لديه كافة أسباب الحرب من عدة وعتاد – فتوىَ الجهاد لوجب على كل مسلم القيام بالجهاد. ولكن الإنجليز لا يتدخلون في شؤوننا الدينية، ولا يمارسون ضدنا أعمالاً تعتبر ظلماً واضطهاداً، كما نحن بدورنا لا نملك أسباباً للحرب، ففي هذه الحالة لن نطيع أحداً أبداً ولن نُلقي أنفسنا بأيدينا إلى التهلكة”. (رسالة الشيخ السنوسي، للخواجة حسن النظامي ص17)

اعتراف كبار المسلمين

ولقد اضطر بالاعتراف بهذه الحقيقة الملموسة بعض من معاندينا المعاصرين أيضاً.

يقول المحامي السيد ملك محمد جعفر في كتابه “الحركة الأحمدية”:

“في زمن حضرة الميرزا، (أي مؤسِّس الأحمدية) إنَّ مناهضيه الكبار من مشاهير علماء المسلمين أمثال المولوي محمد حسين البطالوي، والشيخ بير مهر علي شاه الجولروي، والمولوي ثناء الله الأمرتساري، والسير سيد أحمد خانْ جميعهم كانوا أوفياء للإنجليز مثل السيد الميرزا تماماً. فلأجل ذلك لا نجد فيما كُتب ضده ذكراً أنه طلب من خلال تعليمه قبول حياة العبودية”.(الحركة الأحمدية، لملك محمد جعفر، ص 243، الناشر: سنده ساغر أكادمي، لاهور)

فترون أنَّ بعضاً من معارضينا أيضاً يعترفون بأنَّ علماء المسلمين قد مرُّوا بفترتين، فترة الحكم الإنجليزي حين كانوا يروِّجون مواقف مختلفة مما هم عليه الآن، أي كلهم كانوا يروِّجون فتاوى مماثلة لموقف سيدنا المهدي والمسيح الموعود . ثم هناك فترة بعد الحكم الإنجليزي حين غيّروا نظرياتهم ومواقفهم رأساً على عقب.

“إنَّ هذا البلد دار الحرب لمواجهة القساوسة لذا يجب علينا ألا نجلس عاطلين. لكن تذكَّروا أنه يجب أن تكون حربنا كحربهم. يجب أن نخرج إلى الساحة لمواجهتهم متسلّحين بمثل أسلحةٍ خرجوا بها، وذلك السلاح هو القلم. ولذلك فقد سمَّاني الله تعالى هذا العبد الضعيف بـــ “سلطان القلم”. وسمَّى قلمي بــــ “ذو الفقار علي”. والسرُّ في ذلك هو أنَّ الزمن الراهن ليس زمن الحرب والقتال وإنّما هو زمن القلم”.

الهند “دار السلام”

لقد اضطر السيد شورش الكاشميري، وهو من أشد المعارضين للأحمدية، للاعتراف بالحق حيث قال:

“لقد تم الحصولُ على الفتاوى من الشيخ جمال الدين ابن عمر عبد الله الشيخ عمر الحنفي مفتي مكة المكرّمة، ومن الشيخ أحمد بن ذهني الشافعي مفتي مكة المكرّمة، ومن الشيخ حسين بن إبراهيم المالكي مفتي مكة المكرّمة، وأُعلِنَ من خلالها كونُ الهند دار الإسلام”. (سيرة الشيخ سيد عطاء الله شاه البخاري، ص 131)

ما هو جوابكم بعد ذلك، هل عندكم من دليلٍ لتُخرجوه لنا؟ هل يمكن للمشائخ من أي بلدٍ كانوا أن يقولوا شيئاً بعد ذلك؟ لقد ألّف السيد المودودي كتابه “حقيقة الجهاد” وقدّم فيه – إلى جانب بعض الكتب الأخرى – تعليماً عن الجهاد الإسلامي لا يستطيع أي مسلم عاقل أن يتصور أنه يمكن أن يُنسب مثل هذا الأفكار الخطيرة إلى جهاد النبي . إنَّ السيد المودودي هو أكثر المشائخ تشدُّداً في مسألة الجهاد في عصرنا الحاضر، ولكن فيما يتعلّق بالظروف السياسية في الهند في زمن سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، فيقول المودودي في الجزء الأول من كتابه “الربا”:

“إنَّ بلاد الهند كانت عند ذاك دار الحرب دون أدنى شك. (لاحِظوا أنّه لا يقول إنها دار السلام. ولكن متى كانت دار الحرب؟) عندما كان الإنجليز يحاولون القضاء على حكم المسلمين فيها”.

وهذا هو موقف الجماعة الإسلامية الأحمدية أيضاً بالضبط أنه إذا بدأكم أحد بالقتال فقاتِلوه، واحموا الأعراض والأموال والدين، ولا تستلموا ولو سقط الجميع شهداءً حتى الأولاد الصغار واحد تِلو الآخر. لأنَّ البلاد عندها تكون دار الحرب، وعندها يجوز أن يسمّى كل قتال دفاعي بالجهاد الإسلامي. فيقول المودودي الكلام نفسه ويقول:

“عندئذٍ كان من واجب المسلمين أن يُضحّوا بأرواحهم حمايةً للدولة الإسلامية بالهند أو يُهاجروا منها بعد الهزيمة. ولكنهم عندما صاروا مغلوبين واستتبَّ حكم الإنجليز فيها، ورضيَ المسلمون بالعيش هناك مع حرية العمل حسب قوانينهم الخاصة بهم، فلم تعد هذه البلاد دار الحرب”. (“الربا” للمودودي، الجزء الأول، ص 77 و78، الهامش. الناشر: مكتبة الجماعة الإسلامية المودودية، لاهور)

الدعوة إلى الله أيضاً جهاد

وقال الملك السعودي الراحل، جلالة الملك فيصل، في اجتماعٍ لرابطة العالم الإسلامي بمناسبة الحج بمكة عام 1385 ه ما معناه:

“إخواني الأعزاء، إنّكم دُعيتم لرفع راية الجهاد في سبيل الله. والجهاد لا يعني حمل البندقية أو شهر السيف فحسب، وإنما يعني دعوة الناس إلى كتاب الله وسُنّة رسوله، والعمل والتمسّك بهما حتى في أيام الابتلاءاتِ الشديدة والمحن القاسية”. (جريدة: أم القرى، مكة المعظّمة، 24 أبريل 1965م)

الإخلال بالأمن ممنوع

ثم يقول جلالة الملك:

“ويجب عليهم (المسلمين المقيمين في بلاد غير إسلامية) أن يقوموا بما يتوجّب عليهم من خدمة الدين واتباع أوامر الله. لا نقول لإخواننا هؤلاء أن يقوموا ضد حكومات يسكنون في ظلها ويثورون عليها، وإنما يجب عليهم أن يُحكِّموا كتاب الله وسنَّة النبي الأكرم في أمر معتقداتهم ونيّاتهم. عليهم بالعيش بالأمن تحت حكومات تضمن لهم الأمان، ويجب ألا يُحدثوا الخلل في النظام وألا يكونوا عناصر هدّامة إطلاقاً”. (المرجع السابق)

الأحمدية ليست ذات وجهين

أين الآن هؤلاء المشائخ المتعصِّبون الذين يرمون مؤسِّس الأحمدية بنسخ الجهاد والمداهنة للإنجليز وإثارة الفساد من أجلهم، والعياذ بالله. ألا يرون أنَّ ما قاله حضرته هو نفس ما كان العلماء يُفتون به في زمنه؟ غير أنّه كان يقول للآخرين نفس الكلام الذي كان يقوله لجماعته، وكان يقول للإنجليز أيضاً ما يأمر به أتباعه. لم يكن حضرته ذا وجهين كما لم تكن جماعته أيضاً ذات وجهين. فقد تمسّك حضرته بالجهاد الذي ذكره للآخرين ولم يذكر هذا الجهاد بلسانه فقط، بل ظلَّ طوال حياته يضحّي في سبيله كل ما أُوتيَ من نفسٍ ونفيس. كما وصّى جماعته أيضاً بالقيام بالجهاد بنفسه. إنّهم يطعنون اليوم في حضرته لمدحه الملكة فكتورية، ويزعمون أنّه سمَّاها ظل الله في الأرض، ولكن هل في هؤلاء المشائخ أو غيرهم من معارضينا أحد بلَّغ الملكة رسالة الإسلام؟ أما سيدنا الإمام المهدي فقد انتقد المسيحيةَ انتقاداً صريحاً بكل قوة وشجاعة وسمّى النصرانية الحالية ديناً ميتاً، ودعا إلى قبول الإسلام ملكةً ما كانت الشمس تغيب على مملكتها المترامية الأطراف. فمن ناحية أشاد حضرته بعدل الملكة، ومن ناحية أخرى دعاها بكل شجاعة وصراحة إلى دين الله الإسلام.

المسيح الموعود يرفع راية الجهاد ضد المسيحيين

ولاحِظوا الآن سيرة هؤلاء المشائخ! إنهم كانوا يعتبرون الهند دار السلام في حين إنَّ بصيرة سيدنا الإمام المهدي لم ترها كدار السلام بل اعتبرها حضرته دار الحرب لأنه كان على معرفة حقيقة للجهاد. وكان حضرته يعرف أنَّ البلد الذي يجب القيام بالجهاد فيه لا يمكن أن يكون دار السلام، وإنما يكون دار الحرب. ولكن بأي معنى؟ يقول حضرته في هذا الصدد ما تعريبه:

“إنَّ هذا البلد دار الحرب لمواجهة القساوسة لذا يجب علينا ألا نجلس عاطلين. لكن تذكَّروا أنه يجب أن تكون حربنا كحربهم. يجب أن نخرج إلى الساحة لمواجهتهم متسلّحين بمثل أسلحةٍ خرجوا بها، وذلك السلاح هو القلم. ولذلك فقد سمَّاني الله تعالى هذا العبد الضعيف بـــ “سلطان القلم”. وسمَّى قلمي بــــ “ذو الفقار علي”. والسرُّ في ذلك هو أنَّ الزمن الراهن ليس زمن الحرب والقتال وإنّما هو زمن القلم”. (الملفوظات ج1، ص 232)

 سيدنا المهدي يدعو الملكة فكتوريا إلى الإسلام

ثم يقول حضرته مخاطباً الملكة فكتورية ما نصُّه:

“أيتها المليكة الكريمة الجليلة، أعجبني أنك، مع كمال فضلك، وعلمك وفراستك، تُنكرين فضل الإسلام، (أهكذا يكون كلام المداهن؟ وإن لم تكونوا أنتم من المداهنين – يا معاندينا – فلِمَ لم تُوفَّقوا أنتم بمثل هذا الكلام؟) ولا تُمعِنين فيه بالعيون التي تُمعنينَ بها في الأمور العِظام. قد رأيتِ في ليلٍ دَجَى، والآن لاحت الشمس، فما لكِ لا تَرَينَ الضحى؟

أيتها الملكة الجليلة، اعلمي، أيّدك الله، أنَّ دين الإسلام مجمع الأنوار، ومنبع الأنهار، وحديقة الأثمار. وما من دين إلا هو شعبته. فانظري إلى حِبره وسِبره وجنّته، وكُوني من الذين يُرزقون منه رزقًا رغدًا ويرتعون. وإن هذا الدين حيٌّ مجمع البركات، ومظهر الآيات، يأمر بالطيبات، وينهى عن الخبيثات، ومن قال خلاف ذلك أو أبان فقد مان، ونعوذ بالله من الذين يفترون. فبما إخفائهم الحقَّ وإيوائهم الباطلَ لَعَنَهم الله ونَزَعَ من صدورهم أنوار الفطرة، فنسُوا حظَّهم منها، وفرحوا بالتعصبات وما يصنعون.

أيتها المليكة، إنّ هذا القرآن يُطهّر الصدور، ويُلقي فيها النور، ويُري الحبور الروحاني والسرور. ومن تبعه فسيجد نوراً وجده النبيون. ولا يُلقَّى أنواره إلا الذين لا يُريدون علّواً في الأرض ولا فساداً، ويأتونه راغباً في أنواره، فأولئك الذين تُفتح أعينهم، وتُزكَّى أنفسهم، فإذا هم مُبصرون.

وإنّي بفضل الله من الذين أعطاهم الله من أنوار الفرقان، وأصابهم من أتم حظوظ القرآن، فأنار قلبي ووجدتْ نفسي هداها، كما يجده الواصلون. ثم بعد ذلك أرسلني ربي لدعوة الخلق، وآتاني من آيات بينةٍ، لأدعو خلقه إلى دينه، فطوبى للذين يقبلونني، ويذكرون الموت، أو يطلبون الآيات، وبعد رؤيتها يؤمنون.

أيتها المليكة الكريمة، لقد كان عليك فضلُ الله في آلاء الدنيا فضلاً كبيراً، فارغبي الآن في مُلك الآخرة، وتُوبي واقنُتي لربٍّ وحيد، لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريكٌ في الملك، وكبِّريه تكبيراً. أتتخذون من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يُخلقون. وإن كنتِ في شكٍّ من الإسلام فها أنا قائم لإراءة آيات صدقه، وهو معي في كل حالي، إذا دعوتُه يُجيبني، وإذا ناديتُه يُلبيّني، وإذا استعنتُه ينصرني. وأنا أعلم أنّه في كلّ موطنٍ يُعينني ولا يُضيعني. فهل لكِ رغبة في رُؤية آياتي وعيان صدقي وسدادي، خوفاً من يوم التنادي؟

يا قيصـرة، تُوبي تُوبي، واسمعي اسمعي، بارك الله في مالَكِ، وكلّ ما لَكِ، وكنتِ من الذين يُرحَمون)). (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية، ج 5، ص 531 إلى 533،)

الاعتراف بجهاد سيدنا أحمد

هذا هو كلام سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، وهذا هو تصوُّر جهاده الذي عمل به أيضاً. لن تجدوا عالماً من زمنه يتمتّع بمثل جرأته حتى يدعو الملكة فكتورية إلى الإسلام بهذه الصراحة، بل ما كان منهم إلا التملُّق للإنجليز فقط، إنَّ كلمات “تُوبي تُوبي” إنما هي بمثابة قنبلةً بالنسبة للملكة البريطانية آنذاك. هذا كلامٌ عظيم يدعو به حضرته الملكة إلى الإسلام ناصحاً إياها أن تتوب عن دينها الباطل وتعتنق الإسلام. هذا هو الحماس للجهاد وهذه هي روح الجهاد التي بسبب معرفتها الحقيقية جعل حضرته جماعته تمشي على طريق جهاد لا نهاية له. وبالتالي فقد تحوّلت كل لحظة من حياتنا إلى جهاد.

فلمس هذه الحقيقة الشيخ محمد أكرم، أحد المؤرّخين الباكستانيين المعروفين وقال في كتابه:

“الأحمديون…. هم أول من أدرك من بين المسلمين أنّه برغم أنَّ هذه الأيام هي أيام الانحطاط السياسي للإسلام، إلا أنَّه بسبب الحرية في التبشير تحت الحكومات المسيحية يحظى المسلمون بفرصةٍ مواتية ونادرة في تاريخ الأديان، يجب انتهازها جيداً”. (موج الكوثر للشيخ محمد أكرم ص 187)

   ويُضيف قائلاً:

   “إنَّ عامة المسلمين بفكرة الجهاد بالسيف بأفواههم فقط. لا يقومون بأي جهاد عملياً ولا يقومون بجهاد التبشير… ولكن الأحمديين يرون أنَّ التوع الثاني من الجهاد أي جهاد الدعوة إلى الله فريضةٌ من الفرائض، وقد حقّقوا في هذا المجال نجاحاً لا بأس به”. (موج الكوثر للشيخ، ص 189)

المودودية ذات المكيالين

وأخيراً أُقدِّم أمامكم مقارنة بين أفكار سيدنا الإمام المهدي عن الجهاد وأفكار المودودي. الأمر الأول هو أنَّ لأفكار هؤلاء المشائخ جانبَينِ اثنينِ. كانت آراؤهم عن الحكم الإنجليزي في الهند مختلفة عن التي تبنَّوها بعده، وكأنَّ لديهم ميزانين مختلفين لكل شيء. إنهم ينسبون إلى سيدنا المصطفى تصوُّراً مخيفاً للجهاد لدرجة يصيب كل مسلم غيور بأذى شديد بسماعه. إنَّ تصوّرهم للجهاد محطِّمٌ للأعصاب. يتسابقون اليوم في توجيه التُّهم والطعن إلى سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، ولكنني قبل أن أقرأ عليكم ما قاله المودوي عن الجهاد الإسلامي زمنَ النبي ، أودُّ أن أقرأ أمامكم ما كتبه ميجور أورسبرن أحد المستشرقين في كتابه: Islam Under The Arab Rule. يقول المستشرق عن الفترة التي كان النبي يتعرَّض فيها لأنواع الأذى على يد أعداءه:

“كان من المبادئ التي وضعها محمد ( ) مبدأ “لا إكراه في الدين”…. ولكن نشوة النجاح الذي أحرزه محمد كبتتْ قبل فترة طويلة – والعياذ بالله – صوت أفكاره الحسنة هذه، فهبَّ العرب حاملين القرآن في يد والسيف في يدٍ أخرى، ونشروا دينهم بين مدنٍ ملتهبة وصيحات عائلاتٍ منهوبة مدمَّرة”. (المرجع السابق، ص46، الناشر: لانك مَين كرين أيند كمبني لندن)

تصوُّراتهم عن انتصار الإسلام

ما أبشَعَها وأنجَسَها من صورةٍ لانتصارات الإسلام يُقدِّمها هذا المستشرق عدو الإسلام! ولكن الأدهى والأمرّ من ذلك أنَّ نفس الصورة المشوّهة القبيحة للغاية يقدّمها المودودي في كلماته المعسولة وكأنّه يُقدّم حصيلة فصاحته المزوّرة في قطعة حرير قائلاً:

“لقد دعا رسول الله العرب إلى الإسلام ثلاثة عشر عاماً، واتخذ معهم كل أسلوب ممكن للتذكير والموعظة، وساق إليهم أدلةً قوية وحُججاً واضحة، وهيَّج القلوب بفصاحته وقوته الخطابية، وأظهر من الله معجزاتٍ مذهلة، وقدَّم لهم أسوة حسنة للحسنى بأخلاقه الحسنة وسيرته الطيبة. ولم يترك طريقاً كان من شأنه أن يفيد لإظهار الحق وإثباته. ولكن قومه رفضوا دعوته رغم أنَّ صدقهُ تجلّى لهم بكل وضوح، وحصحص لهم الحق بكل جلاء، ورأوا رأي العين أنَّ الطريق الذي يدعوهم إليه هاديهم هو الصراط المستقيم. ولكن الأمر الوحيد الذي منعهم من قبوله هو عدم رغبتهم في ترك الملذّات التي كانت متاحةً لهم في حياتهم الكافرة والخليعة. ولكن حينما فشلت جميع وسائل التذكير والموعظة…”. يقول فشل النبي في الموعظة والتذكير، والعياذ بالله!!

تعليم الإسلام وهراء المودودي

ما أجهَلَ وما أبشَعَ وما أفدَحَ هذه الأفكارَ التي يقدّمها المودودي، غير خائف من الله تعالى! اِسمعوا الآن ما يقول الله في القرآن مخاطباً نبيّه :

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (سورة الأعلى: 10 و11).

وبقول أيضاً:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (سورة الغاشية: 22 إلى 25)

أي يا محمد ! عليك أن تستمر في التذكير، فتذكيرك لن يفشل، لأن أساليب تذكيرك تتصف بصفة متميزة، ففيها الحسنُ والرفق والملاحة والملاطفة مما يترك في القلوب أثراً عظيماً. ولكن إذا أعرض عنه شقيٌ من الأشقياء لسوء حظه ورَفَضَه، فليس لك الحق في إجباره على قبول الحق باستخدام القوة. لأنك لست مسيطراً أي رقيباً على أعمالهم وأحوالهم، وإنما نحن الذين سوف نُحاسبهم ونُعذِّبهم عذاباً أكبر.

هذا هو كلام الله تعالى، ولكن المودودي يقول:

“….حينما فشلت جميع وسائل التذكير والموعظة –يقول فشل النبي في الموعظة والتذكير، والعياذ بالله!! لا أقدر على قراءة هذه الجملة لشدة ما تُثير في قلبي من آلام – استلَّ النبي سيفه وأعلن: “ألا كل مأثرةٍ أو دم أو مال يُدعى فهو تحت قدمَيَّ هاتين”.

لاحِظوا كيف تُقدَّم الأمور من قبل المودودي باللَّف والدوران! كلنا يعرف جيداً أنَّ النبي قام بهذا الإعلان يوم حجّة الوداع، وهو من فرامينه الأخيرة. ولكن الشيخ المودودي يحاول تطبيقه على فترةٍ زمنية غيرها، وهكذا يقلب الحقائق رأساً على عقب. أقول ذلك لأنه ليس من الممكن أن يكون شيخٌ مثل المودودي جاهلاً عن مناسبةٍ قام فيها النبي بهذا الإعلان، ولكنه يحاول تطبيقه على فترة زمنية مختلفة تماماً.

يمضي المودودي ويقول:

“هكذا ألغى كل الامتيازات المتوارثة، وحطّم كل صنم من شرفٍ تقليدي وسلطةٍ تقليدية. وأقام في البلاد حكومةً منظّمة. كما نفّذ بالقوة القوانين الأخلاقية، وسلب حريتهم في المعاصي والذنوب التي أخذت ملذاتُها لٌبَّهم. فهيَّأ بذلك بيئةً آمنة لا بدَّ منها لنمو الفضائل الأخلاقية والمحاسن الإنسانية”. (الجهاد في الإسلام، ص 142)

والأمر نفسه يذكره أورسبرن بكلماتٍ أخرى إذ يقول: “إنهم نشروا دينهم بين مدنٍ ملتهبة وصيحاتٍ مؤلمة للأرامل والأيتام. ولا شكَّ أنَّ الباكين يهدؤون بعد ذلك!!” وهذا ما سمَّاه المودودي “بالسكينة” أي لم يبقَ هناك أي صوت معارض ليرتفع من أية ناحية.

ثم يقول المودودي:

“ثم بدأ صدأ السيئة والشر يزول من القلوب شيئاً فشيئاً، وخرجت من الطبائع الموادُّ الفاسدة تلقائياً، وزالت كثافة الأرواح.”

موقف المودودي من الجهاد

يقول المودودي بأنه عندما فشل النبي في التذكير والموعظة الحسنة وخابت آماله من ناحية الأدعية أيضاً (والعياذ بالله) عندها سلَّ النبي سيفه الذي أنجز كل هذه المهام، حسب رأي المودودي. ثم يقول:

“ليس هذا فحسب، وإنّما زالت الأغشية عن الأعين وظهر لهم نور الحق بكل وضوح”.

أتساءل: ما هي تلك الأغشية؟ يقول القرآن الكريم في هذا الصدد:

خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ،

ثم يقول:

سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ..

مما يعني أنَّ أغشية الظلم والاستبداد لا تزول ولا تنشق وأنَّ هؤلاء لن يؤمنوا أبداً. ولكن المودودي يقول إنَّ الله تعالى لا يعرف شيئاً، أنا أعرف بأنَّ الأغشية بقيت على حالها ما لم يُستخدم السيف.

ثم يقول المودودي: “بل لم تعد في الرقاب تلك الغلظة ولا في الرؤوس تلك النخوة التي تمنع الإنسان من الانصياع أمام الحق رغم ظهوره. وحقّق الإسلام في البلاد الأخرى أيضاً علاوةً على الجزيرة العربية انتشاراً سريعاً، حتى إنه في مدى قرنٍ واحد من الزمان دخل في الإسلام ربع أهل الأرض. والسبب في ذلك هو أنَّ سيف الإسلام مزَّق الحجب التي كانت على القلوب”. (الجهاد في الإسلام ص 141، 142)

قوّة النبي القدسيّة وأدعيته المستجابة أحدثت ثورة

الحق أنّه لا يمكن أن يتفوّه بمثل هذا القول إلا الذي ليس لديه أدنى إلمام بالتاريخ. إنه لإعلانٌ يكذّب كلَّ حرفٍ منه كلُّ مسلم يسكن في إندونيسيا، كما تُبطل كلَّ حرفٍ منه أقاليمُ الصين الأربعة التي اعتنقت الإسلام بكاملها. إذ لم يصل سيف الإسلام المزعومُ إلى أندونيسيا ولا إلى ماليزيا ولا إلى الصين. فالمسلمون كلهم صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، شباباً وشيوخاً في تلك البقاع يشهدون على كذب كلام المودودي ويعلنون بلسان حالهم وبصوت جهوري وحلفاً بالله أنَّ الأسوة الحسنة لسيدنا محمد هي التي جذبتهم إليه وليس سيفه. ويشهدون أيضاً أنَّ أسوته الحسنة وقوته القدسيّة قد فتحتا قلوبهم. ولكن كيف حصل هذا الانقلاب؟ وأي جهادٍ حققّ لرسول الله الانتصارَ والغلبة؟ يقول سيدنا الإمام المهدي إنَّ الانقلاب الذي جاء به النبي كان نتيجةً لأدعيته المستجابة. فيقول حضرته:

“إنَّ ذلك الحادث العجيب الذي جرى في بادية العرب.. حيث بُعثَ مئات الألوف من الموتى في أيامٍ معدودات.. وتحلَّى بالأخلاق الإلهيّة أولئك الذين فسدت أخلاقهم على مرِّ الأجيال، وأصبح العُميُ يبصرون، والبُكمُ بالمعارف الإلهية ينطقون.. وحدث في العالَم انقلابٌ لم تَرهُ عين، ولم تسمع به أُذنٌ قطّ.. هل تعرفون كيف حدث ذلك؟ إنَّ تلك الدعوات التي دعا بها في جوف ليالٍ حالكة.. عبدٌ مُتفانٍ في الله.. هي التي أحدثت ضجةً في الدنيا، وأظهرت العجائب التي يبدو صدورها مستحيلاً على يد ذلك الأميّ الضعيف الحيلة. اللهُّم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وآله.. بعدد همِّه وغمِّه وحزنه لهذه الأمة، وأنزل عليه أنوار رحمتك إلى الأبد” (الخزائن الروحانية ج6، بركات الدعاء، ص 10 و11).

والآن قارِنوا كلام سيدنا الإمام المهدي مع كلام المودودي ستجدون بينهما فرقاً بيّناً وكأنه بُعد المشرقين. إذ إنَّ كلام الإمام المهدي ينطق بروح الحق والإسلام، تلك الروح التي تجلّت على القلب الطاهر لحضرته وجرت على لسانه الطاهر بصورة الكلام المطهّر. هذا هو الصوت الذي هدانا إلى مصدر القوة الحقيقية لانتصار الإسلام وروى غليل أرواحنا المتعطّشة، والذي أخبرنا بحقيقةٍ أزليّة وأبدية أنَّ سرَّ انتصار النبي وغلبته وعظمته وشرفه العظيم كان كامناً في قوّته القدسيّة التي صعدت إلى السماء بصورة الأدعية المستجابة كالغيوم التي تحمل غيثاً، وأخمدت كلَّ نارٍ للمعارضة التي أُجِّجت في بريّة العرب، وسقى البرَّ والعمران، وحوّلت الصحارى إلى الحدائق والخراب إلى البساتين، وأحيت الأرض الميتة.

شناعة أفكار المودودي

إذن فهذا هو صوت روح الحق وروح الإسلام. وفي ناحية ثانية هناك روح المودودية التي تنطق بكلمات المودودي وتسفر عن أفكار منكرَة مبنيّة على الظلم والجور. إنّه يُقدِّم ملخص مجهوداته التي بذلها في سبيل دراسة الإسلام إذ يقول ما معناه: عندما فشلت القوة القدسيّة النبوية والتذكير والوعظ والدعوات…. لا نملك هنا إلا أن نقول: لا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم!! هل يمكن أن يكون هذا الصوت صوت العارف بالأخلاق النبوية والشمائل المحمَّدية الحسنة؟ كلا! والله لا! بل هذا الصوت يشبه صوت معاندي الإسلام ومُعارِضي النبي . إنه لصوتٌ شبيه بصوت المستشرق ميجور أوسبرن والذي كان يجري في دمه بصورة نار الضغينة. إنها لنارٌ ملتهبة ونجسة جعلت ألوفاً من مُعاندي الإسلام يحترقون في نار الحسد ضد رسول الله ؟ بقراءة هذه العبارة يقشعِرُّ جسمي ويغلي دمي. إنها ليست كلمات وإنما هي أحجارٌ قاسية. إنّها ليست بألفاظ بل هي خناجر حادة تجرح قلب كل عاشق لرسول الله . لا شكّ أنها خناجر جروحها عميقة ومؤلمة للغاية. أتساءل هل هذا هو صوت العارف بشمائل الرسول ؟ لا! والله لا! بل هو صوت ميجور أورسبرن والقس عماد الدين، الذي يُدمي قلب كل مسلم. بالله عليكم لا تُسمُّوها روح الإسلام بل سموها روح المودودية. وويلٌ للذين يعتبرون هذا الصوت روح الإسلام. أين أفكار المودودي المنكرة والمتنكِّرة هذه، من أفكار سيدنا المهدي الموعود المفعمة بالمعرفة الكاملة عن تصوّر غلبة الإسلام وأفكاره القيّمة عن الجهاد؟ إنَّ أفكار المودودي لا يمكن أن تُخفي سمومُها رغم كونها ملتفة في الحجب، بل تهاجم خناجرُها قلوبَنا خارقة تلك الحجب.

لا علاقة لأفكار المودودي بتصوُّر الجهاد الإسلامي

إذن فأفكار المودودي هذه تمثّل أبشع أنواع التُّهم على سيدنا محمد وعلى الإسلام، فكيف نقبل هذه الأفكار عن الجهاد؟ إنها لأفكارٌ جديرةٌ بالشجب والاستنكار، ولا يمكن نسبتها إلى سيدنا ومولانا محمد المصطفى بحالٍ من الأحوال ولا للحظةٍ واحدة، كما لا نستطيع أن نقبلها بشكلٍ من الأشكال.

إنَّ تصرفات المشائخ وأعمالهم هذه تجعل الإنسان يقشعرُّ من هولها. إنني أستغرب كيف أنَّ هؤلاء الظالمين يجهلون روح الإسلام كليّاً ينكِّرون أصواتهم عند مهاجمتهم عبادَ الله الأطهار، ولا ينتبهون إلى ما يقولون وما يفعلون، ولا يأخذهم أدنى خوف من الله.

أما فيما يتعلق بالجزء المتبقي للموضوع الذي نحن بصدده أنه كلما حلّت بالعالم الإسلامي مصائب، فمن الذي تصدّى لهذه المصائب دفاعاً عن حِياض الإسلام وتلقّى هذه السهام على صدره؟ أَالمسلمون الأحمديون أم هؤلاء المشائخ الذين استغلوا سذاجة المسلمين دائماً ولا يزالون يستغلونها إلى اليوم؟ وبما أنَّ الوقت المحدد لخطبة اليوم قد انتهى لذا سوف أُلقي الضوء على هذا الموضوع في الخطبة القادمة بإذن الله.

[1]إشارة إلى شركة تجارية إنجليزية: “شركة الهند الشرقية” دخلت الهند بحجة التجارة ومهّدت الطريق لسيطرة الإنجليز عليها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك