طبيعة الوحي

الوحي كلمة خفيفة على اللسان صعبة التبيان لا لشيء إلا لأنها تظهر قدرة وجلال الرحمان.. ولسوء حظ الإنسان فإنه لم يفلح في الوصول إلى ماهية ومغزى الوحي فعزاه تارة إلى تجارب نفسية وأخرى إلى هلوسات “سيكية” ولكن الذين غاصوا في أعماق هذه التجربة الفريدة وبينوا تفاصيلها قلة. فقد يعجز اللسان عن التبيان لمن لم يحظى بشرف اللقيان. إلا أن فكر  الجماعة الإسلامية الأحمدية التجديدي يؤكد على أن الوحي الإلهي حقيقة ثابتة يُشرف الله بها من يشاء من  عباده.

بهذه الكلمات الوجيزة نضع بين يديك عزيزي القارىء مقتبسًا من كتاب حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله) الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي (عليه السلام) شرح فيه جوانب عديدة لهذا الموضوع وألقى الأضواء على أبعاد مختلفة بطريقة موضوعية يسهل على المرء استعاب أبعادها ومعانيها.

“التقوى”

ما هو الوحي؟ هل الوحي مجرد كلمة تستخدم للتعبير عن الاستقصاء الواعي أو غير الواعي لوجدان الإنسان الداخلي، أم أن مصدر الوحي كائن خارج الوجدان الإنساني، يتجاوز علمه جميع علوم البشر، وتتفوق معرفته على كل معارف الإنسان؟

وحتى الناس الذين يؤمنون بالوحي.. نراهم يختلفون أيضا في فهمهم لطبيعته. فمثلا.. إن الغالبية العظمى من بين أتباع بوذا وكونفوشيوس وطاو المعـاصرين يعـتبرون أن التجارب الروحانية التي مر بها مؤسسو هذه الأديان قد نبعت كلية من وجدانهم الداخلي، أو نبتت من العقل الباطن لديهم. وكما سبق ذكره في الفصول السابقة.. إن أتباع هذه الأديان يؤمنون بأن الحقيقة كامنة داخل كل نفس كجزء من غريزتها، والوحي لدى هؤلاء ليس سوى أداة الاتصال مع ينبوع هذه الحقيقة الأزلية. أما بعض الأديان الأخرى فتعتبر أن الوحي تجربة تنتج عن مصدر خارجي، وهو الله العليم الحكيم.

وإذا أردنا توسيع نطاق هذا البحث، فإننا نلحظ أن هناك حالات حقيقية من الوحي حدثت خارج نطاق الأديان. فمثلا.. هناك تجارب كثيرة ومثيرة لحالات من الوحي لبعض علماء العلوم التجريبية تلقوا خلالها الكثير من العلوم المعقدة.

ففي عام 1865 كان فريدريك أوغست كيكول  (Fredrich August Kekule)، وهو عالم ألماني في علوم الكيمياء، يحاول جاهدا أن يجد حلا لمشكلة عويصة في الكيمياء حيرت جميع الباحثين. وأثناء نومه في إحدى الليالي رأى كيكول رؤيا.. رأى فيها حية وقد استدارت حول نفسها في شكل حلقة، وذلك بأن وضعت طرف ذيلها في فمها. وقد حل هذا الحلم لكيكول المشكلة التي كانت تؤرقه، وأمَدّته الرؤيا بالإجابة الصحيحة للسؤال الذي أعيا وأذهل العلماء. وهكذا تم الكشف عن سر السلوك الجزئي لبعض المركبات العضوية، وقد أحدث هذا الاكتشاف ثورة في مفاهيم الكيمياء العضوية. فقد قال كيكول إن هذه الرؤيا تعني أن ذرات الكربون في جزيء البنْزين ترتبط بعضها ببعض في شكل حلقي. وقد أدت هذه المعلومة إلى كشف آفاق واسعة ومجالات عديدة للكيمياء العضوية التخليقية، وترتب على ذلك إنتاج ما لا حصر لـه من المواد المخلقة. وقد ازداد بشكل كبير الاعتماد على الأدوية المخلقة في صناعة الأدوية الحديثة. ولا شك أن البشرية بأسرها مدينة بالكثير لهذه الرؤيا الفريدة التي وجد فيها كيكول حلا لتلك المشكلة المستعصية.

كذلك كان إلياس هاو(Ilias Howe)   أول من مَيْكَنَ عمليات الحياكة. وقد تلقى هو الآخر حلا لمشكلة حيرته وأقلقته لزمن طويل، وكان ذلك أيضا خلال رؤيا رآها في نومه. فقد رأى نفسه محاطا بأفراد من بعض القبائل المتوحشة، وكانوا يهددونه بالقتل ما لم يخترع لهم ماكينة للحياكة.  ولما لم يستطع تحقيق مطلبهم ربطوه في شجرة وأخذوا يلقونه بالسهام والرماح. وقد أدهشه كثيرا أن يرى ثقبًا كبيرا في أسنة رماحهم. وحين استيقظ من نومه أدرك على الفور أنه قد عثر أخيرا على الحل للمشكلة العويصة التي عاقته طويلا عن ميكنة عملية الحياكة، فتمكن من اختراع نموذج لماكينة حياكة كان لها الفضل في إحداث ثورة في ميكنة صناعة الحياكة. وكان ذلك بفضل الحلم الذي رآه وفهم منه أن عين المخيط يجب أن تكون في مقدمته وليس في المؤخرة. وكانت تلك الفكرة هي التي حلت لـه مشكلة كانت تبدو لـه عويصة وبغير حل. ومن الصعب، بطبيعة الحال، تصور صناعة الثياب اليوم لو لم تحظ بهذه الرؤيا. فما أعظمها حقا من ثورة في عالم صناعة الملابس تلك التي أوحت بها هذه الرؤيا!

وفي ضوء العديد من هذه التجارب.. يمكن أن يكون أحد التبريرات التي تخطر ببال المرء هو أن الوحي ليس سوى ظاهرة تنبع من العقل الباطن، وعندما يتعب العقل الواعي من البحث عن حلول للمشاكل العويصة التي تؤرقه قبل أن يستسلم للنوم، فإنه ينقل هذه المشكلة إلى العقل الباطن، وفي أثناء النوم.. يقوم العقل الباطن بالبحث عن حلول لتلك المشاكل التي نُقلت إليه. وأحيانا تُشاهَد هذه الحلول في صورة رؤى، وأحيانا تُسمع في شكل أصوات ورسائل لفظية. وإذا كان الأمر كذلك.. فهل يعني هذا أن جميع أنواع الوحي.. في أية صورة كان.. هو في الحقيقة ليس سوى رسائل من العقل الباطن، بغير أي استثناء؟

لعله يمكن القول بأنه في الحالات التي ذكرناها كانت جميع المعلومات اللازمة لحل تلك المشاكل موجودة بالفعل في العقل الواعي، ولم يكن العقل الباطن سوى وسيلة أكثر قوة، تعمل بشكل غامض على تخليق وتوضيح هذه المعلومات. فإذا كان الأمر كذلك.. فهل يكون هذا هو الناتج العام لكل التجارب الإنسانية في تلقي الوحي والإلهام، أم أن هناك أشكالا أخرى خارج نطاق العمليات الذهنية وحدها؟

إن أتباع الأديان العظمى في العالم يؤمنون بأن الأنبياء والرسل والكثير من القديسين في تلك الأديان، قد تلقوا وحيا من مصدر خارجي هو الله تعالى. وبينما يعتقد البعض أن هذا الإيمان قائم على قياس خاطئ، إلا أنهم لا يرمون الذين يتلقون الوحي بالمخادعة والتدليس عن قصد، بل يعتبرون أن خطأهم هذا قد نتج عن سوء فهمهم لتجربة نفسيه نبعت من داخلهم، فظنوا أنها رسالة من مصدر خارجي. ولو كان الأمر حقا كذلك، فهذا يعني أن الأساس الذي تقوم عليه جميع ما يُسمى بالديانات السماوية هو أساس واه لا يقف على أرض صلبة. وعلى ذلك فإن دعاوي أتباع الأديان تحتاج إلى أدلة قوية لإثبات صحتها وحقيقتها.

ولما كان الأمر يحتاج إلى جهد عميق وشرح طويل لإثبات صحة دعوى كل من هذه الأديان على حدة، فإننا سوف نكتفي فقط بتحقيق دعوى القرآن المجيد بأن مصدره كان من خارج النفس البشرية، وكان ذلك المصدر هو الله سبحانه وتعالى، ولم يكن القرآن أبدا من مصدر داخلي ينبع من نفس محمد ولا من نتاج عقله الباطن.

إن معظم الأديان العظمى تقوم على أساس دعوى الإيمان بوجود خالق أعظم، هو الذي خلق الإنسان. ولم يكتف الخالق بخلق الإنسان فحسب، بل ظل يرعاه ويواليه ويهتم بجميع شؤونه. وهو الذي يجود بهدايته للإنسان حين يشاء سبحانه بواسطة أنبيائه ورسله الذين يختارهم كما يشاء.. ومن بين من يشاء. وهو سبحانه ينبئ عن وجوده وعن مشيئته للجنس البشري، حتى يصوغ حياة الناس حسب تعاليمه. فإذا كان هذا حقا وصدقا، فلا بد أن يكون الوحي مصدرا مستقلا للمعرفة، منفصلا ومغايرا تماما عن الهواجس النفسية المجردة، وفي هذه الحالة يشغل العقل مكانا ثانويا بالنسبة للوحي.

ومن وجهة النظر البشرية، قد يبدو الوحي كأنه ينبثق من أعماق النفس الإنسانية، وبسبب هذا يختلط أمر الوحي الإلهي في مظهره مع التجارب المشابهة للعقل الباطن. ويكاد لا يخلو أحد تقريبا، في مرحلة من مراحل حياته، من التعرض لتجربة روحية. والنفس الإنسانية مزودة بآلية خاصة تعمل على خلق تصورات وخيالات ورؤى، تكون في بعض الأحيان من الوضوح بمكان.. حتى إنها تبدو للشخص الذي يُجرِّبها وكأنها حقيقة واقعة.

وإذا كان التنويم المغنطيسي والتخاطر حقيقة واقعة ولها تأثير بالفعل، وهناك الكثير من الدلائل على أنهما بالفعل حقيقة مؤثرة، فلماذا لا يستطيع الله تعالى أن يستخدم نفس الآلية والخاصية الموجودة في الإنسان لكي ينقل تعاليمه وأوامره إلى الناس؟

وتندرج مثل هذه التجارب تحت قائمة طويلة يمكن تلخيصها باختصار في أحلام أو رسائل صوتية، أو أصوات موسيقية، أو خيالات وانطباعات. فبالنسبة للمختل عقليا، أو أولئك الذين يكون المخ لديهم في حالة شديدة من الاستثارة بسبب المخدرات أو غيرها، نجد أنهم يتعرضون لحالات شديدة من الهلوسة الفظيعة لدرجة قد تدفع بهم إلى الجنون. كذلك فإن الحمّى الشديدة قد تؤدي أيضا إلى مثل تلك الهلوسات وإلى حالات من الإثارة العصبية والنفسية. ومن جانب آخر نجد أن هناك أحوالا أخرى، لها طبيعة تختلف تمام الاختلاف عما سبق، وينتج عنها أحلام ورؤى ذات نسق منتظم، وتأثير ذي سكينة، وإحساس بالراحة والسلوى، مما يؤدي إلى هدوء العقل وتخليصه من الكثير من المخاوف وأحاسيس القلق التي يعاني منها بعض الناس بغير تحديد سبب لها. وبالإضافة.. هناك أيضا رسائل يتلقاها بعض الناس تأتيهم بأصوات واضحة مميزة. وأحيانا يتم تبليغ هذه الرسائل بواسطة ظهور إنساني أو ملائكي. وأحيانا يتم تبليغ هذه الرسائل عن طريق أصوات لأشخاص غير منظورين. وإذا جاز تفسير هذه الظواهر أيضا على أنها من نتاج العقل الإنساني، وعلى أنها ليست سوى همسات من داخل النفس، فإن جميع الظواهر الروحانية لن تخرج عن نطاق كونها مجرد ظاهرة نفسية!

أين هو إذن مكان الوحي والرؤى التي هي من عند الله تعالى؟ هذا هو السؤال الذي يجب توجيهه وينبغي إجابته بالطبع. ومن الواضح أن العقل الإنساني مزود بالآلية اللازمة التي تجعله يستقبل أمرا ما يخلق لديه انطباعا معينا. والله تعالى أيضا.. حين يشاء.. يستطيع أن يؤثر كذلك على هذه الحالة النفسية. ولكي يمكن الإجابة على هذا السؤال الهام الذي طرحناه، فإننا بحاجة إلى بحثه بعمق أكثر، وقد تكون الإجابة أكثر سهولة إذا قسمناها إلى أجزاء صغيرة.

الإلهام من الباطن

كما أن العقل الباطن يمكن أن يكون سببا للهلوسة والهذيان، فإن له القدرة أيضا على خلق رؤى ورسائل متناسقة وذات معنى. فالعقل حين ينْزوي في باطنه قد ينشغل بالتفكير في موضوع معين، بغير أن يكون مدركا لهذا التفكير، ومع الوقت.. يتمكن العقل من حل مشكلة ما.. لم تكن معروفة من قبل للعقل الواعي. وهو يستمر في العمل على حل المشكلة حتى يجد لها حلا، ثم ينقل هذا الحل إلى مستوى أعلى من الإدراك، وذلك من خلال الأحلام والرؤى وغيرها. والنتائج التي تتحصل عن طريق هذه العملية تكون دائما في نطاق البيانات والمعلومات الموجودة والمتاحة التي يتم تزويد العقل بها. وقد لا تتطلب هذه العملية بالضرورة أن يتدخل أي عامل خارجي لإتمامها. إذ يمكن لأي مجرم عتيد في الإجرام أن يبتدع خطة بارعة لارتكاب جريمة خطيرة، وذلك عن طريق الإلهام من العقل الباطن. ولكن يجب ألا ننسى أن نتائج هذا الإلهام ترتبط دائما بالمعلومات المتاحة والموجودة بالفعل في العقل البشري، ولا يمكن لها أن تخطو خطوة واحدة أبعد من هذا النطاق.

تدخل الله تعالى بقدرته العليا وإرادته العظمى عن طريق موسى ، فأبطل التأثير المغنطيسي للسحرة على أعين الناس. وعلى هذا فإن القرآن المجيد لا يدّعي أبدا أن عصا موسى قد ابتلعت بالفعل الحبال والعصي التي ألقاها السحرة أمام الناس، وإنما يقرر الكتاب العزيز أن عصا موسى قد ابتلعت العمل الخفي الذي قام به السحرة حيث تحوّلت الحبال والعصي إلى حيات تسعى.

التجـارب النفـسية (السَيْكية) عدا الهلوسات

إن الهلوسة الناتجة عن الجنون أو عن استعمال المخدرات سببها حدوث إثارة شديدة للعقل الإنساني، وبالتالي تؤدي هذه الإثارة إلى نشاط وفاعلية العقل الباطن. وفي هذه الأحوال تكون النتائج غير مترابطة وغير منتظمة. وفي كثير من الأحيان يمكن للمراقب أن يلاحظ بسهولة أن الرؤى الناتجة عن الهلوسة ليست سوى أجزاء متناثرة من خيالات الشخص المهلوس. وهي تظهر في شكل مشاهد مخيفة (تعكس مخاوف أو رغبات مشوشة). كذلك يمكن أيضا للمراقب أن يلاحظ بسهولة من التشويش الكامل ويأس حاد يصاحب عادة هذه الاضطرابات. ولكن فيما عدا هذا يمكن للعقل الباطن أيضا أن ينسج بعض الصور المنتظمة لها معنى ومصحوبة برسالة معينة. وكذلك يمكن للعقل الباطن أن يتبادل المعلومات مع العقل الواعي كما لو كان بشكل مقصود ولتحقيق غرض معين.

وما يبقى بعد ذلك هو تحديد إمكانية وجود عامل خارجي يؤثر على العقل البشري باستخدام آلياته الكامنة داخله. والأبحاث التي أجريت على نطاق واسع، والتجارب التي قام بها علماء البراسيكولوجيا على أسس علمية.. قد أثبتت كلها أن هذا ممكن. إذ ثبت أنه من الممكن لعقل إنسان أن يؤثر على عقل إنسان آخر ويوجهه لكي يفكر حسب ما يمليه العقل المؤثر. وتجري حاليا مثل هذه الأبحاث في كثير من الجامعات، وحسب ما توصلت إليه نتائج هذه الأبحاث اتضح أنه ليس فقط من الممكن لعقل أن يؤثر على عقل آخر، بل إن هذا التأثير يحدث أحيانا بطريقة تلقائية، وأحيانا أخرى تنتقل أفكار شخص ما إلى عقل شخص آخر بغير استخدام أي وسيط مادي.

التنويم المغنطيسي

إن محتـرف التنويم المغنطيسي يستطيع أن يؤثر على عقول الآخرين، ويستطيع أن يخلق فيها انطباعات معينة. وكما هو ملاحظ في حالات الشفـاء عن طريق التأثير النـفسي أو العـلاج السـيْكي     (Psychic healing) يكون الهدف من التنويم المغنطيسي هو استحضار الأسرار الخفية في عقل المريض الذي يقع عليه التأثير إلى السطح، أو تنشيط القوة الكامنة في عقله لكي تعمل على شفائه.

وكثيرا ما يحدث لمريض مختل العقل أن يفقد الشجاعة على مواجهة أفكاره الخاصة التي تؤرقه وتقلقه، فيدفنها في أعماقه، ولكن ليس في عمق كافٍ يؤدي إلى نسيانها، إذ تظل تلك الأفكار في حالة عدم استقرار في منطقة ما بين العقل الواعي والعقل الباطن، وبقليل من المساعدة من الخارج يتمكن المريض في النهاية من تجميع ما يلزمه من القوة لكي يأتي إلى السطح بهذه الأفكار التي تؤرقه، ثم يتخلص منها. ويمكن تشبيه هذه الظاهرة بجسم صغير مغروس تحت الجلد، مما يسبب ضيقًا وبعض الآلام غير المبرحة. ويظل هذا الإحساس بالضيق مستمرا إلى أن تتم إزالة ذلك الجسم. والوظيفة التي يقوم بها مبضع الجراح هي نفسها التي تقوم بها توجيهات المنوم المغنطيسي في حالة المريض المصاب باختلال نفسي.

التخاطر (Telepathy) أو الاستشعار عن بعد

إن التخاطر شكل آخر من أشكال الاتصال غير العادي الذي يتم بين عقلين وبدون استخدام أية توجيهات مباشرة. فبدون الاستعانة بأي وسيط مادي يمكن لأفكار شخص أن تنتقل إلى شخص آخر، بغير أي اتصال مباشر بينهما، سواء كان اتصالا صوتيا أو مرئيا، وكأنما شوكتان رنانتان تشتركان في نفس التردد.. إذا رنت إحداهما بدأت الأخرى ترنّ أيضا.

وإذا كان التنويم المغنطيسي والتخاطر حقيقة واقعة ولها تأثير بالفعل، وهناك الكثير من الدلائل على أنهما بالفعل حقيقة مؤثرة، فلماذا لا يستطيع الله تعالى أن يستخدم نفس الآلية والخاصية الموجودة في الإنسان لكي ينقل تعاليمه وأوامره إلى الناس؟ لم لا تكون لديه سبحانه القدرة على استخدام الإمكانات التي خلقها هو في الإنسان لينقل إليه مشيئته وإرادته؟

حالات أخرى للعقل الباطن

إن الأحلام في الحقيقة هي ظاهرة عامة يشترك فيها جميع الناس، من مختلف الأقطار وفي مختلف الأزمنة، ومع ذلك فإن الأحلام لا تقع كلها تحت نوعية واحدة. والأحلام.. في معظم الأحوال.. تكون من نتاج النفس الإنسانية. فالعقل الباطن في أسلوب تعامله مع الانسياب اليومي للمعلومات، يعكس الاهتمامات والمشاكل التي يجابهها شخص معين. وقد تقدمت اليوم الدراسات التي تُجرى على الأحلام تقدما كبيرا عما كانت عليه في عصر نظريات فرويد. ويقوم الباحثون اليوم بالكثير من البحوث مستعينين بالأجهزة الإلكترونية المتقدمة.

ومع كل هذا.. فمن وجهة نظر الدين.. هناك نوعان من الأحلام يحملان ثقلا خاصا وأهمية معينة، الأحلام التي تنتج عن عوامل نفسية، والأحلام التي هي من مصدر إلهي، والتي قد تحمل في طياتها نذيرا لنكبات مستقبلية، أو قد تكون مخبرة ببشائر مفرحة. كما أنها قد تكشف عن علوم ومعارف لم يكن يعرف الرائي شيئا عنها قبل أن يرى ذلك الحلم المعين. ومثل هذه الأحلام تبين إمكانية وجود كائن عاقل متعال، لا يُرى بالعين، ولكنه يستطيع أن يتصل بالبشر حين يشاء، وأن يُبلغهم أيضا ما يشاء.

إن هناك دلائل كثيرة من الوقائع الدينية يمكن ذكرها للتدليل على صحة هذا الرأي. ولكن أولئك الذين لا يؤمنون بالأديان لن يقبلوا هذه الدلائل على أنها حقائق. ويعود هذا بالطبع إلى أنهم لو قبلوا وجود كائن عاقل تفوق قدرته قدرة البشر ويستطيع أن يؤثر في عقل الإنسان، فإن هذا يعني قبولهم وإيمانهم بوجود الله، وهذه الحقيقة تصيب الكثير من المفكرين العلمانيـين بالحسـاسية الشديدة المفرطة.

والمشكلة الثانية هي أن هذه الظاهرة.. أي ظاهرة الوحي.. يأتي ذكرها في معظم الأديان بأسلوب يجعل منها أمرا خارقا للعادة، وكأنها شيء شاذ من نسج الخيال، حتى إنه من الصعب على العلماء التجريبيين أن يقبلوها كحقيقة واقعة. والتصورات الخاطئة، والأوصـاف الدرامـية، والأقاصـيص الروائـية عن التجارب الروحانية السابقة للقديسين والأنبياء التي يُرَوّجها أتباعهم، لا تساعد أبدا على تحقيق أغراضهم ولا على إحقاق الحق. فهي لا تنجح سوى في أنها تجعل حقيقة الاتصال الإلهي بالإنسان تبدو باهتة يصعب رؤيتها، وتغلفها بضباب قاتم مما يجعل أمر كشفها شاقا وصعبا، حتى إنه قد صار من العسير وجود خط واضح يفصل بين نسج الخيال الإنساني وبين الحقيقة النبيلة لهذه التجارب الروحانية.

والقرآن المجيد.. من بين الكتب المقدسة.. يتحدث عن هذه الأمور الروحانية بشكل طبيعي، وبأسلوب تلقائي وعقلاني، وذلك لكونه خاليا من الإضافات البشرية. وهو يرفض ما يطلبه المعارضون من غير المؤمنين حين يصرون على تحقيق أمور وراء الطبيعة البشرية. وعند دراسة المعجزات والآيات في ضوء ما قاله القرآن المجيد، نجد أنها لا تتناقض أبدا مع القوانين الطبيعية التي لا تتغير ولا تتبدل.

فمثلا معجزة موسى المعروفة جيدا، والتي يعتقد أهل الكتاب أنها تتميز بكونها خارقة للقوانين الطبيعية، نرى أن القرآن الكريم يقدمها بأسلوب بسيط، عقلاني، ومنطقي. ومع ذلك فإن الموضوع يحتاج لأكثر من نظرة عابرة حتى يمكن لنا أن نسبر أغواره ونحيط بجوانبه. وليس في الأمر ألغاز ولا أسرار خفية، ومع ذلك.. فإن من يقرأ القرآن وهو تحت تأثير أفكار مسبقة، غُرست في ذهنه من قبل عن معجزات منافية للطبيعة، قد يخطئ في فهم المعاني الحقيقية التي تبينها كلمات التنـزيل، فلا يميز بين ما هو خارق للعادة وما هو خارق للقوانين الطبيعية. وفيما يلي مثال يوضح كيف قدم القرآن الكريم هذه المعجزة التي نحن بصددها. يقول تعالى في الكتاب العزيز:

قَالَ أَلْقُـوا فَلَمَّا أَلْقَـوْا سَـحَرُوا أَعْـيُنَ النَّاسِ وَاسـْتَرْهَبـُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأعراف:117-119)

أي أن موسى قال لسحرة فرعون: ألقوا حبالكم وعصيكم. فلما ألقوا هذه الأشياء أثروا على أعين الناس بوسائل خفية (فالسحر هو العمل أو التأثير الخفي)، وألقوا في قلوبهم خوفا ورهبة، وكان لعملهم الخفي هذا تأثير عظيم. فأوحى الله تعالى إلى موسى أن ألق عصاك. فإذا هي قد ابتلعت كل الإفك الذي قام به السحرة، وهكذا تبين الحق وبطل العمل الذي قاموا به.

ومن الواضح أن القرآن الكريم يتحدث هنا عن سحرة فرعون الذين أثّروا بتأثير خفي.. ليس على الحبال والعصي، وإنما على عيون الحاضرين. وهذا وصف واضح كل الوضوح لعملية التأثير المغنطيسي، فلم يحدث هنا بتاتا أي خرق أو تعطيل للقوانين الطبيعية. ولإبطال تأثير هذا الوهم المغنطيسي الذي تخيله الناس تدخل الله تعالى بقدرته العليا وإرادته العظمى عن طريق موسى ، فأبطل التأثير المغنطيسي للسحرة على أعين الناس. وعلى هذا فإن القرآن المجيد لا يدّعي أبدا أن عصا موسى قد ابتلعت بالفعل الحبال والعصي التي ألقاها السحرة أمام الناس، وإنما يقرر الكتاب العزيز أن عصا موسى قد ابتلعت العمل الخفي الذي قام به السحرة حيث تحوّلت الحبال والعصي إلى حيات تسعى.

ويعالج القرآن المجيد نفس هذه الواقعة في سورة أخرى بشكل يلقي المزيد من الضوء على حقيقة ما حدث. يقول تعالى:

قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (طه:67-69)

في هذه الآية الكريمة يخبرنا القرآن المجيد أن موسى نفسه قد تأثر بسطوة القوى النفسية المؤثرة للسحرة، مما يبين أن موسى لم يكن يستطيع أن يبطل التأثير المغنطيسي للسحرة بقوة تأثير نفسه حينما ألقى بعصاه. ومن الناحية السيكلوجية.. نجد أنه من المستحيل على العقل أن يبطل تأثير قوة عقل المنوم المغنطيسي بعد أن ينجح الأخير في فرض تأثيره المغنطيسي، وبالتالي فلم يكن في استطاعة موسى أن يزيل فعل التأثير المغنطيسي للسحرة بإرادته الذاتية.

إن هذا الجانب من الواقعة هو الذي جعلها تتحول بأكملها إلى معجزة خارقة، وإلا لكان في استطاعة أي شخص أن يُبطل تأثير السحرة إذا كان أشدَّ منهم قوةً. ولا يستطيع أحد أن يحكم على هذا الأمر بصورة أفضل من السحرة أنفسهم، فقد أدركوا بخبرتهم أنها لا بد أن يد العَلي القدير هي التي كانت تعمل في جانب موسى . فقد رأوا موسى وقد وقع فريسة لتأثيراتهم تماما كما حدث لبقية الحاضرين من المشاهدين. فكيف استطاع عقله أن يحرر نفسه ويحرر عقول جميع الحاضرين من تأثيراتهم المغنطيسية؟ وبالمناسبة.. إن هذه الآية تكشف الستار أيضا عما يسمى بأسرار السحر وغموضه، إذ أن ما نجح السحرة في تحقيقه ليس هو تحويل الحبال والعصي إلى حيات حقيقية، ولكن فقط في خلق وهم في عقول الحاضرين بتأثير قوتهم السيكية.

وليس الوحي سوى اسم آخر للتأثير على النفس البشرية حينما يكون المؤثر هو الله تعالى نفسه. ومن هنا نستطيع أن نستدل ونستنتج منطقيا أنه لا بد أن يكون الله تعالى بجليل قدرته قد خلق في العقل البشري جهازا دقيقا فعالا بغرض الاتصال به، وعلى هذا فإن الوحي الإلهي ليس بأمر غريب ولا شاذ أو مناقض للطبيعة.

إن كل عقل بشري يستطيع الاتصال بغيره من البشر عن طريق قوة الاستشعار عن بعد هذه. غير أنه من الضروري أن نلفت أنظار القارئ هنا إلى أن جهاز الاستقبال الدقيق الفعال الذي خلقه الله تعالى في كل عقل بشري، لتحقيق الاتصال به يعمل بكفاءة ومقدرة بشكل يتناسب طرديًا مع حسن نوعية ومدى صدق سجايا الشخص صاحب الجهاز. فإن خيالات الشخص الأفاك تكون مجرد خيالات طائشة عقيمة، أو تصورات زائفة سقيمة، لأمور تنافي الواقع وتجافي الحقيقة. ويمكن أن تريه أهواؤه النفسية رؤى زائفة من صنع نفسه فحسب. وأما الشخص الذي تعَوّد الاستقامة، وازدان بالشرف، وتطبّع بالحق، فمن غير المتوقع منه أن يدع خيالاته تجمح به لتخلق لـه صورا زائفة، أو أضغاث رؤى، أو أصواتا لا معنى لها. لذلك فإن النبي الذي يختاره الله تبارك وتعالى لتبليغ رسالته للناس لا بد أن يكون مثالا للاستقامة التامة، ورمزا للصدق المطلق، وتجسيما للحق والأمانة. إن نزاهته وطهارته هي التي تشهد بصدق وطهارة الرسالة التي يحملها. ولهذا فإن الصدق المطلق الذي يتحلى به مَن يتلقى رسالة من الله تعالى، يلعب دورا هاما وحاسما في ضمان حماية الوحي الذي يتلقاه من كل زيغ أو تحريف. ولا عجب أن يوصف الأنبياء جميعا في كل الكتب المقدسة بأنهم كانوا مثالا للحق ورمزا للصدق، ومن هنا كان الصدق أعظم دليل على حقيقة دعواهم وصدق الرسالة التي يبلغونها.

وقد يحدث أحيانا.. في الحالات الوجدانية التي يمر بها المرء.. أن لا يصحب هذه الحالة سماع صوت أو مشاهدة رؤيا، غير أنها تكون في واقع الأمر صورة من صور الوحي السماوي. وقد وصف الكثير من القديسين والأولياء هذه الأحوال الوجدانية التي يفقد فيها المرء إحساسه بالعالم الذي يحيط به، ويشعر كأنه يغوص داخل وجدانه الواعي، ثم يعود في النهاية إلى سطح العالم المادي وقد حمل معه رسالة قدسية، تماما كما يفعل الباحث عن اللؤلؤ حين يغوص في قاع البحر العميق ثم يطفو مرة أخرى إلى السطح وقد أمسك في يديه مجموعة من حبات اللؤلؤ المتألقة. وقد يبدو أن المرء في مثل هذه الأحوال يخوض تجربة داخل النفس والوجدان، لا يصاحبها صوت أو رؤيا، إلا أنها في الواقع تكون حالة حسية قوية تنفعل فيها النفس انفعالا شديدا مذهلا، وسرعان ما تكتسي بثوب من الكلمات الجليلة. ويكون لهذه التجربة وقع شديد على المرء، تماما كأنه قد سمع بالفعل أحدا يتحدث إليه مباشرة وبوضوح تام، أثناء يقظته الكاملة الواعية. غير أن هذا الوحي الذي يكون من خارج النفس لا يتحدد ولا يصح تعريفه بمجرد التأثير الذي يطبعه على إحساس المتلقي، ولا بالأسلوب الذي يصف به المتلقي حالته خلال التجربة. فبالإضافة إلى ثبوت ووضوح صدق الشخص المتلقي، لا بد أن يكون المعيار الصحيح لمعرفة حقيقة الوحي الإلهي هو طبيعة المحتوى الذي تحمله الرسالة المتلقاة. إذ لا يكفي أن يكون المتلقي صادقا فقط، بل يجب أن يكون محتوى الوحي نفسه يحمل شهادة من مضمونه على صدقه وحقيقته.

إن التباين المذكور فيما سبق بين تجارب كوامن النفس الذاتية، والوحي الإلهي الحقيقي الذي يتنَزل من السماء، قد لا يكون مفهوما بوضوح كافٍ لشخص لم يجرب هذه الأمور، وأما من تمرس واعتاد التعرض لهذه الأحوال.. فإنه يستطيع أن يتعرّف على رسالة الوحي الإلهي، لأن طبيعة الرسالة لا ترتبط بمعارفه الذاتية بأية صلة، ولا تخضع لتأثيرات كوامن نفسه وتجاربه النفسية.

أما الآخرون.. فإنهم يستطيعون التعرف على حقيقة وأصالة الوحي الإلهي بأسلوب آخر يمكنهم من تصديقه والوثوق بحقيقته، وذلك باستخدام البرهان الخارجي الذي يحمله الوحي نفسه. وقد يكون هذا البرهان الخارجي مُتاحا لمعاصري صاحب تجربة الوحي.. وقد لا يكون، لأنه من المقدر أن يتبين هذا البرهان ويتضح بعد مرور زمن، حين تتحقق الأمور التي تنبأ بها الوحي، أو بعد أن يتبين صدق الحقائق التي ذكرها، إذ لا يمكن أن تخطر هذه الحقائق على بال أحد، ومن المستحيل أن يتصورها أحد لأنها تخص مرحلة مستقبلة من المعارف أو الاكتشافات. ويكون القصد من هذا الوحي هو إقناع الأجيال القادمة في العصور المستقبلة الذين تكشف علومُهم المتقدمة صدقَ هذا الوحي الإلهي. وعلى ذلك، فليس من الصعب على الآخرين أيضا التمييز بين التجارب الوجدانية النابعة من كوامن النفس من ناحية، وبين الوحي الذي يتنَزل من عند الله تعالى من ناحية أخرى.

والآن.. نذكر نبوءة من نبوءات الوحي الإلهي، ورغم أنها كانت مُوَجهة للجيل المعاصر لنُزول الوحي، إلا أنها كانت تحتوي أيضا على عنصر مفاجأة للناس في الأجيال المقبلة كذلك.

إن الواقعة التي نتحدث عنها تتعلق بالحلم المشهور الذي رآه ملك مصر، وقد فسره النبي يوسف فيما بعد. وحسب ما جاء في القرآن المجيد.. فإن هذا الحلم قد رُوِي ليوسف أثناء قضائه عقوبة في السجن لتهمة كانت قد وُجهت لـه. لقد كان ذلك الحلم فريدا بشكل أعيا وحير جميع حكماء البلاط وعرّافي الملك، ولكنه لم يُشكل أية صعوبة ليوسف ، الذي فطن بدقة إلى حقيقة معنى الرسالة التي يحملها. وقد كان ذلك التفسير الحكيم، والتأويل الحاذق السليم ليوسف هو الذي شهدت الحوادث على صحته، وأيدت حقيقته وقائع السنين التي تلت ذلك الحدث العجيب.

وقد رأى الملك سبع سنبلات خضراء من الذرة وسبع سنبلات جافة تكاد تخلو من الحبوب. ورأى أيضا سبع بقرات نحيلة نحيفة وهن يأكلن سبع بقرات سمان قوية. ولما رَوَى الملك هذا الحلم لحكماء قصره طالبا تفسيرا له.. استبعدوا أن يكون له معنى، واعتبروه مجرد أضغاث أحلام مما ينتج عن كوامن النفس.

وقد حدث أن أحد خدام الملك كان موجودا في ذلك الوقت، وكان هذا الخادم قد قضى فترة عقوبة في نفس السجن مع يوسف . وكان هو الآخر قد رأى حلما غريبا وفسره له يوسف تفسيرا صحيحا أنه سوف يُفرج عنه قريبا، ثم لم يلبث أن رأى بنفسه صحة تفسيره، إذ سرعان ما تم الإفراج عنه فاستعاد حريته، بل وعاد مرة أخرى ليكون في خدمة مولاه الملك. واقترح الخادم أن يُسمح له بالذهاب إلى السجن لمقابلة يوسف عسى أن يتمكن يوسف من تفسير حلم الملك. ولما حصل على الإذن بالذهاب إلى السجن، زار يوسف وقص عليه رؤيا الملك. واستطاع يوسف على الفور أن يفهم مغزى الحلم، وشرح معناه بطريقة منطقية.. لم تدع حوله أي إبهام أو غموض على الإطلاق.

وحين عاد الخادم إلى القصر روَى تفسيرَ يوسف لرؤيا الملك، وكان كما يلي:

في السنوات السبع التي تلي رؤيا الملك سوف يسكب الله سبحانه وتعالى بركاته على مصر بصورة مطر غزير ينتج عنه محصول وافر من الحبوب والفواكه. وبعد هذه السنوات السبع من المحاصيل الغنية المباركة، سوف تتوالى سبع سنوات أخرى تأتي بجفاف شديد، مما يترتب عليه حدوث مجاعة شديدة، ما لم يتم الاقتصاد في استهلاك محاصيل السنوات السبع الخصبة والاحتفاظ بها، وذلك لتعويض النقص الناتج عن سنوات الجفاف.

وقد أثر هذا التفسير على الملك تأثيرا شديدا، حتى إنه أصدر أوامره بالإفراج فورا عن يوسف ، ولكنه اختار أن يظل في السجن إلى أن يُنظر في حقيقة أمر التهم الزائفة التي وُجهت إليه وتتم براءته. وبعد أن ثبتت براءته، واعترفت المذنبة الحقيقية بجرمها، وافق يوسف على أن يُخلى سبيله ويُطلق سراحه. وقد استقبله الملك بحفاوة كبيرة، وأضفى عليه شرفا عظيما، وعيّنه في حكومته وزيرا للأمور الاقتصادية والمالية.

ولدهشة الجميع.. بدأت الحوادث تتوالى تماما كما جاء في رؤيا الملك، حسب التفسير الذي قال به يوسف ، مما لم يحفظ شعب مصر من كارثة المجاعة ولم ينفعه وحده فحسب، بل نفع القبائل والشعوب القاطنة في البلاد المجاورة كذلك. وأيضا كانت هذه الأحداث نفسها سببا في التئام شمل يوسف مع أسرته.

ومن هنا فإن أكاذيبهم التي يمكن أن تتنكر في شكل إلهامات تضلهم وتضل أيضا أولئك الذين يتبعونهم. هذه هي الحالة الثالثة التي تنشط فيها أجهزة مكنونات النفس.

إن حلمًا كهذا.. بما تبعه من تحقق لما جاء فيه من وقائع.. لا يمكن أن يُسقط من الحسبان، ولا أن يُستبعد من الاعتبار على أنه مجرد نتاج وجبة دسمة التهمها أكول بنهم شديد قبل النوم. ولكنها رؤيا حقة، تطلبت أن يكون هناك “يوسف” لكي يسرد حقائقها ويشرح وقائعها. ويكفي هذا المثال لكي يبين كيف يؤثر الله تعالى على الجهاز المكنون في النفس لتحقيق غرض معين، وبذلك يبلغ سبحانه وتعالى رسالة ذات معنى هام، ويتحوّل قسم من عالم الغيب إلى العالم المشهود. غير أنه يجب أن نذكر هنا أن آليات مكنون النفس التي نحن بصددها لا تُوَظف فقط بواسطة الله تعالى وحده، أو بواسطة العقل الباطن بمفرده. إذ أن هناك عاملا ثالثا قد ذكره أيضا القرآن الكريم في قوله تعالى:

هَل أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (26 الشعراء:222-224)

وحسب هذه الآيات الكريمة يتبين أن الأفاكين من بين الناس، والكذابين الذين اعتادوا الكذب، قد يؤثرون على مكنونات نفوسهم بحسب ميولهم الشيطانية، ومن هنا فإن أكاذيبهم التي يمكن أن تتنكر في شكل إلهامات تضلهم وتضل أيضا أولئك الذين يتبعونهم. هذه هي الحالة الثالثة التي تنشط فيها أجهزة مكنونات النفس. ويكون العامل الحاسم دائما في كل حالة هو ما عُرف من صدق صاحب التجربة وما اشتهر عنه من التزام بالحق، أو ما عُرف عنه من الكذب وما اشتهر عنه من الزور، فإن الكاذبين يجترُّون دائما الإلهامات الكاذبة. وبهذا يتبين في النهاية أن وحي الكاذبين يمكن أن يُعرف دائما باحتوائه على عناصر شيـطانية، ومـبادئ إبـليـسية، ووعـود كاذبة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك