هلا أكرمنا ضيف ملك الملوك!!

هلا أكرمنا ضيف ملك الملوك!!

التحرير

جرت العادة والأعراف أن يُكرم المرء ضيفه وينـزله منـزلة تليق بقدره إكراما له وإجلالاً لمقامه، فإذا كان من شرفاء القوم وصفوتهم فإن أداء واجب الضيافة والترحيب يتجاوز ذلك كله إلى مستويات كبيرة من حيث الاستعداد المادي والمعنوي بحشد كل الطاقات والقدرات تعبيرا عن مشاعر التقدير والتبجيل والإكرام  لعظمة الضيف وسمو مقامه، وبالتالي تكون الطاعة أمرًا واجبًا. فما بالك إذا كان  هذا الضيف رسول ملك يبعثه مرة في كل عام ليجوب الأمصار نيابة عنه تفقدا للرعية وأحوالها ليواسي البائس الفقير ويمون السائل والمحروم، وليعين على نوائب الحق وقضاء حاجات العباد، فلا شك أن القوم يفرحون بقدوم هذا الضيف الكريم ويستعدون لموسم هذا العطاء بترقب هِلالِهِ وطلائع قوافل خُدّامِه، ثم ألا يكون ما أقدم عليه هذا الضيف الكريم مستوجب حُبِّ الناس له بما سعى إليهم بما يصلح حالهم ويقضي حاجاتهم ويقربهم من ولي أمرهم. فإذا كان هذا حال ضيف ممثل لملك دنيوي فما بالكم يا سادة يا كرام بضيف ملك الملوك ضيف ليس كسائر الضيوف، إنه ضيف لم يعرف التاريخ مثيلا له. إنه ضيف خفيف الظل من وراء الهلال يطل. إنه رمضان الذي يطل بإطلالته البَهِيَّة وأنواره القُدسيَّة، أفلا نُكرمه بما يستحق ونكون يقظين صاحين لا نائمين غافلين..؟! ألا نشكر الله تبارك وتعالى الملك القدوس على عظيم إحسانه وكمال تشريعه؟ فنتقرّب إليه بما جعل غُرّة هذا الشهر رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقا من النار؟ فأيامه عند الصائمين كالتاج على رأس الزمان، وهي مغنم الخيرات لذوي الإيمان.. ومهبط أفضال الرحمان على قلوب العباد بكشوف ورؤى تزدهر بها المواهب الروحانية، وترتقي النفس إلى العطايا السماوية، فطوبى لعبد استيقظ من رُقَادِهِ، وأخذ من أفضاله واستضاف في جَنَانِهِ وأوفى عهده مع ربه بتزكية النفس، وتطهير القلب، وإمساك اللسان، وتحمل الجوع والعطش، وتنعم بقيام الليل والذّكر وتلاوة القرآن.. وبئس غافلاً عن أوانه لئيم الطَّبْعِ من عصيانه، متكاسلا عن استيفاء حقوقه، أو الذي جرّده من مغزاه فاقتصر على ظاهره، فذلك مَنْ حَقَّ عليه قول المصطفى “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش”. فما كان الصوم مقتصرا على الإمساك عن الشهوات بل هو أمرٌ جامع بإمساك الجوارح عن المنكرات وتطويع النفس وترويضها وتخليصها من جذباتها الأمَّارة، من سبٍّ وشَتْمٍ ومُشاجرة، وغيبة ونميمة، فما شُرِعَ الصيام إلا ذريعة التقوى كما جاء في كلام الله الأعلى:

  يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون

فانظروا كيف برر لنا مقصد هذه الشعيرة بالتقوى، ألا فليتنبّه من جعل شهر الصيام مَطِيَّةَ أهوائه، في لهو ومجون، وقضاء الليالي أمام شاشات التلفزيون، وارتياد الملاهي والمقاهي وأوكار الشياطين أن ليس ذلك من تقوى الصيام في شيء، إن هو إلا سمٌّ مهلك يفتك ببذرة إيمانك وببـركة صيامك! آه مِنْ لَوْعَةِ ضَيْفٍ عَزِيزٍ كَرِيمٍ بين قوم ساهين غافلين! وآهٍ  لو كانوا بِحَقِّ قَدْرِهِ عارفين وبجليل أفضاله موقنين! فما لهم لا يرجون لله وقارا ولِحُرْمَةِ رمضان حلالا أو حراما؟! ولو أَرَدْتَ أن تبكي لِحَالِهِم لَذَرَفْتَ لأجلهم دَمْعاً مِدْرَارًا، فسالت منه أَنْهَارا!.

آه مِنْ لَوْعَةِ ضَيْفٍ عَزِيزٍ كَرِيمٍ بين قوم ساهين غافلين! وآهٍ  لو كانوا بِحَقِّ قَدْرِهِ عارفين وبجليل أفضاله موقنين! فما لهم لا يرجون لله وقارا ولِحُرْمَةِ رمضان حلالا أو حراما؟!

فالصائم الحق يتحمل لوجه الله كل المشاق ببشاشة وانشراح صدر، وكأن في ما يقوم به من مشاق وتضحيات في هذا الشهر، هو بمثابة انسلاخ عن العادات الإنسانية، وتشبُّه واقتراب من الصفات الملائكية. فامتناعه عن الأكل والشرب والرغبات الزوجية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس يمنحه فرصة التشبه بملائكة الرحمان. وهكذا يحظى العبد بحمى الله  والقرب منه فيجزيه سبحانه جزاءً أَوْفَى بما تكفَّل بأمر مُجَازَاةِ الصائمين بقوله: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به!” ، والصائم  يدعو ربه فيستجيب له وكأنه يجذب فضل الله إليه، والعلاقة بين الصوم واستجابة الدعاء أمر مشهود عَكَفَ عليه النبيون والصديقون والصلحاء، وتوجد آثاره فيما اندرس أو بقي من آثار كتب النبيين وتجارب سِيَر المطهرين .

كما أن رمضان شهر المواساة والتذكير، إذ يُوَاسي الله فيه الفقراء والجوعى والمحرومين، بما تجاهلهم من ذهبت بِطْنَتُهُمْ بِفِطْنَتِهِمْ، وامتلكوا من رزق الله نصيبا وفيرا، ولا ينفقون منه فطيرا!، فجعل الله الجوع والعطش فيه سِلْوَانًا وتذكيرًا بحال قومٍ بائسين مظلومين محرومين، لِتَرِقَّ القُلُوب، وتَتَّقِدَ الأكْبَادُ من هَوْلِ الكُرُوب، وليكون الإحسانُ والصدقاتُ وإطعام الطعام في أيامه إكراما وَجُودًا، كما  كان رسولنا الكريم المبعوث رحمة للعالمين ، أجود ما يكون في أيامه حيث يكون كالرِّيحِ المُرْسَلَة  إدراكا منه لحقيقة هذه المسألة.

نسأل الله أن يتقبل صيامنا وقيامنا وأن يجعلنا ممن أكرم ضيـافة رمضان، وتقرّب إلى الله الملك الرحمان بالطاعـات والعبادات والمجاهـدات، لنكون من أرباب القيام، المحافظين على آداب الصـيام، القائـمين في جُنْحِ الظلام، الفائـزين بتجليات الرحمان، الغانميـن غنـيمة الصادقـين، الناجـين من عذاب الجحـيم.. اللهم آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك