التقوى منكم وإليكم

التقوى منكم وإليكم

الأديان بين إشكالية

 العقل والأسطورة!

انفرد الإنسان دون سواه من المخلوقات بشيئين متلازمين، هما العقل والتكليف، وقد وفرت أديان العالم المتعددة عبر العصور قبل الإسلام وسيلة تتيح للناس فهما لا بأس به للعوامل المجهولة في الكون من خلال الكتب المقدسة وتعاليم الأنبياء.. فعرف من خلالها وجود خالق مبدع للكون وكيفية بدء الخليقة والحياة، لكن كل هذه الرسالات قبل الإسلام لم تكن مكتملة كونها جاءت كمرحلة تمهيدية مرتبطة بالتطور العقلي والإدراك المحدود الذي بلغه الإنسان حينئذ، وكانت إرهاصا لمجيء رسالة الإسلام وشريعته الكاملة الناضجة؛ تلك الرسالة التي هي أكمل وأجمل وأرفع من كل القياسات المحدودة السابقة، فكانت منتهى الحقيقة والمعرفة التي تخاطب العقل والروح وتروي غليل الباحثين والملهوفين على حد سواء. فكان لزاما أن يصاحب اكتمال التطور الجسدي المادي للإنسان تطورا روحانيا وذلك ببعثة سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن الطبيعي أن تتميز رسالته السماوية بأسلوب رفيع الشأن في مخاطبة الإنسان المتطور الناضج الذي يولي للعقل مساحة كبرى في آليات التفكير والتحليل والتمييز، لذلك نوه القرآن الكريم بأهمية التفكر والتدبر في إبداعات الخالق في نواميس الطبيعة وفي ما مَنَّ به على الإنسان من نفحات روحية تتيح له أن يدرك المقاصد من وراء التعاليم والتشريعات ويستوعب عمقها وعظمتها ويدرك من خلالها أنه لا تعارض بين سنن الله الكونية وبين سننه الروحية التي هي الوحي، وهذا يؤكد فعلا عدم تعارض قول الله أي وحيه، مع فعله الذي هو خلقه.

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الجانب في آيات كثيرة منها قوله تعالى:

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (الملك:4-5)

والسؤال الذى يطرح نفسه في هذا المقام.. تُرى ما هو  السبب الذي قاد كثيـرًا من أهل الأديان إلى الاعتقاد بأن الدين يتخطى العقل والمنطق والسنن؟

وهل يمكن أن تكون الأديان في أصولها بعيدة عن مخاطبة العقل البشري وذلك لسوء فهم وإدراك وتقصير في معرفة مقاصـد فلسفة الدين ورسالات الأنبياء؟! وهل الرسالات السماوية أول من فتح باب الخرافة والأساطير على مصراعيها لبني الإنسان كما يزعم الملحدون؟ أم أن هذا يعود إلى تراكمات تاريخية وتراثية بما نسجته مخيلة الناس وتوارثته عبر الأجيال في تداخل عميق متشابك بين المعقول واللامعقول، أم لعدم إدراك اللغة المجازية والروحية والتشبيهية للنص المقدس! وبالتالي أدى إلى تأثر النصوص المقدسة بتفسير يغلب عليه طابع الخيال أو ما يمكن تسميته اللامنـطق!.. وإلـيكم نموذجان على سبيل المثال لا الحصر:

نصوص بين المنطق واللامنطق؟

تحدث متى عن قصة المجوس الذين جاءوا للمسيح عند ولادته وسجدوا له فقال [متى/2: 9-10]: “وإذا النجم، الذي سبق أن رأوه في الشرق، يتقدمهم حتى جاء وتوقّف فوق المكان الذي كان الصبي فيه!. فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جداً..!”. هل يُعقل أن يشير نجم يبلغ حجمه أضعاف حجم كوكب الشمس ببلايين المرات إلى مكان موضع ولادة شخص! وهذا يدل على الخيال والوجدان الأسطوري في كتبة هذا النص الانجيلي إذ من الواضح أنهم حينها لم يكونوا على علم كاف بحجم وطبيعة النجم!!

طير يمشي على أربع؟!

“وكل دبيب الطير الماشي على أربع !فهو مكروه لكم” (سفر اللاوين أصحاح 11: عدد20) هل يعقل أن يكون هناك طيور تمشي على أربع؟

أهي أسطورة عقائدية؟

أوليس هذا ما اصطلح عليه الباحثون بالأسطورة والتي يعرفونها أنها محاولة الإنسان في تفسير الكون ومفرداته تفسيرا قوليا وربط نفسه به! حيث اعتبروا أن الأسطورة العقائدية التي توجد آثارها في كثير من الكتابات الدينية للشعوب،

وإن كان لها صور متعددة إلا أنها تشترك وتجتمع في بعدها عن الحقيقة العلمية والسنن الطبيعية حيث أضفت على الإنسان قدرة خارقة مخالفة للطبيعة، ونسبت إليـه معجزات خارقة للسنن غير المألوفة بل ووصل الحال بأن أضافت للرمز المقدس الاعتـباري طابع خوارق العادات من إحياء للموتى أو التجسد أوالخلود أو الصعود إلى السماء.. الخ! كما حصل مع الديانة البوذية مع بوذا، واليهودية في حالة النبي إيليا، والمسيحية في حالة يسوع المسيح ولدى بعض الطوائف الإسلامية التي تؤمن بغيبة الإمام المهدي أو المسيح والاعتقاد المزعوم عن حياتهما منذ أزمنة بعيدة إلى اليوم!

أشار مؤلف كتاب المسيحية رحلة من الحقيقة إلى الخيال حضرة مرزا طاهر أحمد رحمه الله، إلى هذا النـزعة الموجودة لدى كثير من أتباع المعتقدات فيقول:

“وإذا ما أُخذ التاريخ الديني بشكل جاد، فإن المرء ليجد أعدادًا كبيرة من الأمثلة والروايات القائلة بأن مؤسسي الأديان أو رجال الدين الآخرين قد صعدوا إلى السماء بأجسادهم. هذه المزاعم كثيرة جدًّا، ومنتشرة بشكل واسع، بحيث تبدو أنها نزعة عالمية تدفع بالناس إلى اختلاق مثل هذه القصص، كي يرفعوا من شأن قادتهم الدينيين ويجعلوا منهم بشرًا خارقـين. والسؤال هو كيف يمكننا أن نرفض هذه الروايات المنقولة التي هي مقبولة ومعتقدٌ بها ربما من قِبل بلايين الناس في العالم اليوم؟”

ويبرر الباحثون وجود هذا البعد الأسطوري كظاهرة مشتركة لدى كثير من الشعوب وتشابهها رغم ما يفصل بينهم من مسافات الزمان والمكان إلى تماثل الأفكار الأساسية عند هذه الشعوب والمعتقدات وإلى وسيلتهم في عرض شخصيات بعينها وإضفاء الخوارق عليها وإلى وقائع متشابهة وإلى طريقتهم في إيجاد تفسير لها. إن إقصاء عامل العقل والمنطق في الدين يعود به إلى الخرافة، علما أن هذه الآلية هي القاسم المشترك بين البشر الحاملين لعدة معتقدات مختلفة للوصول إلى الحق وتبين الصواب من الخطأ، لذا على الناس أن يستفيدوا من آليات التفكير والعقل والتدبر، ومراجعة المفاهيم الدينية المتوارثة عن الآباء بعين التفحص، وإعادة قراءة النصوص الدينية وعدم التسليم بالتفسيرات وجعلـها حكما على النص المقدس، هذا إذا سلمنا جدلا بسلامة النص تاريخيا من يد العبث والحشو!

إنه تحد كبير يواجه التقليديين المنغلقين من كل دين في أن يثبتوا عدم تعارض كتبهم المقدسة أو تفسيراتهم لها مع نواميس وسنن الله والحقائق العلمية القطعية الثابتة. إنها مراجعة صعبة تحتاج إلى جرءة كبيرة وقوية وقد تكون صادمة للبعض ممن لم يقف على حقائق الأمور..

معجزة أم آية ضمن السنن الطبيعية؟

فالمعجزات مثلا وإن كانت خرقا للعادة كما يظنها الناس إلا أنها ليست بالضرورة تجاوزا للسنن الطبيعية، فهي قد تكون معجزة للأقدمين في عصرهم لعدم معرفتهم بكثير من سنن الله وأسراره في الطبيعة.. فآيات الأنبياء التي تبدو خارقة لم تكن في حقيقتها سوى معرفة متقدمة تتجاوز المدارك والمعارف البدائية لعصر معين، لعدم إحاطة أهل تلك الأزمنة بشكل كامل وصحيح بعلـوم الطبيعة وفيزيائيتها.. وبالتالي كان ما اصطلح عليه الناس بالمعجزات لم يكن تجاوزا وخرقا للطبيعة بل في نطاق سنن الله.. إن نظرة الإنسان للمعجزة يلُفها الخيال عند تناول النصوص الدينية عند التفسير وأيضا في قراءته لها.. والجدير بالملاحـظة أن القرآن الكريم لم يشر أبدا إلى لفظة المعجزة، بل استخدم لفظ الآيات وهذا الاصطلاح يختلف عن دلالة لفظ المعجزة. إن الكتاب الذي يضم أزيد من 750 آية في مقابل 250 آية تشريعية تحث المؤمنـين على دراسة الطبيعة، وعلى التفكر في ملكوت الخلق، واستخدام العقل استخداما صحيحا، في الوقت نفسه نجد إعجازه العلمي يقف شامخا متحديا عامل الزمن وكل ما تأتي به العلوم من مكتشفات جديدة هو المعجزة الحقة الخالدة، فهو ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه كما أخبر الله عز وجل، وفيه شواهد قوية أن قول الله وفعله أي صُنعَه وخَلْقَهُ لا يتناقضان لأن مصدرهما واحد وهو الله الواحد الأحد، ومن هذا المنطلق والفهم تتبين لنا إشكالية كل تعارض وتناقض في التفسير وما حملته بعض كتب التراث الديني من أخطاء اجتهادية بسبب مستوى المعارف العلمية القديمة السائدة في تلك العصور وعوامل أخرى كثيرة تتعلق بالمزاج والبيئة… وبالتالي قد تتغير نظرتنا وفهمنا لكثير من الآيات التي اعتبرها الناس معجزة في الماضي بينما لم تعد في ضوء العلوم المعاصرة وما تم اكتشافه من سنن وقوانين الطبيعة معجزة…هذا إذا فهمنا القاعدة الأساسية الهامة التي تقول أن قول الله وفعله لا تعارض بينهما.

مساهمة الصـديق

عبد العزيز المغربي

(المملكة المغربية)

Share via
تابعونا على الفايس بوك