طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

إن حياة نبي الإسلام  كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

رسول الله يصل إلى المدينة

وعودة إلى قصة الهجرة، واصل الرسول رحلته دون ترويع من أحد بعد أن صرف سُراقة، ولما وصل إلى المدينة وجد الناس ينتظرونه بشوق عظيم وصبر بالغ، فلا يمكن أن يطلع عليهم فجر يومٍ أسعد من هذا اليوم؛ فإن الشمس التي كانت تشرق بنورها على مكة قد جاءت لتشرق على المدينة. لقد وصلتهم الأخبار بأن الرسول قد غادر مكة، ولذا كانوا يتوقعون وصوله. ولعدة أيام، ظل الكثيرون منهم، في مجموعات وطوائف، يغادرون المدينة في الصباح، وينتظرونه على مبعدة أميال منها، ثم يعودون في المساء كاسفي البال. وعندما بلغ الرسول المدينة أخيرًا، قرر التوقف عند قباء فترة، وهي قرية قرب المدينة. ورأى أحد اليهود البعيريْن، وحدَس أن راكبيْهما الرسول وصاحبه، فارتقى ربوَة ونادَى عاليًا: “يا بني قيلة، ها قد جاء الذي أنتم تنتظرون”. فهرع إلى قباء كل من سمع النداء، بينما ملأت الفرحة أهل قباء بوجود الرسول بينهم، وراحوا ينشدون ويتغنون بتشريفه لهم.

وقد تجلّت البساطة المطلقة للرسول في حادثة وقعت حينذاك بقباء. لم يكن أغلب أهل المدينة قد رأوا رسول الله من قبل، ولما رأوه ومرافقيه جالسين تحت شجرة يستظلون، ظن أكثرهم أن أبا بكر هو الرسول، إذ أن لحيته كانت أكثر شيبة من لحية رسول الله، كما كانت ملابسه تبدو أفضل من ملابس الرسول ، ولذلك تحوّلوا إلى أبي بكر وجلسوا أمامه، بعد أن قدموا له آيات الاحترام والإجلال الواجبة للرسول. فلما رأى أبو بكر أنهم أخطأوا، نهض وخلع عباءته وحجب بها أشعة الشمس عن الرسول وقال: “يا رسول الله، إنك تجلس في الشمس فدعني أظلّلك” (البخاري). وبهذه البراعة واللطف، بيّن أبو بكر لأهل المدينة ببساطة ما أخطأوا فيه.

وتجلى الحب الشديد الذي يكنه أهل المدينة للرسول مرة أخرى، إذ وافق أبو أيوب أن يدع الرسول يسكن الدور الأول في منْزله، ولكنه رفض أن ينام على سقفٍ ينام رسول الله تحته.

مكث الرسول عشرة أيام في قباء، وبعدها أخذه أهل المدينة إلى بلدتهم. وعند دخوله المدينة، وجد الناس جميعًا قد جاءوا لاستقباله، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ومما أنشدوه ترحيبا به كانت هذه الأبيات (السيرة الحلبية):

طـلع البـدر علينـا

من ثنيّـات الــوداع

.

وجب الشكر علينــا

مـا دعـــا لله داع

.

أيها المبعـوث فينــا

جئت بالأمر المطــاع

.

لم يدخل الرسول المدينة من الجانب الشرقي، فلماذا ذكروا طلوع البدر؟! لقد كانوا يقصدون أنهم كانوا يحيون في ظلام قبل أن يأتيهم ليشرق بنوره عليهم.

لقد دخل المدينة يوم الاثنين، ودخل غار ثور يوم الاثنين، وربما يبدو غريبًا أنه فتح مكة يوم الاثنين أيضًا، بعد عشر سنوات من هذا التاريخ.

أبو أيوب الأنصاري يستضيف رسول الله

عندما دخل الرسول المدينة، تلهّف الجميع لنيل شرف استضافته. وأثناء مرور بعيره على الدروب، كانت القبائل تصطف لاستقباله ويقولون: “هلم إلى العدد والعُدّة والسلاح والمنَعة”. كانوا يعرضون بيوتهم، وأموالهم، وأنفسهم، لاستقباله وحمايته. وأظهر كثيرون حماسًا وحمية ولهفة بالغة، فكانوا يواجهون الناقة ويأخذون بعنانها، ويصرّون أن يترجّل الرسول عند أبواب دورهم ليدخلها فينالوا شرف استضافته. ويرفض الرسول بكل أدب قائلاً: “دعوها فإنها مأمورة”.

وأخيرًا توقفت الناقة عند موقع يخصّ يتيمين لبني النجار، فترجّل الرسول قائلاً: هذا المنْزل. وجاء كافل اليتيمين وعرض المكان ليستخدمه رسول الله، فردّ بأنه لن يقبل المكان إلا شراء، وتم الاتفاق على الثمن، وقرر الرسول أن يبني في هذه البقعة مسجدًا وبعض البيوت. وبعد هذه الترتيبات، سأل الرسـول عن أقرب الجيران، فجاء أبو أيـوب الأنصاري وقال إن منـْزله هو الأقرب، وإن كل ما لـديه رهن لخدمة رسـول الله، فطلب منه أن يعـد له غرفة في منْزلـه، وكان منـْزل أبي أيوب مـكوّنًا من طابـقين، فعرض أن يـسكن الرسول الطابـق الأعلى، ولكنه فضّـل الطابق الأول، لأنه كان أيسر لزوّاره.

وتجلى الحب الشديد الذي يكنه أهل المدينة للرسول مرة أخرى، إذ وافق أبو أيوب أن يدع الرسول يسكن الدور الأول في منْزله، ولكنه رفض أن ينام على سقفٍ ينام رسول الله تحته. فقد رأى هو وزوجه في ذلك نوعًا من عدم اللياقة. وحدث أن انكسر إناء للماء فانساب منه الماء على الأرض، وخشي أبو أيوب أن يتساقط بعض الماء على الغرفة التي يشغلها الرسول ، فأخذ لحافه وجفف به الماء قبل أن يتسرب. وفي الصباح، زار أبو أيوب الرسول وحكى له أحداث الليلة البارحة. وعندما سمع الرسول ، وافق أن يسكن الطابق العلوي. كان أبو أيوب يعدّ وجبات الطعام ويرسلها إلى فوق، فيأكل الرسول ما يشاء، ويأكل أبو أيوب وزوجه ما يتبقى. وبعد أيام قلائل طلب آخرون أن ينالوا شرف استضافة الرسول ، وقد استضافه أهل المدينة إلى حين أن تم إعداد البيت الذي استقر فيه. وكانت هناك أرملة لها ولد وحيد يسمى “أنَسًا”، في الثامنة أو التاسعة من عمره، فجاءت بولدها إلى الرسول وقدّمته له ليكون في خدمته الخاصة. وقد صار لأنَس هذا شأن كبير خلّده تاريخ الإسلام، فقد أصبح عالمًا عظيمًا كما صار غنيًا أيضًا، وعاش إلى أن بلغ من العمر مائة عام. وفي أيام الخلفاء كان يتمتع باحترام بالغ من كل شخص. وقد رُوي عن أنسٍ أنه خدم الرسول منذ كان صبيًا وحتى وفاة الرسول ، ومع ذلك فإنه لم يحدث قط أن عنّفه ولا لامه ولا كلفه يومًا بعمل لا يطيقه. وكان أنس خادمه الوحيد طوال إقامته بالمدينة. وتُبين شهادة أنس حقيقة خُلُق الرسول في الفترة التي بدأ يباشر فيها السلطة ويتقلد السلطان في المدينة، وتنفتح له أبواب القوة والازدهار.

وفيما بعد، أرسل الرسول زيدًا إلى مكة ليُحضر أسرة النبيّ وأقاربه. كان أهل مكة مذهولين بسبب مفاجأة هجرة النبيّ وأتباعه التي أُحكِم تنفيذها والتخطيط لها. ولبعض الوقت لم يفعلوا شيئًا يثير غضبه، وعندما غادرت أسرة الرسول مكة مع أسرة أبي بكر لم يثيروا لهم أية متاعب، ووصلت الأسرتان المدينة دون صعوبات. وفي ذلك الوقت، وضع الرسول أساس المسجد في المكان الذي اشتراه لهذا الغرض، وبعد ذلك بني بيوتًا له ولبعض صحـبه ورفقائه، وفي سـبعة أشـهر كان البـناء قد تم.

الأخطار تحوم في المدينة

خلال أيام من وصول الرسول إلى المدينة، أوْلت القبائل المشركة هناك الكثير من الاهتمام بالإسلام، واعتنقته الغالبية منهم، ولكن كان فيهم الكثير ممن لم تستيقن قلوبهم بعد. وبهذا فقد انضمت إلى المسلمين طائفة لم تكن قلوبها مسلمة لله. وقد قام أفراد هذه الطائفة بأداء أسوأ الأدوار في التاريخ اللاحق، غير أن بعضهم تاب وأصبح مخلصًا، ولكن الآخرين ظلوا علي غلّهم يكيدون للإسلام والمسلمين. ولقد رفض بعض المشركين كلية أن ينضووا تحت لواء الإسلام، ولم يطيقوا تحمل تزايد أثر الدين الجديد، فهاجروا من المدينة إلى مكة، وأصبحت المدينة بلدًا مسلمًا، وتم فيها تأسيس عبادة الله الأحد. لم تكن هناك مدينة أخرى في العالم كله تستطيع أن تدّعي ذلك الشرف، ولم تكن فرحة النبيّ وصحبه قليلة، أن يحدث ذلك خلال أيام قليلة من هجرتهم، وأن تقلع مدينة بأكملها عن عبادة الأصنام، وأن تؤسس بدلاً منها عبادة الله الأحد، الذي ليس كمثله شيء.

ولكن، لم يكن هناك سلام بعد، ولم يستتب الأمن تمامًا للمسلمين. ففي المدينة نفسها كانت هناك طائفة اعتنقت الإسلام ظاهريًا فقط، وفي بواطنهم كانوا أعداء ألداء للرسول . وكذلك كان هناك اليهود الذين كانوا يكيدون له بلا توقف. وكان الرسول يعي كل هذه الأخطار، فظل يقظًا، وحثّ أصحابه وأتباعه أن يكونوا على حذر، وكان عادة يظل يقظًا طوال الليل (فتح الباري ج 6 ص60). وأخيرًا طلب المساعدة ذات ليلة بسبب الإجهاد الذي أصابه من كثرة السهر، وعلى الفور سمع قعقعة سلاح، فسأل: “منْ هذا؟”. فرد عليه المجيب قائلاً: “سعد بن أبي وَقَّاص يا رسول الله جئتُ أحرسك”. (راجع البخاري ومسلم)

ولقد تحمّل أهل المدينة نصيبهم من المسئولية بأمانة وكفاءة. فقد دعوا رسول الله أن يأتي ليقيم بينهم، وأصبح من واجبهم الآن أن يحموه ويذودوا عنه. فاجتمعت القبائل في المدينة، وقرروا أن يقوموا بحراسة داره مناوبة بينهم.

ولم يكن هناك من فرق كبير بين الأخطار التي كانت تحدق بحياة الرسول في مكة والأخطار التي كانت تهددها في المدينة، وأيضًا لم ينعم أتباعه بالسلام في المدينة كما لم ينعموا به في مكة. وكان الفرق الوحيد هو أن المسلمين في المدينة كانوا يقومون بعبادة الله تعالى في المسجد الذي بنوه لعبادته عز وجل، فكانوا يجتمـعون من أجل ذلك خمس مرات دون أن يتـعرضوا للمنـع أو الضرب. غير أن الأخـطار ظلت تحوم في المديـنة، وخـاصـة حينما يرخي الليل أسـتاره.

ومر شهران أو ثلاثة. وأفاق أهل مكة من ذهولهم، وبدأوا في وضع الخطط لمضايقة المسلمين، ولم يمض زمن طويل حتى أدركوا أن الاكتفاء بمضايقة المسلمين الذين بقوا في مكة ومن حولها لن يجدي شيئًا، وأنه لا بد أن يهاجموا النبيّ وصحبه في المدينة، ويدفعوهم إلى ترك ملجئهم الجديد. فوجّهوا خطابًا إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول، زعيم المدينة، الذي كان أهل المدينة قد أجمعوا على تنصيبه ملكًا قبل وصول الرسول . وقالوا في هذا الخطاب إنهم صُدموا لوصول النبيّ إلى المدينة، وأن أهل المدينة ارتكبوا خطأ بالغًا بتوفير ملجأ له. وفي النهاية أقسموا بالله أنهم سيهاجمون المدينة مادامت قد آوت عدوّهم، إلا إذا طرده أهل المدينة أو قاتلوه. وأنهم حين يهاجمون المدينة فسوف يضعون السيف في كل الرجال، وسوف يسترقّون كل النساء. وجاء في سنن أبي داود، كتاب الخراج:

“إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللهِ لَتُقَاتِلُنَّهُ أَوْ لَتُخْرِجُنَّهُ، أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ “.

وخُيّل لعبد الله بن أبي بن سلول أن في هذه الرسالة نجدة إلهية، فاستشار المنافقين الآخرين في المدينة، وأقنعهم أنهم لو تركوا النبيّ يعيش في سلام بينهم، فسوف يجلبون على أنفسهم عداء مكة، لذا لا بد من محاربته حتى ولو من أجل تهدئة أهل مكة. وعلم الرسول بذلك، فذهب إلى عبد الله بن أبي بن سلول، وحاول إقناعه أن خطوة كهذه ستكون انتحارية، فكثير من سكان المدينة صاروا مسلمين، وهم على استعداد للتضحية بحياتهم من أجل الإسلام. فإذا أعلن عبد الله الحرب على المسلمين، فإن أغلبية أهل البلد سيقاتلون إلى جانب المسلمين، وحرب كهذه سوف تكلفه غاليًا، وسوف يكون فيها هلاكه هو بالذات. وتأثر عبد الله بهذه النصيحة، واقتنع بالعدول عن خطته.

وفي ذلك الوقت اتخذ الرسول خطوة أخرى هامة. فقد جمع المسلمين، واقترح عليهم أن يشكل كل اثنين من المسلمين معًا رابطة تجمعهما كأخَويْن. وتقبّل المسلمون الفكرة بقبول حسن. فاتخذ الأنصارُ من أهل المدينة.. المهاجرين من أهل مكة إخوةً لهم. وفي ظل هذه الأخُوّة، عرض مسـلمو المدينة على مسلمي مكة مشاركتهم في ثرواتهم وممتلكاتهم؛ حتى إن أحد مسلمي المدينة عرض أن يطلق إحدى زوجتيه ليتزوجها أخوه المكّي المسلم. ورفض المهاجرون من أهل مكة هذه العروض الكريمة التي قدّمها إخوانهم من الأنصار، ولكن الأنصار ظلوا على إصرارهم. وعُرض الأمر على الرسول ، واحتج الأنصار بأن مسلمي مكة هم إخوانهم، ومن ثم فلا بد لهم من مشاركتهم ما يملكون. وإن لم يكن المهاجرون يعلمون كيف يفلحون الأرض ويزرعونها، فيمكنهم مقاسمة الأنصار في غلة الأرض إن لم يملكوا الأرض نفسها. ورفض مسلمو مكة شاكرين هذا العرض السخي الكريم، وفضّلوا البقاء في مهنة التجارة. ولقد فتح الله تعالى للمهاجرين أبواب الرزق فصاروا أغنياء ثانية، ولكن ظل مسلمو المدينة يذكرون دائمًا أن عرضهم بالمشاركة مع المهاجرين في ما يملكون ظل قائمًا. وقد حدث مرارًا بعد أن مات واحد من الأنصار، أن قام أبناؤه باقتسام ممتلكاتهم مع من تآخوا معهم من المهاجرين. واستمر هذا التقليد معمـولاً به لسنوات طـويلة إلى أن أبطـله الوحي القرآني بما جـاءت به تعـاليمه حول تقسـيم الميراث (البخاري ومسلم).

وفضّلوا البقاء في مهنة التجارة. ولقد فتح الله تعالى للمهاجرين أبواب الرزق فصاروا أغنياء ثانية، ولكن ظل مسلمو المدينة يذكرون دائمًا أن عرضهم بالمشاركة مع المهاجرين في ما يملكون ظل قائمًا.

إبرام معاهدة بين مختلف قبائل المدينة

وبالإضافة إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، عقد الرسول ميثاقًا يربط بين كل سكان المدينة، وبهذا الميثاق اتحد العرب واليهود مع المسلمين في مواطنة مدنية مشتركة. وشرح الرسول للعرب واليهود أنهم قبل وجود المسلمين كانوا فريقين اثنين في بلدتهم، والآن صارت الفرق ثلاثاً. ولذلك يتطلب الأمر أن يدخلوا معًا في اتفاق يربط الجميع، ويحقق للكل الاستقرار والسلام. وأخيرًا تم الوصول إلى اتفاق وكان يقول ما معناه:

هذا عهد بين رسول الله والمؤمنين به من جهة وبين كل الآخرين (من سكان المدينة) الذين رضوا بالدخول فيه.

إذا قُتل مسلم مهاجر فديّته تُدفع للمسلمين المهاجرين، وعليهم تقع مسئولية فك أسراهم، وكذلك الأمر في كل قبائل المسلمين في المدينة فيما يتعلق بالديّات وفك الأسرى.

كل من يثير العداوة أو يدعو للخصومة والفوضى سيعتبر عدوًا للجميع، وعلى الجميع واجب القتال ضده حتى ولو كان قريب أحدهم أو ولده، فلا يحميه والده ولا قريبه. وإذا قَتَل مسلم كافرًا في معركة فإن أقرباءه المسلمين لا يُطالَبون بانتقام، ولا يساعدوا كافرًا ضد مسلم.

ولليهود الداخلين في هذا الميثاق حق المعونة من المسلمين، ولا يكابدوا الصعوبات. ولا يُعان عدوّهم ضدهم.

ولا يقوم كافر بإيواء أيّ مكّي، ولا يقوم بحراسة ولا منع ممتلكات أهل مكة، ولا ينحاز إلى أيّ جانب في قتال يقع بين المسلمين والكافرين.

وإذا أوذي مسلم وظلم بلا سبب، فمن حق المسلمين القتال ضد من اعتدَى، ولو هاجم العدوّ المدينة فإن اليهود سيقاتلون إلى جانب المسلمين ويتحمّلون معهم نفقات الحرب.

والقبائل اليهودية المتحالفة مع القبائل الأخرى في المدينة لهم نفس حقوق المسلمين، ولليهود دينهم أحرار. وللمسلمين دينهم أحرار. وما يتمتع به اليهود من حقوق فهي لأتباعهم.

مواطنو المدينة ليس لهم الحق في إعلان الحرب بدون أن يجيز الرسول ذلك، ولكن ذلك لا يجحف بحق فرد أن يعاقب فردًا قد أجرم في حقه.

واليهود سيتحملون تكاليف مؤسساتهم وتنظيمهم، وعلى المسلمين تحمل ما يخصّهم، ولكنهم في حال الحرب يشتركون كوحدة واحدة في تحمّل التكاليف.

وتُعتبر المدينة حرمًا آمنًا مقدسًا لا تُنتهك حرمته من الأطراف الموقّعة على هذا الميثاق.

وكل غريب يجيره ويحميه مواطن من أهل هذا الميثاق سيعتبر مواطنًا، ولا يحق لأهل المدينة أن يُدخلوا إليها امرأة لتصبح مواطنة بدون إذن أهلها، وكل خصام ونزاع فمردّه إلى الله وإلى الرسول.

أطراف هذا الميثاق متّفقون على مقاومة عدوّهم ولا يجوز الاتفاق مع أهل مكة وحلفائهم؛ ذلك لأن أطراف الميثاق متّفقون على مقاومة عدوهم المشترك.

المتعاهدون سيبقون متّحدين في الحرب والسلام على السواء، لا يدخل أحد منهم في سلام منفصل، ولا يسمح لطرف أن يتّخذ طرفًا آخر في حرب خاصة به.

كل من دخل في الميثاق وارتكب خرقًا له سيكون مُعَرَّضًا لعقاب الله، هو الوكيل وهو ناصر المتقين ومحمد نبيّه (انظر ابن هشام).

هذا هو الميثاق في عجالة، تم جمعه من نتف الروايات التي سجلها التاريخ، وهو يؤكد دون شك أن الأسس الهادية في تسوية النّزاعات والخلافات بين طوائف المدينة كانت أمينة وواقعية وعادلة.

وأولئك الذين خالفوا الميثاق وخرجوا عليه، تقع عليهم مسؤولية المخالفات وما ترتب عليها. وقد أوضح الميثاق بجلاء أن الرسول كان يتعامل فعلاً بتمدّن وتعاطف مع جميع مواطني المدينة الآخرين، وكان يحترمهم ويتعامل معهم كإخوة. فإذا كانت النّزاعات والصراعات قد حدثت بعد ذلك، فإن المسؤولية تقع على اليهود.

وكما سبق أن قلنا، مرّ شهران أو ثلاثة قبل أن يُعبّئ أهل مكة خططهم المعادية ضد الإسلام، وجاءتهم الفرصة حين وصل سعد بن معاذ سيد الأوس إلى مكة ليطوف بالكعبة، فرآه أبو جهل فقال له: “أتتوقعون أن بإمكانكم المجيء إلى مكة والطواف بالكعبة آمنين بعد أن قدّمتم الحماية لهذا المارق محمد؟ أتظن أنك تستطيع منع محمد وإنقاذه؟ أقسم بالله أن هذا لن يكون، ولن تستطيع أن تعود لأهلك سالمًا”. فردّ سعد بن معاذ قائلاً: “خذها مني كلمة، لو منعتمونا من الطواف بالبيت والحج، فلن تجدوا سلامًا في الطريق إلى الشام”.

وحول هذا الوقت، مرض الوليد بن المغيرة مرضًا شديدًا، وهو أحد سادات مكة، وتوقع أن نهايته قد حانت. وكان سادات مكة الآخرون حول فراشه. ولم يستطع الوليد أن يتمالك نفسه فأخذ يبكي، فتعجب السادة الآخرون لبكائه، وسألوه عما يبكيه. فأجاب: “أتظنون أني أخشى الموت؟ ليس الموت ما أخشاه، بل أخشى أن ينتشر دين محمد وأن يتبعه الناس حتى تبايعه مكة نفسها”. وعند ذلك أقسم له أبو سفيان أنهم سيقاومون هذا باذلين أرواحهم ضد انتشار هذا الأمر (الخميس جزء 1).

Share via
تابعونا على الفايس بوك