من حكم المحافظة على الحقوق القومية     
  أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(247)

 شرح الكلمات: 

الملأ-من ملأ الإناء ماء. ومُلىء رعبا أي امتلأ قبله رعبا. والملأ كبار القوم وسادتهم، لأن كبير القوم عندما يحضر في المجلس يقولون الآن امتلأ المجلس ولا حاجة لأحد. فمهما كان عدد الفقراء في المجلس إلا أنه ما لم يأت كبير القوم يقولون ليس للمجلس رونق، ولا يبدءون العمل حتى يحضر كبيرهم. لذلك يسمون كبار القوم “الملأ”. كذلك تمتلئ قلوب الناس هيبة أو محبة لكبار القوم ولذلك أيضا يسمون ملأ. (الأقرب)

عسيتم –عسى للاحتمال والإمكانية وأحيانا للتوقع. وعندما تستخدم في حق الله فإنها تعني الاحتمال الكبير (المفردات).

التفسير:

في الآيات السابقة ذكر الله حادثا لبني إسرائيل. ونصح المسلمين بأن لا يرفضوا قبول الموت لوجه الله أبدا. والآن يذكر حادثا آخر لرؤساء بني إسرائيل، إذ طلبوا من أحد أنبيائهم أن يعين لهم ملكا قائلين: طالما ظلمونا وأخرجونا من ديارنا وممتلكاتنا، وفرقوا بيننا وبين أبنائنا؛ فنحن بحاجة إلى ملك حتى نقاتل في سبيل الله.

وكلمة (من بعد موسى) لا يعني أن هذا الحادث وقع بعد موسى فورا، وإنما كان بعده يشوع الذي كان نبيا وملكا أيضا. بل إن الحادث المذكور قد وقع بعد موسى بمئات السنين كما سوف يتبين في السطور القادمة.

وقوله (هل عسيتم) هو من كلام هذا النبي يقول: إذا فُرض عليكم القتال فربما لا تقاتلون، فيجب أن تفحصوا نيّاتكم وقلوبكم جيدا حتى إذا فُرضت الحرب لا تأثموا برفض القتال.

وقوله (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) بمعنى أنهم استولوا على ممتلكاتنا وديارنا، وقتلوا أولادنا أو استولوا عليهم أيضا، وما دمنا قد تحمّلنا هذه الشدائد في سبيل الله إلى الآن فلماذا نُمنع من قتالهم. وهذا أيضا يؤكد أن هذا الحادث وقع بعد موسى بزمن بعيد. لأن بني إسرائيل في زمن موسى رفضوا القتال صراحة عندما قالوا (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون). أما هنا فلا يقولون هذا، بل يقولون نريد الحرب، وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا. صحيح أنهم عندما جاء وقت الحرب، كما تذكر الآيات القادمة، تزلزل كثير منهم ولم يثبتوا على عزيمتهم، ولكنهم في البداية أبدوا رغبة في القتال، وطلبوا أن يعيَّن عليهم ملك حتى يضعوا حدا لاضطهاد العدو.

  وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(248)

 التفسير:

عندما طالب كبراء بني إسرائيل تعيين ملك لهم يحاربون العدو تحت قيادته.. كانوا يظنون أن واحدا منهم سوف يعين ملكا، ولكن الله أراد ابتلاءهم، فعين شخصا غيرَهم خلافا لما أرادوا. وهنا تجلّى ضعف إيمانهم الذي كان مستورا من قبل، وأخذوا يعترضون: كيف يكون ملكا علينا؟

وبنوا اعتراضهم على أمرين: الأول-أنه لم يُؤت جاها ظاهريا. نحن من أسر كبيرة وهو من أسرة وضعية، ولذلك نحن أحق بالملك منه. والثاني –أنه أقل منا مالا. فهو فقير، والواجب أن يكون الملك ثريا، فلا نقبل تعيينه ملكا علينا. فرد عليهم نبيهم: (إن الله اصطفاه عليكم).. أي الجواب على حجتكم الأولى أن الله هو الذي اختاره، وفضيلة الإنسان تبدو باختيار الله له، فعندما يصطفي الله أحدا على الآخرين يجعله ناجحا رغم معارضتهم. كذلك اختار الله عليكم طالوت، وهذا دليل على فضيلته. والجواب على حجتكم الثانية هو (وزاده بسطة في العلم والجسم) فرغم عدم ثرائه إلا أنه أكثر منكم علما. وبالعلم أشار إلى أن المال يُكتسب في الدنيا بالعلم، أما الأحمق فإنه يبدد ويقضي على ما كسبه آباؤه. ولقد زوده الله بالعلم، وبه يستطيع كسب المال الكثير.

وذكر فضل علمه عليهم أيضا ليشير إلى أن الثراء لا يجعل الإنسان أهلا للحكم، وإنما يتطلب الحكم أن يكون في الإنسان قدرات لإدارة الأمور. وطالوت مزود بهذه المؤهلات أكثر منكم، ويعرف كيف يدير دفة الحكم، ومطّلِع على مجريات الأمور السياسية اطلاعا جيدا، فلا تعترضوا عليه لقلة ماله، ولسوف تظهر قدراته الكامنة في الوقت المناسب.

ثم ذكر بسطته في الجسم، ليقول: أنتم تريدون الحرب، وهو رجل ذو كفاءات جسدية عظيمة، ففيه الهمة والعزيمة والثبات والشجاعة والثقة بالنفس. فمنذا يكون أنسب منه للقيادة في الحرب؟

ولا يعني قوله هذا أنه ضخم الجسم، وإنما المراد منه أنه قوي وشجاع جلد وفيه روح التضحية. يقول العرب: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه (الأقرب).. أي قوة الإنسان تكمن في عضوين صغيرين هما القلب واللسان. وهذه أيضا علامة الخلفاء الصادقين. عندما صار سيدنا أبو بكر خليفة، أشار عليه سيدنا عمر في شأن مانعي الزكاة قائلا: إذا كان الناس لا يريدون أداء الزكاة فاتركهم وشأنهم، فمحاربتهم في هذه الأيام سوف تضعف المسلمين (البخاري، الزكاة). ولكن عندما تولى سيدنا عمر نفسه الخلافة قام بأعمال عظيمة. فالحق أن الهمة والثبات والاستقامة علامة كبيرة يهبها للخلفاء الصادقين.

وقوله (والله يؤتي ملكه من يشاء) بيّن فيه نبيهم أنه لو افترضنا صحة ما تقولون فمع ذلك لا يحق لكم الاعتراض، لأن اتخاذ القرار دائما في يد المالك، وما دام الملك لله يعطيه من يشاء فلا مجال للاعتراض. من المبادئ المسلم بها في الدنيا أنه إذا حصل اختلاف على ملكية الشيء فيرجع الأمر إلى المالك الأصلي. وما دام الله قد اختاره لهذا المنصب، وما دام الحكم الحقيقي لله فلا يحق لكم الاعتراض على تعيينه ملكا.

ويبدو أيضا من قوله (والله يؤتي ملكه من يشاء، والله واسع عليم) أنهم كانوا يريدون إثارة اعتراض آخر حول ما هو العلم وما هي البسطة التي بدت منه، لذلك أجاب الله على هذه الأسئلة المتوقعة منهم، فقال (والله يؤتي ملكه من يشاء).. أي الاختلاف في الآراء يحدث دائما، ولكن الأمر يرجع إلى المالك، ويكون رأيه هو الفيصل والأفضل.. فلماذا يتبع الله آراءكم ما دام هو المالك. وإذا قلتم إن طالوت عديم المال فالله (واسع).. قادر أن يوسع عليه ويؤتيه مالا. وإذا قلتم إنه ليس أهلا للحكم فالله (عليم)..أعلم منكم بالواقع ويعلم أنه أحق بالملك منكم. فإذا أردتم الخصام في كل حال فارجعوا إلى الله.. هو صاحب الملك يعطيه من يشاء.

ويتبيّن من هذه الآية أن الأنبياء السابقين قبل الرسول لم يأتوا بشرائع كاملة.. فكلما مست الحاجة إلى الوحي لإصلاح الخلق بعث الله نبيا، وخلع عليه النبوة مباشرة، وكلما حصل خلل في النظام والملك أقام الله ملكا. لم يكن الناس بعد قد حققوا رقيا عقليا بحيث يستطيعون بأنفسهم بذل الجهود لإصلاح أحوالهم، فكان الله يعين الملوك من عنده لإدارة النظام إلى جانب الأنبياء الذين كان يبعثهم مباشرة. وكما يظهر من هذه الآية أن الملوك لم يكونوا يُنتخبون، وإنما ينالون الحكم بالوراثة، أو أن نبيا من أنبياء الله تعالى كان يعيّن ملكا.

ولما كان نبينا محمد قد جاء بأكمل الشرائع، وبُعث إلى قوم هم أفضل من الأمم السابقة، لذلك لم تبق هناك حاجة ليبعث الله بعده نبيا مستقلا. وكذلك ألغى الله تلك الصورة الأولية من تعيين الملوك وجَعَلها على صورة أفضل، واشترط لذلك أسلوب الانتخاب. وبذلك حافظ على الحقوق القومية، ولم تكن مصونة من قبل في حكم الملوك.

Share via
تابعونا على الفايس بوك