أمور ثلاثة لا مناص للباحث عن الحق منها
  • حسرة الكفار كلما حقق المؤمنون نصرا.
  • التعاليم الكاملة للقرآن الكريم تغبط الكفار.
  • لا يصدقون الإسلام ولكن يعملون بتعاليمه.
  • يحرمون من قبول الإسلام بسبب مصالحهم المادية..
__
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِين (الآية: 3)

شرح الكلمـات:

ربما: أصله: (رُبَّ) و(ما). و(رُب) يشدَّد ويخفَّف. و(رُبَّ) حرفُ جرٍّ لا اسم،ٌ خلافًا للكوفيين، ومعناها في المشهور التقليلُ لا التكثيرُ. وقال أبو عبد الله الرازي: هناك إجماع لدى العلماء على أنها موضوعة للتقليل. وهذا ما يراه الزمخشري أيضًا. ولكن يروى عن سيبويه والزجاج أنها للتكثير. وقال آخرون: إنها لا تفيد تقليلاً ولا تكثيرًا، بل هي حرفُ إثبات (لسان العرب، والبحر المحيط، والكشاف، والرازي).

الواقع أن كلمة ربما تفيد هنا التكثير، لأن الذين قالوا بكونها للتقليل أيضًا قد أوّلوها هنا بمعنى التكثير. (انظر لسان العرب)

وهناك اختلاف آخر بين النحويين حول كلمة (رُبَّ): أتفيد المستقبل أم الماضي؟ والأكثر يرون أنها لا تفيد إلا الماضي، ولذلك أوّل هؤلاء كلمة يودّ بمعنى (وَدَّ) لأن ما يخبر الله بوقوعه مستقبلاً فإنه سيتحقق حتمًا وكأنه حقيقة قد ثبت وقوعها في الماضي.

ولكن البحث يدل على أنها تفيد المستقبل أيضًا. قالت هند زوجة أبي سفيان:

يا رُبَّ قائـلةٍ غـدًا

يا لهـف أم معـاويه

وقال سليم القشيري:

ومعتصمٍ بالجُبن مِن خشية الردى

سيردى، وغازٍ مشفقٍ سيؤوبُ

(البحر المحيط)

مسلمين: أسلمَ الرجلُ: تديَّنَ بالإسلام. أسلمَ أمرَه إلى الله: سلّمَه.

هذه بعض الأماني التي تولدت في قلوب الآلاف من معارضي الإسلام، ولكن لم يتفوه بها إلا القليلون. وقد أشار القرآن الكريم أيضًا إلى ذلك حيث لم يستخدم كلمة (يقولون) بل قال يودّ ، مما يعني أنهم يتمنون ذلك في قلوبهم، ولكن لا يتفوهون به.

التفســير:

هناك اختلاف بين المفسرين حول زمن أُمنية الكفار هذه، فقال البعض إنهم يعبرون عن أمنيتهم هذه عند غلبة المسلمين، وقال الآخرون إن هذا سيحدث يوم القيامة. بينما قال غيرهم بأنهم يودون ذلك لدى كل ازدهار يحققه المسلمون (فتح البيان).

وأرى أنه لا بأس بهذا المعنى، لأن الإنسان حين يعادي غيرَه دون مبرر- كما كان الكفار يفعلون بالنبي – فإنه يتحسر كلما يحقق خصمه ازدهارًا، ويقول: لو لم أناصب هذا الشخص العداء لكان خيرا لي. لم يكن العرب يعادون النبي إلا حسدًا فقط، ولكنه حينما حقق إنجازات غير عادية لم يعودوا يحسدونه وإنما بدأوا يقولون بكل حسرة: ليتنا لم نعارضه وكنا مسلمين. فمثلا حينما كانوا يُقتَلون في معركة بدر فلا بد أنهم كانوا يتمنون أن لو كانوا مسلمين. فلا غرو أن الكفار كانوا يقولون في أنفسهم بكل حسرة عند انتصارات المسلمين: يا ليتنا كنا مسلمين. لقد سجل القرآن الكريم قولاً صريحًا كهذا للمنافقين، ولا شك أن هذه كانت حالة الكفار أيضًا، فهذا أمر طبيعي لا يمكن إنكاره.

وأرى أن للآية معنى آخر أيضًا لم ينتبه إليه المفسرون لأنهم يهتمون عموما بمحاسن القرآن الظاهرة من فصاحة وبلاغة ومعجزات، وقلما يتحدثون عن محاسنه الباطنة من تعاليم سامية ومعارف عالية. إنني أرى أن أكبر دواعي نـزول القرآن هو تعاليمه الكاملة والرائعة، وهي التي أُشير إليها في قوله تعالى تلك آيات الكتاب ، وهي التي كان الكفار يغبطون النبي بسببها، بمعنى أنهم برؤية محاسن التعاليم الإسلامية كانوا يتمنون أن يكونوا مسلمين. لقد حصل هذا منهم مرارا في الماضي وسوف يتكرر في المستقبل أيضًا.

ورد في الحديث أن يهوديًّا قال لسيدنا عمر : آيةٌ في كتابكم تقرَأونها لو علينا معشرَ اليهود نزلتْ لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا! قال: أي آية؟ قال اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا . فقال لليهودي: كان لنا في ذلك اليوم عيدان: عيدُ يوم عرفة وعيدُ الجمعة.

وفي رواية أخرى أن يهوديًّا قال: من المحيّر أن شرعكم لم يترك جانبًا من جوانب الحياة إلا وسلّط عليه الضوءَ.*

هذه بعض الأماني التي تولدت في قلوب الآلاف من معارضي الإسلام، ولكن لم يتفوه بها إلا القليلون. وقد أشار القرآن الكريم أيضًا إلى ذلك حيث لم يستخدم كلمة (يقولون) بل قال يودّ ، مما يعني أنهم يتمنون ذلك في قلوبهم، ولكن لا يتفوهون به.

وفي هذا العصر أيضًا نجد معارضي الإسلام يشيدون بالتعاليم الإسلامية في شتى القضايا كالطلاق والإرث والخمر. فعندما يفكر أحد الأوروبيين أنه يجب سن القوانين حول الطلاق كما هي عند المسلمين.. فإنه في الواقع يقول: ليتني كنت مسلما. وحينما يقول أحد الأمريكان في نفسه بأنه يجب الحظر على تعاطي الخمر.. فكأنه يصدق ما أعلنه القرآن في قوله ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . قبل مدة قليلة تقدم هندوسي كان عضوًا في المجلس التشريعي الهندي بمسودة قانون عن زواج القاصرات، وقال في خطابه أمام المجلس بحسرة تعتصر القلب: ليس لدينا نحن الهندوس قانون عن الزواج كالذي سنّه الإسلام، وحمى به مجتمعه.

وقد وردت في الآية أيضًا كلمة ربما التي تدل على التكرار، والمعنى أن المعارضين لن يهتموا بتصديق الإسلام كلية، وإنما يغبطونه فقط بسبب تعاليمه من حين لآخر.. ويودون لو أن هذا التعليم أو ذاك الحكم موجود في شرعهم.

والمسلم من يُسلِم أمره ونفسه لله كما ورد في القرآن أسلمتُ لرب العالمين (البقرة:132). وعلى ضوء هذا المعنى فقد يعني قوله تعالى لو كانوا مسلمين أن الكفار يرون فشل مكائدهم الدنيوية ضد النبي الذي يحقق نجاحا تلو نجاح متوكلا على الله وحده.. مما يكسر كبرهم وغطرستهم لبعض الوقت.. فيتمنون بكل حسرة أن يا ليتنا كنا على صلة مع الله، وفوّضْنا أمرَنا إليه، حتى لا نلقى هذه الهزيمة والهوان.

والمسلم يعني أيضًا من يهيئ الأمن والسلام للآخرين. فالمراد من الآية أنهم عندما يرون تقدُّم المؤمنين يقولون في أنفسهم ليتنا لم نحاربهم بل عشنا مسالمين كي لا نرى هذا اليوم المشؤوم.

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (4)

شرح الكلمات:

الأمل: الرجاء. تأمّلتُ الشيءَ: نظرت إليه مستثبتًا له (الأقرب).

التفـسـير:

تخبرنا هذه الآية أن المعارضين سوف يعترفون بفضل تعاليم الإسلام في شتى مجالات الحياة، ولكنهم لن يوفَّقوا لاتخاذ الخطوة التالية، بل سيظلون محرومين من قبول الإسلام جراء مصالحهم المادية من مأكل ومشرب، وتجارة وحرفة، وأمانٍ عريضة. وهذا بالضبط ما يحدث اليوم أيضًا، حيث نجد أهل أوروبا يعترفون بفضل تعاليم الإسلام، ولكنهم غير مستعدين لاعتناقه بسبب مجتمعهم. وكأن الآية جاءت ردًّا على سؤال نشأ من الآية السابقة، وهو: ما دام هؤلاء يتمنون – من صميم قلوبهم – أن يكونوا مسلمين فلماذا لا يسلمون إذن؟ فقيل: إن عيشهم الهنيء وجشعهم المادي وأمانيهم العريضة هي التي تحول دون إسلامهم.

إن الذي يبحث عن الحقيقة لا مناص لـه من تجنب هذه الأمور. أما الذي لا يتجنب هذه الثلاثة فإن بحثه عن الحقيقة عبث، وسيبقى محرومًا من قبول الحق رغم انكشافه عليه.

تعلِّمنا هذه الآية أنه لا بد لقبول الحق من البساطة في الأكل والشرب واجتناب حب الدنيا وطول الأمل. إن الذي يبحث عن الحقيقة لا مناص لـه من تجنب هذه الأمور. أما الذي لا يتجنب هذه الثلاثة فإن بحثه عن الحقيقة عبث، وسيبقى محرومًا من قبول الحق رغم انكشافه عليه.

كما تشير الآية إلى أن الكفار يوسّعون للناس الموائد، ويجمعون الأموال والثروات، ويتخذون من المكائد ما يفوق التصور، ليبثّوا الرعب في قلوب القوم، ولكن محمدًا لا يلجأ إلى مكائد كهذه، ومع ذلك سيكون الفوز حليفه، ولن يملك الكفار إلا أن يحترقوا حسرةً ويموتوا كمدًا برؤية رقيه العظيم .

كما تشير الآية إلى أن رغبة الكفار في الإسلام عابرة مؤقتة، وأن رغبتهم الحقيقية هي أكل الطعام الشهي وجمع المال الطائل؛ والرغبة العابرة لا تنفع صاحبها. أما المؤمنون فرغبتهم في الإسلام رغبة دائمة، ورغبتهم في الأكل وجمع المال واتخاذ التدابير لذلك مؤقتة أي لسد الحاجة فقط؛ ولذلك فإنهم ينالون هدي الله تعالى، في حين يبقى الكفـار محرومـين منه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك