في عالم التفسير
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة:63)

 شرح الكلمات:

آمنوا: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب…) وقوله تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين).

هادوا: هادَ الرجلُ يَهودُ هَودًا: تابَ ورجع إلى الحق. يقال هادَ المذنبُ إلى الله: رجع إليه، فهو هائدٌ وجمعُه هُودٌ. هادَ الرجلُ: دخل في اليهودية. وهاد في المنطق: أدّاه بسكون ورفق (الأقرب).

فالقول “هادوا” يعني: اعتنقوا الديانة اليهودية.

النصارى: تُبَّعُ المسيحِ (أي أتباعه )، الواحد نصرانيٌّ، نسبة إلى الناصرة… وقيل جمعُ نَصْرانٍ، وقيل جمعُ نَصريٍّ نسبة إلى قرية اسمها نَصْرة (الأقرب).

قال الراغب: النصارى: قيل سُمّوا بذلك لقوله كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ (المفردات).

ولكن هذا غير صحيح، بل النصراني نسبة إلى الناصرة.

الصابئين: جمعُ صابئ. صَبَأَ الرجل صَبْأً: خرَج مِن دينٍ إلى دين آخر. والصابئون قوم يعبدون النجوم؛ وقيل قوم يزعمون أنهم على دين نوح، قِبلتُهم مَهَبُّ الشمال عند منتصف النهار (الأقرب).

صالحًا: العمل الصالح هو الخالصُ من الفساد وذو الفائدة والموافق لمقتضى الحال.

للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وبَشِّرِ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات…).

أجرهم: الأجر: الثواب (الأقرب).

الأجر والأجرة: ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا (المفردات).

ربهم: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (الحمد لله رب العالمين).

لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: الفرْق بين الخوف والحزن أن الخوف يكون عن المستقبل والحزن عن الماضي. (للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (فمَنْ تَبِعَ هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

التفسير:

قوله تعالى: هَادُوا يعني تهوّدوا. وقد وردت كلمة (هادَ) في العبرية أيضًا بهذا المعنى نفسه. غير أن الكلمة العبرية “هادَ” لا تتضمن المعاني الأخرى التي توجد في “هادَ” العربية والتي ذكرناها عند شرح الكلمات. الحق أن كلمة يهودي تعريبٌ لاسم عبري أُطلقَ على بني إسرائيل مِن قِبلهم ومِمن حولهم بعد سبيهم إلى بابل، فكانوا يسمّون تابِعَ الديانة اليهودية (يَيَهودي) بالعبرية، و(يهوداي) بالأرامية، و(ياأودائي) بالبابلية القديمة، وكلُّها مشتقة من اسم يهوذا، وهي المنطقة الجنوبية من دولة بني إسرائيل، وكان يحكمها ذرية سليمان وقبيلته، وكانت عاصمتها أورشليم (موسوعة الكتاب المقدس، والموسوعة اليهودية). كانت ذرية يهوذا بن يعقوب ذوي قوة ومنعة في هذه المنطقة، وكان اسمه بالعبرية يَيَهودا، فسُمِّيت هذه المنطقة أيضا ييهودا، وسمي ساكنُها يهوديا. علمًا أن دولة بني إسرائيل انقسمت إلى دولتين نتيجة التمرد بعد سليمان ، فحكمَ بنو يهوذا وبنيامين -ابنيْ يعقوب – المنطقةَ الجنوبية أي يهوذا، أما القبائل العشر فشكلت حكومة منفصلة في الشمال. وكانت هذه القبائل العشر انحرفت عن الدين، وكان بعثُ الأنبياء في منطقة بني يهوذا الجنوبية عموما، ثم للتمييز بين هاتين الفِرْقتين الإسرائيليتين وللإشارة إلى أن أهل دولة يهوذا التي عاصمتها أورشليم هو الدين الصحيح، فاشتُقّ اصطلاح (اليهودي) بمعنى التابع الحقيقي لشريعة موسى ، ثم عرَّبه العرب في لغتهم. ولما كان اسم (يهود) يشبهُ صيغة المضارع للكلمة العربية (هادَ)، فصاغ العرب لها صيغة الماضي (هادَ) بمعنى دخل في اليهودية. ولكن في العربية هناك كلمة مستقلة (هادَ)، ولها معاني أخرى أيضا لا علاقة لها باليهود ولا تشير إليهم، فيجب ألا يغترّ بها أحد ويربط بين مدلولاتها وبين كلمة (يهود).

فكلمة يهودي تعني لغةً: ساكنُ منطقة يهوذا، وتعني اصطلاحًا: تابعٌ صادقٌ لدين موسى . والعجيب أن القرآن الكريم كلما ذكر هؤلاء القوم مشيرًا إلى دينهم سماهم اليهود، وكلما تحدث عنهم كشعب سمّاهم بني إسرائيل، وهو عين الصواب؛ ومع ذلك يرمي الكتّابُ المسيحيون القرآنَ الكريم بالجهل بتاريخ بني إسرائيل! في حين أن كتابهم الإنجيل قد استخدم الاسمين استعمالاً خاطئًا، حيث عنى باليهود الشعبَ الإسرائيلي. ولا يزال أهل الغرب يكررون الخطأ نفسه (راجعْ أيضا تفسير قول الله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ .

قوله تعالى النَّصَارَى :

النصارى: جمعُ نصراني، ومعناه ساكنُ قرية الناصرة. وكان اليهود وأهل الجزيرة العربية يدْعون المسيحيين بهذا الاسم.

والناصرة التي يُنسَبون إليها قرية في الجليل، وكانت تسمى في القديم بلدة المسيح، لإقامته فيها مع أهله قبل أن يعتمد من يوحنا (يحيى) النبي عليهما السلام (انظر متى 4: 13-14، مرقس 1: 9، لوقا 1: 26، يوحنا 1: 46، أعمال الرسل 38:10). وبسبب انتماء المسيح إلى هذه القرية سمّى اليهودُ الأوائل في كتبهم الدينية أتباعَه (النصارى)، وأخذها عنهم العربُ، ولا يزالون مشهورين بهذا الاسم حتى اليوم.

ومن عجائب قدر الله تعالى أن المناهضين للمسيح الموعود لأمة محمد المصطفى أيضًا يسمّون أتباعه (القاديانيين) نسبةً إلى بلدة إمامهم. وهذه مشابهة تثير التأمل.

وكان الرومان أيضا يسمون منذ البداية أتباع المسيح الناصريين كما في المرجع (أعمال الرسل 24: 5)، ولكن العجيب أن الناصرة التي نُسب إليها أتباع المسيح لم يزل اليهود يسكنونها لقرون طويلة، أما النصارى فلم يسكنوها إلا بعد عدة قرون (موسوعة الكتاب المقدس، مجلد 3 ص 3358-3360).

ورد في الإنجيل أن يوسف النجار، الأب المجازي للمسيح ، كان يقيم في الناصرة بناءً على رؤية رآها حيث ورد: {وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيلِ. وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالأَنْبِيَاءِ: «إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيًّا»}(متى 2: 22-23). ولكن الغريب أنه ليس في الكتاب المقدس أيُّ ذكر لهذه الأنباء التي يتكلم عنها متَّى، أعني: “لكي يتمّ ما قيل بالأنبياء”. فإما أن هذا النبأ إلهامُ وليٍّ من أوليائهم، أو أن كاتب الإنجيل ذكره من عند نفسه تفسيرًا للفظ “الناصري” فرارًا من بعض الاعتراضات. والله أعلم بالصواب.

ثم قال الله تعالى وَالصَّابِئِينَ :

لا وجود لهذه الأمة في أيامنا هذه، وإن قيل أن في العراق أقوامًا يُشتبه أنهم من أصلٍ صابئ.

وكانت تعيش في بابل في قديم الزمان فرقة مسيحية تُسمّى بالصابئة، وتُسمَّى أيضاً Elkesaitas، وكانوا أكثرَ شبهًا بأتباعَ يوحنا المعمدان (موسوعة الكتاب المقدس).

وكذلك أُطلقَ اسم الصَّابِئِينَ على أقوام تعبد النجوم، وكانت موجودة في وقت من الأوقات في العراق والجزيرة العربية، وكانت عاصمتهم (حرَّان) (الموسوعة البريطانية).

الحق أن هؤلاء كانوا يقيمون في منطقة سبأ، وتحوّلَ اسمهم من السابئين إلى الصابئين، وكانوا يعبدون النجوم، ويؤمنون بشريعة سماوية. ولا يتضح من التاريخ هل تَسمَّوا بأنفسهم باسم الصابئين أم أطلقه عليهم الناس. ويروي التاريخ أن بعض هذه الطائفة كانوا لا يزالون في زمن الملك العباسي المأمون، إذ ورد أن المأمون رأى بعضًا منهم في طريقه عند غزوه لبلاد الروم، وعندما رأى شعرهم الطويل ولباسهم العجيب وطقوسهم الدينية الغريبة أمَرهم بالانضمام إلى دين من ديانات أهل الكتاب وإلا قَتَلَهم. فاتخذوا اسم (الصَّابِئِينَ) بعد استشارة فقهاء المسلمين (الموسوعة البريطانية، مجلد 19 ص 790).

وأرى أنه من الخطأ القول أنهم اختاروا لهم اسم (الصَّابِئِينَ) بعد استشارة المسلمين. لعل فريقا صغيرا من القبيلة الصابئة انفصلوا عنها، وعاشوا فترة طويلة بعيدًا عنها، حتى نسوا اسم دينهم، ولما تكلموا مع فقهاء المسلمين أخبروهم أنكم الصابئة، إذ يذكر التاريخ الإسلامي أن أهل حرّان كانوا على اتصال بحكومات المسلمين قبل المأمون بزمان.

لا نستطيع تحديد أمة الصابئين في القرآن الكريم، غير أني أرى أنهم أهلُ الكتب السماوية عند العرب، لأن العديد من أهل هذه الكتب كانوا يسمّون أنفسهم صابئين، وكان العرب يعرفون منهم اليهودَ والنصارى، فأطلقوا على هاتين الأمتين هذين الاسمين، وأما من سواهما من الأمم التي حسب العرب أن لها كتبًا سماوية فأطلقوا عليها اسم الصابئين. فمع أن شتى الأمم والقبائل اختارت لنفسها اسم الصابئيين لأسباب مختلفة، إلا أن العرب أطلقوا هذا الاسم على كل أمة سوى اليهود والنصارى، وعندما ظهر الإسلام أطلق المشركون على المسلمين اسم الصابئين، فإذا أسلم أحد قالوا: صبَأ فلان، إلى أن استأنسوا باسم الإسلام والمسلمين.

ولا حرج عندي أن نعتبر أن القرآن الكريم أيضا قد استخدم كلمة الصابئين بمفهومها الشائع عند العرب، أعني أن الصابئين عند القرآن هم أهل كتب  سماوية. وأما مفهوم هذه الآية الكريمة فهو أن من سنة الله تعالى أن كل هؤلاء المنتسبين إلى أي كتاب سماوي، إذا آمنوا بالله واليوم الآخر إيمانًا صادقًا وعملوا بحسب هذا الإيمان، فلن يهلكوا أبدًا.

وكما هو واضح من تفسير الآيات السابقة فإن الله تعالى يقول، ابتداءً من الركوع الرابع[1] أن محمدًا رسول الله ليس بدعًا من الرسل، بل كانت قبْله سلسلة طويلة من النبوة منذ القديم، فأول إنسان كامل أيضا قد بُعث نبيًا.

ثم في الركوع الخامس[2] بيّن الله تعالى أن النبوة لم تنتهِ عند آدم ، بل لم يزل الأنبياء يُبعثون إلى زمن قريب من محمد رسول الله ، فقد استمرت في بني إسرائيل جيرانِ العرب سلسلةٌ طويلة من الأنبياء وُضع أساسها على يد موسى . وأخبر االله تعالى في هذا السياق أنه كان قد أخبر بواسطة إبراهيم أنه تعالى سيقيم سلسلة روحانية عظيمة من النبوة بواسطة ابنيه إسماعيل وإسحاق كليهما. فما دامت النبوة قد بدأت بأمر الله تعالى واستمرت، وما دام الأنبياء السابقون قد أنبأوا بظهور نبي عظيم في بني إسماعيل، فلا مبرر للاستغراب من ادعاءِ شخص منهم النبوةَ.

والموضوع الثاني الذي بدأ الله تعالى بيانه من الركوع الرابع هو أن كل نبي قد لَقِي معارضة، فآدم واجه اعتراضات شديدة من قبل الشيطان وذريته. ومع أن الملائكة لم يعترضوا عليه، ولكنهم أبدوا استغرابًا وحيرة لخلْقه. ثم تكرر الأمر نفسه عند ظهور كل نبي حتى لم يسلم من الاعتراضات نبي عظيم كموسى . فكيف يصحّ إنكار محمد بحجة أن بعض الناس يعترضون عليه في بعض ما جاء به؟

والموضوع الثالث الذي ذكره الله تعالى في هذه الركوعات هو أن الله تعالى عندما يصطفي أمةً فإنه يتم عليها فضله، ولكنها عندما تتعدّى الحدود في الكفران بنعمه فإنه تعالى ينقل فضله منها إلى أمة أخرى. لقد انتقل فضل النبوة من آدم مرورًا بأولاده الكثيرين إلى بني إسرائيل، وإذا كان فضل الله قد انتقل الآن إلى بني إسماعيل من بني إسرائيل جراء أعمالهم المنكرة المتواترة لزمن طويل، فلماذا يغضبون من فعل الله هذا؟ ولماذا يغضب أهل مكة أيضًا على ذلك؟ لا مبرر لسخط بني إسرائيل على ذلك، لأنهم بأنفسهم دَعُّوا فضل الله من بيوتهم دَعًّا، كما لا يجوز لأهل مكة أن يشتكوا من إضاءة سراج نور الله تعالى في بيوتهم المظلمة، ومن نزول شآبيب رحمة الله على قلوبهم الذاوية، بل الحري بهم أن يفرحوا بذلك، فإنها مناسبة فرح وابتهاج لا حزن واكتئاب.

هذه هي المواضيع الثلاثة التي بدأ الله تعالى في بيانها من الركوع الرابع وسوف يستمر بيانها في الآيات التالية لهذه الآية التي هي قيد التفسير والتي تبدو عجيبةً في هذا السياق، وكأنها شاذة لا رابط بينها وبين ما قبلها وما بعدها من الآيات. فالآيات السابقة لها تتحدث عن اليهود في الزمن القديم، والآيات التالية لها أيضا تتحدث عن اليهود في زمن موسى ، وبينهما جاءت هذه الآية لتتحدث عن المسلمين أو عن المؤمنين عموما وعن النصارى والصابئين أيضا. فالسؤال هنا: أين الرابط بين هذه الآية والتي قبلها وبعدها؟

والجواب أن الآية السابقة تحدثت عن موضوع نزول الغضب الإلهي الدائم على اليهود وأنهم ظلوا يعارضون الأنبياء. وهو موضوع مخيف تنخلع من هوله القلوب، ولا ترضى الفطرة الإنسانية المرورَ به بدون أن تجد حلاً لمشاكلها. فعندما يقرأ المرء أن الله تعالى ظل ينزل فضله على أمة نزولاً غير منقطع لمدة طويلة، ولكنهم عصوا الله تعالى مرة بعد أخرى، وخالفوا أنبياءهم، فإنه يقول في نفسه ما هو الطريق الذي يجنّبه هذا المآل الخطير. وتردّ هذه الآية على هذا السؤال الفطري الناشئ في القلب عند قراءة هذا الموضوع المخيف، فتقول إن المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانًا صادقًا ويعملون صالحًا بحسب إيمانهم، سواءً كانوا من اليهود أو النصارى أو الصابئين أو أية أمة أخرى، سوف ينالون أجرهم عند الله تعالى. أي أن الأمر الذي يضمن للإنسان أمنًا دائمَا هو إيمانه بالله واليوم الآخر وعملُه الصالح. فلا تظنوا أن الإنسان يتعثر رغم إيمانه الصادق، كلا. إن بني إسرائيل لم يتعثروا ولم يستحقوا غضبَ الله عليهم مع صدقهم في إيمانهم، إنما سببه ضعف إيمانهم، لأن الذي يؤمن بالله بصدقٍ، ويوقن بالبعث بعد الموت، ويعمل صالحا بحسب ذلك، فلا يستحق غضب الله أبدًا. فإذا كان اليهود قد تعثروا، وكذلك النصارى وغيرهم من الأمم المجاورة لهم مثل الصابئين، فإن أكبر أسباب عِثارهم أنهم إما لم يؤمنوا بالله حقًا، أو لم يوقنوا باليوم الآخر حقًا، أو لم يعملوا صالحًا بحسب إيمانهم. لم يكن اليهود صادقين في إيمانهم بالله تعالى ولذلك عبدوا العجل، ولم يكونوا مؤمنين باليوم الآخر حقًا ولذلك تتبّعوا كل ما يتعلق باليوم الآخر في كتبهم الدينية وحذفوه. والحال نفسه للنصارى، فلم يكونوا صادقين في إيمانهم بالله تعالى وإلا لما اتخذوا عبدًا من عباد الله ابنًا لله تعالى، ناهيك عن العمل الصالح عندهم، فإن عقيدة الكفّارة أبطلت ضرورة العمل الصالح! ومن أجل ذلك يقول الله تعالى: لا تخافوا من سوء مآل اليهود وقراءة أنباء غضب الله عليهم؛ فتظنوا أنه ما دام اليهود الذين بُعث فيهم هذا العدد الضخم من الأنبياء يمكن أن يفسدوا، فكيف يطمئن المرء على مصيره الروحاني؟ إن الفلاح الروحاني ممكن يقينًا، كل ما عليكم هو إصلاح إيمانكم بالله واليوم الآخر وفعلُ الصالحات، وعندها لن يحيد بكم شيء عن جادة الصواب، ولن تُحَرموا من فضل الله ونعمه أبدًا. والذين يفعلون ذلك فلا خوف على مستقبلهم، ولا حزن عليهم مما فرّطوا به في الماضي.

علمًا أن قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يتضمن المؤمنين من جميع الأمم، وأما قوله تعالى: وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فيذكر هؤلاء الأمم الثلاث خاصةً من أجل التأكيد. وكأن الآية تقول: إن كل المؤمنين بالله واليوم الآخر عامة، ولا سيما اليهود والنصارى والصابئين سواء الصابئين المعروفين أو أمة غيرهم، إذا آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا بحسب الإيمان، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم في المستقبل ولا هم يحزنون على الماضي.

ونظرًا إلى هذا المفهوم، فقوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا لا يشير إلى المسلمين وحدهم، بل هو عام يشمل جميع المؤمنين من كل الأمم، سواء كانوا هندوسًا أو أتباع زرادشت أو أهل الديانة الإغريقية أو أتباع كونفوشيوس أو اليهود أو النصارى أو الصابئين. فتوضيحًا للمعنى الإجمالي لكلمة الَّذِينَ آمَنُوا أتبعَها الله بقوله وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وقدم مثال هؤلاء الديانات الثلاث المجاورة للعرب، دفعًا للقنوط الذي قد يستولي على قلب المؤمن بقراءة سوء أحوال اليهود ومصيرهم في الآيات السابقة، مبينًا أن سبيل الإيمان ليس محفوفًا بالأخطار كما يبدو من مآل اليهود، فإنهم أهلكوا أنفسهم بأنفسهم، وإلاّ فإن الطريق الروحاني فسيح وممهد وليس بوعر. لو كان الإنسان مؤمنًا بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات حقًا، لَزالت مِن أمامه كل المشاكل والمسائل تلقائيا، فلا يجد صعوبة في معرفة الأنبياء، ولا يعاني في إدارك حقانية المسائل الروحانية، ولا تبقى أمامه أية معضلات في الأمور الأخلاقية، ولا يشعر بالمللِ في القيام بالعبادات، ولا بالعبء في الوفاء بحقوق العباد.

إن من كمالات القرآن الكريم ومحاسنه أنه كلما تناول موضوعًا فيه من الوعيد ما قد یسبّب القنوط للإنسان، لم يلبث أن فتح أمامه باب الأمل أيضا، وكلما ذكر موضوعًا فيه من البشارة والسرور ما قد يُسبِّب الغفلة والكسل للبعض، أتْبَعَه بذكر ما يولّد خشية الله وتقواه، لكي يبقى الإيمان في اعتدال بين الرجاء والخوف ولا يتطرف قلب المسلم إلى أحد الطرفين كلية. أما التوراة والإنجيل وسائر الكتب الأخرى فتعوزها هذه الميزة. إن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي راعى هذا الاتّزان والاعتدال الذي يحول دون انحراف الإنسان إلى أمل باطل أو قنوط مدمر.

وهناك علاقة أخرى لهذه الآية بما قبلها من الآيات، فالآية قيد التفسير تذكّر بني إسرائيل بما ارتكبوه من ضروب العصيان المتكرر، وبرؤية هذه الواقعات المؤلمة مجتمعةً في موضع واحد كان لا بد أن يتأثر بها أصحاب الطبائع الطيبة من بني إسرائيل الذين يخشون الله تعالى حقًا، وكان هناك خطر أن يصيبهم القنوط فيظنوا أنه لم يبق لقومهم سبيل للغفران والنجاة، فدرأً لليأس عنهم قال الله تعالى لهم: لقد فتحنا اليوم أبواب رحمتنا ثانيةً بواسطة دين الإسلام، فكل من أصلح إيمانه بحسب تعاليم الإسلام وعمل الصالحات -سواء كان مسلمًا أو يهوديًا أو نصرانيًا أو مؤمنا بأي كتاب سماوي آخر- سوف تُتاح له أيضًا فرصة التقدم الروحاني والفوز بقرب الله ونيل أفضاله تعالى ثانية، ولن يحول بينه وبين ذلك ما ارتكبته أمته من المعاصي في الماضي.

لا بد هنا من الرد على شبهة قد تنتاب البعض وهي: إذا كانت الحالة الإيمانية لبني إسرائيل بهذا السوء والتردي فلماذا فضَّلهم الله على الآخرين؟

والجواب: لا يمكن قياس حالة أمة بحال العوامّ منها فقط، وإنما تقدَّر قيمتها بحالة الخواصِّ منها حينًا، وباستعدادها الفطري حينًا آخر. انظروا كيف أن بني إسرائيل -رغم بُعدهم عن عهد النبوة ورغم تعرضهم لشتى أنواع الاضطهاد طيلة هذه القرون الطويلة- لا يزالون ممسكين بمقاليد الاقتصاد العالمي نتيجة ذكائهم ودهائهم، ويتفوقون على غيرهم في مجال الاكتشافات العلمية المختلفة، مما يدل على مواهبهم الفطرية وملكاتهم الخاصة التي تميزهم عن كثير من شعوب العالم. هذا فيما يتعلق باستعدادهم الفطري، وأما قدرات الخواصّ من بني إسرائيل فيكفيك دليلاً على ذلك أنه لم يُبعث في أي شعب من الأنبياء بقدر ما بُعث فيهم، فتمتُّعُ هذا العددِ الكبير منهم بالجوهر الروحاني والقرب الإلهي دليلٌ قاطع على فضلهم. فلم يكن اصطفاء الله إياهم لأفضال خاصة عن فراغ أو من قبيل التحكم، بل كانوا أهلاً لها في الحقيقة.

لكن الأسف أنه رغم كثرة الخواص بين بني إسرائيل وتميُّزِهم بميزةِ حدّة النور الفطري إلا أنهم كانوا مصابين بعيبين وهما: أنهم استخدموا نورهم الفطري من أجل تحقيق الرقي المادي بدلاً من الرقي الروحاني، كما أن تمتُّعهم بالذكاء العالي بوجه عام جعَلهم يحسدون أنبياءهم ويرفضون احترامهم اللائق بهم، فدفَعهم هذان العيبان إلى التقهقر في المجال الروحاني في نهاية المطاف، فحُرموا نعمةَ النبوة.

خلاصة القول، إن تمتُّعَ بني إسرائيل بأفضال الله الخاصة وجلْبَهم سخطَ الله على أنفسهم بالتكرار في وقت واحد، ليسا بضدينِ لا يجتمعان، بل يمكن أن يجتمع هذان الأمران في وقت واحد، وقد اجتمعا فيهم بالفعل.

لقد ذكرت هذا المعنى نظرًا لارتباط الآية قيد التفسير بما قبلها وما بعدها من الآيات، أما بالنظر إليها كآية مستقلة فيمكن أن تعني كلمة الَّذِينَ آمَنُوا المسلمين أيضًا، وفي هذه الحالة تصبح هذه الآية نبأً عظيم الشأن إذ تبين طريقًا سهلاً للفصل بين الأديان المختلفة. وبيان ذلك أنه ما من أحدٍ في الدنيا يَدَعُ أحباءَه يهلكون ويدمرون أو يراهم عرضةً للأذى، فكيف يمكن لله تعالى أن يخزي أحباءَه ويذلّهم؟ الأمر الفيصل بين شتى الأديان هو أن الدين الذي يتلقى من الله النصر والتأييد هو الدين الحق، أما الأديان المحرومة من نصرة الله وتأييده فلا يمكن أن تكون مَرْضيةً عند الله تعالى. وبحسب هذا المبدأ قد ذكر الله تعالى هنا بعض الأديان الموجودة في ذلك الوقت وقال إن المؤمنين -أي أهل الإسلام- وكذلك اليهود والنصارى والصابئين كل أمة منهم تدّعي بأنهم هم المؤمنون حقًا وأن الأعمال التي يقومون بها هي الأعمال الحقة المرضيّة عند الله تعالى، فتعالوا ندلّكم على ما يفصل بينكم، لتعلموا من منكم هم أحباء الله المرضيون عنده حقًا. ألا إن آية صدق الصادق منكم في إيمانه بالله واليوم الآخر وفعل الصالحات حقًا هي أنه سيخرج من حالة الخوف أو الحزن وسيتمتع بكل نوع من الطمأنينة والراحة بفضل الله تعالى.

ولإدراك الظروف التي طُرح فيها هذا المعيار لمعرفة صدق الأديان المختلفة، ليكن معلومًا أن هذه السورة قد نزلت في السنوات الأولى بعد الهجرة، حين كان الإسلام ضعيفًا غضّ الإهاب، وكان أهل الجزيرة العربية يعادون الرسول متعطشين لدمه. أما أهل المدينة فإن فئة قوية منهم دخلوا في الإسلام نفاقًا وكانوا يتآمرون لتدمير الإسلام. وكانت في المدينة ثلاث قبائل من اليهود وكلها كانت تعادي الإسلام عداء شديدا وتسعى جاهدة للقضاء عليه. وكانت بالقرب من المدينة قبائل نصرانية. وكان أهل الشام -وهم على عدة منازل من المدينة- يعادون الإسلام بشدة. ولم يتجاوز عدد المسلمين رجالاً ونساءً وصغارًا وكبارًا ثلاثةَ أو أربعةَ آلاف.

في هذه الظروف الحالكة، أنطق الله تعالى لسان نبيه بهذه الكلمات وأبلغ على يده -جميعَ الأعداء الذين كانوا يزيدون عن المؤمنين آلاف المرات عددا، وليس ذلك فحسب بل كانوا أكثر منهم مالاً وعزًّا وقوة ومنعة وعدّةً وعتادًا بما يفوق التصور- رسالةً تقول: أيها القوم، إن كل طائفة منا تدّعي أنها هي المؤمنة بالله واليوم الآخر وتعمل الصالحات المرضية عند الله تعالى، وأمّا سبيل الفصل بيننا وبينكم فهو أن الله ينصر الصادق منا حتمًا. لا شك أنكم أكثرُ منا عددًا وتنعمون بالأمن والراحة، ولكننا نخبركم أن الطائفة التي ينجيها الله تعالى من الشدائد والمصائب ستكون هي الصادقة والمرضية عند الله تعالى، وأما الطائفة التي تصبح هدفًا للخوف والحزن رغم توافُر وسائل الأمن والراحة فهي التي ستكون على الباطل حتمًا.

أيُّ الديانات ثبت صدقها وفقًا لهذا المعيار؟ أرى أننا لسنا بحاجة للإجابة على هذا التساؤل من عند أنفسنا، فكُتُب أعداء الإسلام نفسها تلقي عليه ضوءًا كافيًا، حيث تكشف أن هناك بونًا شاسعًا بين ما كان عليه المسلمون في بعد الهجرة حين تم هذا الإعلان القرآني، وبين ما صاروا عليه بعد بضع سنين، وكيف أن المسلمين المحاصرين بين الأعداء من كل جانب انطلقوا في الأرض شرقًا وغربًا حتى ملأوها، وانقلب حزنهم وخوفهم أملاً وسرورًا، أما أعداؤهم الذين كانوا ينعمون بالراحة والأمان فأقضَّ الخوفُ والحزن مضاجعهم. فكانت هذه شهادة عَملية من عند الله على أن جماعة المسلمين هي الجماعة المؤمنة بالله واليومِ الآخر حقًا والعاملة للصالحات، وأما أتباع الديانات الأخرى فليس إيمانها إلا إيمانًا تقليديًا فارغًا، وأن أعمالهم لا تحظى برضا الله تعالى.

ولا يصحّ الاعتراض على هذا المعيار بحجة أن الدول المسيحية غالبة على المسلمين في هذا العصر. ذلك أن الوعد الإلهي بالخروج من حالة الخوف والحزن عند الصراع الديني لم يكن إلا للذين يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيمانًا صادقًا ويعملون الصالحات حقًا، لكن المسلمين في هذا الزمن قد أعرضوا عن الإسلام واتخذوا القرآن مهجورًا وشابهوا بني إسرائيل في زمن المسيح الناصري ، وذلك وفقًا لأنباء النبي ؛ فوقوعهم في أنواع الحزن والخوف إنما هو عقاب لهم وتحققٌ لنبأ رسولنا . غير أن هناك وعدا أيضًا لهم بأنهم سوف يؤمنون بالمسيح الموعود ليتحقق لهم هذا الوعد الإلهي ثانية، وينجوا من الخوف والحزن، وليصبح أعداؤهم أذلاء مهانين إزاءهم. لكن هذه الغلبة لن تتم بالأسباب المادية بل بالأسباب الروحانية، وسيُجعَل الإسلام غالبا بالحجة والبرهان بدلاً من السيف والسنان. وقد ظهر ذلك المسيح الموعود ، وإن الله تعالى ينجيه هو وأتباعه من الحزن والخوف بآيات خارقة للعادة، ويخزي أعداءهم عند المواجهة.

لقد انخدع البعض في فهم هذه الآية فظنّوا أن القرآن الكريم قد جعل هنا زوال الحزن والخوف مشروطًا بالإيمان بالله واليوم الآخر فقط، وهذا دليل على أن كل أمة تؤمن بالله واليوم الآخر ناجيةٌ بحسب القرآن الكريم. ولكنه فهمٌ غير سليم تمامًا؛ لأن الإيمان بالله واليوم الآخر يشمل جميع مبادئ الإسلام. قال الله تعالى في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (النساء: 151-152). فهذه الآية تبين أن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بالرسل، وأن الإيمان بالرسول يتضمن الإيمان بكتابه أيضا.

وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (الأَنعام: 93). لقد اتضح من هذه الآية أيضا أن الإيمان بالآخرة يشمل الإيمانَ بالقرآن الكريم والقيامَ بالعبادات المفروضة.

فثبت أن الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن كل ما يتفرع منه من قضايا وأحكام أخرى.

أما قول الله تعالى: وَعَمِلَ صَالِحًا ، فليكن معلومًا أن العمل الصالح هو ما يكون ملائما للظرف، لأن الصلاح في العربية يعني المناسب الموافق الذي لا عيب فيه، يقال: صالحَه: وافقَه، وهذا يصلح لك، أي يناسبك. وأصلحَ بين القوم: وافق بينهم. فالعمل الصالح ما يكون وفق الحاجة والظرف، ومثل هذا العمل هو ما يمكن أن يصلح الفساد والخراب، أما العمل الذي لا يكون ملائما للحاجة والظرف فيؤدي إلى الفساد والخراب مهما بدا حسنًا في بادي الرأي. فمثلا لو بدأ المرء الصلاة وقت القتال، أو شرع يوزع الصدقات وقت الصلاة، أو تشاغل بأعمال تبطل الصيام، فيسافر مثلاً إلى خارج مدينته في جولات تبليغية تاركًا الصوم بحجة السفر، فإن أعماله هذه كلها لن توصف بالصلاح ولن تترتب عليها نتائج طيبة، حتى وإن كانت هذه الأعمال حسنة في الظاهر.

إن القرآن الكريم كلما ذكر الإنسانَ الكامل جعل له شرط العمل الصالح وليس العمل الحسن، ذلك أن أي عمل حسن إذا لم يكن صالحًا فلا يكون نافعًا، وعلى النقيض إن بعض الأعمال التي تبدو سيئة في بادئ الأمر تصبح نافعةً أحيانا إذا ما صارت صالحة أي ملائمة للظرف. فمثلا لو رأيت عقربًا على رأس إنسان، أو حيةً مختفية في عمامته، وخفتَ أن تلدغه إن اقتربتَ منها ببطء أو حذّرتَه منها، فضربتَ الرجلَ بيدك بل بنعلك في ذلك المكان لقتل الحية أو العقرب، فقد عملتَ عملاً صالحًا تثاب عليه، وإن كان ضربك إياه في حد ذاته عملاً سيئًا. أو مثلاً لو كنتَ واقفًا مع شخص يقف بالقرب من حفرة، وعلمتَ أن عدوه على وشك إطلاق النار عليه، فدفعته في الحفرة إنقاذًا له من قذيفة قاتلة، لكان عملك صالحًا، وإن كان إلقاؤك إياه في الحفرة عملاً غير سليم في الظرف العادي.

فالحق أن ما يثاب عليه المرءُ هو العملُ الصالح. لا شك أن الأعمال الحسنة هي التي تكون أعمالاً صالحةً في معظم الأحوال، ولكن الإنسان أحيانًا يجعل من الفعل الحسن عملاً غير صالح فلا يستحق عليه الثواب، كذلك يصبح العمل السيئ عملاً صالحًا عند الضرورة شريطة أن يصبح العمل به في ذلك الظرف ضروريا وفق أمر الله تعالى.

خرج النبي ذات مرة للجهاد، وكان بعض الصحابة صائمين، فلما وصلوا إلى المنزل اشتدّ التعب بالصائمين فسقطوا على الأرض منهكين، أما المفطرون فأخذوا ينصبون الخيام ويحفرون الأرض إعدادًا للمكان، ويجمعون الحطب، ويجلبون الماء للوضوء والشرب، فلما رأى النبي ذلك قال: سبق المفطرون الصائمين أجرًا.

تعلِّمنا هذه الواقعة أن الصوم، وإن كان عملاً حسنًا، إلا أنه يصبح غير جائز أو عملاً أدنى حين يكون الإسلام بحاجة إلى عمل آخر يتطلب من المسلم قوةً وجهدًا.

علمًا أن هؤلاء الصحابة كانوا صائمين صومَ تطوعٍ، لا صوم فرض فهو غير جائز في السفر.

ولسوء الحظ أن المسلمين مصابون اليوم بهذا الخلل، فتجد كثيرًا منهم يعملون الأعمال الحسنة، ولكن قَلَّما تجدهم يعملون الأعمال الصالحة. إن الإسلام اليوم في أزمة شديدة؛ حيث تُشَنّ عليه الهجمات من كل حدب وصوب، ولكنك تجد ملايين المسلمين رغم انحطاطهم، مداومين على الصلوات والأذكار، ولكن المصيبة أنهم يقضون جُلّ أوقاتهم في هذه الصلوات والأذكار فقط. لا شك أن مساجدهم عامرة، ولكنهم لا يبالون بخراب أصاب بيت محمد رسول الله ؛ لذا فصلواتهم وأذكارهم هذه مردودة في وجوههم. فما داموا لا يبالون بعمارة بيت الإسلام فلا يعمر الله قلوبهم بتجلياته.

ثم إن مئات الآلاف منهم يسعون، في بادئ الأمر، للنهوض بإخوانهم في مجالات التعليم والاقتصاد والسياسة، ولكنهم غافلون عن الصلاة والصيام وغيرهما، فصارت أعمالهم هذه سياسيةً بحتةً، لأنها تخلو من طعم الدين والروحانية. يهتمّون بضرورات الجسم، ويتجاهلون ضرورات الروح، فأعمالهم أيضًا ليست من الصالحات في شيء. إنما العمل الصالح ما يُراعى فيه الظرف والحاجة جيدًا. إن البيت الذي ينقصه جدار واحد لا يُعَدُّ بيتًا صالحًا لحماية الإنسان، فما بالك ببيت ليس له إلا جدار واحد؟ كانت هناك حاجة ماسّة إلى بيان محاسن تعاليم الإسلام بالعمل، وإلى حماية الإسلام بسيوف الأدلة والبراهين، ولو أنهم فعلوا ذلك لما أصاب الإسلامَ هذا الضعفُ والهزال، ولم يصبح المسلمون متمردين متهورين، ولا جبناء متهربين، بل لتحلّوا بمكارم الأخلاق، وبذلوا أغلى التضحيات، ولأصبحوا شرفاء متواضعين، وشجعان وبواسل؛ ولجمعوا في أنفسهم كل الأخلاق الفاضلة في وقت واحد، ولم تستطع أمة في الدنيا مباراتهم.

ويجب أن نتذكر أيضا أن كلمة (الصلاح) لا تُستخدم في العربية أبدًا بمعنى الشر، وعليه فإن الكذب والسرقة وقطع الطرق وغيرها من الأفعال ليست من الصلاح في شيء، حتى لو قام بها أحد من أجل مصلحة شخصية أو لمنفعة غيره.

[1]  أي بدءًا من الآية: 31 (المترجم).

[2] أي بدءًا من الآية: 41 (المترجم).

Share via
تابعونا على الفايس بوك