حقيقة الإسراء والمعراج

حقيقة الإســــراء والمعــــــراج

لحضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد

الخليفة الثاني للإمام المهدي والمسيح الموعود

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ*سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَاإِنَّهُهُوَالسَّمِيعُالْبَصِيرُ* (سورة الإسراء: 1و2).

هذه الآية الكريمة بإجماع الآراء تتعلق بالإسراء المحمدي العظيم. ولكن مسألة الإسراء في حد ذاتها تعتبر إحدى المعضلات التي اختلف المفسرون القدامى والمحدثون حولها، وذلك لكثرة الأحاديث والروايات وتضارب الآراء حولها.

الإسراء والمعراج حادثان مستقلان

ولقد جرت عادة غالب المسلمين أن يجمعوا بين واقعة إسراء الرسول وواقعة معراجه ، فيحتفلون بذكراهما في وقت واحد ويقولون: ذكرى والإسراء والمعراج.. اعتمادا على بعض روايات جمعت بينهما.. والحقيقة تحتاج إلى تدبر وتفكير حتى تنكشف للعقول.

إن موضوع العروج ذكر في القرآن الكريم في موضع آخر غير هذه السورة ومستقلا عن الإسراء تماما.. وذلك في سورة النجم حيث يقول :

إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ$عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى$ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ$وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ$ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ$فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ$فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ$مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ$أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ$عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ$عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ$إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ$مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ$لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (سورة النجم: 5 إلى 19).

هذه الآيات تشير إلى عروج المصطفى ، ويستخلص منها ما يلي:

أ. النبي كان قابَ قوسَيْن أو أَدنَى.

ب. وحي الله تعالى له هنالك.

ج. رؤية الرسول لله وآياته الكبرى.

د. وصوله إلى سدرة المنتهى.

رؤية الجنة عندها.

و. غَطَّى السدرة شيء ما.

إذا تأملنا الأحاديث المتعلقة بالمعراج نجدها تتحدث عن كل هذه الأمور.. فمثلا:

أ. في رواية عن أبي سعيد الخدري ، قال النبي :”فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى”.

ب. وفي رواية عن أبي هريرة : “أنه لما بلغ عند سدرة المنتهى فكلمه الله تعالى عند ذلك”.

ج. وعن أنس بن مالك : “ثم إني رُفعت إلى سدرة المنتهى، فقال الله لي: يا محمد…” (الخصائص الكبرى للسيوطي).­

د. عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي لما ذكر سدرة المنتهى قلت: ماذا رأيت هنالك يا رسول الله؟ قال: رأيت هنالك ما رأيت. وذكرت كان يعني الله .(خصائص لابن مردوية).

ي. وعن ابن عباس قال في معنى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ أنه رأى ربه بفؤاده مرتين. أما رؤيته   للآيات الربانية في العروج فلا خلاف فيه، فلا داعي لذكره.

ء. في حديث أبي هريرة السابق قال: “ثم انتهى إلى السدرة”، ولا سبيل لإنكاره إذ رواه عنه ستة من الحفاظ هم: ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردوية والبزار وأبو يعلى والبيهقي، وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري الذي يذكر فيه وصوله إلى سدرة المنتهى بعد رفعه إلى السماء والتقائه بالأنبياء.

وعن مالك بن صعصعة في مسند ابن حنبل والبخاري ومسلم وابن جرير في حديث المعراج: “ثم رفعت إلى سدرة المنتهى”.

ه. في حديث أبي سعيد الخدري : “ثم إني رفعت إلى الجنة” (ابن جرير).

و. في حديث أبي هريرة عن المعراج: “فغشيها نور الخلاّق عز وجل…” (الخصائص).

وعن أنس :

“فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرتْ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها..” (صحيح مسلم).

من كل ذلك يتضح على الوجه القطعي أن آيات سورة النجم نزلت في أحداث المعراج وحده، وليس لها صلة بالإسراء أو غيره من الأحداث. كما أن آية الإسراء لم تتناول شيئا مما وقع في المعراج، بمعنى أن سورة الإسراء تحدثت عن موضوع الإسراء وحده، وسورة النجم تناولت موضوع العروج وحده.

زمن نزول سورة النجم

متى نزلت سورة النجم؟ التحقيق يدل على أنها نزلت حوالي السنة الخامسة من البعثة المحمدية الشريفة أو قبلها بقليل. يتفق كل المؤرخون على أن النبي أمر بعض أصحابه بالهجرة إلى بلاد الحبشة بعد أن اشتد إيذاء كفار مكة لهم، حيث يجدون الأمان عند ملك لا يظلم عنده أحد. فهاجروا إليه في شهر رجب من السنة الخامسة. وكان فيهم سيدنا عثمان وزوجته رقية بنت المصطفى ، (الزرقاني).

وفشل وفد قريش المكون من عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة في تحريض النجاشي على طردهم. وفي مقابلة بين جماعة من كفار قريش مع الرسول قرأ عليهم سورة النجم، ولما وصل إلى موضع السجدة عند قوله تعالى: “أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون، وأنتم سامدون، فاسجدوا لله واعبدوا”، سجد النبي ، وسجد معه الجميع بما فيهم من حضر من كفار قريش.. ذلك من جلال الموقف ورهبة الآيات. فشاع أن زعماء الكفار قد أسلموا. وذلك مكرا وخديعة لاستدراج المهاجرين للعودة من الحبشة. فلما عاد هؤلاء وجدوا أن الخبر كاذب.

وقد علل كفار مكة سجودهم مع الرسول بفرية باطلة إذ زعموا أنه تلا بعد قوله تعالى: وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ كلاما يمدح آلهتهم. وقد وقع للأسف الشديد في هذا الفخ السخيف بعض المؤرخين فزعموا أن الشيطان ألقى على لسان المصطفى ، وحاشا له ذلك، عبارات عن الأصنام تقول: تلك الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن لَتُرْتَجَي. وهو قول فاضح الكذب ولا مجال لدحضه هنا.

وإذن من هذه الواقعة الشهيرة الواردة في أكثر كتب التاريخ والحديث يتضح أن سورة النجم التي تناولت موضوع “المعراج” قد قرأها الرسول في السنة الخامسة.. أي أنها نزلت عندئذ أو قبلها بقليل.. أي قبل شوال من السنة الخامسة التي عاد فيها مهاجرو الحبشة.

المعراج أكثر من واحد

ومما هو جدير بالذكر أن بعض الأحاديث تبين أن عروج الرسول حدث أكثر من مرة، ففرضية الصلاة الواردة في بعض أحاديث المعراج قد حدثت في الفترة الأولى من البعثة المحمدية الشريفة.. أي في أوائل السنة الثانية أو منتصفها. كما أن آية النجم: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ تشير إلى أن المصطفى رأى ربه أكثر من مرة.

الإسراء والمعراج زمنهما مختلف

نعود بعد ذلك إلى واقعة الإسراء. يقول المؤرخون إن هذه وقعت في أواخر الفترة المكية على أقوال منها بأنه حدث في السنة الثانية عشرة بعد البعثة (المستشرق ميور). أو ربيع من السنة الحادية عشرة. (الزرقاني).أو في ربيع قبل الهجرة بسنة. (ابن مردوية عن ابن عمر، والبيهقي، وابن سعد عن أم سلمة (الخصائص الكبرى).

هناك شهادة السيدة عاتكة بنت أبي طالب أن الرسول كان يبيت عندها ليلة الإسراء، وأنها أول من روى له المصطفى رؤياه.. وقد روى عدد من الصحابة ما يؤيّد ذلك. لقد ذهب الرسول عندها بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته أم المؤمنين السيدة خديجة. وكل ذلك كان بعد السنة العاشرة من البعثة، أي أن الإسراء كان في السنة الحادية أو الثانية عشرة.

وإذن فهناك فاصل زمني بين المعراج والإسراء لا يقل عن خمس سنوات وقد يصل إلى سبع سنوات. والمعراج هو الذي وقع أولا، وفيه فرضية الصلاة.. ورؤية الله تعالى، والوصول إلى سدرة المنتهى والجنة. وقد ذكر في سورة النجم التي لم يرد فيها أي ذكر للإسراء. أما الإسراء فوقع قبل الهجرة، وقد ورد في سورة الإسراء التي لم يرد فيها أي ذكر للمعراج. فهل يعقل أن يجتمعا في رحلة واحدة.. وكان بينهما ارتباط. فهل يجوز ذكر أحدهما في سورة والثاني في سورة أخرى، ودون إشارة تبين الرابطة بينهما؟

ثم نظرة إلى حديث عاتكة أم هاني، رواه محمد بن إسحاق وجاء في سيرة ابن هشام. وقد رواه عنها سبعة من المحدثين بطريق عدد من الأسانيد المختلفة، وكلها تدور حول رحلة الإسراء، ولم يرد فيه أي ذكر للعروج.. وإذا كانت هي أول من سمع الخبر عن الرسول فهل يمكن أن يحكي لها الرسول جزء من رحلته، ويغفل أو يخفي عنها الجزء الأكبر والأهم؟

قالت: ما أُسرِيَ برسول الله إلا وهو في بيتي، نائم عندي تلك الليلة. فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا. فلما كان قبيل الفجر أهبَّنا رسول الله . فلما صلى الصبح وصلينا معه قال:

“يا أم هانيْ.. لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس، فصليت فيه، ثم صليت الغداء معكم الآن كما ترين”.

ثم قال ليخرج. فأخذت بطرف ردائه، فتكشف عن بطنه، كأنه قبطية مطوية. فقلت له: يا نبي الله لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك. قال: ” والله لأحدثنهم.. إلى آخر الحديث.

هنا لم يرد أي ذكر على لسان المصطفى وعلى لسان أم هانيء عن وقائع المعراج. أليس هذا دليلا على أن المعراج كان في مناسبة أخرى؟ وهل من المعقول أن ينسى أو تنسى أم هانيء رضي الله عنهما هذه الواقعة العظيمة؟ اللهم لا.. وإنما شتان ما بين الواقعتين.

وعندما سمع أهل مكة حكاية الإسراء من الرسول ماذا حدث: تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: لما عرف الناس خبر إسراء النبي ذهبوا إلى أبي بكر ، فقالوا: هل لك يا أبا بكر، في صاحبك.. يزعم أنه قد جاء هذه الليلة إلى بيت المقدس، وصلى فيه، ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى! ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق. فما يعجبكم من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه. فهذا أبعد مما تعجبون منه!(السيرة النبوية لابن هشام).

أليس في هذا الحديث ما يدل على أن المعراج إلى السماء لم يرد في تلك المناسبة على لسان الرسول ؟ إن القوم لم يتحدثوا عنه وهو الأعجب والأبعد حسب قول أبي بكر الصديق، وهو الأدعى إلى التكذيب والسخرية من جانب الكفار! واستدلال أبو بكر كان عن الخبر يأتي من السماء، وإذن فموضوع العروج النبوي إلى السماء لم يكن واردا عندئذ.. وإلا لكان استدلال أبو بكر غير مناسب للمقام.

سبب خلط الحادثين

أما وقد تبين بجلاء أن الإسراء شيء والمعراج شيء آخر، ولم يجتمعا في رحلة واحدة، بل ولا في سنة واحدة، وإنما يفصلهما عدد من السنوات يبلغ ستاً أو سبعا.. قد يتساءل البعض: لماذا إذن جمع بينهما بعض الرواة مع أن القرآن الكريم لم يجمعها في سورة واحدة، ولو بمجرد الإشارة أو التلميح.

الجواب على ذلك: لقد اختلط الأمر على بعض الرواة والمفسرين القدامى بحيث خلطوا الروايات، وظنوا أنهما مرحلتان من رحلة واحدة للأسباب التالية:

أ. وقعت حادثتا المعراج والإسراء في الليل. ولما كان الإسراء يطلق على السير في الليل استعمل بعض الصحابة والرواة والمحدثون كلمة الإسراء للرحلتين، وصار الناس لا يفرقون بين هذا وذاك، بما جعل الرواة يخلطون بينهما، وظنوا أن النبي عرج به إلى السماء من بيت المقدس في نفس الليلة. ولنتأمل الرواية التالية مثالا لذلك:

روي ابن حنبل في مسنده عن مالك بن صعصعة أن النبي حدثهم عن ليلة “أسرى به”، قال: بينما أنا في الحطيم، وربما قال في الحجر، مضطجعا إذ أتاني آت، فجعل يقول لصاحبه: الأوسط بين الثلاثة. فآتاني، فشق ما بين هذه وهذه، يعني من نحره إلى أسفل بطنه. فاستخرج قلبي. فأُتِيَتُ بطبقٍ من ذهب مملوء إيمانا وحكمة. فغسل قلبي، ثم حُشِى، ثم أُعيدِ. ثم أتيتُ بدابة دون البغل وفوق الحمار يقع خطوه عند أقصى طرفه. فحملت عليه. فانطلق بي جبريل حتى أتى بي إلى السماء الدنيا…”.

ترى أن الراوي يذكر عبارة “أسرى به” مع أنه لا يتحدث عن رحلة الإسراء المعروفة إلى بيت المقدس، وإنما يحكي لرحلة العروج السماوي، التي بدأت حسب هذه الرواية من مكة وليس من بيت المقدس، ومن جوار الحرم وليس من بيت السيدة أم هانيء. وروي البخاري وابن جرير أن النبي   عُرج به ليلة الإسراء إلى السماء الدنيا.

وبذلك يثبت جلياً أنهم يذكرون كلمة الإسراء في الرحلتين.. وهذا ما جعل بعض الرواة يسهون ويجمعون بين الرحلتين وأحداثهما.

ب. اعتقد بعض الرواة أن الرحلتين شيء واحد بسب وجوه المشابهة بين بعض الأحداث فيها، ومنها: سفر الليل، ركوب البراق، لقاء الأنبياء، أداء الصلاة، رؤية الجنة والنار، صحبة جبريل.. فهي كلها أمور مشتركة بين الرحلتين ساعدت على وقوع بعض الرواة في خلط أجزاء من رواية المعراج مع أجزاء من رواية الإسراء، ولم يستطيعوا الاحتفاظ بأصول أحاديث كل منهما على حدة.

ولو أننا تصفحنا الروايات التي تجمع بين الأمرين وتقول بأن عُرِجَ النبي من بيت المقدس بعد إسرائه ولقائه الأنبياء وصلاته معهم، يظهر لنا أنها اختلطت في بعضها واضطربت اضطرابا شديدا، فمثلا يقول الرواة بأن المصطفى   لقي الأنبياء ومنهم آدم وموسى وعيسى عليهم السلام، وصلى بهم في البيت المقدس. وبعد فترة وجيزة صعد إلى السماء ولقيهم، ولكن لم يتعرف عليهم، وأخذ يسأل جبريل: من هذا؟ فيجيبه جبريل. وهذا أمر لا يسيغه الوجدان ولا يتقبله العقل. فكيف يغيب عن ذهنه وجوه أشخاص من أمثال هؤلاء الأنبياء العظام قابلهم وصلى معهم منذ فترة قصيرة؟

وهذا وإن كان دليلا واضحا على خلط الرواة بين الأحداث المتشابهة فهو أيضا دليل على البعد الزمني بين المعراج والإسراء، وأن المصطفى رأى الأنبياء أولا في معراجه ولم يكن يعرف حليتهم، فسأل عنهم. ولكن لم يرد سؤاله عنهم عند لقائه بهم في رحلة الإسراء.

وخلاصة القول إن ما سقناه من شهادات وأدلة نقلية وعقلية من داخل الروايات وخارجها لفيه الكفاية للدلالة على أن العروج رحلة بعيدة في زمنها عن رحلة الإسراء، وكل منهما مستقل وقائم بذاته.

حقيقة المعراج

والآن نتناول موضوع المعراج بشيء من التفصيل.

إن واقعة المعراج لم تكن انتقالا جسديا من الأرض إلى ما وراء عالم الأملاك والمجرات، إن كان له في  تصورنا وراء، كما لم تكن انتقالا روحيا بمعنى أن الروح الشريفة غادرت الجسد وانتقلت إلى هذا المجال.. لأن الأرواح لا تفارق أجسادها ما دام المرء حياً. ولم تكن حلماً يمر برأس نائم يغط في فراشه، وإنما هي من قبيل الوحي الذي يكلم به المولى تبارك وتعالى من يصطفيه من عباده.. إنه الكشف. والكشف.. أو الرؤيا.. تحدث للإنسان المصطفى وهو في حالة اليقظة الكاملة.. يرى ويحس ويعي أحداث الكشف وحده في خلوة بعيدا عن الناس، أو أمام الناس ولا يدرون بما يجري معه، أو أمام الناس ومعهم ويشتركون معه.

والكشف، أو الرؤيا أو الوحي.. وكلها أسماء لنفس التجربة.. درجات تختلف رفعة ولطفا حسب درجة الموحي إليه.. وهي بالنسبة للرسول أعلى درجات الكشف بحيث لا يدانيه فيها مخلوق آخر من الأنبياء وغير الأنبياء. وتجدر الإشارة هنا إلى ما ورد في بعض الروايات: “تنام عينه ولا ينام قلبه” (البخاري وأبو داود).

ومن الكشوف التي اشترك فيها الحاضرون مع الرسول ما روته كتب الحديث عن الغريب الذي أتى الرسول   وهو بين جمع من صحابته، وجلس إليه يسأل عن الإسلام والإيمان، ويصدقه بعد كل إجابة. وعجب الصحابة من أمره.. يسأله ويصدقه. فلما انصرف أخبرهم المصطفى   :إنه جبريل أتى ليعلمهم أمر دينهم.

ومن الكشوف التي وقعت للرسول في حضور صحابته ولكنهم لم يشاهدوها معه، ما حدث يوم غزوة الخندق، عندما حاول بعض الصحابة من جند المسلمين كسر صخرة اعترضت طريق الخندق، وقد حضر الرسول يشجعهم. وتطايرت الشرارات من المعول، وكَبَّر الرسول وكبَّر معه صحبه الكرام. وبعد أن زالت الصخرة أخبرهم المصطفى   أنه مع لمعان الشرر أضاءت أمامه قصور ملوك اليمن وكسرى وقيصر.

ومن الكشوف التي وقعت للرسول في خلوته بينه وبين ربه عز وعلا.. رؤيا المعراج، ورؤيا الإسراء، ورؤيا دخول المسجد الحرام ورؤيا مصارع رؤوس الكفر يوم بدر. وكل هذه الرؤى من أنواع الوحي الإلهي.. أو الكلام الرباني.. الذي يختلف في شكله عن وحي القرآن.. لأن الأخير له صورة لفظية محددة.. تولي المولي تبارك وتعالى حفظها.. أما الوحي الكشفي فهو يتسم بقدر من الرمزية يزيد أو ينقص حسب حالة صاحب الكشف..ويحتاج إلى تأويل وتفسير وفهم بقدر ما فيه من مجاز.

فرؤيا الرجل الغريب الذي جاء ليسأل الرسول وحي تعليمي، ويتضمن قدرا من الرمزية تفيد أن المصطفى إنما يتلقى العلم الروحاني عن الله تعالى، وأنه صادق فيما يقول، حافظ ذاكر لكل ما نزل عليه. هذا بالإضافة إلى ما يحمله من معاني التعليم والتأييد والتصديق. وقد تمت هذه في حضور الناس.

ورؤيا يوم الخندق كانت تحمل أنباء غيبية عظمى، شاهدها الرسول وأنبأ بها الحاضرين.. في وقت عصيب.. تحدى فيه كل الأخطار المتوقعة وقدم البشرى لجنود الإسلام.. ينفخ في أرواحهم قبسا من أنوار الطمأنينة والثقة واليقين بمستقبل الإسلام المشرق في ظروف تدعو إلى الخوف بل واليأس. ولقد تحققت رؤياه أصدق ما يكون التحقق.. وأضاءت أنوار الإسلام كل تلك البقاع التي رآها عند شرارات المعول. وهكذا تحول الرمز إلى حقيقة، وكان واقعها صادقا مع ما سمعوه منه.. وشهده الكثيرون منهم بعد سنوات قلائل.

وهناك العديد من الرؤى أو الكشوف التي هي بحق من أعظم المعجزات التي جرت على يديه تثبت أمام العالم صدقه في نبوته ورسالته وعلاقته برب هذا الكون الذي يدبر أموره ويدير أحداثه سبحانه وتعالى. وواقعة المعراج وواقعة الإسراء من هذا القبيل.. تحمل كل منهما من أخبار الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ما كان مقدرا له أن يتحقق.. ويعلن أمام العالم كله، يشهدون بأعينهم وحواسهم، ويعيشون حقيقة واقعها، أن محمدا قد جاء من الله تعالى وتحدث باسم الله عز وجل وصدق فيما قال عن الله عز وجل وبذلك يزداد الذين آمنوا إيمانا ويعذر الذين تعاموا أو عموا عن الحق.(يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك