دروس وعبر من حادث استشهاد عمر رضي الله عنه
التاريخ: 2021-10-15

دروس وعبر من حادث استشهاد عمر رضي الله عنه

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • جريمة اغتيال حضرة عمر الفاروق، أكانت مؤامرة مدبرة أم بدافع عداوة شخصية؟!
  • كيف نوفق بين واقعة الاغتيال المفجعة هذه وتحقق وعد تبديل الخوف أمنا؟!
  • كيف أن استشهاده (رض) ألقى ضوءًا ساطعاً على حقيقة ريادة الإسلام في تحرير العبيد؟

 __

خطبة الجمعة التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي بتاريخ 15/10/2021م

في المسجد المبارك بإسلام آباد، بريطانيا

 *تنويه: * العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية من إضافة أسرة «التقوى»

 

بعد التعوذ والتشهد وقراءة سورة الفاتحة

  

اغتيال حضرة عمر، أكان مؤامرة مدبرة أم بدافع عداوة شخصية؟!

لقد بينت لكم في الخطبة الماضية حادثة شهادة سيدنا عمر ، وفي هذا الخصوص هناك أمور أخرى جديرة بالذكر والبيان. فكان يبدو من رواية البخاري التي ذكرتها أن صلاة الفجر أُقيمت وقت الهجوم على سيدنا عمر ، وكان حضرته آنذاك في المسجد، بينما نجد في الروايات الأخرى أن حضرته حُمل إلى البيت فورًا، وأقيمت الصلاة لاحقًا، كما أورد شارح البخاري العلّامة ابن حجر رواية أخرى تحت هذه الرواية عن ابن عباس قال: ثُمَّ غَلَبَ عُمَر النَّزْف حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَاحْتَمَلْتُه فِي رَهْط حَتَّى أَدْخَلْته بَيْتَه فَلَمْ يَزَلْ فِي غَشْيَته حَتَّى أَسْفَرَ الصبح، فَنَظَرَ فِي وُجُوهنَا فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاس؟ فَقُلْت نَعَمْ، قَالَ: لَا إِسْلَام لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاة. ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى.

وفي الطبقات الكبرى أيضًا أن سيدنا عمر حُمل إلى بيته، وصلى بالناس سيدُنا عبد الرحمن بن عوف ، وفي رواية أنه صلى بأَقْصَر سُورَتَيْنِ فِي الْقُرْآن: العصر وإِنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَر، وفي رِوَايَة أنه قَرَأَ وَالْعَصْر ويَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ.

وعن قاتل سيدنا عمر ورد في الطبقات الكبرى أنه لما طُعن عمر قال:

اخْرُجْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَسَلْ مَنْ قَتَلَنِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَخَرَجْتُ حَتَّى فَتَحْتُ بَابَ الدَّارِ فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ جَاهِلُونَ بِخَبَرِ عُمَرَ، فَقُلْتُ: مَنْ طَعَنَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بخنجر؟ فَقَالُوا: طَعَنَهُ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثُمَّ طَعَنَ مَعَهُ رَهْطًا ولما ألقي عليه القبض قَتَلَ نَفْسَهُ بالخنجر نفسه».

هل كانت شهادة  عمر نتيجة مؤامرة مُدبرة أو بدافع عداوة شخصية لذلك الرجل؟ فقد كتب المؤرخون المتأخرون أن شهادة عمر لم تكن من دافع العداء الشخصي، بل كانت مؤامرة. على أية حال فلنقرأ آراءهم أيضًا. فقد قُتل الخليفة الشجاع عمر ونلاحظ عمومًا أن مؤلفي السيرة والمؤرخين يسكتون بعد إيراد تفاصيل حادثة الشهادة، ويتكون لدينا انطباع بأن أبا لؤلؤة فيروز قتله بدافع الغضب والثورة المؤقتة. لكن بعض المؤرخين المعاصرين ناقشوا القضية بالتفصيل وكتبوا أن من المستحيل أن تكون هذه الشهادة نتيجة انتقام شخص واحد لغضبه العارض، بل كانت مؤامرة ومكيدة مدبرة سلفًا. ويقول هؤلاء المؤرخون أن القائد العسكري الفارسي المشهور (الهرمزان) الذي كان يعيش في المدينة كمسلم في الظاهر متورطًا في هذا القتل.

لقد اعترف المؤرخون المعاصرون وأصحابَ السِّيَر بأنهم لم يناقشوا بالتفصيل ما إذا كان هذا الحادث الخطير نتيجة مكيدة مدبرة أم ماذا. ونجد في كتاب التاريخ والسيرة «البداية والنهاية» أنه يُشكّ في تورط هرمزان وجفينة في قتل عمر . وبناء على هذا الشك ناقش مؤلفو سيرة عمر هذا الجانب ووصفوه بأنه كان مؤامرة منسقة. أحدهم الأستاذ محمد رضا، حيث كتب في كتابه سيرة عمر الفاروق:

عُمَرُ لم يكن يَأْذَنُ لِسَبِيٍّ قَدِ احْتَلَمَ فِي دُخُولِ الْمَدِينَةِ حَتَّى كَتَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ والي الْكُوفَةِ إليه رسالة ذكر فيها أن عِنْدَهُ غُلامًا صَنِعًا وَيَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْمَدِينَةَ وَيَقُولُ إِنَّ عِنْدَهُ أَعْمَالًا كَثِيرَةً فِيهَا مَنَافِعُ لِلنَّاسِ. إِنَّهُ حَدَّادٌ نَقَّاشٌ نَجَّارٌ. فكتب إليه عمر فأذن له أَنْ يُرْسِلَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَضَرَبَ عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ مِائَةَ دِرْهَمٍ كُلَّ شَهْرٍ. فَجَاءَ إِلَى عُمَرَ يَشْتَكِي إِلَيْهِ شِدَّةَ الْخَرَاجِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَاذَا تُحْسِنُ مِنَ الْعَمَلِ؟ فَذَكَرَ لَهُ الأَعْمَالَ الَّتِي يُحْسِنُها. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا خَرَاجُكَ بِكَثِيرٍ فِي كُنْهِ عَمَلِكَ. فَانْصَرَفَ سَاخِطًا يَتَذَمَّرُ فَلَبِثَ عُمَرُ لَيَالِيَ. ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ مَرَّ بِهِ فَدَعَاهُ عمر فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَقُولُ لَوْ أَشَاءُ لَصَنَعْتُ رَحًى تَطْحَنُ بِالرِّيحِ؟ فَالْتَفَتَ الْعَبْدُ سَاخِطًا عَابِسًا إِلَى عُمَرَ. فَقَالَ: لأَصْنَعَنَّ لَكَ رَحًى يَتَحَدَّثُ بِهَا النَّاسُ. فَلَمَّا وَلَّى الْعَبْدُ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الَّذِينَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ: أَوْعَدَنِي الْعَبْدُ آنِفًا. فَلَبِثَ لَيَالِيَ ثُمَّ اشْتَمَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ عَلَى خِنْجَرٍ ذِي رَأْسَيْنِ نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ وطعن عمر ومر تفصيله في بيان حادثة الشهادة وكانت إحدى الطعنات تحت السرة. (1)

كان أبو لؤلؤة من جهة أخرى يكنّ لعمر حقدًا وبُغضًا، لأن العرب فتحوا بلاده «فَكَّانْ» وأسروه وأكرهوه على الخروج من بلده قسرًا صاغرًا مُهانًا، وكلما نظر إلى أسرى صغار أتاهم يمسح رؤوسهم ويقول باكيًا «إن العرب أكلت فلذة كبدي».

هل كانت شهادة  عمر نتيجة مؤامرة مُدبرة أو بدافع عداوة شخصية لذلك الرجل؟ فقد كتب المؤرخون المتأخرون أن شهادة عمر لم تكن من دافع العداء الشخصي، بل كانت مؤامرة. على أية حال فلنقرأ آراءهم أيضًا.

ولما عقد أبو لؤلؤة العزم على قتل عمر صنع له خنجرًا له رأسان وشحذه وسمَّه ثم أتى به إلى الهرمزان، فقال: كيف ترى هذا؟ قال: إنك لا تضرب به أحدًا إلا قتلته، وكان الهرمزان من قادة الفرس وقد أسره المسلمون في «تستر» وأتوا به إلى المدينة. فلما رأى سيدنا عمرَ سأل: «أين حرسه وحجابه؟» وقد سبق بيانه، قال له الصحابة أنه ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا ديوان. فقال «إذن ينبغي أن يكون نبيًّا» ثم أسلم وفرض له عمر ألفين وأنزله المدينة.

ورد في طبقات ابن سعد عَنْ نَافِعٍ قَالَ:

«رَأَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ السِّكِّينَ الَّتِي قُتِلَ بِهَا عُمَرُ فَقَالَ: رَأَيْتُ هَذِهِ أَمْس مَعَ الْهُرْمُزَانِ وَجُفَيْنَةَ فَقُلْتُ: مَاذا تَصْنَعَانِ بِهَذِهِ السِّكِّينِ؟ فَقَالا: نَقْطَعُ بِهَا اللَّحْمَ فَإِنَّا لا نَمَسُّ اللَّحْمَ. فَسأله عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: هل رَأَيْتَ هذه السكين مَعَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخَذَ عبيد الله سَيْفَهُ ثُمَّ أَتَاهُمَا فَقَتَلَهُمَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ فَأَتَاهُ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى قَتْلِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَهُمَا فِي ذِمَّتِنِا؟ فَأَخَذَ عُبَيْدُ اللَّهِ عُثْمَانَ فَصَرَعَهُ حَتَّى قَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَحَجَزُوهُ عَنْهُ. وَكَانَ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ تَقَلَّدَ السَّيْفَ فَعَزَمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يَضَعَهُ فَوَضَعَهُ». (2)

لا نعرف مدى مصداقية هذه الرواية التي أوردتها آنفًا، ولا نعرف مدى مصداقية ما ذُكر عن عثمان . ولكن حادث القتل هذا مذكور في مكان آخر أيضًا.

وقد ورد عن عبد الرحمن بن أبي بكر أنه قال حِينَ قُتِلَ عُمَرُ:

«قَدْ مَرَرْتُ عَلَى أَبِي لُؤْلُؤَةَ قَاتِلِ عُمَرَ وَمَعَهُ جُفَيْنَةُ والهرمزان وهم نجيٌ فَلَمَّا بَغَتُّهُمْ ثَارُوا فَسَقَطَ مِنْ بَيْنِهِمْ خِنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ وَنِصَابُهُ وَسَطُهُ. فَانْظُرُوا مَا الْخِنْجَرُ الَّذِي قُتِلَ بِهِ عُمَرُ. فَوَجَدُوهُ الْخِنْجَرَ الَّذِي نَعَتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ. فَانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ وَمَعَهُ السَّيْفُ حَتَّى دَعَا الْهُرْمُزَانَ فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِ قَالَ: انْطَلِقْ مَعِيَ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى فَرَسٍ لِي. وَتَأَخَّرَ عَنْهُ حَتَّى إِذَا مَضَى بَيْنَ يَدَيْهِ عَلاهُ بِالسَّيْفِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا وَجَدَ حَرَّ السَّيْفِ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَدَعَوْتُ جُفَيْنَةَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا مِنْ نَصَارَى الْحِيرَةِ. وَكَانَ ظِئْرًا لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لِلْصلحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَكَانَ يُعَلِّمُ الْكِتَابَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا عَلَوْتُهُ بِالسَّيْفِ صَلَّبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. ثُمَّ انْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَتَلَ ابْنَةً لأَبِي لُؤْلُؤَةَ صَغِيرَةً تَدَّعِي الإِسْلامَ. وَأَرَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنْ لا يَتْرُكَ سَبْيًا بِالْمَدِينَةِ إِلا قَتَلَهُ. فَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ عَلَيْهِ فَنَهَوْهُ وَتَوَعَّدُوهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ. وَعَرَّضَ بِبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ فَلَمْ يَزَلْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِهِ حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهِ السَّيْفَ. ثم أَتَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْسِ صَاحِبِهِ يَتَنَاصَيَانِ حَتَّى حُجِزَ بَيْنَهُمَا…»(3)

قتل عبيدُ الله الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة….

ذكرنا السبب الذي دفع أبا لؤلؤة إلى قتل عمر، والروايات عندنا تدل على أنها كانت مؤامرة لقتله دبّرها الهرمزان منتهزًا فرصة حقد أبي لؤلؤة على عمر، وكلاهما عجمي. ثم إن الهرمزان لما أُسر وأرسِل إلى المدينة أسلم مرغمًا خشية أن يقتله الخليفة. ففي رواية نافع المذكورة في طبقات ابن سعد أن عبد الرحمن رأى السكين التي قُتل بها عمر. وفي رواية سعيد بن المسيب المذكورة في الطبري أن عبد الرحمن بن أبي بكر رأى الخنجر سقط من بين أبي لؤلؤة والهرمزان وجفينة عندما باغتهم أثناء سيرهم. فلما سمع ذلك عبيد الله من عبد الرحمن انطلق في الحال وقتلهما ولم يكتفِ بذلك، بل قتل ابنة أبي لؤلؤة مدفوعًا بعامل الانتقام. ثم إن الخنجر الذي وصفه عبد الرحمن ينطبق على الخنجر الذي قُتل به عمر. لولا تسرُّع عبيد الله بقتل الهرمزان وجفينة لكان في الإمكان استدعاؤهما للتحقيق معهما وعندها كان سيظهر سر المؤامرة… لذلك كله نعتقد بأن هناك مؤامرة مدبَّرة وإنما الذي نفّذ قتل عمر هو أبو لؤلؤة. هذا ما يقول القائلون عن هذه المؤامرة.

هناك مؤرخ آخر للسيرة وهو الدكتور محمد حسين هيكل، يقول في تأليفه:

الحقيقة أن الفرس واليهود والنصارى كانت في نفوسهم نقمة، وأية نقمة، على العرب عامة وعلى عمر خاصة، بعد أن غلب المسلمون الفرس والنصارى على أمرهم، وتولوا حكم بلادهم، واضطروا عاهل الفرس إلى فرار انتهى به إلى شر مصير، وذكر الناس في أحاديثهم هذه النقمة، وذكروا قول عمر حين عرف أن الذي طعنه هو أبو لؤلؤة الفارسي: «قد كنت نهيتكم عن أن تجلبوا علينا من علوجهم أحدًا فعصيتموني!» وبالمدينة من هؤلاء العلوج جماعة أن يكونوا قليلين فهذه النقمة تجمع قلوبهم وتوغر صدورهم، ومن يدري! لعلهم ائتمروا فكانت فعلة فيروز ثمرة مؤامرة أرادوا بها شفاء ما في نفوسهم من غِلٍّ؛ وحسبوا أنهم قادرون بها على أن يشتتوا شمل العرب ويفتُّوا في عضد المسلمين.

ذكرنا السبب الذي دفع أبا لؤلؤة إلى قتل عمر، والروايات عندنا تدل على أنها كانت مؤامرة لقتله دبّرها الهرمزان منتهزًا فرصة حقد أبي لؤلؤة على عمر، وكلاهما عجمي. ثم إن الهرمزان لما أُسر وأرسِل إلى المدينة أسلم مرغمًا خشية أن يقتله الخليفة.

وكان أبناء عمر أشدَّ حرصًا على معرفة الحقيقة؛ وقد كانوا يستطيعون كشفها والوقوف على جلية أمرها لو أن فيروز لم ينتحر، لكنه انتحر، فذهب بسره إلى القبر معه، أفقُضِيَ الأمرُ، ولم يبقَ إلى معرفة السِّر سبيل؟

يتابع المؤرخ بشأن كشف هذه المؤامرة: كلا! بل أرادت الأقدار أن يقف على السر من قادة العرب من يدل عليه. رأى عبد الرحمن بن عوف السكين التي قُتل بها عمر فقال: رأيت هذه أمس مع الهُرْمُزان وجُفَيْنَة فقلت: ما تصنعان بهذه السكين؟ فقالا: نقطع بها اللحم، فإنا لا نمس اللحم. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: قد مررتُ على أبي لؤلؤة قاتلِ عمر ومعه جُفَيْنَة والهرمزان وهم نَجِيٌّ، فلما بَغَتهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ونِصَاب في وسطه، فانظروا ما الخنجر الذي قُتل به عمر، فوجدوه الخنجر الذي نعت عبد الرحمن بن أبي بكر. لم يبقَ إذن في الأمر ريبة، هذان شاهدَا عدلٍ، بل هما من أعدل شهود المسلمين، يشهدان بأن الهرمزان وجُفَيْنَة كان معهما السكين الذي قُتل به عمر، ويشهد أحدهما أنه رأى أبا لؤلؤة القاتل يأتمر قبل القتل معهما، ويقرران أن ذلك كله كان عشية طعن عمر، أفيستطيع أحد بعد ذلك أن يشك في أن أمير المؤمنين ذهب ضحية مؤامرة كان هؤلاء الثلاثة قد حاكوها، ولعل غيرهم من أبناء فارس أو من الأمم التي غلبها المسلمون كان معهم فيها؟

سمع عبيد الله بن عمر قول عبد الرحمن بن عَوْفٍ وشهادة عبد الرحمن بن أبي بكر فاصطبغ الوجود كله دمًّا أمام عينيه، ودخل في روعه أن كل أجنبي بالمدينة شريك في المؤامرة، وأن أيديهم جميعًا تقطر من دم الجريمة؛ لذلك لم يلبث أن تأبَّط سيفه، ثم بدأ بالهرمزان وجُفَيْنَة فقتلهما، رُوي أنه دعا الهرمزان، فلما خرج إليه قال له: انطلق معي حتى ننظر إلى فرس لي وتأخر عنه، حتى إذ مضى بين يديه علاه بالسيف، فلما وجد الفارسي حره قال: لا إله إلا الله! وخر صريعًا. ورُوي أن عبيد الله بن عمر قال: «ودعوت جُفَيْنَة، وكان نصرانيًّا من نصارى الحيرة، وكان ضِئرًا لسعد بن أبي وَقَّاصٍ أقدمه المدينة للملح الذي كان بينه وبينه، وكان يُعَلِّم الكتاب بالمدينة فلما علوته بالسيف صلَّبَ بين عينيه… ولم يكن إخوة عبيد الله دونه ثورة لمقتل أبيهم، وكانت حفصة أم المؤمنين من أشدهم ثورة. (على أية حال ما فعله عبيد الله غير جائز شرعًا) فما كان لرجل أن يثأر لنفسه، أو يأخذ حقه بيده بعد أن أصبح القضاء لرسول الله وخلفائه من بعده؛ يحكمون بين الناس بالعدل، ويتولون القِصَاص ممن أجرم؛ لذلك كان حقًّا على عبيد الله إذ عرف المؤامرة التي أودت بحياة أبيه، أن يحتكم إلى أمير المؤمنين؛ فإن ثبتت المؤامرة عنده أجرى فيها حكم القِصَاص وإن لم تثبت أو قامت الشبهة في نفسه منها درأ الحد بالشبهة، أو قضى بأن أبا لؤلؤة هو الآثم. (4)

باختصار، ما فعله عبيد الله لم يكن من حقه شرعًا. لا يُستبعد أن يكون هذا القتل مؤامرة مخططة ولكن كانت الظروف لم تسمح لحضرة عثمان أن يحقق، ومهما يكن الأمر فإن المؤرخين الأوائل ساكتون عنه إلا أن بعض المؤرخين المعاصرين يناقشون هذا الأمر في ضوء القرائن وفي دلائلهم وزن لأن هؤلاء المتآمرين لم ينتهوا إلى هنا، بل تعرض حضرة عثمان أيضًا لمؤامرة مماثلة، مما يدعم الرأي القائل بأن عمر استُشهد نتيجة مؤامرة العناصر الخارجية لمنع رقي الإسلام المتزايد وغلبته مدفوعين بنار الانتقام. والله أعلم بالصواب.

استخلاف عمر

ورد في صحيح مسلم

عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «حَضَرْتُ أَبِي حِينَ أُصِيبَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، فَقَالَ: رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ، قَالُوا: اسْتَخْلِفْ فَقَالَ: أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا؟ لَوَدِدْتُ أَنَّ حَظِّي مِنْهَا الْكَفَافُ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، فَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللهِ ، (لأنه لم يستخلف) قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ». (5)

وهناك رواية أخرى لصحيح مسلم نفسه

عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَتْ: أَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَاكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ؟ قَالَ: قُلْتُ مَا كَانَ لِيَفْعَلَ، قَالَتْ: إِنَّهُ فَاعِلٌ، قَالَ: فَحَلَفْتُ أَنِّي أُكَلِّمُهُ فِي ذَلِكَ، فَسَكَتُّ حَتَّى غَدَوْتُ وَلَمْ أُكَلِّمْهُ، قَالَ: فَكُنْتُ كَأَنَّمَا أَحْمِلُ بِيَمِينِي جَبَلًا حَتَّى رَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْ حَالِ النَّاسِ وَأَنَا أُخْبِرُهُ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ إِنِّي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ مَقَالَةً فَآلَيْتُ أَنْ أَقُولَهَا لَكَ زَعَمُوا أَنَّكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ، وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَ رَاعِي إِبِلٍ أَوْ رَاعِي غَنَمٍ ثُمَّ جَاءَكَ وَتَرَكَهَا رَأَيْتَ أَنْ قَدْ ضَيَّعَ فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ، قَالَ: فَوَافَقَهُ قَوْلِي فَوَضَعَ رَأْسَهُ سَاعَةً ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيَّ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْفَظُ دِينَهُ. وَإِنِّي لَئِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ اسْتَخْلَفَ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ وَأَبَا بَكْرٍ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْدِلَ بِرَسُولِ اللهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ».(6)

تحقق وعد تبديل الخوف أمنًا

عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: «لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ جَعَلَ يَأْلَمُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَأَنَّهُ يُجَزِّعُهُ يَا أَمِيرَ  الْمُؤْمِنِينَ وَلَئِنْ كَانَ ذَاكَ لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللهِ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ. ثُمَّ صَحِبْتَ صَحَبَتَهُمْ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ، وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ. قَالَ عمر : أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِن اللَّهِ تَعَالَى مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِن اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي فَهُوَ ليس من أجلي بل هو مِنْ أَجْلِكَ وَأَجْلِ أَصْحَابِكَ. وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ.» (7)

 وقال حضرة المصلح الموعود في تفسير قول الله تعالى

وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا :

لم تحلّ على الخلفاء مصيبة خافوها، وإذا حلّت بهم بالفعل مصيبة خافوا فإن الله تعالى كشفها عنهم. لا شكّ أن عمر قد استُشهد، ولكن واقع الأمر يكشف لنا أنه لم يكن يخاف الشهادة، بل كان يدعو الله تعالى دائمًا: «اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك، وموتًا في بلد رسولك». فإذا استُشهد من كان يدعو الله تعالى طوال عمره بأن يُستشهَد في المدينة المنورة، فكيف نقول عنه حين استُشهد أنه جاء عليه وقت من الخوف ولكن الله تعالى لم يبدّل خوفه أمنًا؟!(8)

لا شك أن عمر لو خاف الشهادة ثم استُشهد لجاز لأحدٍ القول بأن الله لم يبدل خوفه أمنًا، ولكنه ما دام يدعو الله تعالى أن يكتب له الشهادة في المدينة المنورة، فكيف يُقال أنه كان يخاف الشهادة؟! وما دام عمر غير خائف من الشهادة، بل كان يدعو لها حتى استجاب الله له دعاءه، فثبت أنه لم يأت عليه خوف يستشعره في قلبه ثم لم يدفعه الله عنه بحسب وعده في هذه الآية. وكما قلت إن هذه الآية إنما تقول إن ما يخافه الخلفاء لا يمكن أن يقع أبدًا، لأن الله تعالى قد وعدهم بأنه لا بد أن يبدل خوفهم أمنًا. فإذا كانوا لا يخافون أمرًا، بل كانوا يرون فيه عزّتهم ورفع درجاتهم، فلا يصحّ أن يعتبره أحد خوفًا لهم، ثم يقول لماذا لم يبدّل الله تعالى خوفهم أمنًا؟!

ثم يقول حضرته : عندما قرأت دعاء سيدنا عمر هذا قلت في نفسي إن دعاءه هذا كان يعني في الظاهر أن يشنّ الأعداء على المدينة هجومًا عنيفًا يقضي على جميع المسلمين فيخلص الأعداء إلى عمر ويقتلوه. ولكن الله تعالى استجاب دعاء سيدنا عمر من جهة، ومن جهة أخرى قد هيأ الأسباب لحماية شرف الإسلام وعزّته أيضًا، فبدلاً من أن يهاجم عدو من الخارج قام أحد الخبثاء من داخل المدينة نفسها وقتل سيدنا عمر غيلةً بالخنجر.

استشهاد عمر يلقي ضوءًا على ريادة الإسلام في تحرير العبيد

وفي سياق الحديث عن أحكام الإسلام لتحرير العبيد ذكر حضرة المصلح الموعود واقعة استشهاد سيدنا عمر وسبب شهادته فقال: أولاً أمرَ الإسلامُ بتحرير العبيد مَنًّا بغير فديةٍ، ثمّ قال إن لم تستطيعوا ذلك فحرّروهم بالفدية، فإنْ بقي بعد ذلك أحد لا يستطيع دفع الفدية بنفسه ولا ترغب دولتُه التي ينتمي إليها في تحريره، ولا يبالي به أحدٌ من أقاربه لفكّ رقبته، فله أن يطالبكم بالمكاتبة أي يطالبكم بفكّ رقبته نظير مال يدفعه بالأقساط، أي يمكن لذلك الأسير أن يحدد نظير حريته أقساطًا من المال يدفعها فديةً عنه، وهذا معناه ضمنًا أن كل ما يكسبه هذا العبد من مال سيكون مِلْكًا له سوى القسط الذي يدفعه لسيده، ويكون في أثناء ذلك حرًّا تمام الحريّة من الناحية العَملية.

ولم يكن الذي قتل سيدنا عمر إلا عبدًا مُكاتِبًا. فذات يوم طالبَ ذلك العبد سيدَه المسلم بالمكاتبة قائلًا إني قادر على دفع فدية تحددها مقابل حريتي وسوف أدفعها كلها بالأقساط الشهرية. فجعل عليه سيده قسطًا يسيرًا يدفعه له، فظل يدفعه له. ولكنه شكا مرةً إلى سيدنا عمر وقال: إن سيّدي قد جعل علي قسطًا ثقيلًا فخفِّفْه عني. فتحرّى سيدنا عمر الأمر، فوجد أنّ القسط الذي يدفع أقلّ بالمقارنة إلى دخله بأضعافٍ كثيرة، فقال له إنّ قسطك أقلّ ما يمكن إزاء دخلك، فلا يمكن تخفيفه. فغضب العبد على هذا القرار غضبًا شديدًا، وظنّ أنّ عمر حكم بذلك لأنّه فارسيٌّ ولأن سيده عربيّ، فجُنّ جنونه من الغضب، فاغتال سيدنا عمر في اليوم التالي بالخنجر حتى استُشهد متأثرًا بجراحه.

وأضاف حضرة المصلح الموعود وقال: هناك أمرانِ اثنان يحيدان بالمرء عن الحق: الغضب الشديد أو الحب الشديد. وينشأ الغضب الشديد من حادث بسيط جدًّا أحيانًا. انظروا إلى زمن سيدنا عمر إذ كيف اشتد غضب رجلٍ نتيجة حادث بسيط، فألحقَ بالعالم الإسلامي ضررًا فادحا جدًّا، وعندي أن التأثير السيئ لذلك الحادث لا يزال جاريا حتى اليوم. ففي عهد سيدنا عمر رُفعت إليه قضية بأن عبدًا مكاتبًا يكسب كثيرًا ولكنه يدفع لسيده قليلًا. فدعا سيدنا عمر العبدَ وقال له عليك أن تدفع لسيدك أكثر مما تدفع. وفي تلك الأيام كان أهل الحِرف قليلين، وكان الحدادون والنجارون لهم شأنٌ كبير. وكان ذلك العبد يصنع الرحي لطحن الغلال، وكان يكسب بذلك مالًا لا بأس به. فأمره سيدنا عمر أن يدفع لسيده ما قيمته ثلاث آنات. والمعروف أن ثلاث آنات مبلغ بسيط جدًّا، ولكن ذلك العبد ظنَّ أن سيدنا عمر قد أخطأ في الحكم، فتولد في قلبه البغض وبدأ يزداد. وذات مرة قال له سيدنا عمر اصنع لي أيضًا رحى. فقال سوف أصنع لك رحى ستعمل أيما عمل. فسمعه شخص فقال إن هذا يهدد سيدنا عمر. (يبدو من الرواية السابقة أن هذه القصة تتحدث عن نفس الموقف. ومع أن كلمات هذه الرواية لا تقول أن سيدنا عمر بنفسه قال إن هذا يهددني، غير أن الرواية الأولى تقول ذلك) ثم بينما كان سيدنا عمر يصلي ذات يوم قتله هذا العبد بالخنجر.

ثم كتب حضرة المصلح الموعود: فسيدنا عمر الذي كان ملكًا على ملايين الناس، وكان حاكمًا على مملكة مترامية الأطراف، وكان مِن خير قادة المسلمين، لم يقتله هذا العبد إلا من أجل ثلاث آنات فقط. ولكن الواقع أن الشخص المطبوع على الحقد والبعض لا يبالي ما إذا كانت آنتين ثلاث، فلن يشفي غليله سوى انتقامه. لا يهمهم سوى تحقيق رغبتهم النابعة عن بغضهم، ولا يرون في هذه الحالة ما ستؤدي إليه تصرفاتهم سواء لأنفسهم أو لغيرهم. فلما سُئل قاتلُ عمر لماذا أقبل على مثل هذه الفعلة الشنيعة قال: لقد أُصدر القرار ضدي وانتقمت من جرائه.

استشهاد عمر ( ) ودرس في تأمين جماعة المؤمنين

ما يزال لهذه الحادثة تأثير في الإسلام، وهو أنه يمكن أن يموت الإنسان في أي وقت، ولكن لا يخطر ببال أحد أنه سيموت عندما يكون في أوج قوته، ولكن عندما تضعف القوى وتتدهور الصحة، تبدأ عقول الناس تلقائيًا في التفكير في الترتيبات المستقبلية. لا يتكلم الناس فيما بينهم عن هذه الأمور غير أن تيارًا تلقائيًا يسري بينهم ويحضهم على التفكير في الترتيبات المستقبلية، وبسبب هذا التيار نفسه ينتبه الناس لهذا الأمر عندما يموت الإمام.

كانت صحة عمر على أشدها، ومع أنه كان قد بلغ من العمر 63 عامًا غير أنه لم يكن في بال الصحابة أن فراقه وشيك، وبالتالي لم يكونوا يعلمون شيئًا عن أي ترتيب في المستقبل، وبينما كانوا كذلك إذ حلت بهم فجأة مصيبة مقتل عمر ، ولم تكن الجماعة جاهزةً لقبول أي إمام آخر. وكانت نتيجة عدم استعدادهم من أجل المستقبل أنهم لم يتعلقوا بعثمان كما ينبغي، وبالتالي أصبحت حالة الإسلام حرجة للغاية وأصبحت أكثر خطورة في زمن علي. ويرى المصلح الموعود أنه يمكن أن يكون هذا أيضًا أحد الأسباب المؤدية إلى الفساد الحاصل فيما بعد.

لقد قال المصلح الموعود إنه ينبغي أن يقوم بضعة أفراد بالحراسة عند أداء الصلاة جماعة وقت الفتنة. وذكر بهذا الصدد واقعة استشهاد عمر فقال: لقد أمر القرآن صراحة أنه ينبغي أن تقوم طائفة من المسلمين بالحراسة. لا شك أن هذا الأمر الإلهي يخص وقت الحرب عندما تكون حاجة ماسة لحراسة جماعة كبيرة، ولكن يمكن الاستدلال منه أنه لا مانع في تعيين بضعة أشخاص لمنع فتنة صغيرة، بل هو ضروري. ولكن كيف يمكن أن يتم ذلك؟ يقول حضرته: إن كان إقامة خمسمائة جندي للحراسة من مجموعة ألف جندي مسموحًا بها أثناء الحرب، أفلا يُسمح بإقامة خمسة أو عشرة أشخاص للحراسة من مجموعة الألف عند خطر عادي؟ أما القول بأن الخطر الآن ليس مؤكدًا فهو تافه. ماذا حصل مع عمر ؟ كان يصلي والمسلمون يصلون معه إذ حسب أحد الأوغاد أنه الوقت المناسب للمهاجمة فتقدّم وهجم عليه بالخنجر. وإن قال أحد بعد هذه الواقعة أن الحراسة تخالف مبدأ الصلاة وقدسيتها فلا يُظهر بقوله هذا إلا حمقه، ومثله كمثل الغبي الذي اشترك في الحرب وأصيب فيها بسهم العدو، فأخذ دمه ينزف، فهرب من ميدان الحرب يمسح دمه ويقول: اللهم فلتكن إصابتي بالسهم حلمًا وليست حقيقة. ولقد ثبت من التاريخ أيضًا أن الصحابة في إحدى المرات لم يهتموا بحراستهم وبالتالي تحملوا معاناة كثيرة. فلما فتح عمرو بن العاص مصر، فإنه بعد فتح تلك المناطق ما كان يقيم الحرس عند إقامة الصلاة، فلما رأى الأعداء أن المسلمين يغفلون عن أمنهم وحراستهم في هذه الحالة قرروا یومًا إرسال بضع مئات من المسلحين حين كان المسلمون سجودًا أثناء الصلاة، فأخذ هؤلاء المسلحون يقطعون رؤوس المسلمين، وثبت من التاريخ أن مئات الصحابة قُتلوا أو جُرحوا ذلك اليوم. كان الواحد منهم يسقط تلو الآخر على الأرض دون أن يدرك قرينه ماذا يحدث، وهكذا لقد تعرض الجيش لضرر كبير. فلما علم عمر غضب فقال: ألم تعلموا أنه ينبغي أن تأخذوا أسباب الحراسة. ولكن لم يكن عمر يدري أن الأمر نفسه سيحدث معه في المدينة. وبعد هذه الواقعة دأب الصحابة على اتخاذ الحراسة عند أداء الصلاة.

قصة دار القضاء، ودرس قائم في النزاهة

لقد ذُكر

عن قرض عمر سابقًا أنه سأل عنه ثم أوصى ابنه بأدائه، ولقد ورد مزيدًا عن ذلك أنه قَالَ لابنه عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ: انْظُرْ كَمْ عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ. قَالَ فَحَسَبَهُ فَوَجَدَهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ وَفَى لَهَا مَالُ آلِ عُمَرَ فَأَدِّهَا عَنِّي مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ فَاسْأَلْ فِيهَا بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ. فَإِنْ لَمْ تَفِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَاسْأَلْ فِيهَا قُرَيْشًا وَلا تَعْدُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ.

كان الصحابة يعرفون أنه لا يمكن أن يكون إمامهم الذي يعيش حياة بسيطة قد أنفق كل هذه المبالغ على نفسه، بل كانوا يعلمون أنه لابد قد أنفقها على ذوي الحاجة والفقراء مما أدى إلى تراكم هذا القدر من القرض عليه.

لذلك قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَلا تَسْتَقْرِضَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى تُؤَدِّيَهَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ تَقُولَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ بَعْدِي أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ تَرَكْنَا نَصِيبِنَا لِعُمَرَ فَتَعِزُّونِي بِذَلِكَ فَتَتْبَعَنِي تَبِعَتُهُ وَأَقَعُ فِي أَمْرٍ لا يُنْجِينِي إِلا الْمَخْرَجُ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: اضْمَنْهَا. فَضَمِنَهَا. قَالَ فَلَمْ يُدْفَنْ عُمَرُ حَتَّى أَشْهَدَ بِهَا ابْنَ عُمَرَ عَلَى نَفْسِهِ أَهْلَ الشُّورَى وَعِدَّةً مِنَ الأَنْصَارِ. وَمَا مَضَتْ جُمُعَةٌ بَعْدَ أَنْ دُفِنَ عُمَرُ حَتَّى حَمَلَ ابْنُ عُمَرَ الْمَالَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَأَحْضَرَ الشُّهُودَ عَلَى الْبَرَاءَةِ بِدَفْعِ الْمَالِ.

وهناك رواية أخرى وردت في كتاب وفاء الوفاء وجاء فيها عن ابن عمر أنه لما حان وقت وفاة عمر وكان عليه قرض، دعا عبد الله وحفصة فقال: إني قد أصبت من مال الله شيئًا، وأنا أحب أن ألقى الله وليس في عنقي منه شيء، فبيعا فيه داري حتى تقضياه، فإن عجز عنه مالي فسلا فيه بني عدي، فإن بلغ وإلا فلا تعدوا قريشًا، فخرج عبد الله بن عمر إلى معاوية، فباع منه دار عمر التي يُقال لها دار القضاء، فقضى دينه؛ فكان يقال لهذه الدار: «دار قضاء دين عمر».

هذا الذكر مستمر وسأتناوله لاحقًا أيضًا إن شاء الله.

الهوامش:

1.انظر: تاريخ و سيرة و مناقب امير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب، لمحمد رضا، نقلا عن البداية والنهاية، ابن كثير

  1. الطبقات الكبرى، ابن سعد
  2. المرجع السابق
  3. انظر: (الفاروق عمر ، محمد حسين هيكل)
  4. (صحيح مسلم، كتاب الإمارة)
  5. (صحيح مسلم، كتاب الإمارة)
  6. (صحيح البخاري، كتاب المناقب)
  7. (مرزا بشير الدين محمود أحمد، التفسير الكبير، المجلد السادس، تفسير سورة النور)
Share via
تابعونا على الفايس بوك