سيدنا عمر بن الخطاب وإصلاحاته الاقتصادية غير المسبوقة
التاريخ: 2021-07-02

سيدنا عمر بن الخطاب وإصلاحاته الاقتصادية غير المسبوقة

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • كيف كان تعامله مع الأرض التي ينتفع بها الغير؟
  • ما موقفه من اتخاذ العبيد؟
  • بم اتصفت إدارته وقت الأزمات؟
  • ما قصة تأسيس نظام الشورى في عهده؟

__

خطبة  الجمعة التي ألقاها سيدنا مرزا مسرور أحمد

أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام

بتاريخ 2/7/2021م  في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا

 

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم *  الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين، آمين.

تعامله مع الأرض التي ينتفع بها الآخرون

في هذه الأيام أذكر سيدنا عمر وسأواصل الحديث اليوم أيضًا حضرته. يقول سيدنا المصلح الموعود : جاء في رواية عن عمر أنه عندما أجلى اليهود والنصارى من اليمن بحسب أمر رسول الله ، اشترى أراضيهم.

يتابع حضرته قائلًا: الأراضي في اليمن التي كانت تحت تصرف اليهود والنصارى، كانت من نوع يدفع عليها صاحبها الخراج. ولكن عمر استعادها من اليهود والنصارى وأجلاهم من جزيرة العرب. مع أن تلك الأراضي كانت من نوع يُفرض عليها الخراج، وكانت الحكومة تملكها من حيث المبدأ، لكن عمر لم يغصب تلك الأراضي من اليهود والنصارى بل اشتراها منهم. فقد ورد في فتح الباري، شرح صحيح البخاري حديث:

عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّ عُمَر أَجْلَى أَهْل نَجْرَان وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَاشْتَرَى بَيَاض أَرْضهمْ وَكُرُومَهمْ.

من الواضح أن أراضي اليهود لم تكن من نوع يُفرض عليها العُشر، لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت مِلك أحد من المسلمين، ولما كان هناك مجال لشرائها من اليهود. فهذا يعني أنها كانت بالتأكيد من نوع يُدفع عليها الخراج، كما تُعدُّ الأراضي في الهند من النوع نفسه.

إذن، عدّ سيدنا عمر تلك الأراضي من نوع يُدفع عليها الخراج وعدّها مِلكًا للحكومة ومع ذلك لم يصادرها بل اشتراها منهم. لعل قائلًا يقول هنا إن تلك الأراضي قد لا تكون من نوع يُفرض عليها الخراج أو العُشر بل كانت من نوع آخر، ولكن هذا قول سخيف ودال على عدم الاطلاع على شريعة الإسلام؛ لأن الأراضي في الإسلام تصنَّف إلى ما يُدفع عليها الخراج أو العُشر، اللّهم إلا إذا كانت أرضًا متروكة ليست ملكًا لأحد. فلا بد أن تكون أراضي اليهود والنصارى ومشركي أهل نجران من أحد هذين الصنفين مما يُدفع عليها إما الخراج أو العُشر، وفي كل الأحوال عدّ عمر تلك الأراضي مِلك من كانت تحت تصرفهم، وبناء على ذلك اشتراها منهم.

موقفه من اتخاذ العبيد

ثم يقول سيدنا المصلح الموعود في بيان منع اتخاذ العبيد في الإسلام إلا أسرى الحروب:

يقول الله تعالى:

تُرِيْدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ

أي: هل تريدون أنتم أيضًا أيها المسلمون مثل الأقوام الأخرى أن تزيدوا من قوتكم بالبطش بأفراد قوم آخرين، ولكن الله تعالى لا يريد أن تتبعوا أناسًا آخرين بل يريد أن تعملوا بما هو خير لكم ويجعلكم مستحقين لرضا الله تعالى في الآخرة. وخير لكم لنيل مرضاة الله تعالى ومن حيث العاقبة ألا تحبسوا أحدًا إلا الأسرى الذين بطشتم بهم في الحرب. فهذا يعني أن اتخاذ أي نوع من الأسرى سوى أسرى الحرب ليس مسموحًا في الإسلام مطلقًا. وفي صدر الإسلام كان هذا الأمر يُنفَّذ بكل دقة واهتمام. وفي عهد عمر جاءه وفد أهل اليمن وشكوا إليه أن النصارى اتخذوهم عبيدًا بغير حرب وسبب معقول، بينما كانوا قبائل حرة وطلبوا منه أن يحررهم من العبودية. قال عمر : تاريخ هذا الحادث يعود إلى ما قبل الإسلام ولكنني مع ذلك سأبحث في الموضوع وإن ثبتت صحة قولكم فسوف أحرركم فورًا.

يقارن سيدنا المصلح الموعود بين قوانين أوروبا الحالية وبين تعليم الإسلام الذي عمل به عمر وطمأن أصحاب الشكوى بشأن شكواهم. أما ما حدث في أوروبا هو أن أهلها ظلوا يستعبدون الناس إلى بداية القرن التاسع عشر لتزدهر تجارتهم وزراعتهم. مما لا شك فيه أنه يمكن العثور في تاريخ الإسلام على عبودية غير إسلامية ومع ذلك لا يُعثر في أي مكان على تقدم التجارة أو الصناعة على مستوى الدولة بواسطة العبيد. هذه الفكرة ليست موجودة في الإسلام أصلًا.

إدارته وقت الأزمات .. القحط نموذجا

وقد حل ذات مرة في عهد عمر قحط شديد في المدينة وما حولها إلى درجة أنه كلما هبّت الريح كانت تسفي ترابًا كالرماد، وسميت عام الرمادة. وفي رواية عن الحارث بن عوف عن أبيه أن هذا العام سُمي عام الرمادة لأن الأرض اسودت من قلة المطر حتى عاد لونها شبيها بالرماد وبقيت الحال على هذا المنوال إلى تسعة أشهر.

وفي رواية عن حزام بن هشام عن أبيه قال: لما صدر الناس عن الحج سنة ثماني عشرة أصاب الناس جهد شديد وأجدبت البلاد وهلكت الماشية وجاع الناس وهلكوا حتى كان الناس يرون يستفون الرمة ويحفرون نفق اليرابيع والجرذان يخرجون ما فيها.

عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص عام الرمادة:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْعَاصِي ابْنِ الْعَاصِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ ، أَمَّا بَعْدُ، أَفَتَرَانِي هَالِكًا وَمَنْ قِبَلِي وَتَعِيشُ أَنْتَ وَمَنْ قِبَلَكَ؟ فَيَا غَوْثَاهُ، ثَلَاثًا قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، أَتَاكَ الْغَوْثُ فَلَبِّثْ لَبِّثْ، لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكَ بِعِيرٍ أَوَّلُهَا عِنْدَكَ وَآخِرُهَا عِنْدِي.

(كان عمرو بن العاص والي مصر قد أرسل ألف بعير مع الغلال والسمنة والأقمشة، وأرسل سعد والي العراق ثلاثة آلاف بعير مع الغلال والسمنة والأقمشة، كما أرسل معاوية والي الشام ألفَي بعير مع الغلال والسمنة والأقمشة)

قال فلما قدم أول الطعام كلم عمر بن الخطاب الزبير بن العوام فقال له: تعترض للعير فتميلها إلى أهل البادية فتقسمها بينهم، فوالله لعلك ألا تكون أصبت بعد صحبتك رسول الله شيئًا أفضل منه… فأما الظروف فاجعلها لحفا يلبسونها وأما الإبل فانحرها لهم يأكلون من لحومها ويحملون من ودكها ولا تنتظر أن يقولوا ننتظر بها الحيا، وأما الدقيق فيصطنعون ويحرزون حتى يأتي أمر الله لهم بالفرج. وكان عمر يصنع الطعام وينادي مناديه: من أحب أن يحضر طعامًا ليأكل فليفعل، ومن أحب أن يأخذ ما يكفيه وأهله فليأت فليأخذه…فكان عمر يطعم الناس الثريد، الخبز يأدمه بالزيت قد أفير من الفور في القدور وينحر بين الأيام الجزور فيجعلها على الثريد، وكان عمر يأكل مع القوم كما يأكلون.

ما حدث في أوروبا هو أن أهلها ظلوا يستعبدون الناس إلى بداية القرن التاسع عشر لتزدهر تجارتهم وزراعتهم. مما لا شك فيه أنه يمكن العثور في تاريخ الإسلام على عبودية غير إسلامية ومع ذلك لا يُعثر في أي مكان على تقدم التجارة أو الصناعة على مستوى الدولة بواسطة العبيد. هذه الفكرة ليست موجودة في الإسلام أصلًا.

وفي رواية عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده قال: كان عمر يصوم الدهر. قال فكان زمان الرمادة إذا أمسى أتي بخبز قد ثرد بالزيت إلى أن نحروا يومًا من الأيام جزورا فأطعمها الناس، وغرفوا له طيبها فأتي به فإذا قدر من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين من الجزور التي نحرنا اليوم، قال: بخ بخ بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها، ارفع هذه الجفنة، هات لنا غير هذا الطعام. قال فأتي بخبز وزيت قال: فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز ثم قال: ويحك يا يرفا! احمل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بثمغ (هو بستان النخيل قرب المدينة وكان يملكه عمر ، ولكنه كان قد وقفه)، فقال: إني لم آتهم منذ ثلاثة أيام، وأحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم.

عن ابن عمر قال: كان عمر بن الخطاب أحدث في زمان الرمادة أمرًا ما كان يفعله. لقد كان يصلي بالناس بالعشاء، ثم يخرج متى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل. ثم يخرج فيأتي الأنقاب فيطوف عليه. وإني لأسمعه ليلةً في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي.

عن محمد بن يحيى بن حبان أنه قُدّم لسيدنا عمر في أيام القحط خبز مثرّد في الشحم، فدعا إليه بدويًا، فجلس يأكل معه ، ويأخذ الشحم من أطراف القصعة بسرعة. فقال له عمر: تأكل كأنك لم تأكل الشحم قط. فأجاب: نعم، لم آكل السمن والزيتون منذ أيام، كما لم أر أحدًا يأكلهما. فأقسم عمر أنه لن يذوق اللحم والسمن إلى أن يصبح الناس في رخاء ثانية.

وعن ابن طاووس عن أبيه أن سيدنا عمر لم يذق اللحم والسمن إلى أن صار الناس في رخاء. وأصاب الناس سنة غلا فيها السمن وكان عمر يأكل الزيت فيقرقر بطنه فيقول قرقر ما شئت فوالله لا تأكل السمن حتى يأكله الناس.

وعن عياض بن الخليفة قال إني رأيت عمر أيام القحط قد صار أسود اللون، مع أنه كان أبيض البشرة. فقلنا كيف حصل هذا. قال الراوي: كان عمر رجلاً من العرب يتناول السمن والحليب، ولكن عندما حل القحط حرّم على نفسه هذه الأطعمة إلى أن يعود الرخاء للناس. فبدأ يأكل بالزيت، فتغير لونه، ثم من كثرة الجوع تغير أكثر.

وحدّث أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدّه، قال: كنّا نقول: لو لم يرفع الله المحل عام الرّمادة لظننّا أن عمر يموت همًّا بأمر المسلمين.

وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لمــّا كان عام الرّمادة تحلّبت العرب من كلّ ناحية، فقدموا المدينةَ، فكان عمر بن الخطّاب قد أمر الصحابة يقومون عليهم في أطراف المدينة ويخدمونهم، ويقسمون عليهم أطعمتهم وإدامهم. فكانوا إذا أمسوا اجتمعوا عند عمر، فيخبروه بكلّ ما كانوا فيه، وكان الأعراب قد اجتمعوا في مختلف أنحاء المدينة. فسمعتُ عمر يقول ليلةً وقد تعشّى النّاس عنده: أحصوا مَن يتعشّى عندنا؛ فأحصوهم فوجدوهم سبعة آلاف رجل. وقال: أحصوا العيالات الذين لا يأتون، والمرضى والصبيان؛ فأحصوهم، فوجدوهم أربعين ألفًا.

ثم مكثنا ليالي فزاد النّاس، فأحصوا، فوجدوا مَن تعشى عنده عشرة آلاف، والآخرين خمسين ألفًا. فما برحوا حتى أرسل الله السّماء. فلمّا مطرتْ رأيتُ عمر قد وكّل كلَّ قوم من هؤلاء النّفر بناحيتهم، يُخرجونهم إلى البادية، ويُعطونهم قوتًا وحملانًا إلى باديتهم، ولقد رأيت عمر يُخرجهم هو بنفسه. (أي كان الناس قد اجتمعوا حول المدينة من شتى الأماكن فرارًا من الجوع، فكان الطعام يقدَّم لهم، فلما تحسنت الظروف بنزول الغيث وصلحت الأرض للزراعة، أمرهم سيدنا عمر أن ارجعوا إلى دياركم واعملوا في أراضيكم وعمروها ثانية)

وورد في تاريخ الطبري عن انتهاء هذا القحط أن رجلاً رأى في المنام أن النبي يحث على الدعاء. فنادى عمر في الناس بأداء صلاة الاستسقاء. وقال عمر : إذا بلغت البلاء مدته وذروته انكشف إن شاء الله تعالى، وما أُذن لقوم في الطلب إلا وقد رُفع عنهم البلاء. فكتب عمر إلى أمراء الأمصار: أغيثوا أهل المدينة ومَن حولها بصلاة الاستسقاء فإنه قد بلغ جهدهم. وأخرج عمر المسلمين إلى العراء لصلاة الاستسقاء، فخرج وخرج معه العباس ماشيًا، فخطب فأوجز، ثم صلّى ثم جثا لركبتيه وقال: اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم اغفر لنا وارحمنا وارض عنا. ثم انصرف فما بلغوا المنزل راجعين حتى تحولت الميادين غُدْرانا.

وفي رواية

أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ كانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بالعَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، فقالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وإنَّا نَتَوَسَّلُ إليكَ بعَمِّ نَبِيِّنَا فاسْقِنَا، قالَ: فيُسْقَوْنَ.

 

صيانته مسجد النبي

كان الناس في أول أمرهم يصلُّون على أرضية المسجد النبوي أو بلاطه بدون حصير، فكان التراب يصيب جباههم وقت السجود، ثم فيما بعد كان هناك رواج للحصير. وهناك رواية عن عبد الله بن عبد الله بن إبراهيم تبين متى بدأ الناس يصلّون على الحصير، قال: أول من ألقى الحصير في مسجد رسول الله عمرُ بن الخطاب. وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نفضوا أيديهم، فأمر عمر بالحصير، فجيء به من العقيق فبسط في مسجد النبي .

والعقيق وادٍ كبير يبدأ من جنوب غرب المدينة ويمتد إلى حوالي مئة وخمسين كيلومترا إلى شمال غربها.

في عهد سيدنا عمر وُسّع في المسجد النبوي في العام السابع عشر الهجري، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ  مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصدیق شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا.

لقد أكمل سيدنا عمر تجديد بناء المسجد النبوي تحت إشرافه في 17 من الهجرة. وبعد هذه التوسعة صارت مساحة المسجد مائة ذراع مربع، أي زادت المساحة من خمسين مترا تقريبا إلى مائة وسبعين مترا في ستين مترا تقريبًا.

تبين هذه الرواية أن المسجد النبوي في عهد سيدنا أبي بكر ظل كما كان على عهد رسول الله ، أما في عهد عمر فقد زيد فيه زيادة كبيرة.

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري: أَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ النبوي، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ النَّاسَ بالتزيين.

وقد اقتصد عمر في الإنفاق على بناء المسجد النبوي، وبناه على ما كان عليه في عهد رسول الله . وعند توسيعه اضطُرّ إلى إلحاق البيوت المجاورة له من ناحية الشمال والجنوب والجنوب الغربي، فوهب بعض هؤلاء بيوتهم وأرضهم للمسجد برضاهم ورغبتهم، وأقنع عمر بعضَهم الآخرين بالتفاوض وترغيبهم في المال، وهكذا ضم بعض الأراضي إلى المسجد بعد شرائها من أصحابها.

لكن المبدأ القائل بأن توفير الطعام واللباس لكل مواطن في مرحلتَي الشباب والشيخوخة هي مسؤولية الحكومة فلم يقدمه أي دين آخر قبل الإسلام. يكون الهدف من إحصاء الحكومات المادية فرض الضرائب وجمع المعلومات لمعرفة كم يتوفر من الشباب للجيش عندما تدعو الحاجة. أما أول إحصاء في الحكومة الإسلامية الذي ظهر في عهد سيدنا عمر فكان الهدف منه توفير الطعام واللباس لجميع المواطنين وليس جباية الضرائب ولا معرفة كم من الشباب يمكن أن يتوفروا عند الحاجة. كلا بل كان الهدف من ذلك الإحصاء توفير الطعام واللباس لكل مواطن. صحيح أن إحصاءً حصل في عهد النبي أيضا، لكن في ذلك الوقت لم تكن حكومةٌ إسلامية، لذا كان الهدف من ذلك الإحصاء معرفة عدد المسلمين فقط. أما الإحصاء الأول في الحكومة الإسلامية فكان في عهد سيدنا عمر وكان الهدف منه توفير الطعام واللباس لكل مواطن.

أول إجراء لإحصاء السكان في الإسلام

لقد بدأ إجراء الإحصاء السكاني في عهد عمر أو أنه هو من أجرى ذلك، كما أقام عمر نظام التموين من أجل توفير الغذاء للناس. كتب المصلح الموعود عن كيفية إدارة الحكومة الإسلامية ونظامها في عهد عمر، وعن التغييرات التي أحدثها والأمور الجديدة التي بدأ بها في الأمور الإدارية، فقال:

أول عمل قام به النبي بعد هجرته إلى المدينة هو أنه جعل أصحاب المال والعقار إخوة للفقراء، إذ كان الأنصار أصحاب مال وعقار، ولكن المهاجرين لم يملكوا شيئًا منها، فأقام النبي بينهم المؤاخاة وجعل كل صاحب مال وعقار أخًا لمن لا يملك شيئا. فعمل به الأنصار إلى حد المبالغة والمغالاة، فلم يتقاسموا مع المهاجرين أموالهم وعقارهم فحسب، بل من كان عنده زوجتان عرض على أخيه المهاجر أنه مستعد أن يطلّق زوجته ليتزوجها. وهذا أول مثال للمساواة التي أقامها النبي بين الناس بعد وصوله إلى المدينة فورًا، ذلك لأن أساس الحكومة الإسلامية لم يوضع إلا في المدينة. لم يكن عند النبي في تلك الفترة وفرة في المال، فكان الطريق الأمثل أن يُشرَك الفقير مع الغني بحيث يجد كل إنسان في المجتمع شيئًا يأكله.

وقد عمل النبي بهذه المساواة في إحدى الحروب أيضًا ولو بأسلوب آخر. ففي إحدى الغزوات علِم النبي أن بعض المسلمين قد نفد زادهم، وأن بعضهم لا يزال عنده زاد كاف، فأمر النبي الجميع أن يحضروا ما عندهم من الزاد، فجمعه في مكان وقد جعل لكل واحد منهم نصيبًا محددًا منه. فكانت هذه محاولة أخرى لتوفير الطعام لكل إنسان. فكان الجميع يأكلون منفردين ما استطاعوا ذلك، ولكن عندما تعذر هذا وكان هناك خطر أن يظل البعض جياعًا قال النبي :

«كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ».

لقد جاء هذا القرار وفقًا لما كان يقتضيه الموقف دون الحاجة إلى إقامة النظرية الاشتراكية أو الشيوعية. على أية حال، يقول الصحابة لقد عملنا بأمر النبي بحذافيره، حتى إذا كان عند أحد منا تمرة واحدة رأينا أكلها خيانة كبرى، ولم نلبث حتى جئنا بها إلى مخزن الطعام. هذا نموذج ثانٍ للمساواة قدمه النبي . (أي بقي هذا النموذج ساريًا للعمل ما كانت الظروف المادية حرجة).

ثم جاءت الخيرات والثروات بكثرة حيث فتح الله على نبيه خزائنه، ولكن لم يرد الله إقامة هذا النظام بكل تفاصيله إلا بعد النبي لكيلا يقول الناس إنه كان خاصًّا بالنبي ، ولا يحق لأحد سواه إقامته.  (أي عندما جاءت الثروات والخيرات رجع الناس إلى سابق عهدهم ولكن الله تعالى هيّأ الظروف لإجراء نظام المساواة لاحقًا بعد وفاة النبي . كيف حصل ذلك؟ يقول المصلح الموعود :

على أية حال عندما أراد الله إقامة نموذج مثالي للمساواة على يد النبي قدّم الأنصار عقاراتهم وأراضيهم للمهاجرين فور وصولهم إلى المدينة، ولكنهم لم يرضوا بأخذها مجانًا، بل قالوا نقوم بزراعة أرضكم ونعطيكم نصيبكم من ريعها. لم يقصّر الأنصار في إعطاء إخوانهم ما عندهم، ولكن المهاجرين لم يقبلوا عرضهم شاكرين. ومثاله أن بعض الدول تقدّم لمواطنيها مساعدةً بنظام دعم السلع، ولكن بعضهم لا يقبلها، وهذا لا يعني أن الدولة مقصرة، بل الحق أنها قد أدت واجبها، ولكن الرجل لم يقبل عرضها. كذلك فإن الأنصار عرضوا على المهاجرين كل شيء، ولكن المهاجرين لم يأخذوا منهم شيئًا.

إذن، فإن النبي قد بدأ العمل بهذا النظام في حياته، حتى إنه لما دخل مَلِكُ البحرين في الإسلام أمره النبي أن يعطي كل من ليس عنده أرضٌ مِن رعاياه أربعةَ دراهم وكسوةً كي لا يتعرض للجوع والعري.

أما بعد ذلك فأخذت الثروات تتدفق على المسلمين، وبما أنهم كانوا قليلي العدد مقارنة مع هذه الثروات، فلم تكن هناك حاجة إلى سنّ قانون جديد، لأن الهدف كان يتحقق على ما يرام، والقاعدة أن القوانين إنما تُسنّ عند الحاجة، أما إذا لم يكن هناك داع فالحكومة مخيرة في سنّ القانون أو عدمه. (والآن يأتي ذكر ما بدأت به ولكن تخلل تفصيل أمور أخرى في سرد هذا الأمر، وهو كيف بدأ هذا النظام بعد النبي ) فلما توفي النبي وانتشر المسلمون في شتى البلاد والأقطار، دخلت شعوب أخرى في الإسلام بكثرة. كان العرب يعيشون كشعب موحد محافظين على المساواة فيما بينهم، ولكن عند انتشار الإسلام في أقطار أخرى ودخول الشعوب المختلفة في الإسلام، أصبحت قضية تأمين الخبز لهم مشكلة كبيرة. فقام عمر بإحصاء السكان كلهم وأقام نظام التموين (Rationing) الذي استمر إلى عهد الحُكم الأموي. وإن المؤرخين الأوروبيين أيضًا يذكرون أن أول إحصاء للسكان في التاريخ بغرض دعمهم وإعانتهم هو ما قام به عمر ، اعترافا من هؤلاء المؤرخين بأنه لم يقم بهذا الإحصاء ليسلب أموال الناس، بل لتأمين الطعام لهم. تقوم الدول بإحصاء السكان لإكراههم على أن يكونوا لها كبش الفداء ويقوموا لها بالخدمات العسكرية، أما عمر فلم يقم بإحصائهم استغلالا لهم، بل ليؤمّن لهم الطعام.) فبعد هذا الإحصاء أخذت رعيّته كلها يحصلون على الطعام بحسب نظام خاص، كما يتلقون مساعدة مالية لسد الحاجات الأخرى.

وكان عمر شديد الحذر بهذا الشأن، فلما فُتحت بلاد الشام في عهده وجاء زيت الزيتون (وأعطي للجميع)، فقال عمر للناس مرة: إن استعمال زيت الزيتون يسبب لي الغازات في البطن فاسمحوا لي أن آخذ من بيت المال من السمن ما يساوي نصيبي من الزيت.

فهذه أول خطوة اتُّخذت في الإسلام لسد حاجات الناس. والبديهي أنه لو قام هذا النظام لم يبق بعده حاجة إلى أي نظام آخر، لأن سد حاجات جميع المواطنين من طعام وشراب ولباس وتعليم وعلاج وسكن سيصبح من مسؤوليات الدولة الإسلامية. وإذا سُدت هذه الحاجات فلن تبقى هناك حاجة إلى أي تأمين. يشتري الناس وثيقة التأمين على الحياة ليتركوا بعد وفاتهم شيئا لأطفالهم أو ليغطوا مصاريفهم بعد التقاعد عندما يتقدمون في السن. ولكن إن تحملت الحكومة هذه المسؤولية فلا حاجة إلى أي تأمين. يقول المصلح الموعود :

ولكن الذين أتوا بعدهم أخذوا، لسوء الحظ، يقولون إن الملِك مخيَّر في أن يعطي أحدًا شيئًا أو لا يعطي. ذلك لأن تعاليم الإسلام لم تكن قد رسخت فيهم بشكل كامل، فعادوا إلى ما كان يفعله قيصر وكسرى. وعاد العمل بطريق الملوك الآخرين. يقول المصلح الموعود عن تأمين الغذاء والكساء لكل فرد تحت الحكومة الإسلامية:

ولقد طبّقت الحكومة الإسلامية هذه الأحكام إذا ملكت الأموال هيّأت لكلّ شخصٍ الغذاء والكساء، كما نرى أنّ النّظام الإسلامي لمــّا اكتمل في عهد عمر كان على الحكومة عندئذٍ أن تهيّئ الغذاء والكساء لكلّ مواطن، وكانت الحكومة تؤدّي واجبها هذا بكلّ اهتمام. وتحقيقًا لهذا الهدف، قام سيدنا عمر بإحصاء سكاني، ففُتحت السجلات ودُوّنت فيها أسماء جميع المواطنين. ويعترف المؤرخون الأوروبيون أيضًا كما ذُكر سابقا أن أول إحصاء بغرض دعم السكان في تاريخ الإنسانية قام به سيدنا عمر وهو الذي فتح نظام الدواوين والتسجيل أول مرة. ولم يكن الغرض من هذا الإحصاء إلا توفير الطعام واللباس لكل مواطن، وكان يتحتم على الحكومة أن تعرف عدد سكان البلد. اليوم يقال إن روسيا السوفيتية قامت بتوفير الطعام واللباس للفقراء، مع أن الإسلام هو الذي بدأ بهذا النوع من النظام الاقتصادي. ففي عهد سيدنا عمر دُوِّنَ -في السجلات- اسم كل شخص مع زوجته وأولاده في كل قرية ومدينة، ثم تمَّ تحديد الغذاء الذي لا بد أن يوفّر لهم، لكي يعيش به مَن يأكل قليلاً ومن يأكل كثيرًا.

ورد في كتب التاريخ أن سيدنا عمر لم يضع في الاعتبار المواليد الرُّضَّع في أول الأمر، بل لم يكن هؤلاء يتلقوْن هذه المعونة من الدولة إلا بعد الفِطام. لقد ذكرت لكم في الخطبة الماضية أن عمر خرج في إحدى الليالي يتفقد أحوال رعاياه، فمرّ بخيمة يبكي فيها وليد، فتوجَّه نحوه، فقال لأمِّه: اتقي الله تعالى، وأحسِني إلى صبيِّك. ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه، فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه. فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي، فأتى إلى أمه، فقال لها: ويحك، إنكِ أمُّ سوء، ما لي أرى ابنَك لا يقَرُّ منذ الليلة من البكاء؟! فقالت: يا عبد الله، إني أشغله عن الطعام، فيأبى ذلك. قال: ولِمَ؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم. قال: وكم عمر ابنك هذا؟ قالت: كذا وكذا شهرًا. فقال: ويحك، لا تُعجليه عن الفطام. فلما صلَّى الصبح، وهو لا يستبين للناس قراءته من البكاء، قال: بؤسًا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر مناديَه فنادى: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام؛ فإنا نفرض لكلِّ مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق.

ثم توجّهَ إلى بيت المال وفتح الباب وحمل كيسًا من الدقيق على ظهره. وحين قال له بعض خَدَمه: دَعْني أحمل عنك هذا الكيس. قال: أأنت تحمل وزري يوم القيامة؟

ثم يقول سيدنا المصلح الموعود إن الإسلام وحده فرض واجبات الحكومة، فالإسلام يرى أن توفير الطعام واللباس والسكن لكل مواطن مسؤوليةُ الحكومة، وأن الإسلام وحده أسس هذا المبدأ قبل غيره، والآن تقلده الحكومات الأخرى أيضًا لكن ليس بالوجه الكامل، حيث تُقدَّم التأمينات والمعاشات التقاعدية العائلية، لكن المبدأ القائل بأن توفير الطعام واللباس لكل مواطن في مرحلتَي الشباب والشيخوخة هي مسؤولية الحكومة فلم يقدمه أي دين آخر قبل الإسلام. يكون الهدف من إحصاء الحكومات المادية فرض الضرائب وجمع المعلومات لمعرفة كم يتوفر من الشباب للجيش عندما تدعو الحاجة. أما أول إحصاء في الحكومة الإسلامية الذي ظهر في عهد سيدنا عمر فكان الهدف منه توفير الطعام واللباس لجميع المواطنين وليس جباية الضرائب ولا معرفة كم من الشباب يمكن أن يتوفروا عند الحاجة. كلا بل كان الهدف من ذلك الإحصاء توفير الطعام واللباس لكل مواطن. صحيح أن إحصاءً حصل في عهد النبي أيضا، لكن في ذلك الوقت لم تكن حكومةٌ إسلامية، لذا كان الهدف من ذلك الإحصاء معرفة عدد المسلمين فقط. أما الإحصاء الأول في الحكومة الإسلامية فكان في عهد سيدنا عمر وكان الهدف منه توفير الطعام واللباس لكل مواطن. وكم هو مهم هذا الأمر! حيث يتحقق به السلام في العالم. فمجرد القول لأي شخص أن يقدم الطلب فسوف يدرَس، فليس في وسع مروءة وعزة نفس كل إنسان، أن تطلب الطلبات ثم تدرس. لذا قد عيَّن الإسلام المبدأ أن توفير الطعام واللباس لكل مواطن مسئولية الحكومة. فهو يوفَّر لكل فقير وثري -حتى لو كان عنده عشرات الملايين، وحتى لو كان يمكن أن يقدمه لغيره- وذلك لئلا يجد أي مواطن عارا في الحصول على المعونة. فالأثرياء إذا كانوا متقين فسوف يقدمون نصيبهم إلى المحتاجين بدلا من استعمالهم الشخصي له.

نظام الشورى في عهده

في عهد سيدنا عمر تم تقسيم البلاد إلى الولايات، ففي العام العشرين الهجري قسم سيدنا عمر البلاد المفتوحة، إلى ثماني ولايات ليَسْهل النظام. وهي مكة والمدينة والشام والجزيرة والبصرة والكوفة ومصر وفلسطين.

ثم في عهده أُقيم نظام الشورى، ففي مجلس الشورى كان ممثلو هذين الحزبين كليهما أي الأنصار والمهاجرين، ثم كان للأنصار قبيلتان الأوس والخزرج وكان من الضروري أن يحضر الشورى ممثل من كلتيهما. في هذا المجلس كان يحضر سيدنا عثمان وسيدنا علي وسيدنا عبد الرحمن بن عوف وسيدنا معاذ بن جبل وسيدنا أُبي بن كعب وسيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنهم. وكان أسلوب عقد الشورى أن شخصًا كان يعلن قائلًا: الصلاة جامعة. أي فليجتمع الناس للصلاة، وعندما كانوا يجتمعون كان سيدنا عمر يأتي المسجد النبوي فيصلي ركعتين، ثم يصعد على المنبر فيلقي خطبة، ويطرح القضية محل النقاش. فكانت قرارات هذا المجلس كافية في الأعمال اليومية البسيطة. أما إذا طرأت قضية مهمة فكان الأنصار والمهاجرون يعقدون جلسة عامة، وباتفاق الجميع يُبتّ فيها. فكل نوع من القضايا مثل رواتب الجيش وتدوين الدواوين، وتعيين العاملين وحرية تجارة الشعوب غير الإسلامية، وتحصيل الخراج منهم، وغير ذلك تناقش في مجلس الشورى ويُبتّ فيها. وكان مجلس الشورى يعقد الجلسة عندما تطرأ الحاجات الخاصة. وإضافة إليه كان هناك مجلس آخر يناقَش فيه الأمور الإدارية المهمة اليومية، وهذا المجلس كان يعقد جلساته دومًا في المسجد النبوي، وكان يحضره الصحابة المهاجرون فقط. فالأخبار التي كانت تتوارد من الولايات والمحافظات يوميًّا إلى مركز الخلافة كان سيدنا عمر يرفعها إلى هذا لمجلس، وإذا كان هناك أمر بحاجة إلى النقاش طلب رأي الناس أيضًا.

وإضافة إلى أعضاء مجلس الشورى، كان للشعب أيضًا حقٌّ في إبداء الرأي في الأمور الإدارية، كان حكام الولايات والمحافظات يعيَّنون عادة بحسب رغبة الشعب، بل كان ذلك يتقرر أحيانًا بالانتخاب. حين بدأ تعيين جباة الخراج في الكوفة والبصرة والشام كتب سيدنا عمر إلى هذه الولايات الثلاثة أن يرسل الناس بحسب رغبتهم اسم شخص يكون عندهم أكثر الناس أمانة وكفاءة. كيف كان سيدنا عمر يعيِّن العاملين وما هي التوجيهات التي كان يعطيهم، فقد ورد عن ذلك أن أصحاب المناصب المهمة كانوا يعيَّنون بالشورى، فكانوا يُنتخبون باتفاق الرأي. أحيانًا كان حضرته يكتب إلى حاكم الولاية أو المحافظة أن ينتخب الأكثرَ جدارة ومن ثم كان يعيِّن أولئك المنتخَبين عاملين. كان سيدنا عمر قد حدد للعاملين رواتب كبيرة، والحكمة في ذلك أن يعملوا بأمانة ولا يكون عندهم جشعٌ مادي. كان سيدنا عمر ينصح المسؤولين قائلًا اعلموا أني لم أرسلكم أمراء غلاظًا شدادًا بل قد أرسلتكم أئمةً لكي يقلدكم الناس. فعليكم أن تؤدوا حقوق المسلمين ولا تظلموهم أن يُخذلوا، ولا تعاقبوهم بل يجب أن تسعوا لأداء حقوقهم، ولا تمدحوا أحدًا بغير حق أن يُفتنوا، وألا تغلقوا عليهم أبوابكم لكيلا يأكل القوي الضعيف، ولا تفضلوا أنفسكم على أحد لأنه ظلم عليهم: وكذلك كان يؤخذ عهد ممن يُولّى أنه لن يركب حصانًا تركيًّا ولن يرتدي لباسًا رقيقًا ولن يأكل من دقيق ناعم، ولن يقرر حاجبًا على الباب وسيبقي بابه مفتوحًا لجميع المحتاجين دومًا. هذه كانت وصايا لجميع الولاة وكانت تُقرأ على الناس. وبعد تعيين الولاة كانت تُحسب أموال الوالي وأملاكه ثم إذا وُجد تطور غير عادي في أمواله ولم يستطع أن يبرر مصدرها كان يؤاخذ ويُودع المال الزائد في بيت المال. وكان الولاة مأمورين بأن يجتمعوا في مناسبة الحج حتمًا وكانت تُعقد هناك محكمة عامة لإزالة شكاوى الناس ضد الولاة. فكانت تُعرض فيها الشكاوى ضد العاملين وكان هناك قسم للتحقيق في هذه الشكاوى وكان كبار الصحابة يديرونه ويحققون، وإذا وجدوا شكوى صحيحة آخذوا الولاة.

فالأراضي، التي كانت الملوك قد نهبوها من السكان المحليين جبرًا وكانوا أعطوها لرجال البلاط والأمراء، أعادها عمر إلى أهلها، ومع ذلك أمر بأن العرب الذين قد انتشروا في هذه البلاد لن يقوموا بالزراعة وكانت الحكمة في ذلك أن خبرة الزراعة التي كان السكان المحليون يملكونها كان العرب لا يعرفونها

قال المصلح الموعود عن تصرف سيدنا عمر فيما يتعلق بشكاوى الناس ضد الولاة: كان أهل الكوفة في زمن عمر يثيرون الفتن مرة بعد أخرى، فكلما جاءهم والٍ من عنده شكوه إلى عمر، فكان يستبدله بآخر. فقال الناس لعمر: لماذا تغير ولاتك على الكوفة بشكاوى أهلها في كل مرة؟ فإنهم قوم دأبهم كثرة الشكوى ضد كل وال. فأجاب عمر: سوف أستمر في تغيير الولاة عليهم إلى أن تنفد أعذارهم كلها. فلما كثرت شكاواهم قال عمر: سأبعث إليهم الآن واليًا لن يقدروا على إثارة الشكوى ضده. فبعث ابن أبي ليلى وهو لا يزال في التاسعة عشرة من عمره. فلما علم أهل الكوفة بأن الوالي الجديد شاب لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره فرحوا كثيرًا، وقالوا: سوف نسخر منه ونهينه.

فلما بلغهم مَقدَمُه جمعوا كبارهم وكوّنوا وفدًا من كبراء القوم وكبار السن ليستقبلوه خارج المدينة، ورافق الوفدَ الآلاف من عامة الناس في تظاهرة وقرروا أنه إذا جاء الوالي سألوه عن سنه ليسخروا منه.

فخرجوا للقائه ثلاثة أميال تقريبًا، ومن جهة أخرى وصل ابن أبي ليلى راكبًا الحمار، كان أهل الكوفة واقفين في الصفوف والصف الأول كان السادة الكبار في السن، ولما اقتربوا منه تقدم شيخ كبير منهم وقال: هل أنت وُلّيت علينا وهل اسمك عبد الرحمن؟ قال نعم، فقالوا كم سِنّك؟! فقال عبد الرحمن: يمكنكم أن تقدروا عمري من أنني أكبر بعام من أسامة بن زيد الذي جعله النبي أميرًا على عشرة آلاف من الصحابة، وكان فيهم أبو بكر وعمر أيضًا، فلما سمعوا جوابه رجعوا وشعروا بالخجل الشديد وقالوا لبعضهم البعض: ينبغي عدم إثارة الفتنة أمام هذا الشاب مادام هو واليًا على الكوفة وإلا سيسلخ الجلود. فظل يعمل واليًا عليهم مدة طويلة لم يجرؤ أحد منهم على إثارة الفتن. (التفسير الكبير)

ثم هناك نظام المحاصيل: لقد توجه عمر بعد فتح العراق والشام إلى نظم الخراج. فالأراضي، التي كانت الملوك قد نهبوها من السكان المحليين جبرًا وكانوا أعطوها لرجال البلاط والأمراء، أعادها عمر إلى أهلها، ومع ذلك أمر بأن العرب الذين قد انتشروا في هذه البلاد لن يقوموا بالزراعة وكانت الحكمة في ذلك أن خبرة الزراعة التي كان السكان المحليون يملكونها كان العرب لا يعرفونها لأن في كل منطقة طريقًا خاصًّا للزراعة، لذلك أمر بأن الأجانب لن يزرعوا بل السكان المحليون هم سيقومون بذلك. كان الخراج يُؤخذ جبًرا في الماضي ولكن عمر سنَّ قانون الخراج وجعل أسلوب جبايته لينًا للغاية وقام بالتعديلات الجديدة فيه. وكان يهتم بأهل الذمة جدًّا وعند جباية الخراج كان يسأل عمَّا إذا كان أحد ظُلِم. وكان يستشير أهل الذمة الذين كانوا زرداشتيين أو مسيحيين ويقدر آراءهم. ولترقية الزراعة أمر عمر باستصلاح الأراضي الخربة التي لم تكن مِن قَبل قابلةً للزراعة فمن يستصلح أرضًا يكون مالكها. وقد حدد لذلك ثلاث سنوات. وأُجريت سواقي الماء وأُنشئ قسم الريّ الذي كان يحفر البِرك أيضا، لكي تتحسن الزراعة.

هذه كانت بعض أعماله التي ذكرتها وسوف يستمر ذكر عمر إن شاء الله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك